المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدًا قدرنا عليهم". وقال عبادة بن الصامت - أضواء على الثقافة الاسلامية

[نادية شريف العمري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: في محيط الثقافة

- ‌المبحث الأول: تعريف الثقافة

- ‌في الاستعمال اللغوي

- ‌في الاستعمال الاصطلاحي:

- ‌الفرق بين الثقافة والعلم:

- ‌العلاقة بين الثقافة والحضارة:

- ‌الثقافة الإسلامية:

- ‌الفرق بين الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات:

- ‌المبحث الثاني: خصائص الثقافة الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌أولى هذه الخصائص أنها ربانية المصدر:

- ‌الخاصية الثانية: الثبات

- ‌الخاصية الثالثة: الشمول

- ‌خاصية التوازن:

- ‌خاصية الإيجابية:

- ‌خاصية الواقعية المثالية:

- ‌المبحث الثالث: أهمية دراسة الثقافة الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌الازدهار الحضاري للأمة الإسلامية:

- ‌تأثر الغرب بالثقافة الإسلامية:

- ‌الأدواء التي حلت بالمسلمين:

- ‌تفاعل المسلم مع ثقافته:

- ‌الأساسيات التي تقوم عليها الثقافة الإسلامية:

- ‌دور الثقافة الإسلامية في العصر الحديث:

- ‌ما الذي تقدمه الثقافة الإسلامية للإنسان المعاصر:

- ‌الفصل الثاني: ركائز الثقافة الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: الإيمان والعقيدة

- ‌المبحث الثاني: التشريع ومصادره

- ‌مدخل

- ‌القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌أسماء القرآن الكريم:

- ‌الآيات المكية والمدنية:

- ‌جمع القرآن الكريم:

- ‌جمع عثمان بن عفان، رضي الله عنه:

- ‌الأسلوب القرآني في الطلب والتخيير:

- ‌أساس التشريع في القرآن الكريم:

- ‌أنواع الأحكام الواردة في القرآن الكريم:

- ‌دلالة القرآن الكريم بين القطعية والظنية:

- ‌السنة الشريفة

- ‌مدخل

- ‌السنة في اللغة والاصطلاح

- ‌أقسام السنة باعتبار السند

- ‌أقسام السنة باعتبار ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌نسبة السنة المطهرة للقرآن الكريم:

- ‌مكانة السنة في التشريع:

- ‌الفصل الثالث: تحديات أمام الثقافة الإسلامية التيارات المعادية

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: النصرانية

- ‌مدخل

- ‌ الحروب الصليبية:

- ‌ التبشير:

- ‌أساليب التبشير:

- ‌تعاون التبشير واليهودية:

- ‌الاستشراق

- ‌مدخل

- ‌تاريخ الاستشراق:

- ‌خطر الاستشراق:

- ‌أمثلة من مظاهر تحامل المستشرقين:

- ‌وسائل المستشرقين لتحقيق أهدافهم:

- ‌المبحث الثاني: اليهودية

- ‌التوراة

- ‌ التلمود:

- ‌ البروتوكولات:

- ‌الجمعيات اليهودية:

- ‌موقف المسلمين من المبادئ اليهودية:

- ‌المبحث الثالث: الشيوعية

- ‌مدخل

- ‌الترابط الوثيق بين الشيوعية واليهودية:

- ‌مقومات الماركسية

- ‌مدخل

- ‌ التفسير المادي للتاريخ

- ‌إلغاء الملكية الفردية والقضاء على الأسرة

- ‌القضاء على الدين

- ‌القضاء على الأخلاقيات

- ‌الغزو الشيوعي:

- ‌المبحث الرابع: التغريب

- ‌مدخل

- ‌العلمانية

- ‌مدخل

- ‌موقف الإسلام من العلمانية:

- ‌مجالات نشر العلمانية:

- ‌العلمانية والإعلام:

- ‌القومية

- ‌مدخل

- ‌كيف دخلت القومية إلى البلاد الإسلامية:

- ‌الفصل الرابع: الجوانب العملية في الثقافة الإسلامية

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأول: الجهاد فريضة مستمرة

- ‌مدخل

- ‌تعريف الجهاد:

