المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لندن وباريس وليدن وبرلين، وبطرسبرج وغيرها، واشتملت على أقسام خاصة - أضواء على الثقافة الاسلامية

[نادية شريف العمري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: في محيط الثقافة

- ‌المبحث الأول: تعريف الثقافة

- ‌في الاستعمال اللغوي

- ‌في الاستعمال الاصطلاحي:

- ‌الفرق بين الثقافة والعلم:

- ‌العلاقة بين الثقافة والحضارة:

- ‌الثقافة الإسلامية:

- ‌الفرق بين الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات:

- ‌المبحث الثاني: خصائص الثقافة الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌أولى هذه الخصائص أنها ربانية المصدر:

- ‌الخاصية الثانية: الثبات

- ‌الخاصية الثالثة: الشمول

- ‌خاصية التوازن:

- ‌خاصية الإيجابية:

- ‌خاصية الواقعية المثالية:

- ‌المبحث الثالث: أهمية دراسة الثقافة الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌الازدهار الحضاري للأمة الإسلامية:

- ‌تأثر الغرب بالثقافة الإسلامية:

- ‌الأدواء التي حلت بالمسلمين:

- ‌تفاعل المسلم مع ثقافته:

- ‌الأساسيات التي تقوم عليها الثقافة الإسلامية:

- ‌دور الثقافة الإسلامية في العصر الحديث:

- ‌ما الذي تقدمه الثقافة الإسلامية للإنسان المعاصر:

- ‌الفصل الثاني: ركائز الثقافة الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الإيمان والعقيدة

- ‌المبحث الثاني: التشريع ومصادره

- ‌مدخل

- ‌القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌أسماء القرآن الكريم:

- ‌الآيات المكية والمدنية:

- ‌جمع القرآن الكريم:

- ‌جمع عثمان بن عفان، رضي الله عنه:

- ‌الأسلوب القرآني في الطلب والتخيير:

- ‌أساس التشريع في القرآن الكريم:

- ‌أنواع الأحكام الواردة في القرآن الكريم:

- ‌دلالة القرآن الكريم بين القطعية والظنية:

- ‌السنة الشريفة

- ‌مدخل

- ‌السنة في اللغة والاصطلاح

- ‌أقسام السنة باعتبار السند

- ‌أقسام السنة باعتبار ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌نسبة السنة المطهرة للقرآن الكريم:

- ‌مكانة السنة في التشريع:

- ‌الفصل الثالث: تحديات أمام الثقافة الإسلامية التيارات المعادية

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: النصرانية

- ‌مدخل

- ‌ الحروب الصليبية:

- ‌ التبشير:

- ‌أساليب التبشير:

- ‌تعاون التبشير واليهودية:

- ‌الاستشراق

- ‌مدخل

- ‌تاريخ الاستشراق:

- ‌خطر الاستشراق:

- ‌أمثلة من مظاهر تحامل المستشرقين:

- ‌وسائل المستشرقين لتحقيق أهدافهم:

- ‌المبحث الثاني: اليهودية

- ‌التوراة

- ‌ التلمود:

- ‌ البروتوكولات:

- ‌الجمعيات اليهودية:

- ‌موقف المسلمين من المبادئ اليهودية:

- ‌المبحث الثالث: الشيوعية

- ‌مدخل

- ‌الترابط الوثيق بين الشيوعية واليهودية:

- ‌مقومات الماركسية

- ‌مدخل

- ‌ التفسير المادي للتاريخ

- ‌إلغاء الملكية الفردية والقضاء على الأسرة

- ‌القضاء على الدين

- ‌القضاء على الأخلاقيات

- ‌الغزو الشيوعي:

- ‌المبحث الرابع: التغريب

- ‌مدخل

- ‌العلمانية

- ‌مدخل

- ‌موقف الإسلام من العلمانية:

- ‌مجالات نشر العلمانية:

- ‌العلمانية والإعلام:

- ‌القومية

- ‌مدخل

- ‌كيف دخلت القومية إلى البلاد الإسلامية:

- ‌الفصل الرابع: الجوانب العملية في الثقافة الإسلامية

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول: الجهاد فريضة مستمرة

- ‌مدخل

- ‌تعريف الجهاد:

- ‌وللجهاد سبل كثيرة يتحقق بكل واحد منها

- ‌تاريخ تشريع الجهاد في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌سبب تشريع الجهاد:

- ‌مراحل تشريع الجهاد:

- ‌فضل الجهاد

- ‌مدخل

- ‌أجر المجاهدين:

- ‌من هو الشهيد:

- ‌مبحث شروط المجاهدين في الإسلام

- ‌حكم الجهاد

- ‌مدخل

- ‌أدلة وجوب الجهاد:

- ‌الإعداد للجهاد

- ‌مدخل

- ‌إعداد معنوي

- ‌إعداد مادي

- ‌أخلاق المسلمين في القتال:

- ‌ومن مظاهر رأفة الإسلام في الحرب:

- ‌المعاهدات في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌الشروط التي يجب تحققها في المعاهدة

- ‌الوفاء بالمعاهدات:

- ‌المبحث الثاني: التضامن الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌أسباب انقسام الأمة الإسلامية:

- ‌تاريخ الدعوة إلى التضامن الإسلامي:

- ‌أول مجتمع قام على أساس التضامن:

- ‌أسس التضامن الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌ الأخوة الإيمانية:

- ‌ التكافل الاجتماعي:

- ‌ الشورى:

- ‌ العدل:

- ‌الخلافة وأثرها على وحدة الأمة الإسلامية:

- ‌واجب المسلمين لتحقيق التضامن الإسلامي:

- ‌دواعي التضامن الإسلامي:

- ‌الفهرس

الفصل: لندن وباريس وليدن وبرلين، وبطرسبرج وغيرها، واشتملت على أقسام خاصة

لندن وباريس وليدن وبرلين، وبطرسبرج وغيرها، واشتملت على أقسام خاصة لدراسة اللغة العربية وبعض اللغات الإسلامية كالفارسية والتركية والأردية وكانت تهدف من وراء ذلك تزويد السلطات الاستعمارية بخبراء في الشئون الإسلامية، ثم أخذ الطلاب المسلمون يؤمون هذه الكليات الأوربية للدراسة فيها، وبذلك تأثر الفكر الإسلامي بما يمليه المستشرق في أذهان الطلبة المبعوثين من أبناء المسلمين1، وكانت المؤسسات الدينية والسياسية والاقتصادية في الغرب تقدم الأموال الطائلة للمستشرقين من أجل القيام بمهمتهم.

وقد أنشئت عدة مؤسسات في البلاد الإسلامية لخدمة الاستشراق وللتآزر مع الاستعمار والتبشير الكاثوليكي والبروتستانتي.. والواقع أننا لا نستطيع أن نفصل بين أهداف الاستشراق والتبشير والاستعمار إلا من حيث الأهداف القريبة أو الهيئة الظاهرية، أما الغرض البعيد لها جميعًا فواحد.. غير متعدد.. ومن أبرز هذه المؤسسات التعليمية: الفرانسيسكان والجامعة الأمريكية، وقد انتشرت في كل الأقطار الإسلامية.

1 أساليب الغزو الفكري: ص21.

ص: 174

‌خطر الاستشراق:

إن كل من يقرأ مؤلفات المستشرقين يضع يده على مواضع الخطر، وذلك لما تهدف إليه هذه الكتب من التشكيك في العقيدة الإسلامية، ومن تشويه التاريخ والتراث الإسلامي، وللمستشرقين مناهج تعليمية وثقافية وفكرية يتوصلون عن طريقها للافتراء على المعالم الإسلامية والعالم الإسلامي، وقد استطاع الاستشراق بكل مكر ودهاء أن يوجد تلاميذ له في الشرق الإسلامي يدورون في فلكه ويروجون بضاعته.

"كان الاستشراق وراء كل شبهة أو دعوة خطيرة أحدثت تحولًا في المجتمع الإسلامي في العصر الحديث، فقد كان المستشرقون يلقون الشبهة أو الدعوة ثم يتبعهم الكتاب والمفكرون الذين يكتبون باللغة العربية من أهل التبعية والتغريب والشعوبية

وهذا واضح في الدعوة إلى العامية.. وفي الدعوة إلى الإقليميات

ص: 174

والقوميات الضيقة"1.

