الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذ بهذا العلم تحيا عبادة العمر، وبالجهل به تموت عبادة العمر وتتعطل، وبالله التوفيق.
باب مدح الإنسان نفسه وذكر محاسنه
قال الله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] اعلم أن ذِكْر محاسن نفسه ضربان: مذموم؟ ومحبوب، فالمذموم أن يذكره للافتخار وإظهار الارتفاع والتميز على الأقران وشبه
ذلك، والمحبوب أن يكون فيه مصلحة دينية، وذلك بأن يكون آمراً بمعروف، أو ناهياً عن منكر، أو ناصحاً، أو مشيراً
ــ
درب نفسه بما ذكروه فحفظه الله والله أعلم. قوله: (إذ بهذا العلم تحيا عبادة العمر) فيصير للعمل اليسير منه ما ليس لغيره من كثير العمل لحياة قلبه ومزيد معرفته بربه وضده بضده والله أعلم.
باب مدح الإنسان نفسه وذكر محاسنه
قوله: (قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] قال أبو حيان في النهر لا تنسبوها إلى زكاة العمل والطهارة عن المعاصي ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم الله منكم الزكي والتقي اهـ. ويعلم مما يأتي أن النهي مخصوص بما إذا قصد به الفخار ولم تترتب على التزكية مصلحة شرعية تقصد. قوله: (مذموم) أي وتتفاوت مراتبه بتفاوت مراتب القصد. قوله: (فالمذموم أن يذكره للافتخار الخ) وهو إنما يصدر عمن لم تنفتح عين بصيرته إذ كيف يفتخر بالعمل الصالح مثلاً وهو ليس له حقيقة إذ الكل الله ملكاً وإيجاداً وإنما الإنسان مظهر لتلك الأحوال فالمنة الله الملك المتعال قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} وقوله: (وإظهار الارتفاع) هو كالعطف التفسيري إذ الفخر ادعاء الشرف والعظم والكبر كما في النهاية وفيه تنبيه على أن ما يبديه المفتخر من إظهار الارتفاع والتميز ليس وصفاً له بالحقيقة إنما هو بحسب ادعائه وتسويل نفسه له ذلك. قوله: (وشبه ذلك) بكسر الشين المعجمة أي ما شابهه وحاكاه من المقاصد المذمومة. قوله: (والمحبوب فيه) أي المدح (أن يكون فيه) أي ذكر محاسنه (مصلحة دينية الخ) ثم محل كون ما ذكر محبوباً ألا يشينه بأن يقصد مع ذلك شيئاً من المذموم من
بمصلحة، أو معلماً، أو مؤدِّباً، أو واعظاً، أو مُذَكِّراً، أو مصلحاً بين اثنين، أو يدفع عن نفسه شراً، أو نحو ذلك، فيذكر محاسنه ناوياً بذلك أن يكون هذا أقرب إلى قبول قوله واعتماد ما يذكره، أو أن هذا الكلام الذي أقوله لا تجدونه عند غيري فاحتفظوا به، أو نحو ذلك، وفي جاء في هذا المعنى ما لا يحصى من النصوص، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا النبيُّ لا كذِبْ".
ــ
إعجاب ونحوه كما هو ظاهر فذلك يفسده ويصيره مبغوضاً بعد أن كان محبوباً.
قوله: (أو مؤدباً) بتشديد الدال المهملة المكسورة بعدها موحدة أي يعلم الآداب أي الأخلاق المحمودة. قوله: (أو واعظاً الخ) قال السيوطي في رسالته التي في التحذير من القصاص الوعظ تخويف يرق له القلب والتذكير تعريف الخلق نعم الله عليهم وحثهم على شكره وتحذيرهم من مخالفته اهـ. قوله: (ناوياً بذلك أن يكون هذا أقرب إلى قبول قوله) أي يمدح نفسه حال كونه ناوياً بذلك المدح أن يكون أقرب إلى قبول قوله) فيكون أدخل في حصول ما موله من امتثال المعروف الذي يأمر به وقبول نصحه واجتناب المنكر الذي ينهى عنه. قوله: (واعتماد ما يذكره) أي وأقرب إلى اعتماد المتعلم والمؤدب ما يذكر له فاعتماد مصدر مضاف لمفعوله. قوله: (أو أن هذا الكلام) معطوف على قوله محاسنه أي يذكر محاسنه بقصد كون كلامه أقرب إلى القبول والاعتماد أو يقول أن هذا الكلام الخ بقصد نصيحة الطالب ليعتني به ولذا فرع عليه قوله فاحتفظوا به وهذا يقع من الكبار كثيراً كقول المصنف في مدح هذا الكتاب أنه لا يستغني عنه طالب الآخرة ونحوه فالقصد بهذا الكلام بذل النصيحة لأهل الإسلام لا الافتخار. قوله: (كقول النبي صلى الله عليه وسلم أنا النبي لا كذب) سبق تخريجه والكلام على ما يتعلق به في كتاب الجهاد ومناسبته للباب أن في ذكره تثبيتاً للمؤمنين الذين معه أي أنا النبي الموعود بالنصر العزيز ووعد الله لا يخلف
"أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ".
