الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقلت: أمضي إلى دار فلان لأتغدى عنده، فجئت إلى باب بيته، فوجدت غلامه، فقلت له: أين سيدك؟ فقال، والله لا قلت لك عليه إلا أن أعطيتني كسرة، قال: فرجعت هاربا.
ومن البخل تقديم الشيء اليسير وتفخيمه.
حكي عن بعض البخلاء أنه حلف يوما على صديقه، وأحضر له خبزا وجبنا وقال له: لا تستقل الجبن، فإن الرطل منه بثلاثة دراهم، فقال له ضيفه: أنا أجعله بدرهم ونصف، قال: وكيف ذلك؟ قال: آكل لقمة بجبن ولقمة بلا جبن، فأين هؤلاء من الذي يقول:
قالت أما ترحل تبغي الغنى
…
قلت فمن للطارق المعتم
قالت فهل عندك شيء له
…
قلت نعم جهد الفتى المعدم
فكم وحق الله من ليلة
…
قد أطعم الضيف ولم أطعم
إنّ الغنى بالنفس يا هذه
…
ليس الغنى بالمال والدرهم
وقال بعض البخلاء:
سرى نحونا يبغي القرى طاوي الحشى
…
لقد علمت فيه الظنون الكواذب
فبات له منّا إلى الصّبح شاتم
…
يعدد تطفيل الضيوف وضارب
فشتان ما بين القائلين.
وأما آداب الضيف
فهو أن يبادر إلى موافقة المضيف في أمور منها: أكل الطعام، ولا يعتذر بشبع بل يأكل كيف أمكن. فقد حكي أنه ورد على بعض الأعراب ضيف، فدخل به إلى بيته وقدم له الطعام، فقال الضيف لست بجائع، وإنما أحتاج إلى مكان أبيت فيه، فقال الأعرابي: إذا كان هذا، فكن ضيف غيري، فإني لا أرى أن تمدحني في البلاد وتهجوني فيما بيني وبينك.
وحكي عن بعض التجار قال: استدعاني أبو حفص محمد بن القاسم الكرخي لأعرض عليه قماشا من تجارتي، فبينما أنا بين يديه، وإذا بأطباق الفاكهة قد حضرت فقمت من مجلسه، فقال: يا فلان. ما هذا الخلق العامي؟ اجلس، فجلست وتحققت كرمه وجعلت آكل الكمثراة في لقمة والتفاحة في لقمة، ثم قدم الطعام وكنت جائعا فأكلت جيدا ثم انصرفت، فلم أشعر في اليوم الثاني إلا وقد جاءني غلامه ببغلته، فاستدعاني إليه، فقال:
يا فلان إني قليل الأكل بطيء الهضم، ولقد طابت لي مؤاكلتك بالأمس، فأريد أن لا تنقطع بعدها عني، قال، فكنت متى انقطعت حضر غلامه في طلبي، فحصل له بقربي منه مال كثير وجاه عريض.
ومن آداب الضيف أيضا أن لا يسأل صاحب المنزل عن شيء من داره سوى القبلة، وموضع قضاء الحاجة، وأن لا يتطلع إلى ناحية الحريم وأن لا يخالفه إذا أجلسه في مكان وأكرمه به، وأن لا يمتنع من غسل يديه. وإذا رأى صاحب المنزل قد تحرك بحركة فلا يمنعه منها. فقد نقل في بعض المجاميع أن بعض الكرماء كان عربيدا على أضيافه سيىء الخلق بهم، فبلغ ذلك بعض الأذكياء، فقال: الذي يظهر لي من هذا الرجل أنه كريم الأخلاق، وما أظن سوء أخلاقه إلا لسوء أدب الأضياف، ولا بد أن أتطفل عليه لأرى حقيقة أمره، قال: فقصدته وسلمت عليه، فقال: هل لك أن تكون ضيفي. قلت: نعم، فسار بين يدي إلى أن جاء إلى باب داره، فأذن لي، فدخلت، فأجلسني في صدر مجلسه، فجلست حيث أجلسني، وأعطاني مسندا، فاستندت إليه، فأخرج لي شطرنجا، وقال: أتتقن شيئا؟ قلت: نعم. فلعبت معه، فلما حضر الطعام جعل يقدم لي ما استطابه، وأنا آكل، فلما فرغنا قدم طستا وإبريقا وأراد أن يسكب الماء على يدي، فلم أمنعه من ذلك، وأراد الخروج من بين يدي بعد أن قدم نعلي، فلم أرده عن ذلك، فلما أراد الرجوع. قلت: يا سيدي أنشدك الله إلا فرجت عني كربة؟ قال: وما هي؟
فأخبرته الخبر، فقال: والله ما يحوجني لذلك إلا سوء أدبهم، يصل الضيف إلى داري، فأجلسه في الصدر، فيأبى ذلك، ثم أقدم إليه الطعام، فلا أتحفه بشيء مستظرف إلا رده عليّ، ثم أريد أن أصب الماء على يديه عند الغسل، فيحلف بالطلاق الثلاث ما تفعل، ثم أريد أن أشيعه، فلا يمكنني من ذلك، فأقول في نفسي لا يحكم الإنسان على نفسه حتى في بيته، فعند ذلك أشتمه وألعنه وأضربه.
وفي معنى ذلك يقول بعضهم:
لا ينبغي للضيف أن يعترض
…
إن كان ذا حزم وطبع لطيف
فالأمر للإنسان في بيته
…
إن شاء أن ينصف أو أن يحيف
ومما يعاب على الضيف أمور منها كثرة الأكل المفرط، إلا أن يكون بدويا، فإنها عادته، ومنها أن يتتبع طريق الشرهين كمن يتخذ معه خريطة مشمعة يقلب فيها الزبادي والأمراق والحلوى وغير ذلك، ومنها أن يأخذ معه ولده الصغير ويعلمه أن يبكي وقت الانصراف من الطعام ليعطى على اسم ولده الصغير.
ومنها قبح المؤاكلة، وقد عد فيها عيوب كثيرة، فمنها:
المتشاوف والعداد والجراف والرشاف والنفاض والقراض والبهات واللتات والعوام والقسام والمخلل والمزبد والمرنخ والمرشش والمفتش والمنشف والملبب والصباغ والنفاخ والحامي والمجنح والشطرنجي والمهندس والمتمني والفضولي.
فأما المتشاوف: فهو الذي يستحكم جوعه قبل فراغ الطعام، فلا تراه إلا متطلعا لناحية الباب يظن أن ما دخل هو الطعام.
وأما العداد، فهو الذي يستغرق في عد الزبادي ويعد على أصابعه، ويشير إليه، وينسى نفسه.
والجراف: هو الذي يجعل اللقم في جانب الزبدية ويجرف بها إلى الجانب الآخر.
والرشّاف: هو الذي يجعل اللقمة في فيه ويرتشفها، فيسمع لها حين البلع حس لا يخفى على جلسائه، وهو يلتذ بذلك.
والنفّاض: هو الذي يقرض اللقمة بأطراف أسنانه حتى يهذبها ويضعها في الطعام بعد ذلك.
والبهات: هو الذي يبهت في وجوه الآكلين حتى يبهتهم، ويأخذ اللحم من بين أيديهم.
واللتات: هو الذي يلت اللقمة بأطراف أصابعه قبل وضعها في الطعام.
والعوام: هو الذي يميل ذراعيه يمنة ويسرة لأخذ الزبادي.
