الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجئنا بالحجاج وحده لزدنا عليهم والله أعلم.
وقد مضى القول في ذكر الفصحاء من الرجال وحكاياتهم وما أعان الله تعالى عليه واستحضرته من أخبارهم، وأنا قائل إن شاء الله تعالى ما استحضرته من ذكر فصحاء النساء وأخبارهن وحكاياتهن والله المستعان.
[الفصل الرابع فى] ذكر فصحاء النساء وحكاياتهن
حكي عن أبي عبد الله النميري أنه قال: كنت يوما مع المأمون وكان بالكوفة، فركب للصيد ومعه سرية من العسكر، فبينما هو سائر إذ لاحت له طريدة، فأطلق عنان جواده وكان على سابق من الخيل، فأشرف على نهر ماء من الفرات، فإذا هو بجارية عربية خماسية القد، قاعدة النهد، كأنها القمر ليلة تمامه، وبيدها قربة قد ملأتها وحملتها على كتفها، وصعدت من حافة النهر، فانحل وكاؤها «1» فصاحت برفيع صوتها: يا أبت أدرك فاها قد غلبني فوها لا طاقة لي بفيها.
قال: فعجب المأمون من فصاحتها ورمت الجارية القربة من يدها، فقال لها المأمون: يا جارية من أي العرب أنت؟ قالت: أنا من بني كلاب، قال: وما الذي حملك أن تكوني من الكلاب؟ فقالت: والله لست من الكلاب وإنما أنا من قوم كرام غير لئام يقرون الضيف «2» ، ويضربون بالسيف، ثم قالت: يا فتى من أي الناس أنت؟ فقال:
أو عندك علم بالأنساب؟ قالت: نعم. قال لها: أنا من مضر الحمراء «3» ، قالت: من أي مضر؟ قال: من أكرمها نسبا، وأعظمها حسبا، وخيرها أما وأبا، وممن تهابه مضر كلها قالت: أظنك من كنانة، قال: أنا من كنانة، قالت:
فمن أي كنانة؟ قال: من أكرمها مولدا وأشرفها محتدا وأطولها في المكرمات يدا، ممن تهابه كنانة وتخافه، فقالت: إذن أنت من قريش، قال: أنا من قريش، قالت:
من أي قريش؟ قال: من أجملها ذكرا وأعظمها فخرا، ممن تهابه قريش كلها وتخشاه، قالت: أنت والله من بني هاشم، قال: أنا من بني هاشم، قالت: من أي هاشم؟
قال: من أعلاها منزلة، وأشرفها قبيلة، ممن تهابه هاشم وتخافه، فعند ذلك قبلت الأرض، وقالت السلام عليك يا أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين. قال: فعجب المأمون وطرب طربا عظيما وقال: والله لأتزوجن بهذه الجارية لأنها من أكبر الغنائم، ووقف حتى تلاحقته العساكر، فنزل هناك، وأنفذ خلف أبيها وخطبها منه، فزوجه بها وأخذها وعاد مسرورا، وهي والدة ولده العباس والله أعلم.
وحكي أن هند ابنة النعمان «4» كانت أحسن أهل زمانها، فوصف للحجاج حسنها، فأنفذ إليها يخطبها، وبذل لها مالا جزيلا، وتزوج بها، وشرط لها عليه بعد الصداق مائتي ألف درهم ودخل بها، ثم إنها انحدرت معه إلى بلد أبيها المعرة وكانت هند فصيحة أديبة، فأقام بها الحجاج بالمعرة مدة طويلة، ثم إن الحجاج رحل بها إلى العراق فأقامت معه ما شاء الله، ثم دخل عليها في بعض الأيام وهي تنظر في المرآة وتقول:
وما هند إلّا مهرة عربية
…
سليلة أفراس تحلّلها بغل
فإن ولدت فحلا فلله درّها
…
وإن ولدت بغلا فجاء به البغل
فانصرف الحجاج راجعا ولم يدخل عليها، ولم تكن علمت به، فأراد الحجاج طلاقها، فأنفذ إليها عبد الله بن طاهر، وأنفذ لها معه مائتي ألف درهم، وهي التي كانت لها عليه، وقال: يا ابن طاهر طلقها بكلمتين، ولا تزد عليهما، فدخل عبد الله بن طاهر عليها، فقال لها: يقول لك أبو محمد الحجاج كنت فبنت، وهذه المائتا ألف درهم التي كانت لك قبله، فقالت: إعلم يا ابن طاهر أنا والله كنا فما حمدنا، وبنا فما ندمنا، وهذه المائتا ألف درهم التي جئت بها بشارة لك بخلاصي من كلب بني ثقيف.
