الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الإيمان والعقيدة
…
المبحث الأول: الإيمان
الإيمان بالله تعالى أساس شخصية الأمة المسلمة:
إن الإيمان بوجود الله ووحدانيته وتفرده بالخلق أساس الشخصية الإسلامية وسر قوتها وقوام حياتها ومفتاح حضارتها وباعث نهضتها، فبالإيمان خرج المسلمون من الجزيرة العربية يحملون راية التوحيد ويشيعون النور والعدل والأمن في أرجاء العالم. وبالإيمان انتصر المسلمون على الحملات الصليبية التسع التي أرادت أن تحصد البلاد والعباد.
وبالإيمان انتصر المسلمون على التتار الذين زحفوا على الشرق الإسلامي كالريح العقيم: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَاّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} 2، وألقوا المؤلفات الإسلامية في الفرات حتى غلب لون الحبر لون الماء، وأرادوا أن يدمروا الحضارة الإنسانية كلها لولا أن هيأ الله مسلمين مخلصين من الشام ومصر فردوهم على أعقابهم خاسرين في "عين جالوت" وكان مفتاح النصر كلمة "واإسلاماه" أطلقها القائد "قطز" فألهبت المشاعر واستجاشت العزائم وأيقظت الهمم3.
1 سورة إبراهيم: 24-27.
2 سورة الذاريات: 42.
3 الإيمان والحياة د. يوسف القرضاوي ص16.
والأمة الإسلامية اليوم وهي تواجه خطرًا شديدًا، وعدوًّا شرسًا، لا بد أن تتسلح بسلاح الإيمان وحسن الصلة بالله والإخلاص له في السر والعلن حتى تتمكن من التغلب على العدو الماكر، وحتى تتمكن من استعادة مجدها القديم، ولكي تأخذ بأسباب السعادة والتقدم والقوة..
"نحن أمة مؤمنة" هذه قضية يجب أن تتنبه إليها أقلام المفكرين وتتجه إليها مشاعر الأدباء والكتاب، وقادة الحرب والمعارك، وأرباب الأموال وأصحاب المشروعات.
"نحن أمة مؤمنة" يجب أن يكون شعارنا في كل تقدم، وفي كل ازدهار ونمو وإصلاح وعمران..
"نحن أمة مؤمنة" يجب أن ترعاها الأم في بيتها والأستاذ في مدرسته والشاب في نشاطه.. كي تتضافر الجهود وتتحد الأهداف في سبيل تثبيت الإيمان في القلوب، وحماية هذه الحقيقة التي كانت سببا في كل مجد وعز.
معنى الإيمان:
الإيمان ما استقر في النفس أو ملك على الإنسان قلبه وعقله وأحاسيسه ومشاعره ووجدانه، فإذا فكر فضمن نطاق الإيمان، وإذا تكلم فبوحي الإيمان، وإذا عمل فمن أجل الإيمان.. وللإيمان ركائز يقوم عليها، هي التصديق القلبي الذي لا يدانيه ريب ولا يقاربه شك، والإقرار اللساني بالشهادتين وما يترتب عليهما والعمل الظاهري بالجوارح، وليس من الإيمان في شيء مجرد الإعلان باللسان، لأن هذا شأن المنافق.
وليس من الإيمان في شيء أن يتظاهر الإنسان بأن يؤدي بعض الشعائر الدينية على مرأى من الناس ليقال عنه إنه مؤمن وإنه كذا وكذا، فهذا هو المرائي.
وليس من الإيمان في شيء أن يعرف الإنسان حقيقة الإيمان معرفة ذهنية
1 سورة البقرة: 8-9.
فقط، فكم من أناس عرفوا حقائق الإيمان ولم يؤمنوا قال سبحانه وتعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} 1. وقد أقر أبو طالب بنبوة الرسول عليه الصلاة والسلام ونباهة شأنه ولكنه لم يؤمن به خوف اللوم والمسبة فأعلن:
ودعوتني وزعمت أنك صادق
…
ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا
وعرفت دينك لا محالة أنه
…
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة
…
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وهذا هرقل عظيم الروم يقول: لو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لجلست عند قدميه. وجاء في فتح الباري: عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن هرقل قال: ويحك.. والله إني لأعلم أنه نبي مرسل ولكني أخاف الروم على نفسي ولولا ذلك لاتبعته، فقد وجد من هؤلاء التصديق والتسليم والإقرار إلى حد كبير ولكن العلماء متفقون على أنهم كافرون.
والحق أن الجزء الذي يمتاز به الإيمان ويتضح هو التزام الطاعة مع التبري من كل دين سوى الإسلام.. فإذا التزم الطاعة فقد خرج عن ضلالة الكفر ودخل في هدى الإسلام، وبهذا تبين وجه كفر هؤلاء الكفرة مع تصديقهم ومعرفتهم وذلك لأن أبا طالب وإن جهر بحقية دين محمد صلى الله عليه وسلم لكنه لم يلتزم طاعته ولم يدخل في دينه ولذا قال: لولا الملامة أو حذار مسبة، فآثر النار على العار، وهكذا هرقل تمنى لقاءه وبجَّلَه وعظَّمه بظهر الغيب لكنه خشي الروم أشد خشية فلم يلتزم طاعته، وكذلك حال الكفار الذين أخبر الله سبحانه عنهم بقوله:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} 2، ومع معرفتهم أعرضوا عن كلمة الحق ولم يدينوا بدين الإسلام، ولذا يقال: إن الإسلام من الإرادات بمعنى أنه لا يكفي فيه الإذعان الفكري الخالص3.
وعلى هذا فالإيمان في حقيقته عمل نفسي ووجداني داخلي، وإدراك وجزم
1 سورة النمل: 3.
2 البقرة: 146.
3 لمحات في رسائل التربية الإسلامية وغاياتها د. محمد أمين المصري ص153-154.
ويقين، وانقياد إرادي. قال الله جل شأنه:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} 1.
ولا بد أن يتبع المعرفة القلبية والتصديق الوجداني والإذعان النفسي الداخلي والإقرار اللساني التزامًا بالمبادئ الخلقية والسلوكية والجهاد في سبيلها بالمال والنفس، قال الله تعالى في وصف المؤمنين:
وللإيمان أركان هي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء خيره وشره من الله. وإن أسمى هذه الأركان وأعظمها أثرًا الإيمان بالله تبارك وتعالى ورسله، أما الإيمان بالكتب فهو منبثق عن الإيمان بالله ورسله.
والإيمان بالبعث والقضاء متعلق بهما أيضا، فإذا آمن الإنسان بالإله الواحد الخالق المدبر، فإنه لا بد أن يترتب على إيمانه هذا الإيمان بالكتب ثم بالقدر ومسئولية الإنسان والجزاء والحساب.
1 الحجرات: 15.
2 النساء: 65.
3 النور: 51.
4 الأنفال: 2-4.
5 المؤمنون: 1-4.
الإيمان بالله تعالى:
إن حاجة الإنسان إلى الإيمان بوجود الله وبوحدانيته وبقدرته حاجة أساسية سواء من الناحية العقلية أو من الناحية الفطرية أو من الناحية العاطفية، فالإنسان منذ أن وجد على سطح البسيطة وهو يتساءل: من أين جاء، وإلى أين يذهب ومتى يذهب، وكيف وجد؟
…
هذه الأسئلة ذاتية تنبعث على لسانه وتتحرك في ذهنه حالما يبدأ يدرك وجوده ويحس الكائنات حوله، الأمر الذي يجعل الإيمان حيًّا في النفوس متفاعلًا معها.
وإذا قارن الإنسان نفسه مع سائر المخلوقات الكونية أدرك أنه مخلوق صغير بالنسبة للكون ولمظاهر الطبيعة وللسنن المستمرة، وهذا ما يشعره بضعفه فيلجأ إلى الإيمان بالله يستمد منه القوة في الحياة، والعون في التعامل مع السنن الكونية.
وإذا خففت العادة من الشعور الفطري في ساعات الرخاء واللهو فإنه يعود إلى الظهور عند الشدة والبأساء، أو عند النوائب والكوارث، أو عند الضيق والمرض.
وتبدو الفطرة قوية جلية حينما يفاجأ الإنسان بالسؤال عن مصدر هذا الكون ومدبره فلا يملك بفطرته إلا أن ينطق بحماسة "الله": {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
1 الروم: 30.
2 يونس: 22.
3 العنكبوت: 61.
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلالُ فَأَنى تُصْرَفُونَ} 1.
وسبل المعرفة للإيمان بالله تعالى تختلف من إنسان إلى آخر، فهناك من يستجيب لداعي فطرته فيؤمن ويلتزم، وهناك من يصل إلى الإيمان عن طريق السببية وذلك بالإيمان أن وراء هذا الكون المنظم المنسجم إلها عظيمًا خالقًا، قال الله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 2.
ولكن العقل وحده من غير تأييد الرسل وهدايتهم قد يضل سبيل الهداية، وقد يهبط إلى الدرك الأسفل من السخف والنظر، فيتخذ من الأحجار والأشجار ومظاهر الطبيعة آلهة، فيجثو أمامها، ويخضع لها، ويستذل لما يبهره من أشكالها وأحوالها، ولذلك فلا بد من رسالة الرسل لتحمي العقول البشرية من الضلال والانحراف، وتردها إلى الصراط المستقيم.
والمعرفة البشرية لا يمكن أن تتوجه إلى ذات الله سبحانه وتعالى، لأن
1 يونس: 31-33.
2 آل عمران: 190-191.
3 سورة الأنعام: 74-79.
العقل البشري المخلوق المحدود بمكان وزمان عاجز عن إدراك الأبدي الأزلي الخالق العظيم، ولا عجب، فهناك في عالم المادة أشياء مخلوقة لم يعرف الإنسان كنهها وماهيتها كالمغناطيس والكهرباء، وككثير من الأفلاك السماوية، وعدم المعرفة بذاتها وحقائقها لا تستدعي في إنكار وجودها، بل من الجهل بمكان أن ينكر الإنسان شيئًا لعدم إحاطة حواسه به، إذ إن وجود الشيء لا يتوقف على إدراك حقيقته.
