الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطريق سائرون استقبلهم ركب، فتقدم منهم شاب، فنادى، هل فيكم فلان ابن فلان؟ فقال صاحب البعير:
نعم ها أنا فلان ابن فلان فقال: هل بعت من فلان الميت شيئا؟ قال: نعم. بعته بعيري بنجيبه في النوم، فقال: هذا نجيبه، فخذه، وأنا ولده، وقد رأيته في النوم، وهو يقول: إن كنت ولدي، فادفع نجيبي إلى فلان. فانظر إلى هذا الرجل الكريم كيف أكرم أضيافه بعد موته «1» .
وروي عن الهيثم بن عدي أنه قال: تمارى ثلاثة نفر في الأجواد، فقال رجل: أسخى الناس في عصرنا هذا عبد الله بن جعفر، فقال الآخر: أسخى الناس: قيس بن سعيد بن عبادة، فقال الآخر: بل أسخى الناس اليوم عرابة الأوسي، فتنازعوا بفناء الكعبة، فقال لهم رجل: لقد أفرطتم في الكلام، فليمض كل واحد منكم إلى صاحبه يسأله حتى ننظر بما يعود، فنحكم على العيان. فقام صاحب ابن جعفر فوافاه، وقد وضع رجله في ركاب راحلته يريد ضيعة له، فقال الرجل: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن سبيل ومنقطع به، قال: فأخرج رجله، وقال: ضع رجلك واستو على الناقة، وخذ ما في الحقيبة، وكان فيها مطارف خز وأربعة آلاف دينار.
ومضى صاحب قيس، فوجده نائما فقالت له جارية لقيس:
ما حاجتك؟ فقال: ابن سبيل ومنقطع به، فقالت له الجارية: حاجتك أهون من إيقاظه، هذا كيس فيه سبعمائة دينار ما في دار قيس اليوم غيرها، وامض إلى معاطن الإبل «2» ، فخذ راحلة من رواحله، وما يصلحها، وعبدا، وامض لشأنك، قيل: إن قيسا لما انتبه أخبرته الجارية بما صنعت، فأعتقها، ولو لم تعلم أن ذلك يرضيه ما جسرت أن تفعله، فخلق خدم الرجل مقتبس من خلقه. قال بعض الشعراء:
وإذا ما اختبرت ودّ صديق
…
فاختبر ودّه من الغلمان
ومضى صاحب عرابة، فوجده قد خرج من منزله يريد الصلاة، فقال: يا عرابة ابن سبيل ومنقطع به. وكان معه عبدان، فصفق بيده اليمنى على اليسرى، وقال: أواه أواه، والله ما أصبح ولا أمسى الليلة عند عرابة شيء، ولا تركت له الحقوق مالا، ولكن خذ هذين العبدين، فقال الرجل:
والله ما كنت بالذي يسلبك عبديك، فقال: إن أخذتهما، وإلا فهما حران لوجه الله تعالى، فإن شئت، فأعتق، فأخذ الرجل العبدين ومضى. ثم اجتمعوا وذكروا قصة كل واحد، فحكموا لعرابة لأنه أعطى على جهد.
قيل: إن شاعرا قصد خالد بن يزيد، فأنشده شعرا يقول فيه:
سألت الندى والجود حرّان أنتما
…
فقالا يقينا إنّنا لعبيد
فقلت ومن مولاكما فتطاولا
…
إليّ وقالا خالد ويزيد
فقال: يا غلام أعطه مائة ألف درهم، وقل له: إن زدتنا زدناك فأنشد يقول:
كريم كريم الأمهات مهذّب
…
تدفّق يمناه الندى وشمائله
هو البحر من أي الجهات أتيته
…
فلجّته المعروف والجود ساحله
جواد بسيط الكف حتى لو انه
…
دعاها لقبض لم تجبه أنامله
فقال يا غلام: أعطه مائة ألف درهم، وقل له إن زدتنا زدناك، فأنشد يقول:
تبرّعت لي بالجود حتى نعشتني
…
وأعطيتني حتى حسبتك تلعب
وأنبتّ ريشا في الجناحين بعدما
…
تساقط مني الريش أو كاد يذهب
فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى
…
حليف الندى ما للندى عنك مذهب
فقال يا غلام: اعطه مائة ألف درهم وقل له: إن زدتنا زدناك، فقال: حسب الأمير ما سمع، وحسبي ما أخذت وانصرف.