ــ
فأثبتوا أيها المؤمنون فإن الله تعالى يقول: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وجاء في الحديث عند الطبراني من حديث أبي سعيد زيادة في آخره (أنا أعرب العرب ولدتني قريش ونشأت في بني سعد بن بكر فإنى يأتيني اللحن) ذكره في الجامع الصغير. قوله: (أنا سيد ولد آوم) هذا حديث ثان وهو مبتدأ حديث أخرجه مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع، وأخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ
أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من بني يومئذٍ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر قال المصنف في شرح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة الخ قال الهروي: السيد هو الذي يفوق قومه في الخير وقال غيره: هو الذي يفزع إليه في النوائب والشدائد فيقوم بأمرهم ويتحمل عنهم مكارههم ويدفعها عنهم، وأما قوله يوم القيامة مع أنه سيدهم في الدنيا والآخرة فسبب التقييد أن في يوم القيامة يظهر سودده لكل أحد ولا يبقى منازع ولا معاند بخلاف الدنيا فقد نازعه فيها ملوك الكفار وزعماء المشركين وهذا التقييد قريب من معنى قوله تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} مع أن الملك له سبحانه قبل ذلك وبعده لكن كان في الدنيا من يدعي الملك أو يضاف إليه مجازاً فانقطع كل ذلك في الآخرة، قلت: وإنما قال سيد ولد آدم ولم يقل سيد آدم تأدباً معه لأبوته ولأنه إذا فضل على أولاده ومنهم إبراهيم الأفضل من آدم ثبت فضله على آدم والله أعلم قال العلماء
"أنا أوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ".
"أنا أعْلَمُكُمْ بالله وأتْقاكُمْ".
ــ
وقوله: أنا سيد ولد آدم لم يقله فخراً بل صرح بنفي الفخر في الحديث المشهور أنا سيد ولد آدم ولا فخر وإنما قاله لوجهين أحدهما امتثال قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} والثاني أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه ويوقروه صلى الله عليه وسلم بمقتضى مرتبته كما أمرهم الله تعالى وقيل: المراد لا أقوله على سبيل الادعاء الذي هو معنى الفخر بل هو أمر حقيقي جعله الله لنبيه وشرفه به على سائر الرسل وإليه أشار في النهاية وقيل: لا أقوله مفتخراً به بل فخري بالعبودية والافتقار إليه سبحانه إذ تلك أشرف الأوصاف صلى الله عليه وسلم قال المصنف: وفي هذا الحديث تفضيل له على الخلق كلهم لأن مذهب أهل السنة أن نوع البشر أفضل من الملائكة وهو صلى الله عليه وسلم أفضل جميع البشر لهذا الحديث وغيره وأما الحديث الآخر: لا تفضلوا بين الأنبياء فجوابه من خمسة أوجه أحدها أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم فلما علم أخبر به قلت: واعترض بأنه بعيد فإن راوي الحديث أبا هريرة متأخر الإسلام إلى عام خيبر ويبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع على تفضيله إلا حينئذٍ وقد يجاب بأنه يحتمل أن أبا هريرة سمعه من غيره ممن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقد قاله قبل والله أعلم والثاني قاله أدباً وتواضعاً والثالث أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضول والرابع إنما نهي عن تفضيل يفضي إلى الخصومة والفتنة كما هو المشهور في سبب الحديث والخامس أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة فلا تفاضل فيها وإنما التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى ولا بد من اعتقاد التفضيل قد قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} اهـ. قوله: (أنا أول من تنشق عنه الأرض) جاء من جملة الحديث قبله وجاء أول حديث آخر أورده في الجامع الصغير من حديث ابن عمر مرفوعاً أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر ثم آتى أهل البقيع فيحشرون معي ثم أنتظر أهل مكة رواه الترمذي والحاكم في المستدرك. قوله: (أنا أعلمكم بالله وأتقاكم له) حديث صحيح روى من طرق بألفاظ منها عند الشيخين من حديث أنس عن الثلاثة الواصلين لا زواجه صلى الله عليه وسلم للسؤال عن
عبادته فتقالوها
"إني أبِيْتُ عِنْدَ رَبي".