والمعرفة البشرية يمكن أن تتجه إلى آثار الله سبحانه ومخلوقاته التي تحيط بنا أينما نظرنا وكيفما نظرنا، فالأرض والسماء، والأفلاك والنبات، والإنسان والحيوان والماء كل هذه أدلة ناطقة على وجود الله وتفرده بالخلق ووحدانيته بالتصرف.
ولا شك أن الفطرة السليمة والعقل الواعي يقف مبهورا أمام كل هذه الآيات، والقرآن الكريم يلفت النفس الإنسانية إلى الدلائل الكونية الثابتة التي تشير إلى قدرة الخالق.
وحدانية الله:
وهو تعالى إله واحد ليس له شريك ولا مثيل في ذاته أو صفاته أو أفعاله سبحانه وتعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 2، وكل ما في الكون من إبداع ونظام يدل على وحدانية مبدعه ووحدانية مدبره. قال الله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 3.
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا
1 سورة الأنعام: 102-103.
2 سورة البقرة: 163.
3 الأنبياء: 23.
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1.
وهو سبحانه واحد في ربوبيته، وهو واحد في ألوهيته، فلا خشية إلا منه ولا اعتماد إلا عليه ولا خضوع إلا لحكمه.. ولا يملك أحد من المخلوقات ضرًّا ولا نفعًا وحتى الرسل والأنبياء عباد الله، اصطفاهم سبحانه لحمل رسالته إلى الخلق ولدعوتهم إلى الإيمان. قال الله سبحانه:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2.
ومن هنا كانت كلمة "لا إله إلا الله" عنوان التوحيد والإخلاص، ومفتاح العقيدة الإسلامية، وهي تشتمل على معان عظيمة جليلة، تخص الله سبحانه بكل قدرة وبكل حكم وبكل سلطان. وهي منهج كامل متفرد عن سائر المناهج والأنظمة، هي إيذان بمجتمع مستقل متميز بعقيدته ونظامه لا عنصرية فيه ولا إقليمية ولا طبقية، لأنه ينتمي إلى الله وحده، ولا يعرف الولاء إلا له سبحانه.
وقد أدرك زعماء الجاهلية وجبابرتها ما تنطوي عليه دعوة "لا إله إلا الله" من تقويض لعروشهم ومن القضاء على سلطانهم وطغيانهم، فأجمعوا كيدهم وحاربوا كل من يؤمن بها وكل من يدعو إليها.
ولكن العلي العظيم سبحانه قد أتم نوره وأعز جنده وارتفعت كلمة الحق فوق كل بلد، وعشقها كل قلب صاف، وكل عقل نير، ولأن لها كل إنسان واعٍ ناضج متفتح المشاعر والأحاسيس..
الإيمان بصفات الله تعالى:
ويلزم من الإيمان بوجود الله وبوحدانيته الإيمان بأنه تعالى متصف بكل كمال يليق بذاته العلية، وأنه منزه عن كل نقص، قال سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
1 المؤمنون: 91.
2 آل عمران: 79-80.
3 سورة الشورى: 11.
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1. وهو العزيز الفعال لما يريد، الذي لا يغلبه شيء ولا يقهر إرادته شيء {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2. وهو القدير الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، ويحيي العظام وهي رميم. وهو الحكيم الذي لا يخلق شيئًا عبثًا. ولا يترك شيئا سدى، ولا يفعل فعلا أو يشرع شرعًا إلا لحكم، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. وهو الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه، ووسعت رحمته كل شيء، كما وسع علمه كل شيء، وقد حكى القرآن الكريم دعاء الملائكة:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} 3. وقال سبحانه: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 4، وقال جل ذكره: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 5، {خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلى، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 6. {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ
1الأنعام: 59.
2 آل عمران: 26.
3 غافر: 7.
4 الأعراف: 156.
5 الزمر: 53.
6 طه: 4-8.
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1.
وهو سبحانه مع عباده جميعًا بعلمه وإحاطته: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} 2، مع المؤمنين خاصة بتأييده ومعونته {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 3.
والكون كله صامته وناطقه، أحياؤه وجماده، ناطق بعظمة الله ومنقاد لأمره، ومسبح بحمده {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} 4، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} 5.
وأود أن أشير هنا إلى ما ذكره الأستاذ أبو الأعلى المودودي في أن الإنسان يكون على أربع درجات باعتبار الإيمان والإسلام:
1-
الذين يؤمنون إيمانا يجعلهم مطيعين له. متبعين لأحكامه اتباعًا كاملًا، يحذرون ما قد نهى عنه، كما يحذر الإنسان الإمساك بجمرة متقدة من النار في يده. ويسارعون إلى العمل بما فيه رضاه، كما يسرع الإنسان إلى كسب الأموال فهؤلاء هم المؤمنون حقًّا.
2-
الذين يؤمنون بالله، ولكن لا يجعلهم إيمانهم مطيعين له، متبعين لأحكامه اتباعًا كاملًا. فهؤلاء وإن كان إيمانهم لم يبلغ درجة الكمال ولكنهم مسلمون على كل حال. يعاقبون بقدر معصيتهم، كأنهم بمنزلة المجرمين وليسوا بمنزلة البغاة المتمردين. لأنهم يعترفون للملك بملكه ويخضعون لقانونه.
3-
الذين لا يؤمنون بالله ولكنك تراهم ظاهرا يأتون بأعمال تشابه أعمال المسلمين، فهم البغاة في حقيقة الأمر. وأما أعمالهم التي تراها صالحة في الظاهر فليست بطاعة لله ولا اتباع لقانونه. فلا عبرة بها ومثلهم كمثل رجل لا
1 سورة الحشر الآيات: 22، 23، 24.
2 الحديد: 4.
3 النحل آخر آية.
4 الإسراء: 44.
5 الحج: 18.
يعترف للملك بملكه، ولا يخضع لقانونه، فإذا صدرت عنه بعض أعمال لا تخالف قانون الملك لا يحكم عليه بكونه وفيًّا للملك ومطيعًا لقانونه. بل هو عاصٍ لأمره خارج على قانونه.
4-
الذين لا يؤمنون بالله ويأتون أيضًا بأعمال سيئة مخالفة لأحكامه وقانونه فهم شر الناس، بغاة مفسدون.
فالظاهر من هذه القسمة أن الإيمان هو الذي ينحصر فيه نجاح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، ولا يتولد الإسلام، إلا من بذر الإيمان فحيث لا يكون الإيمان يكون الكفر. والكفر ضد الإسلام، أي الخروج على أمر الله تعالى باختلاف درجاته1.
الإيمان بالنبوة:
إن الإيمان بالله تعالى وبتدبيره للعالم وتكريمه للإنسان يستلزم الإيمان بالنبوة، ذلك لأن الله سبحانه الذي خلق الإنسان وسخر له ما في الكون جميعًا لم يتركه يتخبط على غير هدى، بل من تمام الحكمة والفضل أن يهديه سبيل الحق والخير، ويهيئ له الزاد الروحي كما هيأ له الزاد المادي، وأن ينزل الوحي من السماء ليحيي به القلوب كما أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها2.
والإيمان بالنبوة أو الصلة بين الله تعالى والمجتمع الإنساني عن طريق الأنبياء من خصائص الدين ومزاياه.
وقال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
1 مبادئ الإسلام للأستاذ أبي الأعلى المودودي ص26-27.
2 الإيمان والحياة د. يوسف القرضاوي ص32.
3 سورة البقرة: 213.
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 1، وقال جل من قائل:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 2، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 3.
والمسلمون مطالبون أن يؤمنوا بجميع الأنبياء والرسل، وأن دعوتهم واحدة وإن اختلفت مناهجهم وشرائعهم باختلاف الأزمان والبيئات..
قال الله تعالى: {
…
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 4.
ويقول الرسول، صلى الله عليه وسلم:"مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين"7.
والأنبياء في الاعتبار الإيماني وفي الميزان الإلهي ليسوا آلهة ولا أبناء آلهة ولا أنصاف آلهة، وإنما هم بشر مثلنا، يأكلون كما نأكل وينامون كما ننام ويمشون في الأسواق، إلا أنهم معصومون عن الكبائر وسفاسف الأمور بعصمة الله تعالى واقتضائه، لما يحملون من رسالة وبما يؤدون من دعوة.
1 الحديد: 25.
2 النساء: 165.
3 الإسراء: 15.
4 البقرة: 285.
5 البقرة: 136.
6 الشورى: 13.
7 رواه مسلم.
الوحي:
تتم الصلة بين الله تبارك وتعالى وبين الأنبياء بالوحي، ولكن ماذا تعني كلمة الوحي؟
الوحي في اللغة: إعلام في خفاء، ولذلك سمي الإلهام وحيًا2.
وقال الراغب الأصفهاني "أصل الوحي الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل أمر وحي، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب أو بإشارة بعض الجوارح وبالكتابة"3.
الوحي في الشرع: قال ابن الأنباري: "إنما سمي وحيًا لأن الملك أسره على الخلق وخص به النبي الذي بعثه الله إليه"4.
وقال الراغب: يقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى الأنبياء وحي..
وعلى هذا: فالوحي يعني إلقاء الله تبارك وتعالى الكلام أو المعنى في نفس الرسول بخفاء وسرعة، وظاهرة الوحي مرافقة للنبوة وهي خارقة للعادة..
كلمة الوحي في القرآن الكريم:
وردت كلمة "الوحي" في القرآن الكريم بمعناها اللغوي والشرعي فمن الأول قول الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} 5.. وقوله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} 6.
1 الكهف: 110.
2 لسان العرب لابن منظور مادة "وحي".
3 المفردات في غريب القرآن.
4 لسان العرب.
5 سورة النحل: 68.
6 القصص: 7.
كما وردت كلمة الوحي في القرآن بمعناها الاصطلاحي، من ذلك مثلا قوله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 3.
ونلحظ على ضوء ما مر أن معنى الوحي في الشرع أخص استعمالًا منه في اللغة.