والقسام: هو الذي يأكل نصف اللقمة ويعيد باقيها في الطعام من فيه.
والمخلل: هو الذي يخلل أسنانه بأظفاره، والمزبد: هو الذي يحمل معه الطعام.
والمرنخ: هو الذي يرنخ اللقمة في الأمراق، فلا يبلغ الأولى حتى تلين الثانية.
والمرشش: هو الذي يفسخ الدجاج بغير خبرة فيرش على مؤاكليه.
والمفتش: هو الذي يفتش على اللحم بأصابعه. والمنشف: هو الذي ينشف يديه من الدهن باللقم ثم يأكلها.
والملبب: هو الذي يملأ الطعام لبابا.
والصباغ: هو الذي ينقل الطعام من زبدية إلى زبدية ليبرده.
والنفاخ: هو الذي ينفخ في الطعام.
والحامي: هو الذي يجعل اللحم بين يديه فيحميه من مؤاكليه.
والمجنح: هو الذي يزاحم مؤاكليه بجناحيه حتى يفسح له في المجلس، فلا يشق عليه الأكل.
والشطرنجي: هو الذي يرفع زبدية ويضع زبدية أخرى مكانها.
والمهندس: هو الذي يقول لمن يضع الزبادي ضع هذه هنا وهذه ههنا، حتى يأتي قدامه ما يحب.
والمتمني: هو الذي يقول: ليتني لم يكن معي من يأكل.
والفضولي: هو الذي يقول لصاحب المنزل عند فراغ الطعام، إن كان قد بقي عندك في القدور شيء، فأطعم الناس، فإن فيهم من لم يأكل.
ومن الأضياف من لا يلذ له حديث إلا وقت غسل يديه، فيبقى الغلام واقفا والإبريق في يده والناس ينتظرونه.
ومنهم من يغسل يديه بالأشنان مرة واحدة، فإذا اجتمع الوسخ والزفر تسوك بهما. ومنهم من يدخل الدار فيبتدىء بالهندسة أولا، فيقول كان ينبغي أن يكون باب المجلس من ههنا، والإيوان كان ينبغي أن يكون من ههنا، وينتقل من الهندسة إلى ترتيب المجلس، فينقل الفاكهة من موضعها إلى موضع آخر، وإن كان قد استحكم جوعه استعفى من الطعام، وذهل عن بقية الأضياف وشدة جوعهم. ومنهم من يخرج فيطوف على أصدقاء صاحب الدعوة، فيتألم عن انقطاعهم ويستوحش من غيبتهم ويسلطهم على عرض صاحبهم.
ولقد حكي عن مغن غير مجيد أنه لم يبطل ولا ليلة واحدة، وما ذاك إلا أنه كان إذا سئل أين كنت قال: كنت عند الناس، وطذا قيل له: أين أكلت؟ قال: أكلت في بطني، وإذا قيل له: أين شربت؟ قال: شربت في فمي.
ومنهم من يفهم عن صاحب الدعوة أنه يقول لغلامه اشتر كذا، فيقول، والله العظيم أو الطلاق الثلاث يلزمه ما يشتري شيئا فأذوقه، فيعجز صاحب المنزل ويخجله إذا لم
يكن في بيته شيء موجود، وليت شعري إذا كان لا يأكل فلأي شيء حضر.
ومنهم من يرى صاحب البيت قد أسرّ إلى صديقه شيئا، فيقول: ما الذي قال المولى لصاحبنا، وهو لا يريد أن يعلمه، ومنهم من يستعجل صاحب المنزل بالأكل ويشكو الجوع ويظن أن ذلك بسط مكارم أخلاق، وإنما ذلك يكون في بيته لا في بيوت الناس.
ومنهم من يقول لصاحب الدعوة: من يغني لنا، فيقول فلان، فيقول له: غلطت لم لا دعوت فلانا.
ومنهم من يسأل صاحب البيت، كيف قوته في النكاح، فيقول له: أنا رجل كبير قد ضعفت قوتي وشهوتي، أو يقول ما لي قوة طائلة في ذلك، فيقول: أنا والله كلما مر عليّ عام تزايدت شهوتي وكثر لهذا الفن تشوّفي «1» ، ويعلن بذلك حتى تسمعه صاحبة البيت.
ومنهم من يشكو حاله مع أهل بيته ويذكر نفقته عليهن وكسوته لهن وكثرة إنعامه وإحسانه إليهن، وما عليه زوجته من سوء الأخلاق وكبر النفس، لتستقل زوجة صاحب البيت ما هي فيه مع زوجها، وربما كان ذلك سببا لفراقها منه.
ومنهم من تعجبه نفسه ويستحسن لباسه، ويستطيب رائحته، وإذا سمع الغناء تواجد، وأظهر الطرب، وحرك رأسه، ويقوم قائما يتمايل حتى يرى أهل الرجل أنه لطيف الشكل بديع الحركات، ويظن في نفسه أنه يعشق وأن رسول صاحبة البيت لا يبطىء عنه.
ومنهم من يقال له: إلعب الشطرنج، فيأباه ويشتغل بالدندنة، فيقع في الفضول. ومنهم من يتأمر على غلمان صاحب البيت ويهين أولاده، ويظن أنه يدل عليهم «2» .
ومنهم من يقول له صاحب البيت كل، فيقول: ما آكل إلا أنا ورفيقي. ومنهم من يسمع السائل على الباب، فيتصدق عليه من مال صاحب البيت بغير إذنه أو يقول للسائل فتح الله عليك.
ومنهم من يدعو الناس لصاحب الوليمة بغير إذنه ويقلده بذلك المنن وأكثر الناس واقع في ذلك.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور أنفسنا بمنه وكرمه إنه جواد كريم رؤوف رحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب السادس والثلاثون في العفو والحلم والصفح وكظم الغيظ والاعتذار وقبول المعذرة والعتاب وما أشبه ذلك
قد ندب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الصفح والعفو بقوله تعالى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ
«3» . قيل: هو الرضا بلا عتب. وقال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ 199
«4» . وقال تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
«5» وقال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ
«6» إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
» .
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت قصورا مشرفة على الجنة، فقلت:
يا جبريل لمن هذه؟ قال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس» .
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالعفو، فلولا علمي بالله لظننت أنه يوصيني بترك الحدود.
وقال الحسن بن أبي الحسن إذا كان يوم القيامة نادى مناد، من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا العافون عن الناس، وتلا قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
«8» .
وقال علي كرم الله وجهه: أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة. وكان المأمون رحمه الله تعالى يحب العفو ويؤثره، ويقول: لقد حبب إليّ العفو حتى أني أخاف أن لا أثاب عليه، وكان يقول: لو علم أهل الجرائم لذتي في العوف لارتكبوها، وقال: لو علم الناس حبي للعفو لما
تقربوا إليّ إلا بالجنايات.
وقال علي كرم الله وجهه: إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه، وقال رضي الله تعالى عنه: أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثرا إلا ويده بيد الله يرفعه، وقال رضي الله عنه: إن أول عوض الحليم عن حلمه، إن الناس أنصار له على الجاهل.
وقال المنتصر: لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي «1» يلحقها ذم الندم.
وقال ابن المعتز: لا تشن وجه العفو بالتقريع به «2» .
وقيل: ما عفا عن الذنب من قرّع به. وقال رجل لرجل سبه: إياك أعني، فقال له، وعنك أعرض.