- ‌وللجهاد سبل كثيرة يتحقق بكل واحد منها

- ‌تاريخ تشريع الجهاد في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌سبب تشريع الجهاد:

- ‌مراحل تشريع الجهاد:

- ‌فضل الجهاد

- ‌مدخل

- ‌أجر المجاهدين:

- ‌من هو الشهيد:

- ‌مبحث شروط المجاهدين في الإسلام

- ‌حكم الجهاد

- ‌مدخل

- ‌أدلة وجوب الجهاد:

- ‌الإعداد للجهاد

- ‌مدخل

- ‌إعداد معنوي

- ‌إعداد مادي

- ‌أخلاق المسلمين في القتال:

- ‌ومن مظاهر رأفة الإسلام في الحرب:

- ‌المعاهدات في الإسلام

- ‌مدخل

- ‌الشروط التي يجب تحققها في المعاهدة

- ‌الوفاء بالمعاهدات:

- ‌المبحث الثاني: التضامن الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌أسباب انقسام الأمة الإسلامية:

- ‌تاريخ الدعوة إلى التضامن الإسلامي:

- ‌أول مجتمع قام على أساس التضامن:

- ‌أسس التضامن الإسلامي

- ‌مدخل

- ‌ الأخوة الإيمانية:

- ‌ التكافل الاجتماعي:

- ‌ الشورى:

- ‌ العدل:

- ‌الخلافة وأثرها على وحدة الأمة الإسلامية:

- ‌واجب المسلمين لتحقيق التضامن الإسلامي:

- ‌دواعي التضامن الإسلامي:

- ‌الفهرس

الفصل: أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدًا قدرنا عليهم". وقال عبادة بن الصامت

أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدًا قدرنا عليهم".

وقال عبادة بن الصامت حينما لقي المقوقس: "ما من رجل إلا ويدعو ربه صباحًا ومساء أن يرزقه الشهادة، وأن لا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا أهله وولده وليس لأحد منا هم فيما خلفه، وقد استودع كل منا ربه أهله وولده وإنما همنا ما أمامنا" هذه هي أهم الجوانب المعنوية التي يعنى بها في تربية جنود المسلمين شجاعة وإقدامًا. تقوى وإحكامًا، صلة بالله تبارك وتعالى وذلك بأداء الواجبات والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه، والاعتماد عليه واللجوء إليه والتضرع إليه والثقة بالنفس وطاعة القائد وحسن الصلة بين القادة وبين الحاكم العام للمسلمين..

وبهذه التربية تصفو النفوس وتزكو الخصال، وتتحمل الشدائد ويترفع عن الأهواء والشهوات.. ومن خاف الله خافه الناس ومن ابتغى إعلاء كلمة الله في الأرض فتح الله له كنوز الدنيا والآخرة وأيده بنصره وتوفيقه وعونه.

ص: 311

‌إعداد مادي

الإعداد المادي:

كما أن للإعداد الروحي أهمية كبرى وأثرًا بالغًا في توجيه دفة المعركة وفي تحديد معالم النصر كذلك فإن للإعداد المادي أهمية عظمى تساوي أهمية الإعداد الروحي وتوازيها وتسير معها جنبًا إلى جنب في كل ميدان للفوز بنصر الله وتأييده.

وللإعداد المادي جوانب كثيرة، ومجالات مختلفة أشير إلى أهمها فيما يأتي:

1-

تربية الأجسام:

لقد حرص الإسلام الحرص كله على تربية أجسام المسلمين بصورة عامة، وأجسام الجنود بصورة خاصة لما لها من أثر على تصلب العود وقوة الجسم والثقة بالنفس والقدرة على التغلب على الأعداء..

قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن

ص: 311

الضعيف" 1..

وقد شجع الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كل عمل ينشط الجسم ويحفظ القوة البدنية ويساعد على الحركة والمرونة والسرعة في العمل..

كما أنه صلى الله عليه وسلم قد حذر من التعرض للأمراض السارية الفتاكة وأمر بالتداوي من كل مرض يعرض للإنسان بعامة..

