الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله شهادة تنجيني من أهوال يوم القيامة، ومن عذاب النار، وتدنيني من رحمة الله ورضوانه، وتدخلني جنة النعيم مع المقربين الأخيار.
والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه.
وبعد: فإن للثقافة الإسلامية دورا عظيم الأهمية، بالغ الأثر في تحديد معالم الشخصية الإسلامية لدى الفرد، ولدى المجتمع، تلك الشخصية التي تتسم بسمات القوة والهيبة والمجد والرفعة والنبل والكرامة والاتزان، والإيجابية، وتؤهل المسلم لأن يقوم بدوره في تشييد بناء الحضارة الإنسانية، وتعينه على الإسهام في النهضة العلمية والتقنية، ذلك لأن مهمة المسلم في الإصلاح والتهذيب، والتربية والتعليم تجعله في مقام السيادة والإمامة والقيادة والريادة لسائر أمم العالم وشعوب الأرض، وتحمله أمانة السماء إلى الأرض، ورسالة الله إلى البشرية.
1 الآيتان "1، 2" من سورة فاطر.
والمسلم وريث المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام في التبليغ والبيان، والنصح والإرشاد، والدعوة والتقويم، وإحقاق الحق، وهدم الباطل، ومحاربة الكفر وأعوانه والضلال وأتباعه؛ إذ إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما؛ وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به، فقد أخذ بحظ وافر.
ولا يتمكن المسلم من أداء هذا الدور الجليل العظيم ما لم يكن معتزا بعقيدته، فخورا بمبادئه، مستمسكا بتعاليم دينه، خاضعا لخالقه، مستسلمًا له في كافة الأمور والأحوال، متدبرا آيات القرآن العزيز الحكيم، فاهما سنة الرسول صلى الله عليه وسلم منفذا للأوامر الإلهية مجتنبا النواهي، مدركا حكمة الله في الخلق، وفي الإماتة، وفي البعث والنشور وفي الحساب والعرض، وهو فوق هذا كله لين العريكة، قوي العزيمة، عالي الهمة، شكور صبور غيور على حرمات الله، طيب المأكل، عف اللسان، صادق المقال، غني الجنان، مرتبط بماضيه الزاهر، متبصر في حاضره، عالم بوسائل إصلاحه، لديه القدرة على مواصلة المسير نحو مستقبل تعلو فيه كلمة التوحيد، وترفرف فيه راية الإيمان..
هذا المسلم الذي اتقدت مشاعره للإسلام وحماسه لمبادئه، ووفاء بتعالميه، وولاء لأهله
…
هذا المسلم الذي تهذبت عواطفه وحسنت أخلاقه واستقام مسلكه قادر على إرساء قواعد الإيمان في الأرض، وعلى متابعة الخطى في موكب الإسلام، قادر على التصدي لخصوم الإسلام، ورد تحديات الملحدين المغرضين، وإبطال حججهم، ونقض آرائهم، ومحاربة أفكارهم، ورد طعناتهم في نحورهم هذا المسلم ذو الفكر المستنير، والقلب الكبير هو الذي نهل من معين الثقافة الإسلامية، وطاف في أفيائها، وورد منها كل مورد، وجمع من قطافها ما لذ وطاب، ورشف من مائها العذب الزلال.. وعاش في حماها، ورفع رايتها، وتفانى من أجل خدمتها وتوضيحها للناس بيضاء نقية.
والثقافة الإسلامية قادرة على إيجاد حياة جماعية تسودها قيم السماء، تلك القيم التي ترفع من شأن الإنسان، وتعلي قدره، وتجعله -بحق- خليفة لله تبارك وتعالى على وجه هذه البسيطة، ينفذ شريعته، ويطبق منهجه، فلا يظلم ولا يطغى، ولا يبغي ولا يتعسف
…
هو إنسان يشارك أخاه الإنسان في أصل
الخلقة، وفي وحدة المصير والمآل، وليس له أن يستعلي على غيره، أو أن يعتدي على أحد، أو أن يسلب الآخرين حقوقهم في الحرية والعمل والعلم
…
وهكذا فإن الناس في قيم الإسلام وموازينه أبناء علات، كلهم لآدم وآدم من تراب
…
هذا المنهج الثقافي، وهذا العطاء الفكري والبذل الروحي والأساس الحضاري، وهذه المبادئ الاجتماعية والقيم الخلقية والآداب المعاشية تفردت بها الثقافة الإسلامية، ولم تستطع أية ثقافة من ثقافات العالم أن تضع الإنسان في مكانه المناسب، بل جعلت منه إما إنسانا مستعبدا مقهورا مظلوما مغلوبا على أمره لا يتمتع بأي حق من حقوقه الإنسانية الطبيعية، وإما إنسانا آخر طاغيا باغيا متسلطا متجبرا بغير حق. وسبب هذا الاختلال والاضطراب في مقياس الثقافات الأخرى يرجع إلى عدم اتصافها بصفة الاتزان والثبات، كما يرجع إلى أنها لا تستمد مبادئها وأسسها من وحي السماء.
