الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نسبة السنة المطهرة للقرآن الكريم:
لقد أبان الشافعي رحمه الله نسبة السنة إلى القرآن من جهة ما ورد فيها من أحكام فقال:
إما أن تكون السنة مقررة ومؤكدة حكمًا جاء في القرآن الكريم، أو مبينة وشارحة له، أو للاستدلال بها على النسخ، أو منشئة حكمًا سكت عنه القرآن1.
فهذه صور أربع هي:
الصورة الأولى: أن تكون السنة مقررة ومؤكدة لحكم ورد في القرآن، وعندئذ يكون للحكم مصدران ودليلان، مثل الأمر بإقامة الصلاة وإيتاءالزكاة، وصوم رمضان وحج البيت، والنهي عن الشرك بالله، وشهادة الزور وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير حق والنهي عن أكل مال الغير.
كقول الرسول، عليه الصلاة والسلام:"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"2.
فإنه مؤيد لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 3.
وكقوله عليه الصلاة والسلام: "اتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرًا"4.
فإنه موافق لقوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} 5.
الصورة الثانية: أن تكون السنة مبينة للقرآن الكريم، وهذا البيان على أوجه:
1 انظر: الرسالة للشافعي: ص64، 85، 113،167.
2 رواه أحمد في مسنده: 5/ 72، صحيح البخاري كتاب الوصايا: جـ8، وروى بمعناه مسلم وابن ماجه.
3 سورة النساء: 29.
4 مشكاة المصابيح: ج2 ص16.
5 سورة النساء: 19.
الأول: أن تبين السنة مجمل القرآن الكريم، مثل الأحاديث التي فصلت كيفية إقامة الصلاة وأدائها على الوجه المطلوب من قيام وركوع، وسجود وتكبيرات، وتسبيحات وقراءات، فإنها مبينة لمجمل قول الله تبارك وتعالى:{وَأَقِيمُوا الْصَّلَاةَ} .
ومثل الأحاديث التي فصلت فريضة إيتاء الزكاة، فذكرت الأموال التي تجب فيها الزكاة وأنصبتها ووضحت شروطها..
وغير ذلك من العبادات والمعاملات التي أجملها الكتاب الكريم، وتناولتها السنة بالتوضيح والتبيين.
والثاني: أن تخصص السنة عام القرآن مثل قول الرسول، صلى الله عليه وسلم:"لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها" 1، فإنه مخصص لقول الله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2.
ومثل حديث: "لا يرث القاتل " 3 فإنه مخصص لآيات المواريث في سورة النساء وهو قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 4.
الثالث: أن تقيد السنة مطلق القرآن، أو تبين المراد منه عند الاحتمال مثل تكرار الغسل لأعضاء الوضوء ووجوب غسل المرفقين، فإنه مبين للمراد من الإطلاق في قول الله تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 5 فالآية تحتمل تكرار الغسل وعدمه، كما تحتمل دخول المرفقين في الغسل.
الرابع: البيان بطريق القياس على ما ورد في الكتاب، وذلك راجع إلى دلالة القرآن، فإن النص القرآني المقرر لحكم الأصل، وإن كان خاصًّا به في
1 رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
2 سورة النساء: 24.
3 رواه ابن ماجه والدارمي في كتاب الفرائض.
4 سورة النساء: 11.
5 سورة المائدة: 6.
الصورة -فهو عام في المعنى من حيث عموم العلة، ومن أمثلة ذلك:
أولًا: إن الله حرم الربا ورد على أهل الجاهلية قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} بقوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} 1، وكان الربا الشائع عندهم هو فسخ الدين في الدين. يقول الطالب: إما أن تقضي وإما أن تربي.
ولما كان المنع فيه من قبل كونه زيادة بلا عوض ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بهذا المعنى.
فقال الرسول، عليه الصلاة والسلام:"الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد"2.
ثانيًا: بيَّن القرآن الكريم بعض المحرمات من الرضاعة بقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 3، فألحقت السنة بهما سائر القرابات بالرضاعة من اللاتي كن يحرمن بالنسب كالعمة والخالة. وبنت الأخ وبنت الأخت، وهذا الإلحاق بطريق القياس من باب نفي الفارق بين الأصل والفرع.
ثالثًا: إن الله تبارك وتعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث، وقال جل شأنه:{قُلْ لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 4.