وكثيرًا ما يعمد المستشرقون إلى إخضاع النصوص لأهوائهم روغباتهم فيقبلون منها ما توافق أهواءهم ويرفضون غيرها، وكذلك يتحكمون في المصادر التي يختارونها، فقد يدللون على شبهاتهم بأقوال المعتزلة -المرفوضة في الإسلام أصلًا- ويتركون المصادر التي يشهد لها الثقاة المخلصون بالصحة والقبول.

ويقوم المستشرقون بعملية إحياء التراث الباطني المجوسي، مستهدفين إثارة الشكوك حول الفكر الإسلامي الأصيل، ويبدو هذا واضحًا في تركيزهم على إحياء كل المخطوطات التي تحمل هذه السموم وبخاصة ما يتصل بالإلحاد والإباحية.

ومما يجب أن يتنبه له طلاب العلم والبحث المنهجي هو الحذر كل الحذر من كتب المستشرقين وذلك بأن توضع هذه الكتب تحت التمحيص والتنقيب والنقد وعدم اعتبارها مراجع معتمدة تغني عن الكتب العربية الأصيلة، أو على الأقل عدم اعتبارها مراجع مسلمًا بكل ما دون فيها من آراء وأقوال.

شبهات المستشرقين:

مما لا ريب فيه أن الإسلام يواجه عداء مريرًا من المستشرقين، ولعل مرجعه عدم فهمهم اللغة العربية وقصورهم عن إدراك ما في القرآن الكريم من تعبيرات بيانية ومجازية، فضلًا عن أهدافهم الدنيئة وأغراضهم اللئيمة التي تظهر في كل تأليف من تآليفهم.

وقد حاول الكاتب الإنجليزي "كارليل" أن يترجم القرآن الكريم، ولكنه صدم ببلاغة القرآن وإعجازه حتى إنه لم يستطع أن يفسر كثيرًا من آياته أو أن يدرك كل مدلولات الألفاظ فقال:"إن القرآن الكريم كلام ركيك ثقيل على النفس ولولا ما يحتمه الواجب العلمي على الدارس الأوربي ما استطاع صبرًا على قراءته"2.

1 أساليب الغزو الفكري: ص 24.

2 مقدمة كتاب الأبطال، انظر كتاب الإسلام والمستشرقون د. عبد الجليل شلبي: ص12.

ص: 175

فإذا كان القرآن الكريم وهو المعجزة التي تحدت العرب وهم أئمة البلاغة والبيان والفصاحة، وقد ثبت عجزهم عن معارضة آية واحدة منه، يبدو في نظر هذا المستشرق اللعين سقيمًا

، فكيف يقال إنه يفهم اللغة العربية ويؤخذ برأيه في شيء يستخلصه من نصوصها.

و"كارليل" هذا يعتبر في نظر كثير من الباحثين مسالمًا للإسلام. لأنه مدح النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه "الأبطال" قائلًا:

"من العار أن يصغي أي إنسان متمدين من أبناء هذا الجيل إلى وهم القائلين: إن دين الإسلام كذب، وأن محمدًا لم يكن على حق، فالرسالة التي دعا إليها هذا النبي صلى الله عليه وسلم ظلت سراجًا منيرًا أربعة عشر قرنًا من الزمان لملايين كثيرة من الناس، وما الرسالة التي أداها محمد صلى الله عليه وسلم إلا الصدق والحق، وما كلمته إلا صوت حق صادق صادر من العالم المجهول"1. وقد رد عبارة كارليل في القرآن الكريم بعض الكتاب المحدثين منهم آربري في مقدمة ترجمته القرآنية، ومنهم جب في كتابه المحمدية، ولكن حتى هذين المستشرقين لم يجيدا فهم النصوص القرآنية2.

ويقف المستشرقون المعاصرون عند نصوص معينة من القرآن الكريم يتخذون من فهمهم الخاطئ لها دليلًا على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم استقى تعاليمه من الكتابيين، وهذا زور وبهتان افتروه، وأعانهم عليه عداؤهم وحقدهم الدفين.