روى الإمام البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فر من المجذوم فرارك من الأسد".

وروى مسلم وأحمد وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل داء دواء فإذا أصاب الدواء الداء برأ بإذن الله عز وجل"..

وفي مسند أحمد وفي سنن النسائي وغيرهما عن أسامة بن شريك قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: "نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء".

وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئًا. فقال عليه الصلاة والسلام:"هي من قدر الله"..

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بالرجولة والجد، والابتعاد عن كل ما يورث الترف والتراخي والميوعة..

روى الطبراني بإسناد جيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل شجاعة ليس من ذكر الله فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الفرضين -أي: الرمي- وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعليمه السباحة".

كل هذه الأحاديث وغيرها كثير تأمر الإنسان أن يعتاد على حياة الجد والرجولة وأن يهتم بتربية جسمه التربية المتينة القوية كي يصبح جنديًّا من جنود المسلمين قويًّا في ساعده قويًّا في ممشاه جديًّا في مسلكه، جديًّا في معاملته يهيب

1 جزء من حديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة.

ص: 312

العدو ويخيفه..

وما تَنْفَع الخيل الكرام ولا القِنا

إذا لم يكن فوق الكِرام كِرام

إن السلاح لا يعمل إلا في يدي بطل، والبطل لا يصنعه إلا الإيمان.. وإن الذي يتقدم ليجود بنفسه يجب أن يكون مستعدًّا جسميًّا لتحمل المشاق ومكابدة المتاعب، وقد كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحث الجنود على تحمل كل مشقة لأداء الحرب، وأن يعدوا أنفسهم لاحتمال المصاعب، يروي عبد الله بن عمر عن أبيه الفاروق أنه كان يرسل إلى الولاة بالشام "أن انظر من قبلك فمرهم فلينتعلوا وليحتفوا" قال العلماء في بيان معنى هذا الخبر: يستحسن للجند أن يمشوا أحيانًا بغير نعل وأحيانًا في النعل ليتعودوا ذلك كله وهذا تنبيه إلى الجند ألا يجنحوا إلى الترف والنعيم، فإن الجندية والتنعيم نقيضان لا يجتمعان.. وكثيرًا ما يضطر الجند إلى أداء أشق الأعمال وأعنفها، فيجب أن يخشوشنوا ليكونوا على استعداد كامل للمتاعب إذا نزلت، وقد يقضي أحدهم ليالي وأيامًا في الفيافي والقِفار ولا يجد ما ينتعله فيجب أن يكون قادرًا على المشي، وأن الترف يؤدي إلى استرخاء النفوس وتعودها على البطالة والكسل والجبن والخوف من اقتحام الشدائد ومواجهة المعارك ولذلك كان الخلفاء رضي الله عنهم يوصون الجند بالخشونة في المأكل والملبس والبعد عن كل عمل يؤدي إلى الترف أو إلى استرخاء الجسم..

يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "إنكم ستظهرون على كنوز كسرى وقيصر، وإياكم والأشَر1، ورب الكعبة لتأشرن" والأشر نوع من الطغيان، قال الله تعالى:{كَلَاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} .

1 الأشَر نوع من الفرح مصحوب باستعلاء وتنعيم.

ص: 313

الله صلى الله عليه وسلم قائدًا أعلى لجيش المسلمين لم يتخلف عنهم في معركة ذات بال بل كان يتقدم الصفوف دائمًا، حتى قال الصحابة فيه كان أشجعنا في الحروب والمعارك وإذا أخافنا شيء أو اشتد الوطيس احتمينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قال الإمام علي رضي الله عنه:"لما كان يوم بدر، وحضر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أشد الناس بأسًا، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه"1.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعرض بنفسه جيوش المسلمين ويسوي صفوفهم2 ويعلمهم النظام، ويأمرهم بالتزام السكينة والهدوء، والاستعداد الكامل لتلقي أوامر القيادة، ويضع أمامهم الخطة الحربية ويستشيرهم في كل تنظيم وتخطيط..

