الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: النصرانية
مدخل
…
أولًا: النصرانية:
كان للإسلام -منذ ظهوره- موقف مشرف مع النصرانية لم يشاركه فيه أحد من العقائد الأخرى.
ويقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} 2.
{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} 3.
ويحدثنا التاريخ أن الرجل الصالح "النجاشي" قد سمح للمسلمين المهاجرين من مكة إلى بلاده أن يقيموا في الحبشة آمنين على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.. وحينما سمع هذا الإنسان الكريم كلام جعفر بن أبي طالب وهو يحدثه عن اعتقاد المسلمين بالمسيح عيسى ابن مريم بكى حتى اخضلت لحيته، وبكى أساقفته يومذاك. وقال كلمته المشهورة الذائعة بين المسلمين: "إن هذا
1 البقرة: 285.
2 النساء: 171.
3 البقرة: 87.
4 آل عمران: 42، 43.
5 آل عمران: 45، 46.
والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة"1.
وقد كان الإسلام متعاطفًا مع دولة الروم أيما تعاطف. قال الله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 2.
الأمر الذي عجب له مؤرخو النصرانية والدولة البيزنطية، لأن كل الشواهد كانت تخالف هذا التنبوء. ومع ذلك فقد قضى الله أمرًا: كان مفعولًا. وفرح المؤمنون بنصر الدولة البيزنطية.
وعلى هذا فالمسلمون دائمًا أكثر تسامحًا وإنصافًا مع المسيحيين، وقد عاشت الأقليات المسيحية في المجتمعات الإسلامية آمنة على أنفسها آمنة على أعراضها، آمنة على أموالها، لها من الحقوق مثلما للمسلمين، ولو وازنا وضع هذه الأقليات المسيحية بأقليات مسلمة تعيش في مجتمعات مسيحية لما كان هنالك وجه للمقارنة بينهما.
وفي القرنين الأخيرين ومع بداية القرن الثامن عشر حينما دب الضعف في الكنيسة وانحسرت سلطتها في المجتمعات الأوروبية والأمريكية، وانهزمت في روسيا والصين لم تهدأ وتضع سلاحها وتستكن للأمر الواقع وإنما رأت أن هذه فرصة مناسبة لها لتؤكد للمجتمعات الأوروبية والأمريكية أنها الجدار القوي، والستار الواقي الذي يقف حاجزًا دون المسلمين، فهي تضع يدها مع كل فكرة استعمارية، ومع كل تآمر شيوعي أو صهيوني لإشهار السلاح بوجه المسلمين، وقد تواطأت الكنيسة مع الصهيونية ضد الإسلام في كل البلدان الأمريكية والأوروبية، والإفريقية والآسيوية مع أن اليهود هم الذين شوهوا معالم المسيحية، وأساءوا إلى شخص المسيح عليه السلام.
نقد المعتقد النصراني:
نعتقد -نحن المسلمين- أن النصرانية المنتشرة الآن ليست هي النصرانية
1 انظر سيرة ابن هشام: 1/ 365.
2 سورة الروم: 1-5.
التي تنزلت على المسيح عليه السلام، وإنما هي نصرانية جديدة اتفق عليها بضغط من الملك قسطنطين سنة 325م أي بعد ثلاثة قرون من رفع المسيح إلى السماء.
ولكن ما السبب الذي دعا الملك قسطنطين لأن يضع نصرانية جديدة؟ الحقائق التاريخية تثبت أن إنجيل المسيح نفسه أي كلامه لفظًا ومعنى لم يصل إلى الناس، وإنما الذي وصل إليهم مجموعة من المذكرات الشخصية لبعض تلاميذه الذين لا يرتفع بعضهم عن الشبهات. وكان لليهود أثر في تغيير معالم النصرانية الصحيحة بما أثاروا من أباطيل حول السيدة مريم العذراء، ولذا فقد اختلفت التصورات لديهم حول ذات الله تبارك وتعالى، وحول المسيح عليه السلام، ولا ننسى أبدًا أثر الوثنية اليونانية، والرومانية القديمة في إدخال تحريفات على العقيدة الصحيحة، وكان من نتائج اختلاف التصورات المسيحية، أن تقاتل الناس بعد أن افترقوا إلى شيع وأحزاب، فأراد قسطنطين أن يقضي على الفتن فعقد مجمعًا سمي "مجمع نيقية" وأرغم القسيسين على الوقوف عند تصور يرضي الجميع كحل وسط، فكان هذا الحل هو تقسيم المسيح عليه السلام بين الألوهية والبشرية، فهو بشر إله.. نستغفر الله من هذا المعتقد الباطل.
وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2، {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3.
وقد تعرض علماء المسلمين لنقد المعتقد النصراني السائد، فقد كتب ابن
1 المائدة: 72.
2 المائدة: 73.
3 المائدة: 75.
تيمية "661-728هـ" كتابه "الرد الصحيح على من بدل دين المسيح" وفيه ردود علمية على ما طرأ من تحريفات بشرية على الدين المسيحي وعلى إنجيله.
ومن قبل نقد الإمام ابن حزم 384-456هـ رحمه الله في كتابه: "الفصل في الملل والنحل" المسيحية السائدة، فكان مما قال:
"والنصارى لا يدعون أن الأناجيل منزلة من عند الله على المسيح، ولا أن المسيح أتاهم بها، بل كلهم لا يختلفون في أنها أربعة تواريخ ألفها رجال معروفون في أزمان مختلفة.. أولها تاريخ ألفه "متى اللاواني" بالعبرانية بعد تسع سنين من رفع المسيح، في نحو ثمانٍ وعشرين ورقة بخط متوسط، والآخر تاريخ ألفه "مارقس الهاروني" بعد اثنين وعشرين عامًا من رفع المسيح عليه السلام، وكتبه باليونانية في أنطاكية، والثالث تاريخ ألفه "لوقا الطبيب" تلميذ شمعون باطره، كتبه باليونانية بعد تأليف مرقص المذكور في حجم إنجيل متى، والرابع تاريخ ألفه باليونانية "يوحنا بن سيذاري" بعد رفع المسيح ببضع وستين سنة في أربع وعشرين ورقة، ثم ليس للنصارى كتاب يعظمونه سوى "الأفركسيس" الذي ألفه لوقا، وكتاب "الوحي والإعلان" ليوحنا، و"الرسائل القانونية". و"رسالتين لباطره شمعون. ورسالة ليعقوب بن يوسف النجار، وأخرى لأخيه يهوذا، ورسائل بولس تلميذ شمعون"1.
وكل كتاب لهم بعد ذلك فهو من تأليف المتأخرين من أساقفتهم وبطاركتهم2 وبديهي أن ما ألفه إنسان ونسبه إلى الله لا يمكن أن يكون من الثقة بالمكان الذي يحظى به ما يصدر عن الله مباشرة لفظًا ومعنى. ومن الملاحظ لمن يطلع على هذه الأناجيل، التفاوت الكبير بينها أسلوبًا ومعنى، حتى في التصور والمعتقد ذاته.
يقول ابن حزم أيضًا:
"وجملة أمرهم في المسيح عليه السلام أنه مرة بنص أناجيلهم ابن الله، ومرة هو ابن يوسف، وابن داود، وابن الإنسان، ومرة هو إله يخلق ويرزق،
1 الفصل في الملل والنحل، وانظر كتاب النصرانية للشيخ أبي زهرة: ص38.
2 المصدر السابق: 2/ 2، 3 وانظر: 1/ 49، 50، 55.