من ذلك قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} 3.

قال المستشرق الإنجليزي "ألفريد جيوم" وتابعه آخرون: "إن محمدًا كان دارسًا مبتدئًا للكتاب المقدس، فظن أن مريم أم عيسى عليه السلام هي مريم أخت هارون، مع أن بين عيسى وهارون زمنًا طويلًا"4.

1 من كتاب أساليب الغزو الفكري للدكتور على محمد جريشة وزميله: ص25.

2 الإسلام والمستشرقون: ص10.

3 سورة مريم: 28.

4 الإسلام والمستشرقون: ص12.

ص: 176

ومن العجيب أن تروج هذه الفكرة وأن تلقى قبولًا من المستشرقين، ولكن هذا العجب سرعان ما يزول إذا أدركنا خبث طويتهم.. إذ إن كلمة "أخت" في اللغة العربية لا ينحصر استعمالها في أخوة النسب، وإنما تستعمل للدلالة على الشبيه والنظير والمثيل.. فيقال مثلًا: شوقي أخ للمتنبي والغرض من هذا أن كلًا منهما يشبه الآخر في صفات معينة، وليس المراد أن أباهما واحد، وقد كانت مريم العذراء أم المسيح معروفة بورعها وتقواها، وهي الأنثى التي تقبلها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا قد شابهت هارون في ورعها وتقواها، فلما حملت بعيسى عليه السلام وهي لا زوج لها ظنها فاسدو الفطرة والذوق أنها ارتكبت فاحشة واستعجبوا لحدوث ذلك منها وهي بارة تقية، فقالوا لها كيف تفعلين هذا مع أنك شبيهة لهارون في عبادته وطهارته، فالآية الكريمة إذن لا تشير إلى أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: إنها أخت لموسى وهارون وأن أباهما كانا أبًا لمريم. وعلى عكس ما فهم المستشرقون فإننا نجد آيات قرآنية تشير إلى وجود فترة زمنية طويلة المدى بين رسولي الله موسى وعيسى عليهما السلام.

وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد نجران حين جاءوا يناظرونه: "إن عيسى أخي" ومحمد صلى الله عليه وسلم يعرف أنه أخ له وهو لم ير عيسى، وبينهما ما يقرب من ستمائة عام ولكنهما أخوة النبوة والرسالة. والأنبياء جميعًا على تفاوت الأزمنة بينهم أخوة لأن رسالتهم واحدة وهي الدعوة إلى عبادة الله.

ويقف كثير من المستشرقين عند آية أخرى وهي قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} 1.

وقد ذهب فهمهم المحدود القاصر أو المغرض إلى هذا التأويل الخاطئ: وهو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أمر أن يسأل أهل الكتاب، وعلى هذا فقد سألهم، وبالتالي فإن رسالته مستوحاة منهم.

هذا ما درجوا عليه، ولعل سبب هذا التفسير الخاطئ هو عدم فهمهم اللغة العربية2 حق الفهم في أمور:

1 سورة يونس: 94.

2 الإسلام والمستشرقون: ص12.

ص: 177

1-

منها أن الخطاب يوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به المسلمون1 وهو أسلوب من أساليب اللغة العربية كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} 2، فالنبي صلى الله عليه وسلم متق الله ولم يطع الكافرين والمنافقين، ولكن الخطاب موجه إلى أمته. وكما في قوله تعالى:{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 3. وهو صلى الله عليه وسلم كان معرضًا عن المشركين.

2-

ومنها أن السؤال لا يعني الاستفهام، وإنما يعني التأمل والبحث ومن ذلك قوله تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 4، ولا يمكن أن يسأل محمد صلى الله عليه وسلم رسولًا من الرسل الذين سبقوه، كيف وبينه وبين عيسى عليه السلام وهو آخر واحد منهم نحو ستة قرون، ويمكن أن يقال إن الخطاب موجه إلى الأمة الإسلامية وليس إلى محمد صلى الله عليه وسلم على الخصوص. والمراد ابحثوا في رسالات الأنبياء جميعًا فستجدونها تدعو لعبادة الله وحده، ولا تسمح بتأليه أحد سواه ولا بالخضوع لأحد غيره5.