وقد كان عليه الصلاة والسلام يستشير أهل الحل والعقد في تنظيم الصفوف وفي المكان الذي يصلح لمواجهة الأعداء وقد أشار الحباب بن المنذر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أن ينزل أدنى ماء من القوم وأن يغور المسلمون ويبنوا حوضًا فيملئوه ماء ويشربوا منه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأيه3.

وفي غزوة أحد استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين من أصحابه في المكان الأصلح لمواجهة العدو، أيخرج بالمسلمين إلى خارج المدينة، أم يبقى معهم داخلها ويدافعون عنها ولا يتكلفون مشقة السفر، وإذا هاجمهم العدو وجدهم قد مكنوا أنفسهم من منازلهم فيكون هذا الأمر أعون لهم على المواجهة؟

وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم برأيهم الأول وهو الخروج إلى جبل أحد على مشارف المدينة المنورة فركب فرسه وتنكب القوس وأخذ قَناة بيده وخرج في مقدمتهم..

وفي معركة الخندق أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي سلمان الفارسي في حفر خندق حول المدينة المنورة وكان صلى الله عليه وسلم يعمل بيده الشريفة المباركة ليزكي الحماس في نفوس الجند، فيشاركوا بهذا العمل الدفاعي..

1 رواه الشيخان.

2 طبقات ابن سعد: 2/ 39.

3 السيرة لابن هشام: 2/ 95.

ص: 314

وفي بدر استشار الرسول صلى الله عليه وسلم صحبه لقتال قريش، فقال أبو بكر وأحسن القول، وقال عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله امض لما أمرك به الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد1 لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه..

ثم قال سعد بن معاذ: فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضه معك وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غدًا، إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، لعل الله يريك ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله2.

وكان صلى الله عليه وسلم لا يميز نفسه بشيء عن جنوده، ففي معركة بدر كان كل ثلاثة من المسلمين يتناوبون الركوب على بعير واحد3 فكان إذا جاء دوره ترجل الرسول صلى الله عليه وسلم قال له صاحباه: اركب حتى نمشي عنك، فيقول:"ما أنتما بأقوى على المشي مني وما أنا بأغنى عن الأجر منكما"4.

ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان القائد الأعلى للجيش، فقد كان يختار قادة يحملون الألوية ويتقدمون الجنود، ففي بدر اختار مصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب ورجلًا من الأنصار، وفي حرب بني قينقاع اختار حمزة بن عبد المطلب لحمل راية المسلمين..

وفي أحد كان أسيد بن نضير يتقدم الأوس والحباب بن المنذر يتقدم الخزرج وعلي بن أبي طالب يتقدم المهاجرين ومصعب بن عمير من جماعة القادة الذين يحملون الألوية أيضًا..

وفي مؤتة دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية لزيد بن حارثة قال أنس بن مالك: "خطب

1 هي مدينة على ساحل البحر الأحمر على مرحلتين من قنفذه جنوبًا على جبل مرتفع فيها مسجدان وسوق ويسكنها بنو هلال.

2 الكامل لابن الأثير: 2/ 84.

3 المرجع السابق.

4 الإسلام والحرب ومصادره: ص65.

ص: 315

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب ثم أخذها خالد بن الوليد منه غيره أمره ففتح الله عليه وقال: يسرني -أو قال: ما يسرهم- أنهم عندنا "1.

وكانوا جميعًا في قمة البطولة والفداء، فقد أثبتوا شجاعة نادرة حيث قاوموا بثلاثة آلاف مقاتل مسلم ما يزيد على مائتي ألف من جنود الأعداء كما كانوا جميعًا مثل الثبات والصمود والسيطرة على الموقف العصيب.

وكان قد ارتفع صوت يقول: يا قوم ترون قلة عددنا وكثرة أعدائنا فلنكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بالأمر فعسى أن يمدنا بالرجال، أو يأمر بأمر ننفذه فأجابه عبد الله بن رواحة:

"يا قوم.. والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة.. فمضى الناس"2 ويقاتل المؤمنون قتال الأشاوس الأبطال.. ويستشهد القادة الثلاثة وتتحقق نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولى القيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه..