الوحي ظاهرة مميزة للأنبياء:
إن الإيمان بالنبوة يستدعي الإيمان بالوحي، لأنه ظاهرة مميزة للأنبياء جمعيًا، وقد أوحى الله سبحانه إلى سائر الأنبياء والمرسلين من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلوات الله عليهم جميعًا. ولذلك فقد أدرك ورقة بن نوفل بما أوتي من معرفة مسبقة بأوصاف الوحي أن ما ألم بمحمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء إنما كان وحيًا، فجزم القول للسيدة خديجة رضي الله عنها "هذا الناموس الذي نزل على موسى" وخص موسى بالذكر مع أن الوحي نزل عليه وعلى غيره من الرسل كعيسى عليه السلام مثلا وذلك لإجماع أهل الديانتين اليهودية والنصرانية على الإيمان بنزوله على موسى. ولم يقل ورقة: إنه الذي نزل على عيسى، لأن اليهود ينكرون نبوة عيسى4.
1 المائدة: 111.
2 الأنفال: 12.
3 النساء: 163-165.
4 فتح الباري: 1/ 20.
ورأي اليهود هذا معروف في الجزيرة العربية لاستيطان بعضهم في أجزاء منها فجاءت النسبة إلى موسى عليه السلام، أبلغ في إعلان التيقن، والتأكيد على أنه ملك الوحي، وأقطع حكما بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنفى للشك، وأبعد عن الاحتمال والتأويل الذي قد يجر إليه قذف الموضوع في لجة الخلاف.
الإيمان بالوحي:
إن الإيمان بالوحي يتوقف إلى حد كبير على الإيمان بالغيب، فلا بد من إطلاق سراح العقل من قيد المادة والحواس الخمس التي تقيد التفكير البشري بعالم محسوس محدود، وليس في هذا عجب ولا غرابة، فإن العلم نفسه -وبعد أن قطع شوطا كبيرا من المعرفة يقف عاجزا عن إيجاد تفسيرات لبعض المظاهر الطبيعية من ذلك أشعة "إكس" مثلا، فهي أشعة موجودة ولكنها لا تدرك بالحواس وقد استطاع الإنسان أن يستخدم أمواج "الكهراطيسية" لتقريب البعيد فيتمكن من التقاط الصوت ومن الاستماع إليه بطريق جهاز صغير عن بعد آلاف الأميال ومع ذلك فلم يدرك حقيقة "الكهراطيس"
…
فهذا الإنسان الذي عرف تلك الحقائق وانتفع بها ينبغي أن يكون أكثر تفهما وتقبلا لحادثة الوحي وأقوى إيمانا برسل الله وبقدرة الله سبحانه الذي بيده ملكوت السماء والأرض والذي خلق الإنسان ومنحه العقل والحواس والعلم وقوة الملاحظة ودقة الإدراك.. ومن أنكر وجود "الوحي" لأنه لا يرى فقد أهدر كرامته وأهدر إنسانيته، لأنه لم يقدر البون الشاسع بين ضعف الإنسان وجهله وعقله المخلوق وقدرته المحدودة، وبين علم الله الواسع المحيط، وأنه سبحانه خالق مدبر متصرف متفرد بالإحياء والإماتة.
"وإن حواس الكائنات الحية تختلف في إدراكها للأشياء، وهي تحكم بما يسمى بقانون العتبات، أي أن لكل حاسة عتبة دنيا لا تحس ما دونها من المخلوقات والموجودات، وعتبة عليا لا تحس بما فوقها من هذه الموجودات، فهي لا تحس إلا بما بين العتبتين، وهاتان العتبتان مختلفتان في الإنسان عنهما في سائر الكائنات الأخرى، وهكذا قد تلتقط أُذن الكلب أصواتا لا تلتقطها أذن الإنسان وقد ترى عين الحصان أشياء لا تراها عين الإنسان وهكذا..
قلنا هذا لتقريب ظاهرة الوحي إلى الأذهان، ولنبين أنها غير مستحيلة عقلا، وإلا فهي إحدى الظواهر الخارقة التي يتصل الإيمان بها بالإيمان بالله تعالى
خالق الأكوان والعجائب فيها، والذي لا يعجزه أن يخرق السنن والنواميس التي خلق الوجود عليها"1.
فالآيات الكريمة تشير إلى وجود أشياء لا تراها العين البشرية ومن جملتها الوحي الذي يدركه الرسول وحده دون سائر الآدميين.
أنواع الوحي:
قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 3.
ومن خلال ما تسلطه الآية الكريمة من أضواء على الوحي يمكن أن نصنف الوحي إلى أنواع متعددة هي:
النوع الأول:
أن يلقي الله المعنى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ويكون ذلك في اليقظة أو المنام. وهذا ما يستخلص من قوله تعالى: {إِلَاّ وَحْيًا} وتحت هذا النوع يندرج قسمان:
القسم الأول: إلقاء الله المعنى إلى قلب النبي يقظة، ويتم ذلك من غير واسطة الملك مع خلق علم ضروري عند النبي أن هذا المعنى قد قذفه الله قطعا فهو نور ينبلج في القلب فلا يندفع ولا يحتمل الشك ولا التأويل. ويشير إلى هذا المعنى قول الله تبارك وتعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 4.
وقد فسر علماء التفسير قوله تعالى: {بِمَا أَرَاكَ اللهُ} بما أعلمك:
1 معالم الثقافة الإنسانية. د. عبد الكريم عثمان ص57.
2 سورة الحاقة: 38-43.
3 سورة الشورى: 51.
4 سورة النساء: 105.
1-
قال الإمام الفخر الرازي: "بما أعلمك الله، وسمى ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ من جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لا يقولن أحد قضيت بما أراني الله تعالى، فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه، وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنًّا ولا يكون علمًا"1.
2-
قال الآلوسي رحمه الله: "بما أراك الله: أي بما عرَّفك وأوحى به إليك"2.
3-
قال صاحب المنار: "بما أراك الله.. أعلمك علما يقينا كالرؤية في القوة والظهور، وما ذلك إلا الوحي الذي يفهم منه مراد الله فهما قطعيًّا"3 فمعنى الآية -بناء على هذا- لتحكم بين الناس بما أعلمك أو عرَّفك الله تعالى بوحي منه..
القسم الثاني: الرؤيا الصادقة. وفي قصص الأنبياء كثير من حوادث الرؤيا الصادقة منها قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} 4.
النوع الثاني:
يستخلص من قول الله تعالى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وقد حصل لسيدنا موسى عليه السلام إذ كلم الله موسى تكليما من غير واسطة، ولم يره موسى. قال تعالى:{وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 5.
النوع الثالث:
أن يرسل الله ملك الوحي جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيوحي إليه ما أمره أن يوحيه، ويحصل له علم ضروري بأنه ملك الوحي يبلغه عن الله تعالى وهذا النوع يستخلص من قوله تعالى:{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} وقد حصل هذا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولجميع الرسل قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى
1 التفسير الكبير: 4/ ص115.
2 روح المعاني: 2/ ص30.
3 المنار 3/ 60.
4 الصافات: 102.
5 النساء: 164.
لِلْمُؤْمِنِينَ} 1.
ومن الوحي بغير واسطة ما ألقاه الله تبارك وتعالى على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج من أمره بالصلاة..
نزول القرآن الكريم بواسطة جبريل:
أنزل الله القرآن الكريم بواسطة الملك جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم في اليقظة، قال الله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2.
وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} 3.
وأطلق عليه اسم روح القدس، والروح الأمين لأنه كان يتنزل بما يحيي موات القلوب فهو بمثابة الروح، ويرى الرازي: أن إضافة الروح إلى القدس في الآية لأنه مجبول على الطهارة والنزاهة من العيوب، وروحانيته أتم وأكمل من سائر الملائكة فخص بهذه الإضافة دونهم.
ويرى الراغب الأصفهاني: أنه خص بذلك لاختصاصه بالنزول بالقدس من الله تعالى. أي بالنزول بما يطهر به نفوسنا من القرآن والحكم والفيض الإلهي. وهذا أرجح لتعلقه بأمر ظاهر في مهمته4.
أساليب اتصال جبريل عليه السلام بالرسول صلى الله عليه وسلم:
لقد اتصل جبريل بالرسول عليه الصلاة والسلام بأساليب شتى منها:
1-
ظهر جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم بصورته الملكية الحقيقية مرتين:
الأولى: يوم أن جاءه الوحي لأول مرة في غار حراء. وقال له "اقرأ".
والثانية: حينما عرج به ليلة الإسراء والمعراج، إلى السموات السبع،
1 سورة البقرة: 96.
2 سورة الشعراء: 193.
3 سورة النحل: 102.
4 الرسالة والرسول للدكتور نور الدين العتر ص67.
2-
كان الوحي يأتيه من الملك صوتا مدويا قويا يشبه صلصلة الجرس يقرع سمعه قرعا، ويحيط به الصوت من كل مكان، قال عليه الصلاة والسلام:"أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشد علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال"..
3-
أن يأتيه الملك بصورة رجل عادي. وفي هذه الحالة كان الصحابة الكرام يرون شخصًا أمامهم لا يعرفونه وليس عليه أثر من سفر فيسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ويصدقه، فيعجبون لسائل يسأل ثم يصدق المجيب.
4-
وقد يلقي الملك في فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم وعقله معنى خاصًّا من غير أن يرى أو يسمع.
قال عليه الصلاة والسلام: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته..".
خصائص الوحي:
إن للوحي خصائص يتميز بها وهي توضح جليًّا أن الوحي من عند الله وليس للنبي المصطفى إرادة في حصوله وأهم هذه الخصائص هي:
1-
أنه حدث مفاجئ، يطرأ على حياة النبي من غير تشوف إليه أو تطلع له وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء يتحنث حينما فاجأه الوحي وغطه ثلاثا، حتى
1 النجم: 1-17.
كادت أضلعه تختلط ثم تركه فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفا وجلا يحدث السيدة خديجة رضي الله عنها بما أصابه، فذهبت به إلى ورقة بن نوفل لتستطلع الخبر وتستفسر عما حصل له صلى الله عليه وسلم.