3-

ومنها أن الجملة مشروطة بتحقق الشك، "فإن كنت في شك" ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في شك أبدًا مما أنزل الله إليه، ولهذا قيل في تفسير الآية الكريمة إن لفظ "إن" للنفي أي ما كنت في شك قبل، يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقينًا كما ازداد إبراهيم يقينًا برؤية إحياء الموتى6، وعلى هذا فما بنى هؤلاء المستشرقون دراستهم عليه وما وصلوا إليه من نتائج دعوات لا أساس لها من الصحة ولا وجود لها أصلًا، ومرجع ذلك ضعفهم في اللغة العربية فضلًا عن لؤم طويتهم.

وقد ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فقالوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد استقى

1 التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي: 15/ 68.

2 أول سورة الأحزاب.

3 سورة الأنعام: 106.

4 سورة الزخرف: 45.

5 الإسلام والمستشرقون: ص13.

6 التفسير الكبير: 17/ 162.

ص: 178

معلوماته من مصادر كثيرة منها صهيب الرومي، وسلمان الفارسي. وزوجه صلى الله عليه وسلم مارية القبطية. أحقًّا هم يؤمنون بما يقولون؟ أم هو مجرد اتباع للهوى ولأهل الأغراض التي تخطط ليلًَا ونهارًا لإشاعة مثل هذه الفتن والأقاويل1.

أما صهيب الرومي فقد قيل عنه إنه عربي الأصل من بني النمر بن تولب، سبته الروم طفلًا وباعته، ونشأ بمكة، ويقال إنه عتيق عبد الله بن جدعان2 فماذا عسى أن تكون ثقافة طفل أو صبي حتى يستفيد منه محمد صلى الله عليه وسلم وهو لم يذهب إلى بلاد الروم، ولم تكن الدولة البيزنطية دولة توفر العلم حتى يفيض على الصبيان، ويقال: إن صهيبًا هذا نشأ بالعراق3.

وأما سلمان الفارسي فقد كانت رحلته بحثًا عن الحقيقة، ولم يصل إلى بلاد العرب إلا بعد الهجرة وبعد أن مر على إعلان الدعوة الإسلامية ما يربو على خمسة عشر عامًا4.

وأما مارية القبطية فقد أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت أمة ساذجة لا ثقافة لها.

فأي زور وأي بهتان يسيل من أقلام هؤلاء المستشرقين، أفلا يعقلون؟ أفلا يخضعون للحق المبين.. وإن ذهبوا كل مذهب من ضلال وبهتان، فإن نور الإسلام لن يطفأ وإن الله تعالى متم نوره ولو كره المشركون.

وإن هؤلاء الصحابة أمثال صهيب الرومي وسلمان الفارسي الذين أشار إليهم المستشرقون، قد أتوا ليتعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتتلمذوا على يديه، ولو كان أحدهم مبرزًا في علم وثقافة، أو أستاذًا في العلوم الدينية لما ساغ له أن يأخذ ممن علمه؟ وهل يأخذ الأستاذ العلم ممن علمه؟ وهل يكون التلميذ أستاذًا لأستاذه؟

ومما يثيره المستشرقون تلبيسًا وتشويهًا لحقائق ثابتة تاريخيًّا وعمليًّا، مسألة أمية محمد صلى الله عليه وسلم فهم يقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن أميًّا، بل كان قارئًا كاتبًا،

1 الإسلام والمستشرقون.

2 الاستيعاب: 2/ 727.

3 الاستيعاب: 2/ 727.

4 الاستيعاب: 2/ 634-638.

ص: 179

والحجة في هذا أنه كان تاجرًا والتاجر لا بد أن يراجع حساباته ويضبطها ولا يتأتى ذلك لأميٍّ.