ويسير الخلفاء الراشدون على الخطة نفسها التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختيار القادة.. وها هو ذا أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- يوجه أسامة وجيشه إلى بلاد الشام، ويخرج الخليفة لوداعه بعد توليه الخلافة مباشرة ويسير مع الجند على قدميه وأسامة راكب، ويغلب الحياء أسامة إذ يرى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه والقائد الأعلى للمسلمين وصاحب الأمر والنهي يسير معهم إلى جنبه سيرًا على قدميه، فأراد أن ينزل وهو يقول:"يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن"..

فقال له أبو بكر على مسمع من أفراد الجيش "والله لا تنزل ووالله لا أركب.. وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة"..

1 فتح الباري: 6/ 180.

2 سيرة ابن هشام: 2/ 375.

ص: 316

وأي مثل رفيع في غاية السمو والكمال يقدمه أبو بكر رضي الله عنه للجند؟ وقد كان أسامة بن زيد أصغر أفراد الجيش سنًّا ولكنه أمضاهم عزمًا وأجرأهم قولًا، وأحفظهم قرآنًا، وقد اختاره رسول الله من قبل أميرًا على هذا الجيش فأمضاه أبو بكر.. وأراد أبو بكر بذلك التصرف أن يعلم الجند الإذعان إلى أمر أسامة بن زيد والمسارعة في تنفيذ أمره وخطته.

وقال عمر بن الخطاب لأبي بكر الصديق: "إن في سيف خالد رهقًا وحق عليه أن يقيده" ولكن أبا بكر يعرف أن خالدًا يتميز بخصال تجعله موضع ثقة ورضا، وأنه سيف من سيوف الله مسلول على الأعداء وأنه هو الذي يستطيع أن يواجه الفرس والروم، ويحقق بإذن الله الانتصارات الرائعة حتى قال فيه:"عقمت النساء أن يلدن مثل خالد والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"1.

وسلك عمر بن الخطاب نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته الأول في اختيار القيادة الواعية فسلم إمرة جيش الشام إلى أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وأوصاه قائلًا:"لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلًا قبل أن تسترده لهم وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث إلا في كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في هلكة".

3-

وحدة الصف:

لقد وضع الإسلام نظامًا دقيقًا حاسمًا للقتال ألا وهو "وحدة صف المسلمين" في أثناء مواجهة الأعداء. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} 2..

وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"..

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتب بيده الشريفة الجنود صفوفًا، وبهذا النظام الذي أوجده الإسلام واجه المسلمون أعداءهم من العرب ومن الفرس والروم.

1 فن إدارة المعركة: ص96.

2 سورة الصف: 4.

ص: 317

وكان صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف فإذا وجد رجلًا نابيًا نبهه، وفي بدر كان "سواد بن غزيه" خارجًا عن الصف فضربه في بطنه وأمره أن يلزم الصف..

وقال -رضي الله تعالى عنه- لجنده: "سووا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدموا الدارع وأخروا الحاسر"..

وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه يقسم جيوشه إلى مجموعات وقد حارب الروم بهذا النظام فجعل جيشه مؤلفًا من ميمنة وميسرة وقلب وأقام على القلب أبا عبيدة بن الجراح وعلى الميمنة عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان وأقام على كل مجموعة بطلًا من أبطال المسلمين أمثال القعقاع وعكرمة وعياش بن غنم وعبد الرحمن بن خالد، وكان أبو سفيان يسير بين المجموعات وهو يقول:"الله.. الله، إنكم قادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم زادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك"..

وهكذا أعد خالد بن الوليد المسلمين إعدادًا نظاميًّا لم يسبق إليه واقتبس سعد بن أبي وقاص هذا النظام في القادسية سنة 14هـ1..

والإسلام دين قائم على التعاون وخدمة المسلمين بعضهم بعضًا.. قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 2.

وإذا كان التعاون واجبًا على كل المسلمين تجاه بعضهم بعضًا خارج المعارك والحروب فهو أوكد وألزم في القتال الذي يستوجب وحدة الكلمة ووحدة الخطة ووحدة النظام ووحدة الصف. ولذلك كان المسلمون في حروبهم مثالًا للانضباط والتعاون، وبهذا النظام والإخلاص حققوا انتصارات يعجب لها التاريخ ويزهو بها فخرًا.