2-
أنه حدث إلزامي: وتتجلى إلزامية الوحي بمظهرين:
المظهر الأول تغير الحالة العادية للرسول صلى الله عليه وسلم وذلك باحمرار الوجه وانصباب العرق من جبينه وثقل جسمه حتى أن الدابة تبرك على الأرض.
والمظهر الثاني: تغير الأحوال النفسية من حالة الهدوء إلى الخوف الشديد وبخاصة في أثناء التلقي الأول.
3-
إن الوحي مستقل عن ذات الرسول صلى الله عليه وسلم وشخصه:
ويدل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع استحضار الوحي وقد غاب عنه فترة طويلة بعد أن جاءه الملك في غار حراء لأول مرة.
4-
حصول الوحي وفق الاصطفاء الإلهي:
إن الوحي أمر اصطفائي إلهي لا دخل لجهد الإنسان فيه ولا لنسبه ولا لسعيه ولا لترقبه الروحي أو سموِّه الخلقي.. وإن الله سبحانه اختص برحمته من يشاء من الأنبياء والرسل. قال الله تعالى: {وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1.
ومما يتصل بمسألة الإيمان بالنبوة الإيمان بالمعجزة..
المعجزة:
هي حادثة خارقة للعادة والقوانين التي يلاحظها الناس وتحصل المعجزة تأييدا لنبوة النبي، وتنقسم المعجزة إلى قسمين: معجزة مادية ومعجزة معنوية..
وليست المعجزة بأعجب من خلق السموات والأرض ومن فيهن وما بينهن إذ إن المعجزة حادث مفرد، والذي قدر أن يخلق كل ما في الكون قادر على إيجاد حادثة مغايرة للمألوف السمعي والبصري أو المعنوي.
1 سورة البقرة: 105.
ومن المعجزات المادية التي تحدث عنها القرآن الكريم: ناقة صالح، قال الله تعالى:{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1.
ومنها تحول عصا موسى وهي جماد إلى حية تسرع المشي في الأرض.. قال تعالى: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} 2.
ومنها معجزات عيسى عليه السلام: وقد حدثنا القرآن عنها بقوله تعالى: {..أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} 3.
وأما المعجزات المعنوية فهي أقوى أثرا، وأدوم بقاء من المعجزات الحسية وأهمها القرآن الكريم الذي نزل على خاتم المرسلين بلسان عربي مبين.
معجزات رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم:
لقد أجريت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزات مادية كثيرة ورد ذكر بعضها في القرآن الكريم وهي:
1 الإسراء من مكة إلى القدس في ليلة واحدة، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} 4.
2-
المعراج إلى السموات العليا في ليلة واحدة أيضا: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى الْسِدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ
1 الشعراء: 153-156.
2 سورة الشعراء: 29-33.
3 سورة آل عمران: 49.
4 سورة الإسراء: 1.
الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 1.
3-
تنبؤه بانشقاق يظهر على سطح القمر، وهي ظاهرة سماوية وقعت فعلا بعد تنبئه بها مباشرة وشاهدها الناس الذين كان يخاطبهم:{اقْتَرَبَتِ الْسَاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 2.
4-
معجزة النصر على جيوش أعدائه، وكان النصر مؤزرا بتأييد الملائكة وقتالهم في صفوف المسلمين على الرغم من قلة عددهم:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} 3 ، {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} 4، {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} 5.
5-
تنبؤاته وهو في حال الضعف المادي الشديد بالانتصار على كفار مكة وانقراض دولتي فارس والروم.. وكثير غيرها من المعجزات التي ورد ذكرها في السنة النبوية.
وكان أهم تلك المعجزات وأعظمها أثرا المعجزة العقلية المعنوية التي أنزلها الله تبارك وتعالى على خاتم الأنبياء والمرسلين ألا وهي الكتاب الخالد.. والقرآن الكريم في واقع الأمر يتصل اتصالا وثيقًا بماهية الرسالة الإسلامية ويعتبر ركنًا أساسيًّا من أركانها، وجانبا حيويًّا من جوانبها، وهو معجزة باقية على الدوام والاستمرار، والقرآن الكريم يخاطب العقل البشري ويعتمد على القناعة المنطقية والذوق النفسي والفطرة السليمة والضمير المتيقظ.
الإعجاز في القرآن الكريم ووجوهه:
الإعجاز في اللغة العربية: نسبة العجز إلى غيره وإثباته له، وقد أعجز القرآن الناس بلغاءهم وفصحاءهم، وأدباءهم وحكماءهم، وعلماءهم
1 سورة النجم: 13-18.
2 القمر: 1.
3 الأنفال: 17.
4 الأنفال: 9.
5 الأنفال: 11.
ومفكريهم عن الإتيان بآية تماثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وسيبقى القرآن الكريم شامخا لا يدانيه فكر ولا قول مهما سما وتأنق.
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 2. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 3. {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 4.
والقرآن الكريم تحدى بإعجازه الناس ليكون حجة وإثباتا لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وليبطل دعوى من ادَّعى بأنه من وضع بشر، فلسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا عربي مبين، فهو كتاب الله المنزل هدى ورحمة للعالمين.
وهو لم ينزل جملة واحدة، بل نزل مفرقا في ثلاث وعشرين سنة لحكم جليلة أرادها رب العباد، ومن هذه الحكم الإعجاز في زمن التنزيل فهناك متسع زمني لمن أراد أن يعارض القرآن فليعارضه لو كان بمقدوره، وليستعن بمن شاء من الكهان وأهل الكتاب.
ولما تبين للكافرين عجزهم عن الإتيان بمثله مع شدة حرصهم وتوفر
1 سورة القصص: 49، 50.
2 سورة الإسراء: 88.
3 سورة هود: 13.
4 سورة البقرة: 23-24.
5 سورة الطور: 33-34.
دواعيهم، وانتفاء ما يمنعهم لجئوا إلى محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين المؤمنين بدل المعارضة، وائتمروا على قتله صلى الله عليه وسلم بدل الائتمار على الإتيان بمثل القرآن اعترافا منهم بعجزهم عن المعارضة والتسليم بأن القرآن فوق مستوى البشر.
وجوه إعجاز القرآن الكريم:
ولكن لماذا عجز الناس عن الإتيان بمثل آية منه، وما هي وجوه الإعجاز؟ اتفقت كلمة العلماء على أن القرآن لم يعجز الناس عن أن يأتوا بمثله من ناحية واحدة معينة، وإنما أعجزهم من نواح متعددة: لفظية ومعنوية وروحية تساندت وتجمعت فأعجزت الناس أن يعارضوه، واتفقت كلمتهم أيضا على أن العقول لم تصل حتى الآن إلى إدراك نواحي الإعجاز كلها وحصرها في وجوه معدودات، وأنه كلما زاد التدبر في آيات القرآن، وكشف البحث العلمي عن أسرار الكون وسننه، وأظهر كر السنين عجائب الكائنات الحية وغير الحية، تجلت جوانب جديدة من جوانب إعجازه وقام البرهان على أنه من عند الله1.
وقد ألفت في "إعجاز القرآن" مؤلفات قيمة أشهرها:
1-
الإتقان في علوم القرآن للسيوطي2.
2-
معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي.
3-
إعجاز القرآن للباقلاني3.
4-
رسائل في إعجاز القرآن مكونة من ثلاث مجموعات:
الأولى: النكت في إعجاز القرآن للرماني4.
الثانية: بيان إعجاز القرآن لأبي سليمان عمر بن محمد الخطابي5.
1 انظر علم أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف ص 27.
2 المتوفى سنة 911هـ.
3 المتوفى سنة 403هـ.
4 المتوفى سنة 386هـ.
5 المتوفى سنة 388هـ
الثالثة: الرسالة الثانية في الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني1.
5-
أحكام القرآن لابن العربي
وأود أن أشير هنا إلى أهم جوانب الإعجاز في كتاب الله العظيم.
1-
العلوم المستنبطة من القرآن الكريم:
جمع القرآن الكريم من العلوم والمعارف ما لم يأت به كتاب من الكتب، وجاء بأصول العقيدة والعبادة، وأساسيات النظم المتكاملة للحياة الاجتماعية الداخلية، والأنظمة السياسية.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2 ، وقوله جل من قائل:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلَّ شَيْءٍ} 3.
وقد استنبط الصحابة والتابعون وتابعوهم من القرآن الكريم مجموعة من العلوم والفنون، فقد اعتنى النحاة بالمعرب والمبني وغير ذلك مما يتعلق بعلم النحو، وكان القرآن الكريم أساسا يعتمد عليه في وضع قواعد اللغة العربية.
كما اعتنى المفسرون بدراسة ألفاظه وبيان معانيها ودراستها دراسة دقيقة عميقة.
وعني علماء العقيدة بما ورد في القرآن الكريم من أدلة عقلية. وشواهد أصلية ونظرية، وبراهين منطقية مثل قول الله تبارك وتعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَاّ اللهَ لَفَسَدَتَا} 4.
ونظرت طائفة من العلماء في معاني الخطاب، وفي جمال اللفظ وروعة بيانه وعظيم فصاحته ودقة عبارته وجلال أسلوبه، فأسسوا علم البلاغة والبيان.
واتجهت طائفة إلى دراسة الأوامر والنواهي، فنشأ من ذلك علم الفقه.
1 المتوفى سنة 471هـ.
2 سورة الأنعام: 38.
3 سورة النحل: 89.
4 سورة الأنبياء: 22.
واتجه علماء الاقتصاد لاستنباط الأحكام الأساسية لهذا العلم، فبينوا موارد بيت المال ومصارف الزكاة، ونظام الفيء والغنيمة، وعلى هذا الضوء انتظم علم الاقتصاد الإسلامي.
ونظر علماء الحضارة الإسلامية إلى القرآن الكريم فاقتبسوا منه أسس الدولة الإسلامية، وهيكل الحضارة من سياسة ونظم إدارية ودستورية واجتماعية وعسكرية وأخلاقية، وعلاقات دولية.
واتجه علماء السيرة إلى القرآن الكريم فاستنبطوا منه أسس السيرة ودعائم التاريخ.