وكان الأحنف رحمه الله تعالى كثير العفو والحلم وكان يقول: ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان مثلي تفضلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه. وكان مشهورا بين الناس بالحلم وبذلك ساد عشيرته، وكان يقول: وجدت الاحتمال أنصر لي من الرجال. وقيل له: ممن تعلمت الحلم؟ فقال: من قيس بن عاصم. كنا نختلف إليه في الحلم كما يختلف إلى الفقهاء في الفقه، ولقد حضرت عنده يوما، وقد أتوه بأخ له قد قتل ابنه، فجاءوا به مكتوفا، فقال: ذعرتم أخي أطلقوه، وأحملوا إلى أم ولدي ديته، فإنها ليست من قومنا، ثم أنشأ يقول:
أقول للنفس تصبيرا وتعزية
…
إحدى يديّ أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه
…
هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
وقيل: من عادة الكريم إذا قدر غفر، وإذا رأى زلة ستر. وقالوا: ليس من عادة الكرام سرعة الغضب والانتقام. وقيل: من انتقم فقد شفى غيظه، وأخذ حقه، فلم يجب شكره، ولم يحمد في العالمين ذكره. والعرب تقول: لا سؤدد مع الانتقام، والذي يجب على العاقل إذا أمكنه الله تعالى أن لا يجعل العقوبة شيمته «3» ، وإن كان ولا بد من الانتقام، فليرفق في انتقامه إلا أن يكون حدا من حدود الله تعالى.
وقال المنصور لجان عجز عن العذر: ما هذا الوجوم وعهدي بك خطيبا لسنا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا موقف مباهاة، ولكنه موقف توبة، والتوبة بالاستكانة والخضوع، فرق له وعفا عنه.
وسعي إلى المنصور برجل من ولد الأشتر النخعي، ذكر له عنه أنه يميل إلى بني علي والتعصب لهم، فأمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه قال: يا أمير المؤمنين، ذنبي أعظم من نقمتك، وعفوك أعظم من ذنبي، ثم قال:
فهبني مسيئا كالذي قلت ظالما
…
فعفوا جميلا كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن للعفو منك لسوء ما
…
أتيت به أهلا فأنت له أهل
فعفا عنه، وأمر له بصلة.
وأحضر إلى المأمون رجل قد أذنب ذنبا، فقال له: أنت الذي فعلت كذا وكذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أنا ذاك الذي أسرف على نفسه واتكل على عفوك، فعفا عنه وخلى سبيله.
وأحضر إلى الهادي رجل من أصحاب عبد الله بن مالك، فوبخه على ذنب، فقال: يا أمير المؤمنين، إن إقراراي يلزمني ذنبا لم أفعله، ويلحق بي جرما لم أقف عليه، وإنكاري رد عليك، ومعارضة لك، ولكني أقول:
فإن كنت تبغي بالعقاب تشفيّا
…
فلا تزهدن عند التجاوز في الأجر
فقال: لله درك من معتذر بحق أو باطل، ما أمضى لسانك، وأثبت جنانك وعفا عنه وخلى سبيله.
وركب يوما عمرو بن العاص رضي الله عنه بغلة له شهباء، ومر على قوم فقال بعضهم: من يقوم للأمير، فيسأله عن أمه وله عشرة آلاف؟ فقال واحد منهم: أنا، فقام وأخذ بعنان بغلته، وقال: أصلح الله الأمير، أنت أكرم الناس خيلا، فلم ركبت دابة أشهابّ وجهها؟ فقال:
إني لا أمل دابتي حتى تملني، ولا أمل رفيقي حتى يملني.
فقال: أصلح الله الأمير، أما العاص فقد عرفناه وعلمنا شرفه، فمن الأم؟ قال: على الخبير سقطت. أمي النابغة بنت حرملة بن عزة سبتها رماح العرب، فأتي بها سوق عكاظ، فبيعت، فاشتراها عبد الله بن جدعان، ووهبها للعاص بن وائل، فولدت، وأنجبت، فإن كان قد جعل لك جعل، فارجع وخذه، وأرسل عنان الدابة. وقيل: إن أمه كانت بغيا عند عبد الله بن جدعان، فوطئها في طهر واحد أبو لهب وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب،
والعاص بن وائل، فولدت عمرا، فادعاه كلهم، فحكمت فيه أمه، فقالت: هو للعاص، لأن العاص هو الذي كان ينفق عليها. وقالوا: كان أشبه بأبي سفيان.
وكان الواثق يتشبه بالمأمون في أخلاقه وحلمه، وكان يقال له: المأمون الصغير. نقل عنه أنه دخلت عليه ابنة مروان بن محمد، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لست به، فقالت: السلام عليك أيها الأمير، فقال لها، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقالت: ليسعنا عدلكم، فقال: إذا لا يبقى على وجه الأرض منكم أحد لأنكم حاربتم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه، ومنعتم حقه، وسممتم الحسن رضي الله عنه، ونقضتم شرطه، وقتلتم الحسين رضي الله عنه، وسبيتم أهله، ولعنتم علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منابركم وضربتم علي بن عبد الله ظلما بسياطكم، فعدلنا لا يبقي منكم أحدا، فقالت: فليسعنا عفوكم، قال: أما هذا، فنعم، وأمر برد أموالها عليها، وبالغ في الإحسان إليها.
وكان معاوية رضي الله عنه يعرف بالحلم، وله فيه أخبار مشهورة وآثار مذكورة، وكان يقول: إني لآنف أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي، وذنب لا يسعه عفوي، وحاجة لا يسعها جودي، وهذه مروءة عالية المرتبة. وقال له رجل يوما: ما أشبه أستك بإست أمك، فقال: ذاك الذي أعجب أبا سفيان منها.
وكتب معاوية إلى عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه يعتذر إليه من شيء جرى بينهما، يقول: من معاوية بن أبي سفيان إلى عقيل بن أبي طالب أما بعد، يا بني عبد المطلب، فأنتم والله فروع قصي ولباب عبد مناف وصفوة هاشم، فأين أخلاقكم الراسية وعقولكم الكاسية؟
وقد والله أساء أمير المؤمنين ما كان جرى، ولن يعود لمثله إلى أن يغيّب في الثرى، فكتب إليه عقيل يقول:
صدقت وقلت حقّا غير أني
…
أرى أن لا أراك ولا تراني
ولست أقول سوء في صديقي
…
ولكنّي أصد إذا جفاني
فركب إليه معاوية رضي الله عنه، وناشده في الصفح عنه، واستعطفه حتى رجع.
وحكي عنه رضي الله عنه أنه لما ولي الخلافة، وانتظمت إليه الأمور وامتلأت منه الصدور، وأذعن لأمره الجمهور، وساعده في مراده القدر المقدور، استحضر ليلة خواص أصحابه وذاكرهم وقائع أيام صفين، ومن كان يتولى كبر الكريهة من المعروفين، فانهمكوا في القول الصحيح والمريض وآل حديثهم إلى من كان يجتهد في إيقاد نار الحرب عليهم بزيادة التحريض، فقالوا: امرأة من أهل الكوفة تسمى الزرقاء بنت عدي كانت تتعمد الوقوف بين الصفوف وترفع صوتها صارخة: يا أصحاب علي، تسمعهم كلاما كالصوارم، مستحثة لهم بقول لو سمعه الجبان لقاتل، والمدبر لقابل، والمسلم لحارب، والفار لكرّ، والمتزلزل لاستقر.