وأشباهه كثيرة، وقال يوسف صلى الله عليه وسلم:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]
ــ
وفي آخر الحديث فجاء صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "أنتم قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له" ومنها عندهما أيضاً من حديث عائشة صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشهدهم له خشية. قوله: (إني أبيت عند ربي الخ) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وفي بعض طرقه إني أظل وأخرجه الترمذي إني لست كأحدكم إن ربي يطعمني ويسقيني أشار بقوله إني أبيت الخ إلى وجه الفرق بينه وبين الأمة في حل مواصلة الصوم له صلى الله عليه وسلم وتحريمها عليهم بأنه تعالى يفيض عليه ما يسد مسد طعامه وشرابه إذا صام فلا يحس بجوع ولا عطش ويقويه على الطعام ويحرسه من ضعف القوى وكلال الحواس وأنشد في هذا المعنى:
لها أحاديث من ذكراك يشغلها
…
عن الشراب ويلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء به .... ومن حديثك في أعقابها حادي
أو أنه يطعمه ويسقيه حقيقة من الجنة قال المصنف الصحيح الأول إذ لو أكل حقيقة لم يكن مواصلاً اهـ. قال الشيخ زكريا في تحفة القاري وقد يقال: طعام الجنة ليس كطعام الدنيا فلا يقطع الوصل وقد حررت ما يتعلق بطعام الجنة المستعمل في الدنيا وفرقت بيين ما يجري على استعماله أحكام التكليف وبين ما لا يجري عليه ذلك في الباب الثالث من درر القلائد فيما يتعلق بزمزم وسقاية العباس من الفوائد. قوله: (وقال يوسف عليه الصلاة والسلام اجعلني على خزائن الأرض الخ) قال أبو حيان في النهر: اجعلني أي ولني على خزائن الأرض أي خزائن أرضك إني حفيظ أحفظ ما استحفظه عليم بوجوه التصرف وصف نفسه بالأمانة والكفاية وهما مقصود الملوك ممن يولونه إذ هما يعمان وجوه التشقيف
وقال شعيب صلى الله عليه وسلم: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27] وقال عثمان رضي الله عنه حين حصر ما رويناه في "صحيح البخاري" أنه قال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ــ
والحياطة ولا خلل معهما لعامل وجاء حفيظ بصيغة المبالغة وهو مقصوده ولمناسبة قوله عليم اهـ. قال السيوطي في الأكليل واستدل بالآية على جواز طلب الولاية كالقضاء ونحوه لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه وجواز التولية عن الكافر والظالم. قوله: (وقال شعيب صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وسلم ستجدني إن شاء الله من الصالحين) قال في النهر ستجدني إن شاء الله ذا وعد صادق مقرون بالمشيئة من الصالحين في حسن المعاملة ووطأة الحق اهـ. وفي الآيتين ثناء الإنسان على نفسه للحاجة إلى ذلك كما هو واضح. قوله: (وقال عثمان رضي الله عنه حين حصر) بالحاء المضمومة والصاد المكسورة وحروفه مهملات من الحصر وكان ذلك في عام أربعين من الهجرة وكان مدة حصره قيل أربعين يوماً وقيل: خمسين وقد سبق بيان ذلك في باب أذكار الوضوء وسبب حصره ما جرى من تزوير مروان بن الحكم عليه وإرساله رسولاً لأهل
مصر في قتال محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ومن معه إذا قدموا إليه فوقع الكتاب في يد محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما فعاد من الطريق إلى المدينة فحلف عثمان رضي الله عنه أنه لم يأمر به ولم يرسله وصدق رضي الله عنه فهو أجل قدراً وأنبل ذكراً وأورع وأرفع من أن يجري مثل ذلك على لسانه أو يده أو يكون له خائنة الأعين أو الألسن فلما حلف لهم طلبوا منه أن يسلمهم مروان فأبى عليهم فطلبوا منه أن يخلع نفسه فأبى عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قائلاً له: يا عثمان إنه لعل الله أن يلبسك قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه فلما أبى عليهم من ذلك اجتمع نفر من أهل مصر والكوفة: والبصرة وساروا إليه فأغلق بابه دونهم فحاصروه عشرين أو أربعين يوماً وكان معه في الدار نحو ستمائة إنسان فطلبوا منه الخروج للقتال فكره ذلك وقال: إنما المطلوب نفسي وسأقي المسلمين بها فتسوروا إليه عن دار أبي حزم الأنصاري فقتلوه والمصحف بين يديه ووقع بشيء من ذمه عليه وكان ذلك يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة سنة أربعين وكان يذكر لهم في أثناء مدة حصرهم له
"مَنْ جهَّزَ جَيشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ؟ فجهزتُهم، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ حَفَرَ بِئْرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ، فحفرتُها؟ فصدَّقوه بما قال".