وتدارس قوم ما في القرآن الكريم من حكم وأمثال ومواعظ فنشأ من ذلك علم الخطابة والدعوة.
وذهبت طائفة إلى كتابة آياته وتحسين الخط فنشأ من ذلك علم الخط.
وتلقي القرآن بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع لذلك علم التجويد أو فن الترتيل، ووجدت قواعد تضبط نطقه ولفظه.
وهكذا فقد نشأت علوم كثيرة مستقاة من القرآن الكريم فضلا عن علم الفرائض والفلك، والمواقيت والحساب1 وغيرها كثير.
2-
كونه محفوظا على مر الزمان.
من الأدلة القوية والبراهين الثابتة على إعجاز القرآن الكريم أن الله تعالى حفظه من التغيير والتبديل والتحريف مع طول الزمن وكثرة الأعداء قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الْذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2.
3-
الأسلوب والفصاحة والفواصل
إن لألفاظ القرآن الكريم روعة أيما روعة، وإن لاتصال جمله والتئام كلمه قوة وهيبة وبلاغة خارقة، وأسلوبا جليلا عظيما.
1 انظر معترك الأقران في إعجاز القرآن للإمام السيوطي رحمه الله.
2 سورة الحجر: 9.
إنه لم يشبه أساليب العرب السابقة، ولم يشبهه أسلوب لاحق، وقد أعجز العرب وهم أئمة البلاغة والبيان، وأمراء الفصاحة والجزالة، وسادة الشعر والنثر وقد حاولوا أن يعارضوه فوقفوا مغلوبين على أمرهم مقهورين، مقرين معترفين بجلال القرآن وعظمته وأنهم عاجزون عن الإتيان بآية من آياته.
ومن أهم هذه البلاغة:
أ- استعمال القرآن الكريم للمجاز في آيات كثيرة، نضرب أمثلة على ذلك:
قوله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} 1.
فالآية نسبت الفعل إلى الظرف وهو اليوم، وجعلته فاعلا متحركا ينبض بالحياة والحيوية، ليزيد تأثير اللفظ في القلب، ويمسك بجماع اللب والفؤاد.
وقوله تعالى: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} 2، والمراد أن العيشة مرضية وقوله سبحانه:{فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} 3، أي عزم عليه.
وقوله جل شأنه: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 4، أي فما ربحوا فيها.
ب- التشبيه: إن التشبيه من أجود أنواع البلاغة ومن أشرفها وأعلاها، والغاية منه تأنيس النفس وتقريب البعيد وإظهار الخفي، ومن هذه الصور الرائعة قول الله تبارك وتعالى:
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} 5.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} 6.
جـ- الاستعارة: وهي مزج المجاز بالتشبيه، فهي مجاز علاقته المشابهة وهي
1 المزمل: 17.
2 الحاقة: 21.
3 سورة محمد: 21.
4 البقرة: 16.
5 البقرة: 74.
6 إبراهيم: 18.
عند بعضهم: أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها، وحكمة الاستعارة إظهار الخفي، وإيضاح الظاهر الذي ليس بجلي، أو حصول المبالغة.
ومن أمثلة إظهار الخفي قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} 1، أي في أصل الكتاب.
ومن أمثلة إيضاح ما ليس بجلي: قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} 2، والمراد: أن يطيع الولد والديه بإظهار الخضوع والمذلة رحمة بهما، فاستعير للذل جانبه ثم استعير للجانب جناح.
د- الكناية والتعريض: مثال ذلك قول الله تعالى:
{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} 3.
وقوله: {أَوَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 4.
هـ- الأمثال في القرآن الكريم: والأمثال قسمان: قسم ظاهر مصرح به، وقسم آخر لا ذكر فيه للمثل.
ومن الأول قول الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} 5.
وقوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} 6.
1 الزخرف: 4.
2 الإسراء: 24.
3 البقرة: 197.
4 الزخرف: 18.
5 الرعد: 17.
6 الأعراف: 57.
7 يوسف: 51.
8 يوسف: 41.
{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} 1.
{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَاّ بِأَهْلِهِ} 2.
{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 3.
ومن الأمثال الكامنة قوله تعالى:
{لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} 5.
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} 6.
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 7.
وغير ذلك من أوجه البلاغة: كالحصر والإطناب، والإيجاز والبسط، والإيغال والتذييل، والإرداف والتمثيل، مع جمال وإبداع وكمال8.
4-
افتتاح السور بالحروف المقطعة
مثل: {أَلم} ، {ألر} ، {كهيعص} ، {طس} ، {ن} ، فهي لدى بعض المفسرين نوع من أنواع تحدي الكافرين، وتوجيه الخطاب إليهم للدلالة على أن القرآن الكريم مؤلف من هذه الحروف العربية، ومع ذلك فقد أعجز البلغاء والفصحاء، وأئمة اللغة وأرباب البيان، عن أن يضاهوه ولو بآية واحدة.
5-
مناسبة آياته وسوره
وارتباط بعضها ببعض فإننا لا نجد في الآيات القرآنية على كثرتها، وطول الفترة التي استمر نزول القرآن فيها، وتباعد أولها عن
1 هود: 81.
2 فاطر: 43.
3 النساء: 19.
4 البقرة: 216.
5 البقرة: 68.
6 الفرقان: 67.
7 الإسراء: 29.
8 انظر البرهان للزركشي، وإعجاز القرآن للسيوطي، وأحكام القرآن لابن العربي، ومعترك الأقران للسيوطي.
آخرها، ما يناقض بعضها بعضا أو يعارض أولها آخرها.
6-
انقسام الآيات إلى محكم ومتشابه ولعل من أشهر أقوال المفسرين:
إن المراد بالمحكم ما عرف المقصود منه إما بظهوره وإما بتفسيره وتأويله والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، ويأجوج ومأجوج.. ولعل الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الكريم ترجع إلى سببين: أولهما حث العلماء على النظر فيه للعلم بغوامضه والبحث عن دقائقه.
الثاني: أن يعرف الناس أقدارهم من المعرفة والعلم. فإن الإنسان مهما بلغ من منزلة علمية رفيعة، ودرجة عالية من المعرفة فإن علمه لا يحيط بكل شيء، لذلك لا بد من الإذعان لله سبحانه الذي وسع علمه كل شيء قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 1.
7-
هيبة القرآن الكريم وروعته:
يحظى القرآن الكريم بروعة بليغة، وهيبة عظيمة تستشعرها النفوس عند سماع الآيات الكريمة أو عند تلاوتها، وهذا الإحساس ليس خاصا بالمؤمنين بل هو عام يدركه كل من يتمتع بعقل واسع، وفكر نير، وحس مرهف.
وذلك لما يتضمن كتاب الله من وعد ووعيد، وترغيب وترهيب، وتذكير بالنشأة والمصير، وذكر للموت والبعث، والنشور والحساب، والجنة والنار.
وقد صنع القرآن الكريم في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى، لقد صنع في هذه النفوس فوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها، طبيعته في دعوته وفي تعبيره، وفي موضوعه وأدائه..إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على
1 آل عمران: 7.
قوة خارقة نافذة يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحى به.
8-
تأثيره في النفوس:
ومن وجوه إعجاز القرآن الكريم تأثيره في النفوس، المؤمنة منها والكافرة، فكل من يصغي لتلاوة الآيات بتدبر وفكر يزداد إيمانه بهذا الكتاب العظيم المعجز البليغ، ويحس بالقشعريرة تسري في عروقه، وبالخشية تملك إحساسه ووجدانه.. وقد أثر هذا القرآن العظيم في نفوس كثيرة فنقلها بأسرع من لمح البصر من الفظاظة والخشونة، والجفوة والقسوة إلى اللين والخوف، والمحبة والرقة، وما آمن عمر بن الخطاب حتى سمع آيات من كتاب الله فأشرقت روحه إيمانا، وامتلأ قلبه طمأنينة.
استمع الجن إلى القرآن الكريم فآمنوا بوحدانية الله تعالى وقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} 1.
وليس هذا التأثير قاصرا على المؤمنين بل يحسه الكافرون، ولكن الضلال يطمس على بصيرتهم وأفئدتهم، فلا يرون الحق حقًّا، وهذا ما حدث للوليد ابن المغيرة حينما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من سورة فصلت:{حَم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} إلى آخر الآيات
…
فاضطرب الوليد اضطرابا شديدا وناشد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكف عن القراءة ثم ذهب إلى قومه، وقال: سمعت كلاما والله ما سمعت مثله، ليس هو بالشعر ولا
1 سورة الجن: 1-3.
بالنثر، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أدناه لمغدق1.
هذه هي بعض وجوه الإعجاز، وهناك غيرها كثير مما يحتاج إلى أبحاث خاصة يضيق بها المقام هنا.
أثر الرسل في تربية الأفراد والمجتمعات:
إن الغاية المثلى من إرسال الرسل والأنبياء دعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة، وإخراجهم من ظلمات الاختلاف والتخاصم في العقيدة، وفي النظم المعاشية إلى هدى الله وشريعته ومنهجه المتسم بسمات الكمال والاستقلال والخلود، وإن هذا الهدف العظيم وتلك الغاية السامية لا تتحقق ما لم يكن هناك رجال يطبقون الرسالة والمبدأ على واقع الحياة، وفي كل الظروف وفي مختلف الأحوال، وإذا لم يرافق الرسالة رسول، بقي المبدأ بعيدا عن الواقع، غير مطبق في الحياة، وبقيت الرسالة مجرد نظرية علم ومعرفة فقط.. ومن هنا برزت ضرورة شديدة وظهرت حاجة ماسة إلى وجود الأنبياء والرسل، وهم خير من ينفذون أوامر الله تعالى، وهم خير من يقومون بشرع الله، وهم المصطفون الأخيار البررة الأتقياء.
وقد كان رسل الله -على اختلاف أزمانهم- قدوة ممتازة استطاعت أن تجعل من مكارم الأخلاق وصالح الأعمال وفضائل النفوس حقائق واقعية متحركة.