1 مقدمة ابن خلدون: ج2 ص305.

2 سورة الفتح: 29.

ص: 318

4-

التخطيط للحرب:

إن التخطيط للمعركة يعتبر ركنًا أساسيًّا ومهمًّا لنجاح العمليات الحربية، والتخطيط يتضمن معرفة قوات الطرفين عدة وعددًا ونوعية السلاح الذي سيستخدم ومدى التمرين عليها وطبيعة أرض المعركة والأجواء المحيطة بها والرأي العام العالمي وتحديد موقف الدول الأخرى من الطرفين. ومدى اقتناعهم بالهدف الذي يسعون لتحقيقه.

والتاريخ الإسلامي حافل بالخطط الحربية التي وضعت بدقة وإحكام منذ أن كان هناك قتال بين المسلمين وغيرهم..

والخطة الناجحة هي التي لا ينفرد القائد بوضعها، لأن رأي الفرد قد يخطئ وأمله قد يخيب. ورأي الجماعة أقرب للصواب. ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصًا على وضع الخطة أساسًا على مبدأ الشورى، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون من بعده.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحرى أخبار الأعداء قبل الإقدام على المعركة، ففي غزوة بدر أرسل "بسيس بن عمرو" و"عدي بن أبي الزغباء" يستطلعان أخبار قريش، وقد تمكنت جماعة من المسلمين في أثناء التماسها أخبار قريش من العثور على رجلين من رجال العدو فأحضروهما للرسول صلى الله عليه وسلم ليتعرف عن طريقهما على أخبار قريش فسألهما عن عددهم، فلم يجيبا فسألهما عن عدد ما يذبحون من شياه في اليوم، فقالوا بين التسع والعشر، فقال القوم بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام والحارث بن عامر وغيرهم1.

فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهو يقول: "هذه مكة ألقت إليكم أفلاذ كبدها"..

وفي غزوة الأحزاب الخطرة قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع؟ " ثم بعث حذيفة بن اليمان ليتعرف ما حصل بالقوم، وقال

1 الكامل لابن الأثير: 2/ 83.

ص: 319

له: "يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ولا تحدثن شيئًا حتى تأتينا"1.

وقد عقد البخاري بابًا سماه "باب فضل الطليعة" وذكر فيه حديث جابر أنه قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من يأتيني بخبر القوم يوم الأحزاب" قال الزبير أنا.. ثم قال: "من يأتيني بخبر القوم؟ " قال الزبير: أنا، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حواريًّا وحواري الزبير" 2.

وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم بسعد بن معاذ بن النعمان سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة إلى يهود بني قريظة حينما نكثت عهدها واستعدت لمظاهرة الأحزاب، وقال لهم:"انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقًّا فالحنوا لي لحنًا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس"3. وحين تحقق الرسول صلى الله عليه وسلم من غدرهم، لم يخبر المسلمين حتى أتموا استعداداتهم حفاظًا على روحهم المعنوية".

وقد نبه القرآن الكريم المؤمنين لأخذ الحيطة والحذر من الكافرين لئلا يعلموا شيئًا عن أسرار الحرب والخطط والتنظيمات الإسلامية، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} 4..

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتخذ الحراسة المشددة على كتائب المسلمين كيلا يتسرب شيء من أخبار القتال إلى الأعداء ففي غزوة أحد استعمل خمسين رجلًا بقيادة محمد بن مسلمة يطوفون بالعسكر ليلًا5..

وقد نهى الله تبارك وتعالى المسلمين عن اتخاذ الأعداء أولياء من دون المؤمنين وإطلاعهم على أسرار الحروب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا

1 سيرة ابن هشام: 3/ 243.

2 فتح الباري: 6/ 52.

3 سيرة ابن هشام: 3/ 232.

4 النساء: 71.

5 الطبقات لابن سعد: 2/ 93.

ص: 320

تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} 1.