هذا التخيل الذي ينسجه هؤلاء المستشرقون مصادم للوقائع التاريخية، التي لا يستطيع أحد أن يتجاهلها أو يردها بمجرد أحلام يقظة وطيش، ولم يكن هناك أي دليل من الدلائل التاريخية تثبت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يعرف القراءة والكتابة. ولو عرف عنه ذلك لما سكتت قريش المعادية المعاندة، وكانت تود أن ترى ثمة خيطًا ولو كان رفيعًا لرفض دعوته ولمقاومته بشتى وسائل المقاومة.. وكان في عصره صلى الله عليه وسلم عشرات من التجار لا يقرءون ولا يكتبون وهم من ذوي الثراء والملكية المنوعة ونحن الآن وبعد أربعة عشر قرنًا من نزول القرآن الكريم نجد بيننا تجارًا كبارًا أميين. وقد وصف القرآن الكريم محمدًا صلى الله عليه وسلم بالأمية فقال:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} 1.. وقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 2.

وعندما تجمعت قريش لغزوة أحد أرسل العباس بن عبد المطلب كتابًا سريًّا يخبر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا التجمع فدفع النبي صلى الله عليه وسلم الخطاب إلى أبي بن كعب فلما قرأه وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخطر الذي سيواجه المسلمين استكتم أبيًّا ما قرأ، ولو كان صلى الله عليه وسلم يحسن القراءة لقرأ الكتاب بنفسه ولما احتاج إلى من يقرأه ثم يستكتمه الخبر.

وحين كتبت ثقيف شروط إسلامها للنبي صلى الله عليه وسلم أجازت فيها الربا والزنا، فلما قرئ الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم قال للقارئ وهو يقرأ كلمة "الربا": ضع يدي عليها، فوضع يده فمحاها، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} 3، ولما بلغ كلمة الزنا قال: ضع يدي عليها فمحاها أيضًا وقرأ: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} 4.

وأُمِّيَّة محمد صلى الله عليه وسلم قضية متواترة لا تحتمل تشكيكًا، ولا تحتاج إلى بحث من

1 الأعراف: 157.

2 العنكبوت: 48.

3 البقرة: 278.

4 الإسراء: 32. وانظر الموسوعة القرآنية: 1/ 31.

ص: 180

جديد. وهي مما يؤكد أن القرآن الكريم كله وحي من عند الله، وأن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن يملك وسيلة التعلم وهي القراءة والنظر فيما ترك الأولون1.

يقول الدكتور "عبد الجليل شلبي" في كتابه "الإسلام والمستشرقون": "والقرآن الكريم لا يكفي أن يؤلفه شخص يقرأ ويكتب، فهو موسوعة علمية تلم بجوانب فكرية كثيرة، به آيات تشير إلى مستكشفات علمية حديثة ونظريات ثابتة لم يعرفها العلماء إلا حديثًا، فلو أن عددًا من العلماء تضافر على تأليفه لأعوز إلى ثقافات واسعة وزمن متطاول للدرس والتأليف ولهذا -نحن المسلمين- نؤمن بيقين وبرهان أنه كلام الله"2.

الشبهة الثانية:

عدم إيمان القرشيين بمحمد صلى الله عليه وسلم في بادئ الأمر.

يقول المستشرق "ألفريد جيوم":

إن المثل: "لا كرامة لنبي في وطنه لا ينطبق على أحد مثلما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم ويتخذ من تكذيب قريش له دليلًا على بطلان دعوته" وهو كلام خطأ في استدلاله وفي استنتاجه. ذلك لأن كل الأنبياء كذبوا في أوطانهم، وكذبهم ذووهم وعشيرتهم، من لدن إبراهيم الخليل إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله عليهم صلوات الله وسلامه، لقد كذب بنو إسرائيل موسى تكذيبًا عمليًّا، وهو قائدهم ومخلصهم من ظلم فرعون واستبداده. نهاهم عن عبادة العجل فعبدوه حين تغيب عنهم ليكلم ربه في الطور وقال لهم: اعبدوا الله رب هذا الكون، فقالوا: أرنا إياه: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} 3، وأمرهم أن يتركوا العمل يوم السبت فتركوا العبادة وذهبوا للصيد"4.