والثقافة الإسلامية توثق الصلة بين الحاضر والماضي، فالماضي مجيد مشرق نهض به رجال آمنوا بالله ربا، وبمحمد نبيًّا، فبذلوا الغالي والنفيس لتكون كلمة الله هي العليا، ولم يخرج أحدهم من داره وبيته وبلده ليجوب أقصى الشمال، أو أقصى المغرب والمشرق من أجل مكسب مادي، أو منصب دنيوي، ولو كانت المكاسب المادية الدنيوية غاية واحد منهم لخرجوا من جزيرتهم محاربين قبل الإسلام، وقد عرفوا بالقوة والميل إلى الحرب والعنف والشدة، ولكن جهاد السلف الصالح، والرعيل الأول لم يكن ابتغاء مغنم أو لغرض دنيوي، وإنما كان من أجل إعلاء كلمة الحق ولينالوا إحدى الحسنين: إما الشهادة وإما النصر.
هذه الصفحة المشرقة البيضاء الناصعة التي سجلها رجال الإسلام الأبطال بأعمالهم المشرفة، لا بد أن تتألق في الحاضر، وأن تواصل المسيرة بتقدم نحو المستقبل في ركب حضاري مستمر لا يقف ولا يكل، لا بد للإسلام من رجال يحمون حماه، ويطبقونه على أنفسهم وفي مجتمعهم عقيدة وشريعة ومنهج حياة، يؤمنون به إيمانا مطلقا، ويتفانون في سبيل خدمته، وفي سبيل توضيح معالمه والدعوة إليه، وإبعاد الشبه والدسائس التي أثارها أعداء الإسلام من
استعمار أو استشراق أو تبشير أو صهيونية، أجل لا بد للإسلام من رجال تقلقهم وتقض مضجعهم الأوضاع الحالية لبعض المسلمين الذين لم يتح لهم أن يثقفوا ثقافة إسلامية، أو الذين تأثروا من قريب أو بعيد بما يثيره العدو من ضلالات وفتن وشبهات.
ومهمة قادة الفكر والمصلحين الإسلاميين تعظم في هذا الوقت الحاضر، وتتمثل في تسليط الأضواء على الأسس العامة للإسلام من عقيدة وخلق ونظم وتشريع. وبيان قدرة وإمكانية ديننا العظيم لسد حاجات العصر ومتطلباته.
كما تتمثل في الدعوة إلى تحصين عقول الجيل الصاعد من الغزو الفكري الذي تتبناه الحضارة الغربية والشرقية والذي يهدف إلى تمييع الشخصية الإسلامية وهدم البناء الاستقلالي للأمة الإسلامية، وإبعاد آثار الثقافة الإسلامية عن أفكار أبناء الإسلام.
كما تتمثل أيضًا في الدعوة إلى النهضة الشاملة في شتى ميادين الحياة: اقتصادية وعمرانية، لأن الإنسان المسلم إيجابي فعال، يؤثر ويبني، يشيد ويعمر، يزرع ويبذر، يعلم ويتعلم، ينفع ويغدق الخير لصالح البشرية جمعاء..
وهكذا فالثقافة الإسلامية تصبغ الإنسان بصبغة استقلالية ذات خلق أصيل وقيم ثابتة، ومن ثم فإنها تضع الأمة الإسلامية في موضع القيادة والزعامة من سائر الأمم والشعوب. قال الله تبارك وتعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} 1.
وإنه لمن تمام النعمة على المسلمين أن تحظى المكتبة الإسلامية بعدد وافر من كتب الثقافة الإسلامية القيمة التي تبصر الجيل بدوره الجليل وبمهمته
1 الزخرف: 44.
2 آل عمران: 104.
الجسيمة في الحياة الدنيا، وتعينه على فهم دينه فهما واضحا لا لبس فيه ولا غموض، وتسلحه بسلاح العقيدة السمحة والفكر النير الواعي، وتطبعه بطابعه المميز الأصيل في مواجهة التيارات المعادية للإسلام والتي ما برحت ترسم خططها وتنفث سمومها وتجمع مكائدها وتبث مكرها لتشويه الفكر الإسلامي وإبعاد المسلمين عن دينهم وعن عقيدتهم.
وقد رأيت أن أشارك في هذا الميدان فأكتب في الثقافة الإسلامية بحثا لعله يعين على تحقيق المنشود، وقد توخيت أن يكون نهج هذا البحث بسيطا غير معقد، وعميقا غير سطحي لأفيد وأستفيد، وليخدم ثقافتنا الإسلامية وفكرنا الإسلامي على النحو المرجو. والله من وارء القصد.