فقال لهم معاوية رضي الله عنكم. أيكم يحفظ كلامها؟
فقالوا: كلنا نحفظه، قال: فما تشيرون عليّ فيها؟ قالوا:
نشير بقتلها، فإنها أهل لذلك. فقال لهم معاوية رضي الله عنه: بئسما أشرتم، وقبحا لما قلتم. أيحسن أن يشتهر عني أنني بعدما ظفرت وقدرت قتلت امرأة قد وفت لصاحبها، إني إذا للئيم، لا والله لا فعلت ذلك أبدا. ثم دعا بكاتبه فكتب كتابا إلى واليه بالكوفة أن أنفذ إليّ الزرقاء بنت عدي مع نفر من عشيرتها وفرسان من قومها، ومهّد لها وطاء لينا ومركبا ذلولا، فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها وقرأ عليها، فقالت بعد قراءة الكتاب: ما أنا بزائغة عن الطاعة، فحملها في هودج، وجعل غشاءه خزا مبطنا، ثم أحسن صحبتها، فلما قدمت على معاوية قال لها:
مرحبا وأهلا خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك يا خالة، وكيف رأيت سيرك؟ قالت: خير مسير، فقال: هل تعلمين لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى. قال: ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين، وأنت بين الصفوف توقدين نار الحرب، وتحرضين على القتال؟ قالت: نعم، قال: فما حملك على ذلك؟ قالت يا أمير المؤمنين: إنه قد مات الرأس وبتر الذنب، والدهر ذو غير «1» ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر. فقال:
صدقت، فهل تعرفين كلامك، وتحفظين ما قلت؟ قالت:
لا والله، قال: لله أبوك، فلقد سمعتك تقولين: أيها الناس إن المصباح لا يضيء في الشمس، وأن الكواكب لا تضيء مع القمر، وأن البغل لا يسبق الفرس، ولا يقطع الحديد إلا بالحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه إن الحق كان يطلب ضالة فأصابها، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار، فكأنكم وقد التأم شمل الشتات،
وظهرت كلمة العدل وغلب الحق باطله، فإنه لا يستوي المحق والمبطل، فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون، فالنزال النزال، والصبر الصبر، ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير الأمور عاقبة، ائتوا الحرب غير ناكصين، فهذا يوم له ما بعده. يا زرقاء. أليس هذا قولك وتحريضك؟
قالت: لقد كان ذلك، قال: لقد شاركت عليا في كل دم سفكه، فقالت: أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين، وأدام سلامتك. مثلك من يبشر بخير ويسر جليسه، فقال معاوية:
أوقد سرك ذلك؟ قالت: نعم، والله لقد سرني قولك وأنى لي بتصديقه، فقال لها معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب إليّ من حبكم له في حياته، فاذكري حوائجك تقض.
فقالت يا أمير المؤمنين إني آليت على نفسي أن لا أسأل أحدا بعد علي حاجة، فقال: قد أشار عليّ بعض من عرفك بقتلك، فقالت: لؤم من المشير، ولو أطعته لشاركته، قال: كلا بل نعفو عنك ونحسن إليك ونرعاك، فقالت: يا أمير المؤمنين كرم منك، ومثلك من قدر فعفا، وتجاوز عمن أساء وأعطى من غير مسألة، قال: فأعطاها كسوة ودراهم، وأقطعها ضيعة تغل كل سنة عشرة آلاف درهم، وأعادها إلى وطنها سالمة، وكتب إلى والي الكوفة بالوصية بها وبعشيرتها.
وقيل: كان لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أرض وكان له فيها عبيد يعملون فيها، وإلى جانبها أرض لمعاوية وفيها أيضا عبيد يعملون فيها، فدخل عبيد معاوية في أرض عبد الله بن الزبير، فكتب عبد الله كتابا إلى معاوية يقول له فيه أما بعد، يا معاوية: إن عبيدك قد دخلوا في أرضي، فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأن، والسلام. فلما وقف معاوية على كتابه، وقرأه دفعه إلى ولده يزيد، فلما قرأه قال له معاوية: يا بني ما ترى؟ قال:
أرى أن تبعث إليه جيشا يكون أوله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه. فقال: بل غير ذلك خير منه يا بني، ثم أخذ ورقة، وكتب فيها جواب كتاب عبد الله بن الزبير، يقول فيه: أما بعد، فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسره هينة عندي في جنب رضاه، نزلت عن أرضي لك فأضفها إلى أرضك بما فيها من العبيد والأموال والسلام. فلما وقف عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما على كتاب معاوية رضي الله عنه، كتب إليه: قد وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، ولا أعدمه الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام.
فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله بن الزبير، وقرأه رمى به إلى ابنه يزيد، فلما قرأه تهلل وجهه، وأسفر، فقال له أبوه: يا بني من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب، فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدواء فداوه بمثل هذا الدواء.
ولما دخل الفيل من دمشق واجتمع الناس لرؤيته صعد معاوية في مكان مرتفع ينظر إليه، فبينما هو كذلك إذ نظر في بعض الحجر من قصره رجلا مع بعض حرمه، فأتى الحجرة ودق الباب، فلم يكن من فتحه بد، فوقعت عينه على الرجل، فقال له: يا هذا في قصري، وتحت جناحي تهتك حرمتي، وأنت في قبضتي، ما حملك على هذا؟
قال: فبهت «1» الرجل، وقال: حلمك أوقعني، فقال له معاوية، فإن عفوت عنك تسترها عليّ، قال: نعم. فعفا عنه وخلّى سبيله. وهذا من الحلم الواسع أن يطلب الستر من الجاني، وهو عروض قول الشاعر:
إذا مرضتم أتيناكم نعودكم
…
وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
وحكي عن الربيع مولى الخليفة المنصور قال: ما رأيت رجلا أربط جأشا، وأثبت جنانا من رجل سعي به إلى المنصور، أن عنده ودائع وأموالا لبني أمية، فأمرني بإحضاره، فأحضرته إليه، فقال له المنصور: قد رفع إلينا خبر الودائع، والأموال التي عندك لبني أمية، فأخرج لنا منها، وأحضرها، ولا تكتم منها شيئا، فقال يا أمير المؤمنين، وأنت وارث بني أمية، قال: لا، قال: فوصي لهم في أموالهم ورباعهم؟ قال: لا، قال: فما مسألتك عما في يدي من ذلك؟ قال: فأطرق المنصور، وتفكر ساعة، ثم رفع رأسه وقال: إن بني أمية ظلموا المسلمين فيها، وأنا وكيل المسلمين في حقوقهم، وأريد أن آخذ ما ظلموا المسلمين فيه، فاجعله في بيت أموالهم. فقال: يا أمير المؤمنين، فيحتاج إلى إقامة بيّنة عادلة أن ما في يدي لبني أمية مما خانوه وظلموه، فإن بني أمية قد كانت لهم أموال غير أموال المسلمين. قال: فأطرق المنصور ساعة، ثم رفع رأسه وقال: يا ربيع: ما أرى الشيخ إلا قد صدق، وما يجب عليه شيء، وما يسعنا إلا أن نعفو عما قيل عنه، ثم قال: هل لك من حاجة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أن
تجمع بيني وبين من سعى بي إليك، فو الله الذي لا إله إلا هو ما في يدي لبني أمية مال ولا وديعة، ولكنني لما مثلت بين يديك وسألتني عما سألتني عنه قابلت بين هذا القول الذي ذكرته الآن، وبين ذلك القول الذي ذكرته أولا، فرأيت ذلك أقرب إلى الخلاص والنجاة. فقال: يا ربيع اجمع بينه وبين من سعى به، فجمعت بينهما، فلما رآه قال: هذا غلامي اختلس لي ثلاثة آلاف دينار من مالي وأبق مني وخاف من طلبي له، فسعى بي عند أمير المؤمنين. قال: فشدد المنصور على الغلام وخوفه، فأقر بأنه غلامه، وأنه أخذ المال الذي ذكره وسعى به كذبا عليه وخوفا من أن يقع في يده، فقال له المنصور: سألتك أيها الشيخ أن تعفو عنه، فقال: قد عفوت عنه، وأعتقته ووهبته الثلاثة آلاف التي أخذها وثلاثة آلاف أخرى أدفعها إليه.