ولقي عيسى من تكذيب قومه الشيء الكثير، ثم بلغ من إيذائهم له أن قدموه

1 الإسلام والمستشرقون د. عبد الجليل شلبي: ص16 وانظر الموسوعة القرآنية للأستاذ إبراهيم الإبياري: ص31.

2 الإسلام والمستشرقون: ص24.

3 سورة البقرة: 55.

4 الإسلام والمستشرقون: ص35 عن كتاب تراث إسرائيل.

ص: 181

للمحاكمة وطلبوا صلبه، أفيدل ذلك أيضًا على أن المسيح عليه السلام لم يكن مرسلًا من ربه؟

ومن المعروف أن الذين حاربوا المسيح عليه السلام لم يكونوا أميين وليسوا من السذج وإنما كانوا من الصفوة ومن الرؤساء ومن العلماء.

ومن قبل كذب زكريا قومه وقتلوه، وكذبوا يحيى وتمنوا الخلاص منه، فلما قتل ظلمًا سكتوا عن قاتله، ولولم يكونوا راضين عن هذه الفعلة لما سكت أعلام اليهود عن هذا الأمر الخطير.

وقد قال ورقة بن نوفل وكان على الحنيفية: "لم يأت أحد بمثل ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم إلا عودي".

وبعد هذا كله نسأل هؤلاء المستشرقين: لماذا يرون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الذي ليس له كرامة في وطنه من بين الأنبياء جميعًا؟ ومحمد صلى الله عليه وسلم كان عالي القدر في قومه قبل بعثته، وقد أطلقوا عليه اسم "الأمين" لما عرف عنه أنه سامي الأخلاق وشريف الخصال ونبيل المكرمات، وكان يختار من قومه للفصل بين المسائل والخصومات.

لهذا كله نقول: إن المستشرقين لم يوفقوا في إلصاق اتهاماتهم في الإسلام ولا في نبيه الصادق، ولم يوفقوا فيما وصلوا إليه من نتائج مفتراة.

الشبهة الثالثة:

الوسيلة التي انتشر بها الإسلام:

هل انتشر الإسلام بالسيف؟ هذه مسألة يثيرها كثير من المتحاملين على الإسلام، ولعل من له أدنى صلة بكتب السيرة يعرف مدى بطلان هذه الدعوة.

فقد ظل نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشر عامًا يدعو إلى التوحيد، ولكن صناديد قريش يحولون بين الناس وبين تفهم الدعوة وقبولها. ومن تبعه من ضعاف القوم لقوا ما لقوا من إهانة وتعذيب وتنكيل، وكانت الوفود تقدم مكة لتسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن قريشًا تتصدى لهم وتجبرهم على العودة قبل أن يلتقوا برسول الله، صلى الله عليه وسلم.. ثم هاجر المسلمون إلى الحبشة مرتين فرارًا من

ص: 182

وكان للمسلمين منهج واضح في الدعوة إلى التوحيد، هذا المنهج يتضح لكل ذي بصيرة إذا قرأ الكتب التي أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك أهل الكتاب، فقد كان صلى الله عليه وسلم يخيرهم بين أن يدخلوا في الإسلام أو يظلوا على دينهم ويدفعوا الجزية، وإذا قبلوا دفع الجزية كان على المسلمين حمايتهم، وتترك لهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية. والدليل على ذلك معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لوفد بني تغلب حينما قدموا إلى المدينة وكان منهم وثنيون أعلنوا إسلامهم، ومنهم مسيحيون ظلوا على مسيحيتهم، ومع انتشار الإسلام وتقدمه فقد ظل في هذه القبيلة عدد كبير من المسيحيين، ولما جاء عمر بن الخطاب حذر من الضغط عليهم بأية وسيلة، وأمر أن تكون لهم الحرية التامة في ممارسة شعائرهم الدينية، ولكنه اشترط عليهم أيضًا ألا يحولوا بين أي فرد منهم وبين الإسلام إذا رغب أن يكون مسلمًا، ومن أسلم منهم فإن أطفاله مسلمون لا يعمدون.. وقد آثرت هذه القبيلة أن تدفع الزكاة بدلًا من الجزية وتدخل في دين الله الذي حظيت في حماه بالحرية والكرامة الإنسانية.

ص: 183