فألحقت السنة بالمحرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وفي الحديث:"إن النبي-صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير"5. كما نهى صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأهلية6.
1 سورة البقرة: 275.
2 رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه.
3 سورة النساء: 23.
4 سورة الأنعام: 145.
5 رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي، انظر نيل الأوطار: 8/ 284، شرح الزرقاني على الموطأ: 3/ 90-91.
6 متفق عليه انظر نيل الأوطار: 8/ 281، شرح الزرقاني على الموطأ 3/ 92.
وألحقت السنة بالطيبات: الضب1 والأرنب2 فهذا الإلحاق بيان بطريق القياس.
رابعًا: إن الله عز وجل حرم الزنا، وأحل التزويج وملك اليمين، وسكت عن النكاح المخالف للمشروع، فإنه ليس بنكاح محض ولا سفاح محض كما في النكاح بغير ولي، فقال، صلى الله عليه وسلم:"أي امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل منها"3.
فهذا إلحاق مسكوت بمنطوق.
الخامس: البيان بطريق التفريع على القواعد العامة المستنبطة من أدلة القرآن المختلفة، وهذا شبيه بما يسمى المصالح المرسلة والاستحسان ومن أمثلة ذلك4:
أولاً: قال سبحانه: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} 5.
وقال جل شأنه: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} 6، ونهى تعالى في أكثر من موضع من القرآن الكريم عن التعدي على الأنفس والأموال والأعراض، كما نهى تعالى عن الغصب والظلم.
ثانيًا: وقوله، صلى الله عليه وسلم:" من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه"7.
وقوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"8.
فإنهما يرجعان إلى سد الذرائع المقرر أصله في القرآن الكريم بقوله
1 عن ابن عمر قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب فقال: "لست بآكله ولا محرمه" متفق عليه. انظر نيل الأوطار: 8/ 287، سنن الدارمي: 2/ 92.
2 انظر نيل الأوطار: 8/ 290، سنن الدارمي: 2/ 92.
3 أخرجه أبو داود والترمذي، الموافقات للشاطبي: 4/ 32-38.
4 البقرة: 231.
5 سورة الطلاق: 6.
6 سورة البقرة: 233.
7 سنن الدارمي: 2/ 245، رواه البخاري في كتاب الإيمان والبيوع، ومسلم في المساقاة، وأبو داود والترمذي، والنسائي في البيوع.
8 سنن الدارمي: 2/ 245، رواه البخاري في كتاب البيوع والترمذي في القيامة وأحمد في مسنده.
تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} 1 ، وقوله تبارك وتعالى:{وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 2.
الصورة الثالثة: أن يستدل بالسنة على ناسخ القرآن ومنسوخه، وهذا على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله الذي لا يقول نسخ القرآن بالسنة لقوله تعالى:{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 3، فإنَّ فِعْلَ "نأت" يدل على أن الآتي بالخبر أو المثل هو الله تعالى، وذلك لا يكون إلا إذا كان الناسخ هو القرآن، وأن كلمتي"بخير أو مثلها" تقتضيان كون البدل خيرًا من الآية المنسوخة أو مثلًا لها، والسنة ليست كذلك، ولكن السنة هي التي تبين نسخ القرآن للقرآن، مثال ذلك قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَاحَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 4.
فهذه الآية منسوخة بآيات المواريث غير أن معرفة هذا النسخ كان بالسنة. وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "لاوصية لوارث"5.
وقد خالف في ذلك جمهور العلماء، ومن الشافعية البيضاوي والأسنوي حيث قرروا أن السنة قد تأتي ناسخة لبعض آيات من القرآن الكريم ومثلوا له بحديث:"لا وصية لوارث" فإنه نسخ حكم آية الوصية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَاحَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ} الآية. وليس الناسخ هو آية المواريث إذ لا تنافي بينهما وبين آية الوصية للأقربين، فإن الأولى في ثلثي المال والوصية تنفذ في الثلث.
ويمكن القول: إن السلف كانوا يطلقون النسخ على كل من التخصيص والنسخ، فليس بلازم أن يكون مراد الشافعي النسخ الذي هو الرفع والإزالة،
1 سورة النور: 31.
2 سورة الفتح: 25.
3 سورة البقرة: 106.
4 سورة البقرة: 180.
5 رواه البخاري وأبو داود، والترمذي والنسائي، وابن ماجه والدارمي، في الوصايا "مع اختلاف يسير في الألفاظ".