ثم بعد ذلك بلغ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان خبرها ووصف له جمالها، فأرسل إليها يخطبها، فأرسلت إليه كتابا تقول فيه بعد الثناء عليه: إعلم يا أمير المؤمنين، أن الإناء ولغ فيه الكلب فلما قرأ عبد الملك الكتاب ضحك من قولها، وكتب إليها يقول: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب، فاغسلي الإناء يحل الاستعمال، فلما قرأت كتاب أمير المؤمنين لم
يمكنها المخالفة، فكتبت إليه بعد الثناء عليه، يا أمير المؤمنين، والله لا أحل العقد إلا بشرط، فإن قلت ما هو الشرط؟ قلت: أن يقود الحجاج محملي من المعرة إلى بلدك التي أنت فيها، ويكون ماشيا حافيا بحليته التي كان فيها أولا، فلما قرأ عبد الملك ذلك الكتاب ضحك ضحكا شديدا، وأنفذ إلى الحجاج وأمره بذلك، فلما قرأ الحجاج رسالة أمير المؤمنين أجاب وامتثل الأمر ولم يخالف، وأنفذ إلى هند يأمرها بالتجهز، فتجهزت، وسار الحجاج في موكبه حتى وصل المعرة بلد هند، فركبت هند في محمل الزفاف، وركب حولها جواريها وخدمها، وأخذ الحجاج بزمام البعير يقوده ويسير بها فجعلت هند تتواغد عليه وتضحك مع الهيفاء دايتها، ثم إنها قالت للهيفاء: يا دابة إكشفي لي سجف المحمل «1» ، فكشفته، فوقع وجهها في وجه الحجاج، فضحكت عليه، فأنشأ يقول:
فإن تضحكي مني فيا طول ليلة
…
تركتك فيها كالقباء المفرّج
فأجابته هند تقول:
وما نبالي إذا أرواحنا سلمت
…
بما فقدناه من مال ومن نشب
فالمال مكتسب والعز مرتجع
…
إذا النفوس وقاها الله من عطب
ولم تزل كذلك تضحك وتلعب إلى أن قربت من بلد الخليفة، فرمت بدينار على الأرض، ونادت: يا جمّال إنه قد سقط منا درهم، فارفعه إلينا، فنظر الحجاج إلى الأرض، فلم يجد إلا دينارا، فقال: إنما هو دينار، فقالت: بل هو درهم قال: بل دينار، فقالت: الحمد لله سقط منا درهم، فعوضنا الله دينارا، فخجل الحجاج وسكت، ولم يرد جوابا، ثم دخل بها على عبد الملك بن مروان، فتزوج بها، وكان من أمرها ما كان، وقد وجدت في بعض النسخ ما هو أوسع من هذا ولكن اقتصرت على القليل منه إذ فيه الغرض والله أعلم.
وقيل: إن جارية عرضت على الرشيد ليشتريها، فتأملها وقال لمولاها: خذ جاريتك، فلولا كلف بوجهها وخنس بأنفها لاشتريتها، فلما سمعت الجارية مقالة أمير المؤمنين قالت مبادرة: يا أمير المؤمنين اسمع مني ما أقول، فقال:
قولي، فأنشدت تقول:
ما سلم الظبي على حسنه
…
كلا ولا البدر الذي يوصف
الظبي فيه خنس بيّن
…
والبدر فيه كلف يعرف
قال: فعجب من فصاحتها وأمر بشرائها. وقيل:
عرضت على المأمون جارية بارعة الجمال فائقة في الكمال، غير أنها كانت تعرج برجلها، فقال لمولاها: خذ بيدها وارجع، فلولا عرج بها لاشتريتها فقالت الجارية:
يا أمير المؤمنين إنه في وقت حاجتك لا يكون بحيث تراه، فأعجبه سرعة جوابها وأمر بشرائها.
ومن ذلك ما حكي أن كريم الملك كان من ظرفاء الكتاب، فعبر يوما تحت جوسق ببستان، فرأى جارية ذات وجه زاهر، وكمال باهر، لا يستطيع أحد وصفها، فلما نظر إليها ذهل عقله، وطار لبه، فعاد إلى منزله وأرسل إليها هدية نفيسة مع عجوز كانت تخدمه، وكانت الجارية عزباء. وكتب إليها رقعة يعرّض إليها بالزيارة في جوسقها، فلما قرأت الرقعة قبلت الهدية، ثم أرسلت إليه مع العجوز عنبرا، وجعلت فيه زر ذهب، وربطت ذلك على منديل، وقالت للعجوز: هذا جواب رقعته، فلما رأى كريم الملك ذلك لم يفهم معناه، وتحير في أمره، وكانت له ابنة صغيرة السن، فلما رأت أباها متحيرا في ذلك قالت له: يا أبت أنا علمت معناه قال: وما هو لله درك؟ قالت:
أهدت لك العنبر في جوفه
…
زر من التبر خفي اللّحام
فالزر والعنبر معناهما
…
زر هكذا مختفيا في الظلام
قال، فعجب من فطنتها وفصاحتها واستحسن ذلك منها.