وحين يقبض على الجاسوس يجب قتله بعد أن يستخلص منه المزيد من أخبار العدو. روى مسلم وأبو داود أن رجلًا على جمل قوي قد أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء غزوه لهوازن، يتجسس ثم انفلت كالريح فقال الرسول، صلى الله عليه وسلم:"اطلبوه فاقتلوه"، قال سلمة بن الأكوع: اشتد فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، وخرجت فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر"2.

وليس ثمة طريقة أنجح من الصمت والكتمان أمام وسائل مخابرات الأعداء وأن البوح بالأسرار العسكرية يعتبر خيانة في حق الجندي يؤاخذ عليها، وللعلماء في قتله قولان لما روي أن عليًّا رضي الله عنه قال:"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد بن الأسود، وقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها" فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب ما هذا" قال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرأً ملصقًا في قريش، ولم أكن من أَنْفَسِها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "قد صدقكم " فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق"3.

ومما يدخل في مجال التخطيط، إثارة الحرب النفسية وتوهين العزائم بنشر

1 سورة الممتحنة: 1.

2 معنى فندر: سقط، وما بعدها انظر مسند أحمد: 2/ 45، سنن أبي داود: 2/ 44. مسلم: 3/ 1374.

3 الظعينة: المرأة فتح الباري: 6/ 143.

ص: 321

الشائعات، وبث أسباب الفرقة في صفوف الأعداء، وإظهار قوة المسلمين التي ترهب العدو وتشل حركته وتضعف قواه..

وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة أسلوب توهين القوى، فأمر قادته بإشعال النار ليلًا حينما أشرف المسلمون على مكة، وبعث العباس إلى قريش ليبث في نفوسهم الذعر من جيش المؤمنين ومن قوته الروحية والمادية ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل مكة دون قتال وأن تستسلم قريش استسلامًا حقنًا للدماء وحرصًا على النفوس والأعراض واحترامًا لحرمة مكة، مع أن الله تبارك وتعالى قد أحلها له ساعة من نهار ولم تحل لأحد قبله ولا لأحد بعده..

واستعمل الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب إظهار القوة والغلبة في معظم المعارك التي خاضها ضد الشرك.. حدَّث سعيد عن قتادة قال: "ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة1 ثلاث ليال"2.

قال ابن الجوزي: إنما كان يقيم ليظهر تأثير الغلبة وتنفيذ الأحكام وقلة الاحتفال، فكأنه يقول: من كانت فيه قوة منكم فليرجع إلينا3.

واستعمل الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب "العطاء المادي" لتفتيت عضد الكافرين، وبعثرة جمعهم، وتأليب بعضهم ضد بعض وإقصاء جماعة منهم عن ميدان المعركة وعن مواجهة المسلمين، ففي غزوة الأحزاب التي تمالأت بها قوى الكفر والضلال مجتمعة ضد الحق وأهله، عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على غطفان من المعونات الغذائية والعطاء المادي أضعاف ما عرضه عليهم يهود خيبر وثمارهم مقابل أن ينسحبوا من الحصار.

وكان المسلمون في تخطيطهم الحربي يحسنون اختيار الوقت المناسب لمفاجأة العدو، فقد كان التوقيت لغزو بني قريظة بعد انسحاب الأحزاب يوم الخندق مباشرة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث المؤمنين على سرعة الحركة والخروج

1 العَرْصَة بفتح العين والصاد وسكون الراء: البقعة الواسعة من الأرض من غير بنيان.

2 فتح الباري: 6/ 181، سنن أبي داود: 2/ 58.

3 المصدر السابق.

ص: 322

للقتال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"1.

وقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية مع قريش في العام -السادس من الهجرة- ليفرغ في العام الذي يليه لتصفية الجبهة الشمالية من اليهود في خيبر وفدك وغيرها من المواقع2. وبعد اقتلاع جذورهم وإخماد خطرهم تهيأ لفتح مكة في السنة الثامنة الهجرية3.