فقال له المنصور: ما على ما فعلت من مزيد؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين إن هذا كله لقليل في مقابلة كلامك لي وعفوك عني، ثم انصرف. قال الربيع: فكان المنصور يتعجب منه، وكلما ذكره يقول: ما رأيت مثل هذا الشيخ يا ربيع.
وغضب الرشيد على حميد الطوسي، فدعا له بالنطع «1» والسيف فبكى، فقال له: ما يبكيك؟ فقال، والله يا أمير المؤمنين: ما أفزع من الموت لأنه لا بد منه، وإنما بكيت أسفا على خروجي من الدنيا، وأمير المؤمنين ساخط عليّ، فضحك وعفى عنه، وقال: إن الكريم إذا خادعته انخدع.
وأمر زياد بضرب عنق رجل، فقال: أيها الأمير إن لي بك حرمة، قال: وما هي؟ قال: إني جارك بالبصرة، قال: ومن أبوك؟ قال: يا مولاي إني نسيت اسم نفسي، فكيف لا أنسى اسم أبي؟ فرد زياد كمه على فمه، وضحك وعفا عنه.
وأمر الحجاج بقتل رجل فقال: أسألك بالذي أنت غدا بين يديه أذل موقفا مني بين يديك إلا عفوت عني، فعفا عنه. ولما ضرب الحجاج رقاب أصحاب ابن الأشعث أتي برجل من بني تميم، فقال: والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب ما أحسنت في العفو، فقال الحجاج: أف لهذه الجيف! أما كان فيهم من يحسن الكلام مثل هذا؟ وعفا عنه وخلّى سبيله.
وكان إبراهيم بن المهدي يقول: والله ما عفا عني المأمون تقربا إلى الله تعالى، ولا صلة الرحم، ولكن له سوق في العفو يكره أن تكسد بقتلي «2» . وسئل الفضل عن الفتوة، فقال: الصفح عن عثرات الأخوان. وفي بعض الكتب المنزلة. إن كثرة العفو زيادة في العمر. وأصله قوله تعالى: وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
«3» . وقال يزيد بن مزيد: أرسل إليّ الرشيد ليلا يدعوني، فأوجست منه خيفة، فقال لي: أنت القائل: أنا ركن الدولة والثائر لها، والضارب أعناق بغاتها؟ لا أم لك، أي ركن، وأي ثائر أنت؟ قلت يا أمير المؤمنين: ما قلت هذا، إنما قلت:
أنا عبد الدولة، والثائر لها، فأطرق وجعل ينحلّ غضبه عن وجهه، ثم ضحك، فقلت أحسن من هذا قولي:
خلافة الله في هارون ثابتة
…
وفي بنيه إلى أن ينفخ الصّور
فقال: يا فضل أعطه مائتي ألف درهم قبل أن يصبح.
وأمر مصعب بن الزبير بقتل رجل، فقال: ما أقبح بي أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الذي يستضاء به، فأتعلق بأطواقك وأقول: أي رب سل مصعبا لم قتلني؟ فقال: أطلقوه، فلما أطلقوه، قال: أيها الأمير اجعل ما وهبت لي من حياتك في خفض عيش.
قال قد أمرت لك بمائة ألف درهم، فقال:
أيا المذنب الخطّاء والعفو واسع
…
ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو
وتغيظ عبد الملك بن مروان على رجل، فقال: والله لئن أمكنني الله منه لأفعلن به كذا وكذا، فلما صار بين يديه قال رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين قد صنع الله ما أحببت، فاصنع ما أحب الله، فعفا عنه وأمر له بصلة.
وقال الحسن: إن أفضل رداء تردّى به الإنسان الحلم.
وهو والله عليك أحسن من برد الحبر. وفيه قال أبو تمام:
رفيق حواشي الحلم لو أن حلمه
…
بكفيّك ما ماريت في أنه برد «4»
ويقال: الحليم سليم، والسفيه كليم. وقال محمد بن عجلان: ما شيء أشد على الشيطان من عالم معه حلم، إن تكلم تكلم بعلم، وإن سكت سكت بحلم، يقول
الشيطان: سكوته عليّ أشد من كلامه.
شعر:
إذا كنت تبغي شيمة غير شيمة
…
طبعت عليها لم تطعك الضرائب
وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب. وفي التوراة:
اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت، فلا أمحقك فيما أمحق، وإذا ظلمت فاصبر، وارض بنصرتي، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك.
وكان ابن عون إذا غضب على إنسان قال له: بارك الله فيك، وكانت له ناقة كريمة، فضربها الغلام فأندر عينها «1» . فقالوا: إن غضب ابن عون، فإنه يغضب اليوم، فقال للغلام: غفر الله لك.
وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي شيء أشد؟ قال:
غضب الله. قال: فما يباعدني من غضب الله؟ قال: أن لا تغضب ويقال: من أطاع الغضب أضاع الأرب.
قال أبو العتاهية:
ولم أر في الأعداء حين اختبرتهم
…
عدوا لعقل المرء أعدى من الغضب
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ليس الشديد بالصرعة «2» إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كفى بالمرء إثما أن يقال له: اتق الله فيغضب، ويقول: عليك نفسك.
وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عامل من عماله: أن لا تعاقب عند غضبك، وإذا غضبت على رجل، فاحبسه، فإذا سكن غضبك فأخرجه، فعاقبه على قدر ذنبه، ولا تجاوز به خمسة عشر سوطا. وقيل لابن المبارك رحمه الله تعالى: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة واحدة. قال: ترك الغضب.
وقال المعتمر بن سليمان: كان رجل ممن كان قبلكم يغضب، ويشتد غضبه، فكتب ثلاث صحائف، فأعطى كل صحيفة رجلا. وقال للأول: إذا اشتد غضبي، فقم إليّ بهذه الصحيفة وناولنيها، وقال للثاني: إذا سكن بعض غضبي فناولنيها، وقال للثالث: إذا ذهب غضبي، فناولنيها. وكان في الأول:«اقصر، فما أنت وهذا الغضب، إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضا» . وفي الثانية: «ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء» . وفي الثالثة: «احمل عباد الله على كتاب الله، فإنه لا يصلحهم إلا ذاك» . روي أنه أنوشروان.
وكان الشعبي أولع شيء بهذا البيت:
ليست الأحلام في حال الرضا
…
إنما الأحلام في حال الغضب
وعن معاذ بن جبل، عن أنس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور شاء» ، وروي: ملأه الله أمنا وإيمانا.