وقد كان المصطفى المختار محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يؤم الناس في الصلاة ويقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ويحج مع الحجيج ويقول: "خذوا عني مناسككم" وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ما يؤمر به، وينتهي عما يُنهى عنه، وحرم الربا وقال:"أول ربا أضعه ربا العباس"، وكان صلى الله عليه وسلم يعقد الألوية للجهاد ويخرج مع المجاهدين، وكان يقابل الوفود ويدعوهم للإسلام ويرسل الكتب إلى رؤساء الدول والشعوب، وكان صلى الله عليه وسلم زوجا يحسن معاملة أزواجه يقول:"من رغب عن سنتي فليس مني" وكان يعطف على الصغار ويقبلهم ويقول: "من لا يرحم لا يُرحم" وكان صلى الله عليه وسلم سياسيًّا فَطِنًا حَذِقًَا، يوقع المعاهدات
1 سيرة ابن هشام: ج1 ص289، 313، 314، وانظر السيرة النبوية لابن كثير: ج1 ص498.
إذا لزم الأمر، ويؤمن الناس إذا اقتضت المصلحة.. وحينما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسس مجتمعًا مثاليًّا راقيا يفوق كل المجتمعات الإنسانية علما وثقافة، وخلقا وأدبا، وقوة وتقى، وصدقا ومحبة، وإخاء وعدلا، ووفاء ومراعاة للعهود والآمانات والمواثيق.
وعلى هذا فالأنبياء ليسوا فلاسفة يحلمون في مدن فاضلة، ويضعون خططا لرؤى خيالية ومجتمعات عاجية، كلا وإنما هم رجال اختارهم الله لحمل الأمانة ودعوة الناس، وقيادة الأمة وإصلاح أوضاع البشرية، وليست الرسالة مجرد أفكار هائمة أو مبادئ تتردد في رءوس الكبار والعظماء، وإنما هي نظام كامل شامل لبناء الفرد السوي، الفرد الواعي العاقل المتفاعل مع الحياة، الإيجابي الذي يغير من السوء إلى الحسن ومن الشر إلى الخير ومن الرذيلة إلى الفضيلة وهي نظام شامل متكامل لبناء الجماعة المؤمنة التي رضيت الله ربًّا، والقرآن دستورا، والإسلام دينا، وقد كان الرسل يدعون للإيمان بأركان الإيمان وهم أشد الناس إيمانا وتصديقا.
قال الله تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَّبِهِ} 1.
ختم النبوة والرسالة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم:
إن مهمة الرسل مهمة سامية ونبيلة فهم الذين يبلغون أمر الله إلى الناس، ويخبرون عن المغيبات اليقينية التي لا بد من الإيمان بها والتسليم لها بما أعلمهم الله وبما أطلعهم على الغيب وبما اصطفاهم بوحي ومعرفة. قال جل من قائل:
1 البقرة: 284.
2 الصف: 6.
3 البقرة: 132.
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 1.
وهناك أسباب كثيرة اقتضت تعدد الأنبياء والمرسلين منها: اختلاف البيئات والظروف، فما ناسب أقواما وأناسا في ظروف معينة وبيئات محددة قد لا يناسب غيرهم في بيئات أخرى وظروف مغايرة، ومنها تطور إدارك البشرية فما يدركه المتأخرون قد لا يعلمه المتقدمون، وما يسهل على المتأخرين قد يصعب على المتقدمين، لأن الإنسان بطبعه يرث العلم ويضيف عليه وينميه ويطوره، فهو في ارتقاء مستمر، والعقل الإنساني في تفتح دائم وحركة دائبة وتفاعل متواصل وإنتاج مستمر ووعي متزايد، وتدرج في مدارج الكمال والعرفان.
ومنها تأييد النبي لنبي آخر، وتأييد الرسول لرسول آخر ليكون هذا أدعى إلى إثبات الرسالة، وإقامة الحجة على المرسل إليهم.
ومنها: أن تعاليم النبي الأول قد يعفي عليها الزمان، وتُمحى آثارها من الحياة البشرية، ويعودون كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض وكأنه لم يكن ثمة رسول ولا رسالة.
ومنها أن تكون شريعة نبي من الأنبياء محصورة في قوم معينين فتتوالى بعثة الأنبياء والرسل إليهم خاصة ليقوى البرهان.
ولتثبت الأدلة أمامهم فيستسلمون لها ويعترفون بها، ومن ثم فإنهم يحملون تعاليم الأنبياء ويشيعونها فيما بينهم، ويأمر بعضهم بعضا بالمعروف وبطاعة المرسلين والأنبياء. الأمر الذي يستدعي وجود رسالة عامة جامعة موجهة إلى البشرية قاطبة، غير محصورة في قوم أو في بيئة معينة وبهذا تقوم الحجة على البشرية كافة، وعلى أولئك القوم بخاصة ليظهر موقفهم من الرسالة العامة.
كل هذه الأسباب استدعت تعدد إرسال الأنبياء والمرسلين، ولكن بعد أن وصل العقل البشري إلى أقصى مرتبة من الوعي والنضج، وإلى أعلى مراتب الإدراك والفهم، وعلم العلم اليقيني أن طاعة الأنبياء والرسل ضرورة مهمة لنجاته من الهلاك المحتم فلزم وارتدع، انتهت تلك الحاجة بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى
1 الأنعام: 48، الكهف:59.
إرسال الرسل، واستقر الوضع واتبع الناس تعاليم خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
يؤيد هذا أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن خاصة بل كانت عامة سواء {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 1، وكانت رسالته للبشر وللجان سواء {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} 2.
وقد تعهد الله سبحانه -تفضلًا منه- بحفظ هذه الرسالة بما حفظ قرآنها وكتابها فقال جل من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 3، فكانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خالدة ما بقيت الحياة، وكانت التعاليم الإسلامية ماثلة في النفوس المؤمنة بها، مطبقة في واقع الحياة.
وفضلًا عن هذا وذاك، فإن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم -محافظة على صحتها من بين الرسالات- قد سلمت من التصحيف والتغيير، والتعديل والتبديل، فنحن واثقون بأن كل حرف من حروف القرآن الكريم، وكل كلمة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كل تحرك من تحركاته المباركة، محفوظة كما أرادها الله وكما أنزلها، وكما وضحتها السنة النبوية والسيرة العطرة.
وأخيرا فإن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة شاملة لكافة مجالات الحياة، العقيدية والعبادية والسياسية والإدارية والاجتماعية.. وشريعة صبغت بصبغة الشمول والعموم، شريعة خالدة خصبة ثرية تغني عن غيرها ولا يغني غيرها عنها.
كل هذه السمات التي تتسم بها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العموم والخلود والشمول والكمال والصحة تبرهن على ختم الرسالات السابقة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى بقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 4.
ولهذا فلا تنتظر البشرية اليوم مجيء نبي ولا رسالة، فقد ختمت النبوات
1 الأعراف: 158.
2 سورة الجن: الأولى.
3 الحجر: 9.
4 الأحزاب: 40.
والرسالات، وهي ليست بحاجة إلى رسالة لاكتافئها برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولكنها بحاجة إلى رجال يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم ويحملون دعوته وينشرونها بين الناس، ويعملون بهديه صلى الله عليه وسلم ويدعون إلى اتباعه ويقيمون في الأرض دولة الإسلام على ضوء تعاليم خاتم المرسلين، صلى الله عليه وسلم.
الإيمان بالآخرة:
الإيمان باليوم الآخر مفتاح سعادة الإنسان وسر يقينه وهو الرباط الوثيق بين العمل والجزاء، بين الصبر والفرج، بين التحمل والإنعام به يشعر المؤمن أنه لم يخلق عبثًا، وأنه ليس شيئًا مهملًا، كيف؟ والعدالة الإلهية تنتظره والنعيم الأبدي يترقبه، فيطمئن قلبه وترتاح نفسه وتسر بلابله ويصبر ويتحمل ويبذل النفس والنفيس في سبيل دعوته ومن أجل إعلاء شأنها.
والإيمان بالآخرة ضابط لكل أعمال الإنسان ورقيب على كل تصرفاته فهو في كل ما يقول وفي كل ما يدع وفي كل ما يعمل يشعر بجلال ذلك الموقف العظيم الوقور، يوم ينادي عليه من بين الخلائق وأمام الأشهاد وعلى مرأى من أعين الناس عظيمهم وحقيرهم ينادي عليه.. فيلبي ويستجيب وهل يستطيع حينذاك أن يكتم الله حديثًا؟ أو أن يتستر على عيب أو نقص أو زلة أو خطيئة أو معصية مات عنها قبل أن يتوب منها؟ يا لهول ذلك المشهد، ويا لعظمته! إنه يأخذ الأنفاس فإذا بها تلهث خوفًا؟، ويمتلك الأفئدة فإذا بها تطير رعبًا..
إن الإيمان باليوم الآخر حقيقة يفرضها العقل البشري فرضًا، ذلك لأن حياة المرء في الدنيا حياة محدودة الزمن صغيرة المدى إذا ما قيست بالعمر الزمني المديد للكون، وقد لا تتسع هذه الحياة لأن ينال المسيء جزاءه، بل قد يفلت من العقوبة بتكتمه وتستره على نفسه، أو لأنه رجل قوة وجبروت وسلطة وغلبة.. فهل يعقل أن تفوت حياته كلها من غير أن يُؤخذ على يديه؟ أم أنه من المنطق السليم أن تكون هناك حياة أخروية تتسع لما ضاقت عنه الأولى؟ أو ليس من العدل والحكمة وجود تلك الحياة الثانية؟
وكذلك قد يقضي إنسان حياته كلها مجاهدًا طائعًا تقيًّا نقيًّا متحملًا العذاب والإيذاء، والحقد والحرب الشديدة في سبيل دعوته.. ثم ينتهي أجله قبل أن
ينال شيئًا من الجزاء، وحتى من بهجة النصر، وفرحة الغلبة والعزة للدعوة.. فهل يعقل أن يذهب هذا الإنسان سدى من غير ثواب، من غير تكريم؟ إن العدالة المطلقة تقتضي وجود يوم آخر ينسيه ألمه وعذابه، وينقله إلى النعيم الأبدي الذي لا يزول، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على آل ياسر وهم يعذبون أشد أنواع العذاب، فحرك فيهم المنطق الفطري السوي، والإيمان القوي بيوم الدين، ووعدهم بالجزاء العظيم والثواب الكبير يوم يكون الأمر كله لله.