وقد عمل المسلمون بحفر الخندق أسلوبًا جديدًا وخطة جديدة لم يسبق لها مثال في تاريخ العرب الحربي وتساءل المشركون: كيف يجتازون الخندق وكيف يصلون إلى المسلمين وكيف يحققون هدفهم؟ وضاعت الإجابة عن هذه الأسئلة مع الرياح التي ثارت والعواصف الرملية التي اجتاحت المنطقة، فأطفأت النار وأكفأت القدور وطرحت الأبنية وقلعت الخيام..

حتى قال حذيفة بن اليمان: "لا يقر لهم قدر ولا نار ولا بناء"4، وقال أبو سفيان: "يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة

ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل"5.

ولم يهمل المسلمون العامل الاقتصادي في التخطيط الحربي، ذلك لأن الاقتصاد عصب الحياة، فإذا شلت حركته، وضربت موارده الأساسية خارت قوى العدو وجبن وضعف، وارتد أدراجه خائبًا.

وقد استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم العامل الاقتصادي لمحاربة قريش مكة فقطع عليهم طريق التجارة الساحلي، وقطع عنهم طريق نجد الداخلي، وذلك بعقد معاهدات مع أحلاف قريش الذين يقيمون على الطرق التجارية.

وهكذا فقد كان للمسلمين تخطيطهم الحكيم، وأسلوبهم البارع الذكي في

1 فتح الباري: 7/ 408.

2 سيرة ابن هشام: 3/ 321، 342، 368.

3 سيرة ابن هشام: 4/ 31.

4 المصدر السابق: 3/ 243.

5 نفس المصدر السابق.

"فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل

لا تقر.. إلخ".

ص: 323

استغلال الظروف لمعالجة الأمور المعضلة، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مثلًا أعلى للجدية والصمود والتخطيط الدقيق في مواجهته الأحداث، ومثلًا أعلى لمعالجة الأمور بالحكمة والذكاء.

اقتناء الأسلحة والتدريب عليها:

لعل من أهم العوامل الحربية التي تؤثر في أساسيات المعركة وفي توجيه دفة القتال اقتناء الأسلحة، ذلك لأن السلاح أكبر قوة مادية في يد الجندي والقائد على السواء وبقدر ما تقتني الدولة من أسلحة بقدر ما تكون مهابة مرهوبة الجانب من العدو والصديق..

والإسلام حريص كل الحرص على اقتناء أجود الأسلحة وأمضاها وأحدثها وأكثرها ملاءمة للعصر ولأسلوب الدفاع والهجوم، قال الله تبارك وتعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} 1..

وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي" 2

يقول القرطبي قد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم-القوة بالرمي وإن كانت تظهر بإعداد غيره من الأسلحة وآلات الحرب لكون الرمي أشد نكاية في العدو وأسهل مئونة3

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في الخيل، وقد كانت من أهم وسائل الحرب:"الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" وفي رواية: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"4.

وقال: "من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة"5.

1 الأنفال: 60.

2 رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر.

3 فتح الباري: 6/ 91.

4 البخاري: 6/ 54.

5 البخاري: 6/ 57.

ص: 324

والترس. روى ثابت عن أنس رضي الله عنه قوله: "استقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم على فرس عري1 ما عليه سرج، في عنقه سيف"2.

وعلى هذا فالإسلام يأمر أمرًا جازمًا بإعداد كل وسائل القوة وأنواع السلاح ولئن خص الخيل بالذكر فلأنه أجودها وأفضلها ولكن الوضع لا يثبت على حال واحد، وعجلة الزمان لا تقف وقد جدًّت أسلحة وتنوعت وسائل القتال مع اختلاف الأزمان والبيئات ولكل نوع منها مكانه ووقته المناسب، والسلاح الأفضل هو الأشد نكاية في العدو والأعظم للمسلمين نفعًا، وهذا الأمر يختلف باختلاف أحوال العدو وباختلاف حال المجاهدين، وذلك ما يعلمه أصحاب الخبرة3.

1 عُرْي بضم العين وسكون الراء أي ليس عليه سرج ولا يقال في الآدميين إنما يقال: عريان، قاله ابن فارس وهي من الاستعمالات النادرة "انظر فتح الباري: 6/ 70".

2 المصدر السابق.

3 الفتاوِي لابن تيمية: 28/ 12.

ص: 325