وقال ابن السماك: أذنب غلام لامرأة من قريش، فأخذت السوط، ومضت خلفه حتى إذا قاربته رمت بالسوط وقالت: ما تركت التقوى أحدا يشفي غيظه. وقال أبو ذر لغلامه: لم أرسلت الشاة على علف الفرس؟ قال:
أردت أن أغيظك، قال: لأجمعن مع الغيظ أجرا أنت حر لوجه الله تعالى. واستأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن لهم، فقالوا: السام عليك يا محمد، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: بل السام عليكم، واللعنة، فقال: يا عائشة: إن الله يحب الرفق في الأمر كله، فقالت: ألم تسمع ما قالوا، قال: قد قلت:
وعليكم.
ورفع إلى عبد الملك بن مروان أعرابي يقال له حمزة، سرق، وقامت عليه البينة، فهمّ عبد الملك بقطع يده، فكتب إليه حمزة من السجن يقول (شعر) :
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها
…
بعفوك أن تلقى مقاما يشينها
فلا خير في الدنيا وكانت خبيثة
…
إذا ما شمال فارقتها يمينها
قال: فأبى عبد الملك إلا قطعه، فدخلت عليه أم حمزة وقالت: يا أمير المؤمنين بني وكاسبي وواحدي، فقال لها عبد الملك: بئس الكاسب لك، هذا حد من حدود الله تعالى، فقالت يا أمير المؤمنين: اجعله أحد ذنوبك التي تستغفر الله منها، فقال عبد الملك: ادفعوه إليها، وخلى سبيله (شعر) :
إذا ما طاش حلمك عن عدو
…
وهان عليك هجران الصديق «3»
فلست إذا أخا عفو وصفح
…
ولا لأخ على عهد وثيق
إذا زلّ الرفيق وأنت ممّن
…
بلا رفق بقيت بلا رفيق
إذا أنت أتّخذت أخا جديدا
…
لما أنكرت من خلق عتيق
فما تدري لعلك مستجير
…
من الرمضاء فرّ إلى الحريق «1»
فكم من سالك لطريق أمن
…
أتاه ما يحاذر في الطريق
وشتم رجل رجلا فقال له: يا هذا لا تغرق في شتمنا ودع للصلح موضعا «2» ، فإني أبيت مشاتمة الرجال صغيرا، فلن أجيئها كبيرا، وإني لا أكافىء من عصى الله فيّ بأكثر من أن أطيع الله فيه.
وحكي عن جعفر الصادق رضي الله عنه: أن غلاما له وقف يصب الماء على يديه، فوقع الإبريق من يد الغلام في الطست، فطار الرشاش في وجهه، فنظر جعفر إليه نظر مغضب، فقال يا مولاي: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ
«3» قال:
قد كظمت غيظي، قال: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ
«4» قال: قد عفوت عنك، قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
«5» قال: إذهب، فأنت حر لوجه الله تعالى.
وقيل: لما قدم نصر بن منيع بين يدي الخليفة، وكان قد أمر بضرب عنقه، قال: يا أمير المؤمنين، اسمع مني كلمات أقولها. قال: قل، فأنشأ يقول:
زعموا بأن الصقر صادف مرة
…
عصفور برّ ساقه التقدير
فتكلم العصفور تحت جناحه
…
والصقر منقضّ عليه يطير
إنّي لمثلك لا أتمّم لقمة
…
ولئن شويت فإنني لحقير
فتهاون الصقر المدلّ بصيده
…
كرما وأفلت ذلك العصفور
قال فعفا عنه وخلى سبيله.
قال الشاعر:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزهم
…
عنه فإن جحود الذنب ذنبان «6»
وقال بعضهم:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف
…
وتاب عمّا قد جناه واقترف
لقوله قل للذين كفروا
…
إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وقال آخر:
إذا ذكرت أياديك التي سلفت
…
مع قبح فعلي وزلّاتي ومجترمي
أكاد أقتل نفسي ثم يدركني
…
علمي بأنك مجبول على الكرم
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى سكران، فأراد أن يأخذه ليعزره، فشتمه السكران، فرجع عنه، فقيل له يا أمير المؤمنين: لما شتمك تركته، قال: إنما تركته لأنه أغضبني، فلو عزرته لكنت قد انتصرت لنفسي، فلا أحب أن أضرب مسلما لحمية نفسي.
وغضب المنصور على رجل من الكتّاب، فأمر بضرب عنقه، فأنشأ يقول:
وإنّا الكاتبونا وإن أسأنا
…
فهبنا للكرام الكاتبينا
فعفا عنه وخلى سبيله وأكرمه.
وقال الرشيد لأعرابي: بم بلغ فيكم هشام بن عروة هذه المنزلة؟ قال: بحلمه عن سفيهنا، وعفوه عن مسيئنا، وحمله عن ضعيفنا. لا منّان إذا وهب، ولا حقود إذا غضب، رحب الجنان سمح البنان، ماضي اللسان، قال:
فأومأ الرشيد إلى كلب صيد كان بين يديه، وقال: والله لو كانت هذه في هذا الكلب لاستحق بها السؤدد.
وقيل لمعن بن زائدة: المؤاخذة بالذنب من السؤدد؟
قال: لا، ولكن أحسن ما يكون الصفح عمّن عظم جرمه، وقلّ شفعاؤه، ولم يجد ناصرا «7» .
وقال محمود الوراق:
سألزم نفسي الصفح عن كلّ مذنب
…
وإن عظمت منه عليّ الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة
…
شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف قدره
…
وأتبع فيه الحقّ والحق لازم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن
…
إجابته نفسي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زلّ أو هفا
…
تفضّلت إنّ الحرّ بالفضل حاكم
وقال الأحنف بن قيس لابنه: يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه، فإن أنصفك، وإلا فاحذره «1» .
قال الشاعر:
إذا كنت مختصا لنفسك صاحبا
…
فمن قبل أن تلقاه بالودّ أغضبه
فإن كان في حال القطيعة منصفا
…
وإلا فقد جرّبته فتجنّبه
ومن أمثال العرب: إحلم تسد.
قال الشاعر:
لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا
…
حتى يذلّوا وإن عزّوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة «2»
…
لا صفح ذل ولكن صفح إكرام
وقال آخر:
وجهل رددناه بفضل حلومنا «3»
…
ولو أننا شئنا رددناه بالجهل
وقال الأحنف: إياكم ورأي الأوغاد، قالوا: وما رأي الأوغاد؟ قال: الذين يرون الصفح والعفو عارا.
وقال رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: لأسبنك سبا يدخل معك قبرك، فقال: معك والله يدخل لا معي.
وقيل: إن الأحنف سبّه رجل وهو يماشيه في الطريق، فلما قرب من المنزل وقف الأحنف وقال له: يا هذا إن كان قد بقي معك شيء، فهات، وقله ههنا، فإني أخاف أن يسمعك فتيان الحي فيؤذوك، ونحن لا نحب الانتصار لأنفسنا.
وقال لقمان لابنه: يا بني ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة:
لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا أخوك إلا عند الحاجة إليه.