إن بعث الأحياء بعد الموت ليس بعزيز على الله تعالى الذي أوجدهم من العدم، أو ليس الإعادة أسهل من الإبداع؟ قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1، يستدل القرآن على إمكان البعث بالخلق الأول، ويستدل عليه أيضًا بمظاهر الإماتة والإحياء في عالم النبات قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 2.
ويستدل القرآن الكريم على إمكان البعث بخلق السموات والأرض وهي أعظم خلقة من بني آدم. قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَاّقُ الْعَلِيمُ} 3، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4.
1 الروم: 27.
2 الحج: 5-7.
3 يس: 81.
4 الأحقاف: 33.
وبعد بعث الناس من قبورهم يكون الحساب الدقيق والميزان العادل: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 1، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 2.
والجنة دار الخلد والنعيم أعدها الله تعالى لعباده الصالحين المؤمنين، قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:"أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" 3 ، واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4.
والنار دار الفجار من الخلق، وهي تجمع العقوبة الحسية المادية والروحية المعنوية. نسأل الله جنته ونعوذ به من ناره.
مزايا العقيدة الإسلامية:
للعقيدة الإسلامية مزايا أساسية تميزها عن سائر العقائد التي شابها الشرك، أو خالطها الضلال والانحراف. وأهم هذا المزايا:
1-
الوضوح:
إن عقيدة التوحيد واضحة في أساسها وفي بنائها وفي مبادئها، إنها تقوم على مبدأ واضح، وهو أن ما نرى من كون ومن أفلاك سماوية ومن مخلوقات أرضية كلها من صنع الله تبارك وتعالى الذي تفرد بالكمال وبالإيجاد والخلق، سبحانه له الخلق وهو على كل شيء قدير. {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 5.
والأنبياء عبيد لله ومخلوقون كسائر الناس تمامًا، يمتازون عنهم بالاصطفاء
1 غافر: 17.
2 الأنبياء: 47.
3 أخرجه البخاري: 13/ 391 في التوحيد: باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ومسلم "2824" في أول كتاب الجنة من حديث أبي هريرة.
4 السجدة: 17.
5 البقرة: 116.
الإلهي، وبتبليغ رسالة التوحيد للناس.
2-
ملاءمتها للفطرة البشرية:
إن الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة موافق للفطرة السوية الصافية، بل إن الإنسان يبقى حائرًا قلقًا مضطربًا نفسيًّا حتى يؤمن الإيمان الكامل بوجود الله ووحدانيته سبحانه وتعالى، فإذا وصل إلى هذه المرتبة وجد الأمن النفسي والراحة الداخلية والطمأنينة القلبية، قال الله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1.
وقال الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه"2.
ثمرات الإيمان:
إن النتائج التي تترتب على الإيمان بوحدانية الله وبسائر أركان الإيمان كثيرة ومهمة. أشير إلى بعضها فيما يأتي:
1-
الإيمان يشعر الفرد بكرامته ومكانته ومنزلته من الله تبارك وتعالى، الذي خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وصوره فأحسن صورته، وخلقه في أحسن تقويم، وأسجد له ملائكته، وميزه عن سائر المخلوقات بالإدراك والوعي، وبالتعلم والمعرفة، وبالإرادة والتفكير، والاختيار، وجعله خليفته في الأرض، ومحور النشاط في الكون، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليه نعمًا جليلة عظيمة ظاهرة وباطنة.
والمؤمن يحس بأنه قريب من الله تعالى دائمًا، لا يحتاج إلى وسيط يوصله به، ولا إلى وسيلة تقربه منه، ولا إلى حاجب يأذن له، ولا إلى حارس يسمح له، ولا إلى ملك يقربه من الله زلفى سوى العمل الصالح والنية الصافية، والإخلاص الصادق، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي
1 الروم: 30.
2 متفق عليه.
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1 ، فإذا ناداه سمعه، وإذا دعاه أجابه وقال سبحانه:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 2.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإذا ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"3.
هذه المكانة التي يتمتع بها الإنسان لم يحظ بها أي مخلوق من مخلوقات الله حتى إن الملائكة وهم عباد مكرمون تشوقوا إلى هذه المكانة وهذه المنزلة الرفيعة العالية، ويتحدث القرآن الكريم عن تشوقهم هذا فيقول:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} 4.
وكل ما في الكون من أرض ونبات، وشجر وزرع، وأنها وبحار، وأفلاك ونجوم، وكواكب وفضاء، مسخر للإنسان لينتفع به، ويتخذه ميدانا لنشاطه قال الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ
1 سورة البقرة: 186.
2 سورة ق: 16.
3 أخرجه البخاري: 13/ 325، 328، في التوحيد ، باب "ويحذركم الله نفسه"، من حديث أبي هريرة.
4 سورة البقرة: 30-33.
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 1، وقال:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 2.
وإذا شعر المؤمن بهذه المكانة وهذه الرفعة، سرت في نفسه معاني الكرامة والعزة بالحق، فلا يطأطئ رأسه لمخلوق، ولا يحابي جبارًا. ولا يداهن طاغية، بل ولا يستذله مال ولا منصب ولا جاه، ولا هوى نفس ولا شهوة عارمة، وإنما هو بإيمانه عزيز بما منحه الله من علم وكرامة.
يقول كلمة الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم. ولهذا نرى الرعيل الأول من المؤمنين كأمثال بلال الحبشي العبد تعلو نفسه وتعظم آماله ويتيه عزة، فلا يأبه بقسوة القساة، ولا بغلظة السادة الشرسين، ولا بعنفوان الجبابرة الطغاة الذي يفتنونه عن دينه، ويساومونه لينطق بكلمة الكفر.. وأنى لهم أن يحققوا مآربهم الدنيئة وقد تشربت روحه بالإيمان، وتيقظت في نفسه معاني العزة التي تدفعه إلى التضحية والثبات والتمسك بالحق أمام إغراء المغرين، وإفساد المفسدين وضلال المضلين.. فيثبت بلال ويزداد إيمانًا ويشعر أنه قد وصل إلى مرتبة أعلى وأعظم من أن ينال منه مشرك. وإن المستبدين الطاغين يستطيعون أن يعذبوا الجسم ولكنهم لن يصلوا إلى القلب العامر بكلمة التوحيد.
وهكذا نجد النفس البشرية إذا صقلها الإيمان فإنها تتحرر من الذل.
2-
الطمأنينة القلبية والسكينة النفسية وراحة البال وهدوء الجنان ثمرات طيبة للإيمان قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 3. وقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} 4.
1 سورة إبراهيم: 32-34.
2 سورة الجاثية: 12-13.
3 سورة الرعد: 28.
4 سورة الفتح: 4.
وإذا اطمأن القلب، وارتاحت النفس شعر المؤمن ببرد اليقين وحلاوة الإيمان وحسن الصلة بالله تبارك وتعالى، فاحتمل الآلام بثبات وشجاعة، وهانت عليه الخطوب مهما اشتدت، ورأى يد الله ممدودة إليه دائمًا، وأن عين الله ترعاه أبدًا، وأنه في حماية الله، وفي كنفه، وإذا ما ناله أذى فيسضاعف له الجزاء الحسن يوم القيامة. قال تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1.
وبهذا يسمو الإنسان على الماديات ويرتفع عن الشهوات ويتعالى على لذائذ الدنيا ومتعها الزائلة غير المشروعة، ويرى أن الخير كل الخير في النزاهة والشرف الرفيع والنفس العالية الأبية وتحقيق القيم الصالحة، ومن ثم يتجه المؤمن اتجاهًا تلقائيًّا لخير نفسه ولخير أمته ولخير الناس جميعًا، أصل تصدر عنه الأعمال الطيبة الصالحة.
قال جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} 2، وقال:{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3.
وقد رسم القرآن الكريم نموذجًا لامرأة مؤمنة اطمأنت نفسها وسكن فؤادها وسارعت لتلبية أمر ربها الذي أوحى إليها أن تقذف ولدها في البحر، فاستجابت لدعوة الإيمان وصدقت بكلمات ربها ورسله قال تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} 4، وصدقها الله وعده فقال سبحانه: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ
1 سورة البقرة: 257.
2 سورة يونس: 9.
3 سورة الحج: 54.
4 سورة القصص: 7، 8.
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1.
3-
من ثمرات الإيمان الأمن والأمل، فالناس يخافون من أشياء كثيرة وأمور شتى، ولكن المؤمن سد أبواب الخوف كلها، فلم يعد يخاف إلا الله ولم يخش إلا عقابه، ولن يريعه إلا معصية يرتكبها، أو مأثم يفعله.. أما الناس فلا يخافهم ولا يخشاهم ما دام يؤدي حقوقهم ولا يعتدي على أموالهم أو شرفهم أو أنفسهم. وقد دعا إبراهيم قومه إلى التوحيد، فخوفوه بآلهتهم فتعجب من قولهم وحكى القرآن الكريم هذا الموقف بقوله:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.
والمؤمن آمن على رزقه أن يفوت فإن الأرزاق بيد الله. قال سبحانه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} 4.
وقال جل من قائل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 5. وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} 6. بهذه الضمانات يعيش المؤمن حياته آمنًا مطمئنًا على رزقه.
والمؤمن آمن على أجله، فإن الله هو الذي قدر الآجال، وبيده أعمار الخلائق، وما تدري نفس بأي أرض تموت، فلم يخاف من الحوادث
1 سورة القصص: 13.
2 الأنعام: 81، 82.
3 سورة يونس: 106، 107.
4 الذاريات: 22، 23.
5 هود: 6.
6 العنكبوت: 60.