وروينا في "صحيحيهما" عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال حين شكاه أهل الكوفة: إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: لا يُحْسِنُ يصلِّي، فقال سعد: والله إني لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل الله تعالى،
ــ
ماله من الفضائل الجليلة والمآثر العديدة الجميلة وقصده بذلك أن ينقذهم مما هم فيه من المنكر ويدفع عن نفسه الضرر فلم يؤثر فيهم ذلك ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وهذا الحديث أخرجه البخاري والترمذي والنسائي واللفظ الذي ساقه المصنف للبخاري وهو عندهم من حديث أبي عبد الرحمن السلمي قال واللفظ للبخاري وأن عثمان لما حوصر أشرف عليهم فقال: أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة" فجهزتهم ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حفر بئر رومة فله الجنة" فحفرتها قال: وصدقوه بما قال. قوله: (من جهز جيش العسرة) التجهيز تهيئة الأسباب والمراد من العسرة وهي بالمهملتين ضد اليسرة غزوة تبوك سميت بذلك لأنها كانت في زمن شدة الحر وجدب البلاء وإلى شقة بعيدة وعدد كثير فجهز عثمان سبعمائة وخمسين بعيراً وخمسين فرساً وقيل غير ذلك وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار.
وقوله: (من حفر بئر رومة) هي بضم الراء وسكون الواو لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لم يكن بها ماء عذب غير بئر رومة فقال: من اشترى بئر رومة أو قال: من حفرها فله الجنة فحفرها واشتراها بعشرين ألف درهم وسبلها على المسلمين ذكره الكرماني وغيره.
قوله: (وروينا في صحيحيهما) أخرجاه عن قيس قال: سمعت سعداً يقول فذكره ورواه الترمذي. قوله: (حين شكاه أهل الكوفة: ) سبب شكواه أنه كان قواماً بالحق صالحاً لا تأخذه فيه ملامة وذلك صعب إلا على من ساعدته العناية وفي الحديث ما ترك الحق لعمر صديقاً. قوله: (فوالله إني لأول رجل من العرب رمي بسهم) قال الكرماني: وذلك أنه كان في سرية عبيدة بضم المهملة وفتح
الموحدة ابن الحارث بن المطلب بن
ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر تمام الحديث.
وروينا في "صحيح مسلم" عن علي رضي الله عنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمة،
ــ
عبد مناف بن قصي القرشي المطلبي كان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين بعثه صلى الله عليه وسلم في ستين راكباً من المهاجرين وفيهم سعد وعقد له اللواء وهو أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتقى عبيدة وأبو سفيان الأموي وكان أول قتال جرى في الإسلام وأول من رمى السهم هو سعد وفيه قال:
ألا هل جاء رسول الله إني .. حميت صحابتي بصدور نبلي
فما يعتد رام من بعد
…
بسهم من رسول الله قبلي
قوله: (ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر تمام الحديث) هو قوله وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى أن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ما له خلط ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام لقد خبت إذاً وضل سعي وقوله: إن أحدنا ليضع أي عند قضاء الحاجة فيخرج منه مثل ما يخرج الشاة والإبل أي من البعر ليبسه وعدم الغذاء المألوف وقوله ما له خلط أي لا يختلط بعض الخارج ببعض لجفافه وقوله: تعزرني بزاي مشددة فراء مهملة أي بأني لا أحسن الصلاة وقوله خبت من الخيبة وهي الحرمان أي إن كنت لا أحسنها فأحتاج إلى تعليمهم فقد ضل عملي فيما مضى حاشاه من ذلك ووجه ذكره لما ذكر في دفع ما رمى به من عدم إحسان الصلاة أن هذه السابقة في الإسلام والمآثر الحميدة تأبى ما نسبوه إليه وترد كذب من كذب عليه.
قوله: (وروينا في صحيح مسلم) وكذا رواه الترمذي والنسائي عن زر بن حبيش عن علي كذا في جامع الأصول. قوله: (والذي فلق الحبة) قال المصنف معناه شقها بالنبات. قوله: (وبرأ النسمة) هو بالهمز أي خلق النسمة وهي بفتح النون والسين المهملة الإنسان وقيل النفس وحكى الأزهري أن النسمة هي النفس وأن كل دابة في جوفها روح فهي
إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إليّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق".