ومن أشعر بيت قيل في الحلم قول كعب بن زهير:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا «4»
…
أصبت حليما أو أصابك جاهل
وقال آخر:
وإذا بغى باغ عليك بجهله
…
فاقتله بالمعروف لا بالمنكر
وقال آخر:
قل ما بدا لك من صدق ومن كذب
…
حلمي أصم وأذني غير صماء
ويروى في بعض الأخبار، أن ملكا من الملوك أمر أن يصنع له طعام، وأحضر قوما من خاصته فلما مد السماط «5» أقبل الخادم وعلى كفه صحن فيه طعام، فلما قرب من الملك أدركته الهيبة فعثر فوقع من مرق الصحن شيء يسير على طرف ثوب الملك، فأمر بضرب عنقه، فلما رأى الخادم العزيمة على ذلك عمد بالصحن فصب جميع ما كان فيه على رأس الملك، فقال له: ويحك ما هذا؟ فقال: أيها الملك إنما صنعت هذا شحا على عرضك، لئلا يقول الناس إذا سمعوا ذنبي الذي به تقتلني:
قتله في ذنب خفيف لم يضره وأخطأ فيه العبد، ولم يقصده، فتنسب إلى الظلم والجور. فصنعت هذا الذنب العظيم لتعذر في قتلي وترفع عنك الملامة. قال: فأطرق الملك مليا ثم رفع رأسه إليه وقال: يا قبيح الفعل يا حسن الاعتذار، قد وهبنا قبيح فعلك وعظيم ذنبك لحسن اعتذارك، إذهب فأنت حر لوجه الله تعالى.
وحكي عن أمير المؤمنين المأمون وهو المشهود له بالاتفاق على علمه، والمشهور في الآفاق بعفوه وحلمه،
أنه لما خرج عمه إبراهيم المهدي عليه وبايعه العباسيون بالخلافة ببغداد وخلعوا المأمون، وكان المأمون إذ ذاك بخراسان فلما بلغه الخبر قصد العراق فلما بلغ بغداد اختفى إبراهيم بن المهدي وعاد العباسيون وغيرهم إلى طاعة المأمون ولم يزل المأمون متطلبا «1» لابراهيم حتى أخذه وهو متنقب «2» مع نسوة، فحبس ثم أحضر حتى وقف بين يدي المأمون فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال المأمون: لا سلم الله عليك ولا قرب دارك، استغواك «3» الشيطان حتى حدثتك نفسك بما تنقطع دونه الأوهام «4» . فقال له إبراهيم: مهلا يا أمير المؤمنين فإنّ ولي الثأر محكّم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، ولك من رسول الله صلى الله عليه وسلم شرف القرابة وعدل السياسة وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن أخذت فبحقك وإن عفوت فبفضلك، والفضل أولى بك يا أمير المؤمنين ثم قال هذه الأبيات:
ذنبي إليك عظيم
…
وأنت أعظم منه
فخذ بحقّك أو لا
…
فاصفح بعفوك عنه
إن لم أكن في فعالي
…
من الكرام فكنه
فلما سمع المأمون كلامه وشعره ظهرت الدموع في عينيه وقال: يا إبراهيم الندم توبة وعفو الله تعالى أعظم ما تحاول وأكثر مما تأمل، ولقد حبب إلي العفو حتى خفت أن لا أؤجر عليه، لا تثريب «5» عليك اليوم. ثم أمر بفك قيوده وإدخاله الحمام وإزالة شعثه «6» وخلع عليه ورد أمواله جميعها إليه فقال فيه مخاطبا:
رددت مالي ولم تبخل عليّ به
…
وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي
فإن جحدتك ما أوليت من كرم
…
إنّي لباللؤم أولى منك بالكرم
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج يأمره أن يبعث إليه برأس عباد بن أسلم البكري، فقال له عباد: أيها الأمير أنشدك الله لا تقتلني، فو الله إني لأعول أربعا وعشرين امرأة ما لهن كاسب غيري. فرق لهن واستحضرهن وإذا واحدة منهن كالبدر، فقال له الحجاج: ما أنت منه؟
قالت: أنا بنته فاسمع يا حجاج مني ما أقول ثم قالت:
أحجاج إمّا أن تمنّ بتركه
…
علينا وإما أن تقتّلنا معا
أحجاج لا تفجع به إن قتلته
…
ثمانا وعشرا واثنتين وأربعا
أحجاج لا تترك عليه بناته
…
وخالاته يندبنه الدهر أجمعا
فبكى الحجاج ورق له واستوهبه من أمير المؤمنين عبد الملك وأمر له بصلة.
ولما قدم عيينة بن حصن على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله عنه، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا. فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير»
فاستأذن لي عليه، فاستأذن، فأذن له عمر فلما دخل قال: هيه يا ابن الخطاب فو الله ما تعطينا الجزل «8» ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله سبحانه وتعالى قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ 199
«9» وإن هذا من الجاهلين فو الله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله تعالى.
وحكي أن رجلا زوّر ورقة عن خط الفضل بن الربيع، تتضمن أنه أطلق له ألف دينار ثم جاء بها إلى وكيل الفضل، فلما وقف الوكيل عليها لم يشك أنها خط الفضل فشرع في أن يزن له الألف دينار، وإذا بالفضل قد حضر ليتحدث مع وكيله في تلك الساعة في أمر مهم فلما جلس أخبره الوكيل بأمر الرجل وأوقفه على الورقة فنظر الفضل
فيها ثم نظر في وجه الرجل فرآه كاد يموت من الوجل «1» والخجل فأطرق الفضل «2» ، بوجهه ثم قال للوكيل:
أتدري لم أتيتك في هذا الوقت؟ قال: لا، قال: جئت لأستنهضك حتى تعجل لهذا الرجل إعطاء المبلغ الذي في هذه الورقة.
فأسرع عند ذلك الوكيل في وزن المال وناوله الرجل فقبضه وصار متحيرا في أمره فالتفت إليه الفضل وقال له:
طب نفسا وامض إلى سبيلك آمنا على نفسك فقبل الرجل يده وقال له سترتني سترك الله في الدنيا والآخرة، ثم أخذ المال ومضى.
فيجب على الإنسان أن يتأسى بهذه الأخلاق الجميلة والأفعال الجليلة ويقتفي سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فقد كان أكثر الناس حلما وأحسنهم خلقا وأكرمهم خلقا وأكثرهم تجاوزا وصفحا وأبرهم للمعتر عليه نجحا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
وأما ما جاء في العتاب فقد قيل العتاب خير من الحقد ولا يكون العتاب إلا على زلة. وقد مدحه قوم فقالوا: العتاب حدائق المتحابين ودليل على بقاء المودة وقد قال أبو الحسن بن منقذ شعرا:
أسطو عليه وقلبي لو تمكّن من
…
يديّ غلّهما غيظا إلى عنقي «3»
وأستعير له من سطوتي حنقا
…
وأين ذل الهوى من عزة الحنق «4»
وذمه بعضهم، قال إياس بن معاوية: خرجت في سفر ومعي رجل من الأعراب فلما كان في بعض المناهل «5» لقيه ابن عم فتعانقا وتعاتبا وإلى جانبهما شيخ من الحي فقال لهما: أنعما عيشا إن المعاتبة تبعث التجني والتجني يبعث المخاصمة والمخاصمة تبعث العداوة ولا خير في شيء ثمرته العداوة.