وحكي إن طائفة من بني تميم كانوا يكسرون أول الفعل، فمرت فتاة منهم جميلة الصورة على جماعة، فناداها شخص منهم وأراد أن يوقعها فيما ينسب إليهم من كسر الفعل، فقال: لأي شيء يا بني تميم ما تكتنون؟
فقالت: ولم لا نكتني وكسرت الفعل، فضحك عليها، وقال أفعل إن شاء الله، فخجلت من قوله وتغير وجهها،
وأرادت أن توقعه كما أوقعها، فقالت له: هل تحسن شيئا من العروض؟ قال: نعم. قالت قطع لي:
حولوا عنا كنيستكم
…
يا بني حمالة الحطب
فقطعه، فوقف على عن ثم ابتدأ بالنون والألف مع بقية الحروف فضحكت عليه، وأضحكت أصحابه، فقال:
ويحك لم تبرحي حتى أخذت ثأرك.
وحكي إن شاعرا كان له عدو، فبينما هو سائر ذات يوم في بعض الطرق إذا هو بعدوه، فعلم الشاعر أن عدوه قاتله لامحالة، فقال له يا هذا: أنا أعلم أن المنية قد حضرت، ولكن سألتك الله إذا أنت قتلتني أمض إلى داري وقف بالباب وقل:«ألا أيها البنتان إن أباكما» . فقال: سمعا وطاعة، ثم إنه قتله، فلما فرغ من قتله أتى إلى داره، ووقف بالباب وقال: ألا أيها البنتان إن أباكما. وكان للشاعر ابنتان فلما سمعتا قول الرجل: ألا أيها البنتان إن أباكما. أجابتا بفم واحد: قتيل خذا بالثأر ممن أتاكما- ثم تعلقتا بالرجل، ورفعتاه إلى الحاكم فاستقرره فأقر بقتله فقتله «1» ، والله أعلم.
وقيل: بينما كثير عزة مار بالطريق يوما إذا هو بعجوز عمياء على قارعة الطريق تمشي، فقال لها تنحي عن الطريق، فقالت له: ويحك ومن تكون؟ قال: أنا كثير عزة «2» . قالت: قبحك الله، وهل مثلك يتنحى له عن الطريق، قال: ولم؟ قالت: ألست القائل:
وما روضة بالحسن طيبة الثرى
…
يمج الندى جثجاثها وعرارها «3»
بأطيب من أردان عزة موهنا
…
إذا أوقدت بالمجمر اللّدن نارها «4»
ويحك يا هذا! لو تبخر بالمجمر اللدن مثلي ومثل أمك لطاب ريحها، لم لا قلت مثل سيدك أمرىء القيس:
وكنت إذا ما جئت بالليل طارقا
…
وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
فقطعته ولم يرد جوابا. وقيل: أتى الحجاج بامرأة من الخوارج، فقال لأصحابه: ما تقولون فيها؟ قالوا: عاجلها بالقتل أيها الأمير. فقالت الخارجية «5» : لقد كان وزراء صاحبك خيرا من وزرائك يا حجاج. قال: ومن هو صاحبي؟ قالت: فرعون استشارهم في موسى عليه السلام فقالوا: أرجه وأخاه.
وأتي بأخرى من الخوارج، فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه، فقيل لها: الأمير بكلمك، وأنت لا تنظرين إليه، فقالت: إني لأستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه.
وحكى ابن الجوزي في كتابه المنتظم في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما ولي عمر رضي الله عنه الخلافة بلغه أن أصدقة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة درهم، وأن فاطمة رضي الله عنها كان صداقها على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أربعمائة درهم، فأدى اجتهاد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن لا يزيد أحد على صداق البضعة النبوية فاطمة رضي الله عنها، فصعد المنبر وحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: أيها الناس لا تزيدوا في مهور النساء على أربعمائة درهم، فمن زاد ألقيت زيادته في بيت مال المسلمين، فهاب الناس أن يكلموه، فقامت امرأة في يدها طول، فقالت له: كيف يحل لك هذا، والله تعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً
«6» فقال عمر رضي الله عنه: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وقيل: جاءت امرأة إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقالت: يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم النهار، ويقوم الليل، فقال لها: نعم الرجل زوجك، وكان في مجلسه رجل يسمى كعبا، فقال: يا أمير المؤمنين: إن هذه المرأة تشكو زوجها في أمر مباعدته إياها عن فراشه، فقال له: كما فهمت كلامها احكم بينهما، فقال كعب: عليّ بزوجها، فأحضر، فقال له: إن هذه المرأة تشكوك، قال:
أفي أمر طعام أم شراب؟ قال: بل في أمر مباعدتك إياها عن فراشك، فأنشدت المرأة تقول:
يا أيّها القاضي الحكيم أنشده
…
ألهى خليلي عن فراشي مسجده
نهاره وليله لا يرقده
…
فلست في أمر النساء أحمده