قلت: برأ مهموز معناه: خلق، والنسمة: النَّفْس.
وروينا في "صحيحيهما" عن أبي وائل قال: خطبنا ابن مسعود رضي الله عنه فقال: "والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أني من أعلمهم بكتاب الله تعالى، وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أن أحداً أعلم مني لرحلت إليه".
ــ
نسمة اهـ. قوله: (إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم الخ) أي لأن من عرف قرب علي رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبه صلى الله عليه وسلم له وما كان له من نصرة الإسلام وسوابقه فيه أحبه ثم كان ذلك من دلائل صحة إيمانه وصدقه في إسلامه بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله سبحانه ونبيه صلى الله عليه وسلم ومن أبغضه فكان بضد ذلك واستدل على نفاقه وفساد سريرته والله أعلم.
قوله: (وروينا في صحيحهما) ورواه النسائي كلهم عن أبي وائل وهو شقيق بن سلمة واللفظ له ورووه عن مسروق ولفظه قال عبد الله: والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه كذا في جامع الأصول. قوله: (ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أني من أعلمهم بكتاب الله الخ) وقع في النسخة التي شرح عليها المصنف من مسلم أني لأعلمهم بحذف "من" قال المصنف في الحديث جواز ذكر الإنسان نفسه بالفضيلة والعلم ونحوه للحاجة والنهي عن تزكية النفس إنما هو لمن زكاها ومدحها لا لحاجة بل للفخر والإعجاب وقد كثر تزكية النفس من الأماثل عند الحاجة كدفع شر عنه بذلك أو تحصيل مصلحة أو ترغيب في أخذ العلم عنه أو نحو ذلك فمن المصلحة قول يوسف عليه السلام اجعلني على خزائن الأرض أني حفيظ عليم ومن دفع الشر قول عثمان وقت حصاره ومن الترغيب قول ابن مسعود هذا وقول سهل بن سعد ما بقي أحد أعلم بذلك مني وقول ابن عباس على الخبير سقطت وفي الحديث استحباب الرحلة في طلب
العلم والذهاب إلى الفضلاء حيث كانوا وفي
وروينا في "صحيح مسلم" عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن البدنة إذا أزحفت فقال: على الخبير سقطتَ -يعني نفسه .... وذكر تمام الحديث.
ونظائر هذا كثيرة لا تنحصر، وكلها محمولة على ما ذكرنا، وبالله التوفيق.
ــ
الحديث أنهم لم ينكروا دعوى ابن مسعود المذكورة عليه أي أنه أعلمهم أي بكتاب الله كما صرح به فلا يلزم منه أن يكون أعلم من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم بالسنة ولا يلزم من ذلك أيضاً أن يكون أفضل منهم عند الله فقد يكون واحد أعلم بباب آخر من العلم أو بنوع والآخر أعلم من حيث الجملة وقد يكون واحد أعلم من آخر وذلك أفضل عند الله تعالى بزيادة تقواه وخشيته وورعه وزهده وطهارة قلبه وغير ذلك ولا شك أن الخلفاء الراشدين كل منهم أفضل من ابن مسعود اهـ. قوله: (وروينا في صحيح مسلم) والحديث عند أبي داود وليس فيه قوله على الخبير سقطت. قوله: (إذا أزحفت) أي أعيت ووقفت ويقال: أزحف البعير أي بالزاي والحاء المهملة والفاء فهو مزحف إذا وقف من الأعياء وأزحف الرجل إذا أعيت دابته كأن أمره أفضى إلى الزحف قال الخطابي صوابه أزحفت عليه غير مسمى الفاعل يقال: زحف البعير إذا قام من الأعياء وأزحفه السفر وزحف الرجل إذا انسحب على استه كذا في النهاية. قوله: (فقال على الخبير سقطت) قال المصنف معناه هنا صادفت خبيراً بحقيقة ما سألت عنه عالماً بخفيه وجليه حاذقاً فيه وقال الأبي في شرحه لصحيح مسلم قوله على الخبير هو مثل قال أبو عبيدة أصله لمالك بن جبير العائدي أحد حكماء العرب وقد تمثل به الفرزدق لما سأله الحسين عن أهل الكوفة: فقال على الخبير سقطت ألسنتهم معك وأيديهم مع غيرك وأمر الله ينزل من السماء فقال الحسين: لقد صدقتني اهـ. وقصد ابن عباس بهذا الكلام ترغيب السامع وتحريضه على حفظ ما يلقيه إليه في جواب مسألته فإنه عارف بحقيقتها حاذق فيها والله أعلم.