الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعقل الراحة والطمأنينة وتصله اتصالا مباشرا بالله تبارك وتعالى خالق الإنسان والكون وواهب الحياة.. فلا يبقى الإنسان حائرا وحيدا، ضعيفا بدرب الحياة بل يجد الملجأ والملاذ.. يجد المعين والقوي والمعطي والمعز، والموجد والعظيم يجد الله دائما معه يعينه إلى الوصول إلى الحق الساطع الذي لا ريب فيه، ويلهمه السداد خائفا حذرا غير آمن من مكره.
ومن ثمرات "الشمول" أنه يشعر العبد برقابة الله تبارك وتعالى له في كل تصرفاته فيولد في نفسه عنصر الأخلاق الذاتي.. فهو يخلص لله في عمله، ويخلص لله في عبادته ولا يتجاوز دائرة الحل ولا يتعداها إلى المحرمات وإلا فإنه يستحق العقاب الذي يخشاه ويفر منه.
ومن الثمرات أيضا أنه يعصم الإنسان من الالتجاء إلى غير الله تبارك وتعالى..كما يعصمه من أن يستمد التشريعات والأنظمة من غير كتابه الذي هو كتاب هداية وشريعة ومنهاج كامل للحياة.
1 سورة البقرة: 186.
2 آل عمران: 3، 4.
خاصية التوازن:
تتسم الثقافة الإسلامية بسمة "التوازن" ذلك لأنها تقوم على أسس عقدية متوازنة، وعلى مناهج متوازنة لا إفراط فيها ولا تفريط، ولا مغالاة ولا تقصير.
ففي مجال العقيدة يقوم التصور الإسلامي على أساسين متوازيين أولهما الإيمان بالغيب. والثاني الإيمان بعالم الشهادة. أما الإيمان بالغيب فيتمثل بالإيمان بوجود الله وبألوهيته وربوبيته، والإيمان باليوم الآخر وما يتضمن من أهوال وحساب، وموقف وصراط، وجنة ونار.
وأما الإيمان بعالم الشهادة فيتمثل بالإيمان بحقيقة الإنسان والكون وسائر المخلوقات الحية. وهذا الإيمان بشقيه يتلاءم مع فطرة الإنسان، التي تريد أن تركن إلى قوة عظيمة مغيبة غير مرئية تستمد منها العون وتجد في صلتها بها الأمن والطمأنينة، قوة أعظم من أن يحيط بها الإدراك الحسي، ولكن آثارها من قدرة وإبداع وخلق تدل على وجودها وهيمنتها وصفاتها العظمى.
ويقول الأستاذ سيد قطب: "إن العقيدة التي لا غيب فيها ولا مجهول ولا حقيقة أكبر من الإدراك البشري المحدود، ليست عقيدة، ولا تجد فيها النفس ما يلبي فطرتها وأشواقها الخفية إلى المجهول المستتر وراء الحجب المسدلة كما أن العقيدة التي لا شيء فيها إلا المعميات التي لا تدركها العقول ليست عقيدة، فالكينونة البشرية تحتوي على عنصر الوعي، والفكر الإنساني لا بد أن يتلقى شيئا مفهوما له، له فيه عمل، يملك أن يتدبره ويطبقه، والعقيدة الشاملة هي التي تلبي هذا الجانب وذاك وتتوازن بها الفطرة، وهي: تجد في العقيدة كِفاء ما هو مودع فيها من طاقات وأشواق1.
والثقافة الإسلامية بهذه الصفة توازن بين عبودية الإنسان لله الواحد تبارك وتعالى، وبين مقام الإنسان الكريم في الكون.
فهناك فصل تام بين حقيقة الألوهية والربوبية وما تقتضيه من صفات وأسماء وبين حقيقة العبودية. قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2، وقال:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3.
والإنسان حينما يحقق مرتبة العبودية لله وحده يكون قد وصل إلى مقام كريم نبيل، لأن الله تبارك خاطب نبيه بالعبودية ووصفه بأنه عبد الله في مقامين من أجل المقامات: أولهما حينما أسري به إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى السماء قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
1 خصائص التصور الإسلامي ص 134.
2 الشورى: 11.
3 الحديد: 3.
الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.
والمقام الثاني: مقام الوحي إليه والتلقي من الله رب العالمين، وهذا من أوقع المقامات وأعزها إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وأعظمها قدرا عند المؤمنين قال الله تعال:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} 2.
والعبودية هي أرقى حالة يصل إليها الإنسان قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونَ} 3، ولهذه الميزة ثمرة مهمة، ذلك لأن الإنسان الذي يحقق العبودية لله وحده يترفع ويتحصن من أن يخضع لعبد مثله أو لمخلوق له خاصية العبودية، ولهذا فإن المؤمن لا تنحني جبهته إلا لله رب العباد، كما لا يستعلي على غيره ولا يستكبر ولا يبغي الفساد في الأرض، وبهذا تتجلى المساواة في مقام العبودية بأعظم وأدق وأروع معنى، إذ الناس كلهم متساوون في هذه الخاصة، وهم كلهم إخوة على صعيد واحد أمام الخالق العظيم.. وهم جميعا يتلقون العقيدة من الله، ويتلقون منهج حياتهم فوق الأرض من الله سبحانه.. وليس لفرد أن يشرع أو أن يجعل نفسه مصدرا لسلطة تعلو هامات العباد.
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ
1 الإسراء: 1.
2 النجم: 10، 11.
3 الذاريات: 56.
4 المائدة: 73-75.
مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1.
وهنا تظهر عظمة الثقافة الإسلامية وسموها على غيرها من الثقافات، فقد كانت الأساطير اليونانية والعبرية تدمج في بعض الأحيان بين الحقيقة الإلهية وحقيقة العبودية، وقد دخل هذا التصور القبيح في أذهان الأوروبيين فظل يسيطر عليهم بعد أن دخلوا في الديانة المسيحية حتى إنهم حرفوا الديانة المسيحية على ضلالات الأساطير.
"فالأسطورة الإغريقية كانت تتصور كبير الآلهة "زيوس" غاضبا على الإله "برومثيوس" لأنه سرق سر النار المقدسة "سر المعرفة" وأعطاه للإنسان من وراء ظهر كبير الآلهة لئلا يرتفع مقامه فيهبط كبير الآله ويهبط معه مقام "الآلهة"! ومن ثم أسلمه إلى أفظع انتقام وحشي رهيب.
والأسطورة العبرانية التي تصور الإله خائفا من أن يأكل الإنسان من شجرة الحياة -بعد ما أكل من شجرة المعرفة- فيصبح كواحد من الآلهة! ومن ثم يطرد الإنسان من الجنة ويقيم دونه ودون شجر الحياة حراسا شدادا ولهيب سيف متقلب"2.
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِبًا} 3.
إن "التوازن" ميزة تنفرد بها الثقافة الإسلامية بين سائر الثقافات الأخرى، وهي وحدها التي تضع الإنسان في المكان المناسب له، مكان فيه راحة نفسية واستقرار وجداني وسعادة قلبية وهو أصلح مكان لهذا المخلوق.
فإن الثقافة الإسلامية بهذه الخاصية تحصن المسلم من أن يتلقى من تعاليم
1 المائدة: 116-118.
2 خصائص التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب ص157.
3 الكهف: 5.