والجود والكرم والمن والعطاء
…
كل هذا يورث في نفس المؤمن الأمل بما عند الله. فالله قدير رحيم يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، فلم ييأس المؤمن ولم يقنط؟ وهو يعلم أن الله يقبل من العمل ما قل ويجزي الجزاء الكثير. ويغفر الذنوب وإن بلغت عنان السماء، ويعفو عن السيئات، ويقبل التوبة سبحانه وتعالى، وهو الذي يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه أشد فرحًا بتوبة عبده من الإنسان الذي ضيع راحلته وزاده في فلاة حتى إذا ما أعياه البحث وكادت زهرة الأمل تجف في نفسه وجد الراحلة والزاد..
والمؤمن يأمل بقرب الفرج وزوال العسر، ودنو اليسر ذلك لأنه يردد دائمًا قوله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 1، وهل يغلب عسر واحد يسرين؟
كما أنه يثق بعون الله وبوعده للمؤمنين الصابرين المجاهدين بالنصر المبين، قال تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 2، وقال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} 3.
1 سورة الانشراح: 5-6.
2 سورة الصافات: 173.
3 سورة النور: 55.
والجود والكرم والمن والعطاء
…
كل هذا يورث في نفس المؤمن الأمل بما عند الله. فالله قدير رحيم يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، فلم ييأس المؤمن ولم يقنط؟ وهو يعلم أن الله يقبل من العمل ما قل ويجزي الجزاء الكثير. ويغفر الذنوب وإن بلغت عنان السماء، ويعفو عن السيئات، ويقبل التوبة سبحانه وتعالى، وهو الذي يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه أشد فرحًا بتوبة عبده من الإنسان الذي ضيع راحلته وزاده في فلاة حتى إذا ما أعياه البحث وكادت زهرة الأمل تجف في نفسه وجد الراحلة والزاد..
والمؤمن يأمل بقرب الفرج وزوال العسر، ودنو اليسر ذلك لأنه يردد دائمًا قوله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} 1، وهل يغلب عسر واحد يسرين؟
كما أنه يثق بعون الله وبوعده للمؤمنين الصابرين المجاهدين بالنصر المبين، قال تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 2، وقال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} 3.
الإيمان يولد الرضا والحب:
الرضا عن الله وعن الذات والاطمئنان إلى اليوم والحاضر ثمرة من ثمرات الإيمان، وسر من أسرار السعادة، قال الله تعالى:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 4، ويتجلى الرضا عند الله تعالى بمظاهر جليلة أهمها أن يتجه المؤمن إلى الله سبحانه ويستخيره في شأنه، قبل أن يبادر إلى أي عمل يعمله مهما كان هذا العمل عظيمًا أو بسيطًا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم الصحابة الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن.
1 سورة الانشراح: 5-6.
2 سورة الصافات: 173.
3 سورة النور: 55.
4 سورة البينة: 8.
وها هو جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري. أو قال: عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رَضِّني به. قال ويسمي حاجته" 1.
فالمؤمن يتجه إلى الله تعالى يستخيره قبل الإقدام على العمل، ثم يرضى بما قدره الله له من رزق ونعم وعطاء، حتى المصيبة تصيبه والضرر يحل به فيصبر ويحتسب إيمانًا بأن الله لا يفعل شيئًا عبثًا ولا يقضي أمرًا إلا ولما فيه صلاح شأن العبد كان ذلك إيذانًا برضاه ودليلًا على اطمئنانه إلى قدر الله وقضائه إذ إنه سبحانه أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
والإيمان يولد في النفس المؤمنة الحب الكبير الذي يمنح الأمن الروحي، والسعادة الداخلية، ويشعر الآخرين بالاطمئنان والكرامة الإنسانية: فالمؤمن يحب الله ورسوله أكثر من ماله وولده ونفسه التي بين جنبيه، ويحب الناس من أجل الله تعالى، فيعطف على صغيرهم، ويرعى يتيمهم، ويعطي محرومهم، ويصل ذوي القرابة والرحم وقد قيل:"إن الحب يحول المر حلوًا، والتراب تِبرًا، والكدر صفاء، والألم شفاء، والسجن روضة، والسقم نعمة، والقهر رحمة "2.
فالمؤمن بسبب إيمانه يشعر بفضل الله عليه وإنعامه عليه فهو واهب الحياة وهو مصدر الخلق والأمر والإيجاد، فالمؤمن يتجه إلى الله بقلبه ومشاعره وأحاسيسه، فيحبه ويخشاه في آن واحد، الحب الذي يدفعه إلى طاعته وامتثال
1 رواه البخاري انظر رياض الصالحين: 3/ 169.
2 عن كتاب رجال الفكر والدعوة في الإسلام للأستاذ أبي الحسن الندوي: ص288/ 289.
أمره والقيام بالفرائض المطلوبة في أوقاتها المحددة. والخشية التي تمنعه من الاجتراء على المعصية.
وفي الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله. وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"1.
والمؤمن يعتقد أن الطبيعة كلها مخلوقة من مخلوقات الله، وأثر من آثار قدرته وميدان فسيح ليتفكر الناس في بديع صنع الله. وفي عجيب تكوينه وقد أثر عن الرسول، صلى الله عليه وسلم:"أحد جبل يحبنا ونحبه" 2 ، فأين هذا الاعتقاد الصحيح الصادق من الاعتقاد الباطل الذي كان مسيطرًا على عقول كثير من الناس في القرون الوسطى وإلى هذا العصر من أن النور مملكة لإله الخير، وأن الظلام مملكة لإله الشر.. وقد سمعنا كثيرًا أن الملحدين يقدسون الطبيعة ويعتبرون أن لها إرادة، وبيدها قدرة الإيجاد والإحياء، وهذا وهم باطل وزعم مفترى لا يصدر عن رجل واع جاد في دعواه، وإنما هو كلام أشبه بالهراء.
والمؤمن يرى أن الحياة التي يعيشها فرصة ذهبية للقيام بالطاعات وبالإكثار من العبادة، والعمل الصالح والبر بالآخرين، وإقامة صِلاة الود والمحبة مع المؤمنين خاصة.
وفي الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"خير الناس من طال عمره وحسن عمله"3.
والمؤمن يحب الناس جميعًا لأنهم أخوة له في الإنسانية، وشركاء له في العبودية لله تعالى، قال سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 4.
1 متفق عليه رياض الصالحين مع شرحه: 1/ 568.
2 رواه الترمذي وقال: حديث حسن، انظر رياض الصالحين مع شرحه: 1/ 216.
3 رواه الترمذي "2230" والدارمي 2/ 308، وأحمد 4/ 188، 190، وقال الترمذي: حديث حسن وله شاهد من حديث أبي بكرة في "المسند" 54/ 40، 43، 48، 49، 50، والترمذي "2331" فالحديث يصح به.
4 سورة النساء: 1.
وفي الدعاء عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمدًا عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة"1.
والمؤمن يخص المؤمنين بالحب والولاء، إذ إن الحب يحتاج إلى بذل وتضحية وإيثار، والكافر لا يؤمن شره ولا يرجى خيره، وقد كفر بخالقه وجحد نعمه التي لا تعد ولا تحصى، فكيف يوثق به؟ وكيف يتودد إليه؟ قال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 2.
وقد أخبر الصادق المصدوق أن المرء مع من أحب، فلينظر الإنسان إلى من يخالل، فإن كان كافرًا فليستغفر ربه. وإن كان مؤمنًا فإن خليله يذكره بالله، ويمحضه النصح والإرشاد، ويوجهه إلى فعل الخير وينهاه عن المنكر قولًا وفعلًا، فهذا هو المؤمن الحق، وتلك هي ثمرة الإيمان، وليهنأ بنعمة الحب لله وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:"قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء"3.
وقد دلنا الرسول صلى الله عليه وسلم على زورق الوصول إلى المحبة في الله ألا وهو إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وإقراء الضيف، وأن يلقى المسلم أخاه بوجه طلق، وأن يفرج عنه كربة من كرب الدنيا، وأن ييسر على معسر، وأن يستر مسلمًا ابتغاء وجه الله، وأن يمسك لسانه عن القيل والقال، وليقل خيرًا أو يصمت4
…
وهكذا رسم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق الحب لله، وإنها لصورة رائعة لمجتمع مسلم فاضل متمسك بالقيم الإيمانية مطبق شريعة الله ومنهجه قال سبحانه:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 5.
1 رواه أحمد وأبو داود.
2 سورة التوبة: 71.
3 رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، انظر رياض الصالحين: 1/ 575.
4 رواه مسلم، انظر رياض الصالحين مع شرحه: 1/ 573.
5 سورة البقرة: 256.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم"1.
وما الفائدة من الإيمان إذا لم يثمر حبًّا طيبًا رحبًا ساميًا رفيعًا بين أفراد المجتمع المسلم؟ إذ إن الحب هو الذي يساعد على التماسك والتعاضد والتناصر بين الأفراد إذا ما حل خطب بالمجتمع، أو داهمه عدو مشترك، أو أصاب بعض أفراد أمر خطير، وهنا نلحظ المعنى السامي والتعبير البليغ الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" 2، وقال:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" 3، وقال:"انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا -قيل هذا إذا كان مظلومًا، فكيف إذا كان ظالمًا- قال: أن تأخذ على يده"4.
وفي الحديث القدسي الذي رواه معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: "وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتبادلين في"5.
وهكذا فالمؤمن بعقيدة التوحيد يحب الوجود كله، يحب الله تبارك وتعالى، ويحب الطبيعة ويعتقد أنها مخلوقة لله تبارك وتعالى خاضعة له خضوع سائر العباد للمعبود الواحد الأحد، ويحب الحياة ويعتبرها فرصة غالية لتحقيق غاياته الجسام، وهو يحب المؤمنين ويكره الشيطان وأولياؤه من الكفرة والزنادقة المارقين من الدين.
1 رواه البخاري والترمذي والنسائي وأحمد.
2 رواه البخاري في الأدب.
3 رواه مسلم.
4 رواه البخاري.
5 حديث صحيح رواه مالك في الموطأ، انظر رياض الصالحين مع شرحه: 1/ 576.