قال الشاعر:
فدع ذكر العتاب فربّ شرّ
…
طويل هاج أوّله العتاب
وقيل: العتاب من حركات الشوق، وإنما يكون هذا بين المتحابين. قال الشاعر:
علامة ما بين المحبين في الهوى
…
عتابهم في كل حقّ وباطل
وكتب بعضهم يعاتب صديقه على تغير حاله معه يقول:
عرضنا أنفسا عزّت علينا
…
عليكم فاستخف بها الهوان
ولو أنّا رفعناها لعزّت
…
ولكن كل معروض مهان
وقال آخر يعاتب صديقه:
وكنت إذا ما جئت أدنيت مجلسي
…
ووجهك من تلك البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي كنت مرّة
…
إليّ بها في سالف الدهر تنظر
وقال أبو الحسن بن منقذ:
أخلاقك الغرّ السجايا «6» ما لها
…
حملت قذى الواشين وهي سلاف «7»
ومرآة رأيك في عبيدك ما لها
…
صدئت وأنت الجوهر الشفاف
وقال آخر يعاتب صديقه على كتاب أرسله إليه وفيه حط عليه:
اقرأ كتابك واعتبره قريبا
…
فكفى بنفسك لي عليك حسيبا
أكذا يكون خطاب إخوان الصفا
…
إن أرسلوا جعلوا الخطاب خطوبا
ما كان عذري أن أجبت بمثله
…
أو كنت بالعتب العنيف مجيبا
لكنني خفت انتقاص مودّتي
…
فيعد إحساني إليك ذنوبا
وقال آخر:
أراك إذا ما قلت قولا قبلته
…
وليس لأقوالي لديك قبول
وما ذاك إلا أنّ ظنّك سيىء
…
بأهل الوفا والظن فيك جميل
فكن قائلا قول الحماسي تائها
…
بنفسك عجبا وهو منك قليل
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
…
ولا ينكرون القول حين نقول
وكان لمحمد بن الحسن بن سهل صديق فنالته إضاقة «1» ثم ولي عملا فأثرى فقصده محمد مسلما فرأى منه تغيرا فكتب إليه:
لئن كانت الدنيا أنالتك ثروة
…
فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر
فقد كشف الإثراء منك خلائقا
…
من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر
وقال آخر في المعنى:
دعوت الله أن تسمو وتعلو
…
علوّ النجم في أفق السماء
فلما أن سموت بعدت عنّي
…
فكان إذا على نفسي دعائي
وكان ابن عرادة السعدي مع سلم بن زياد بخراسان وكان له مكرما وابن عرادة يتجنى عليه ففارقه وصاحب غيره ثم ندم ورجع إليه وقال:
عتبت على سلم فلمّا فقدته
…
وصاحبت أقواما بكيت على سلم
رجعت إليه بعد تجريب غيره
…
فكان كبرء بعد طول من السقم
وقال مسلم بن الوليد:
ويرجعني إليك إذا نأت بي
…
ديارك عنك تجربة الرجال
وقال أبو الحسن القابسي:
إذا أنا عاتبت الملوم فإنّما
…
أخطّ بأقلامي على الماء أحرفا «2»
وهبه ارعوى بعد العتاب ألم تكن
…
مودته طبعا فصارت تكلفا «3»
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: معاتبة الصديق أهون من فقده. وما أحسن ما قيل في العتاب:
وفي العتاب حياة بين أقوام
…
وهو المحكّ لذي لبس وإبهام «4»
فما ثم شيء أحسن من معاتبة الأحباب ولا ألذ من مخاطبة ذوي الألباب والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب السابع والثلاثون في الوفاء بالوعد وحفظ العهد ورعاية الذمم
أرجح دليل يتمسك به الإنسان كتاب الله تعالى الذي من تمسك به هداه ومن استدل به أرشده هداه، قال الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
«5» . وقال جل ذكره وتقدس اسمه: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ 20
«6» . وقال جل وعلا: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها
«7» . وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا
«8» .
والآيات في ذلك كثيرة ومن أشدها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ 2 كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ 3
«9» .
وروي في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث، إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» . فالوفاء من شيم النفوس الشريفة والأخلاق الكريمة والخلال الحميدة، يعظم صاحبه في العيون وتصدق فيه خطرات الظنون، ويقال الوعد والإنجاز محاسنه، والوعد سحابه
والإنجاز مطره. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
لكل شيء رأس ورأس المعروف تعجيله.
وأنشدوا:
إذا قلت في شيء نعم فأتمّه
…
فإنّ نعم دين على الحرّ واجب
وإلّا فقل لا، تسترح وترح بها
…
لئلّا يقول الناس أنّك كاذب «1»
وقال آخر:
لا كلّف الله نفسا فوق طاقتها
…
ولا تجود يد إلّا بما تجد
فلا تعد عدة إلّا وفيت بها
…
واحذر خلاف مقال للذي تعد
وقال أعرابي: وعد الكريم نقد وتعجيل ووعد اللئيم مطل وتعليل.
وقال أعرابي أيضا: العذر الجميل خير من المطل الطويل. ومدح بشار خالد بن برمك فأمر له بعشرين ألفا فأبطأت عليه فقال لقائده «2» : أقمني حيث يمر فأقامه فمر فأخذ بلجام بغلته وأنشأ يقول:
أظلت علينا منك يوما سحابة
…
أضاء لها برق وأبطا رشاشها «3»
فلا غيمها يجلى فييأس طابع
…
ولا غيثها يأتي فتروي عطاشها
فقال: لا تبرح حتى تؤتى بها.
وقال صالح اللخمي:
لئن جمع الآفات فالبخل شرّها
…
وشرّ من البخل المواعيد والمطل
ولا خير في وعد إذا كان كاذبا
…
ولا خير في قول إذا لم يكن فعل
وقيل ماتت للهذلي أم ولد، فأمر المنصور الربيع أن يعزيه ويقول له: إن أمير المؤمنين موجّه إليك جارية نفيسة لها أدب وظرف يسليك بها، وأمر لك معها بفرس وكسوة وصلة. فلم يزل الهذلي يتوقع وعد أمير المؤمنين ونسيه المنصور، فحج المنصور ومعه الهذلي فقال المنصور وهو بالمدينة: إني أحب أن أطوف الليلة المدينة فاطلب لي من يطوف بي. فقال الهذلي: أنا لها يا أمير المؤمنين فطاف به حتى وصل بيت عاتكة، فقال: يا أمير المؤمنين وهذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
…
حذر العدا وبه الفؤاد موكّلّ
إني لأمنحك الصدود وإنّني
…
قسما إليك مع الصدود لأميل
فكره المنصور ذكر بيت عاتكة من غير أن يسأله عنه فلما رجع المنصور أمرّ القصيدة على قلبه «4» فإذا فيها:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم
…
مذق اللسان «5» يقول ما لا يفعل
فذكر المنصور الوعد الذي كان وعد به الهذلي فأنجزه له واعتذر إليه.
وقال الشاعر:
تعجيل وعد المرء أكرومة
…
تنشر عنه أطيب الذكر
والحرّ لا يمطل معروفه
…
ولا يليق المطل بالحرّ
وقال آخر:
ولقد وعدت وأنت أكرم واعد
…
لا خير في وعد بغير تمام
أنعم عليّ بما وعدت تكرّما
…
فالمطل يذهب بهجة الإنعام
وقال آخر:
لعبدك وعد قد تقدم ذكره
…
فأوله حمد وآخره شكر
وقد جمعت فيك المكارم كلها
…
فما لك عن تأخير مكرمة عذر
وقال آخر:
وميعاد الكريم «6» عليه دين
…
فلا تزد الكريم على السلام