وأما الذين انتهى إليهم الجود في الجاهلية
فهو حاتم بن عبد الله الطائي، وهرم ابن سنان، وخالد بن عبيد الله وكعب بن أمامة الأيادي. وضرب المثل بحاتم وكعب، وحاتم أشهرهما، فأما كعب، فجاد بنفسه، وآثر رفيقيه بالماء في المفازة، ومات عطشا، وليس له خبر مشهور. وأما خالد بن عبيد الله، فإنه جاء إليه بعض الشعراء ورجله في الركاب يريد الغزو، فقال له:
إني قلت فيك بيتين من الشعر، فقال: في مثل هذا الحال؟
قال: نعم، فقال: هاتهما، فأنشده يقول:
يا واحد العرب الذي
…
ما في الأنام له نظير
لو كان مثلك آخر
…
ما كان في الدنيا فقير
فقال يا غلام: أعطه عشرين ألف دينار، فأخذها وانصرف. وأما حاتم، فأخباره كثيرة، وآثاره في الجود شهيرة، ويكنى أبا سفانة وأبا عبدي، وكان يسير في قومه بالمرباع والمرباع ربع الغنيمة، وكان ولده عدي يعادي النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى طي، فهرب عدي بأهله وولده ولحق بالشام، وخلف أخته سفانة، فأسرتها خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتي بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
يا محمد هلك الوالد، وغاب الرافد، فإن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، فإن أبي كان سيد قومه يفك العاني، ويقتل الجاني، ويحفظ الجار، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائبا، أنا بنت حاتم الطائي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية هذه صفات المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه. خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. وقال فيها: ارحموا عزيزا ذل وغنيا افتقر، وعالما ضاع بين جهال. فأطلقها ومنّ عليها، فاستأذنته في الدعاء له، فأذن له، وقال لأصحابه اسمعوا وعوا، فقالت: أصاب الله ببرك مواقعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سببا في ردها عليه. فلما أطلقها صلى الله عليه وسلم رجعت إلى قومها، فأتت أخاها عديا وهو بدومة الجندل، فقالت له يا أخي: ائت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله، فاني قد رأيت هديا ورأيا سيغلب أهل الغلبة رأيت خصالا تعجبني. رأيته يحب الفقير، ويفك الأسير ويرحم الصغير ويعرف قدر الكبير، وما رأيت أجود ولا أكرم منه صلى الله عليه وسلم. وإني أرى أن تلحق به، فإن يك نبيا فللسابق فضله، وإن يك ملكا فلن يذل في عز اليمن.
فقدم عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فألقى له وسادة محشوة ليفا، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض، فأسلم عدي بن حاتم، وأسلمت أخته سفانة بنت حاتم المتقدم ذكرها، وكانت من أجود نساء العرب، وكان أبوها يعطيها الضريبة من إبله فتهبها وتعطيها الناس، فقال لها أبوها: يا بنية إن الكريمين إذا اجتمعا في المال أتلفاه، فأما أن أعطي وتمسكي، وأما أن أمسك وتعطي، فإنه لا يبقى على هذا شيء، فقالت له: منك تعلمت مكارم الأخلاق. قال ابن الأعرابي: كان حاتم الطائي من شعراء الجاهلية، وكان جوادا يشبه جوده شعره ويصدق قوله فعله، وكان حيثما نزل عرف منزله، وكان مظفرا إذا قاتل غلب، وإذا سئل وهب، وإذا سابق سبق وإذا أسر أطلق، وكان إذا أهلّ رجب الذي كانت تعظمه مضر في الجاهلية نحر كل يوم عشرا من الإبل وأطعم الناس، واجتمعوا إليه.
وكان قد تزوج ماوية بنت عفير، وكانت تلومه على إتلاف المال، فلا يلتفت لقولها. وكان لها ابن عم يقال له مالك، فقال لها يوما: ما تصنعين بحاتم، فو الله لئن وجد مالا ليتلفنّه، وإن لم يجد ليتكلّفن ولئن مات ليتركنّ أولادا عالة على قومك. فقالت ماوية: صدقت إنه كذلك.
وكانت النساء يطلّقن الرجال في الجاهلية وكان طلاقهن أن يكن في بيوت من شعر، فإن كان باب البيت من قبل المشرق حولته إلى المغرب، وإن كان من قبل المغرب حولته إلى المشرق، وإن كان من قبل اليمن حولته إلى الشام، وإن كان من قبل الشام حولته إلى اليمن، فإذا رأى الرجل ذلك علم إنها طلقته، فلم يأتها، ثم قال لها ابن عمها: طلقي حاتما وأنا أتزوجك، وأنا خير لك منه، وأكثر مالا، وأنا أمسك عليك، وعلى ولدك. فلم يزل بها حتى طلّقته، فأتاها حاتم وقد حولت باب الخباء، فقال حاتم لولده: يا عدي ما ترى ما فعلت أمك؟ فقال: قد رأيت ذلك. قال: فأخذ ابنه وهبط بطن واد، فنزل فيه، فجاءه قوم، فنزلوا على باب الخباء كما كانوا ينزلون، وكان عدتهم خمسين فارسا، فضاقت بهم ماوية ذرعا وقالت لجاريتها: اذهبي إلى ابن عمي مالك، وقولي له:
إن أضيافا لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلا، فأرسل إلينا بشيء نقريهم ولبن نسقيهم، وقالت لها: انظري إلى جبينه وفمه، فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه، وإن ضرب بلحيته على زوره «1» ، ولطم رأسه، فأقبلي ودعيه.
فلما أتته وجدته متوسدا وطبا من لبن «2» فأيقظته وأبلغته الرسالة وقالت له: إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكان حاتم، فلطم رأسه بيده وضرب بلحيته، وقال: اقرئيها السلام وقولي لها: هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتما لأجله، وما عندي لبن يكفي أضياف حاتم.
فرجعت الجارية، فأخبرتها بما رأت وبما قال لها،
فقالت لها: اذهبي إلى حاتم وقولي له إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة ولم يعلموا مكانك فأرسل إلينا بناقة نقريهم ولبن نسقيهم.
فأتت الجارية حاتما، فصاحت به، فقالت: لبيك قريبا دعوت، فأخبرته بما جاءت بسببه، فقال لها: حبا وكرامة، ثم قام إلى الإبل، فأطلق اثنتين من عقالهما وصاح بهما حتى أتيا الخباء، ثم ضرب عراقيبهما «1» ، فطفقت ماوية تصيح: هذا الذي طلقتك بسببه. نترك أولادنا وليس لهم شيء. فقال لها: ويحك يا ماوية الذي خلقهم وخلق الخلق متكفل بأرزاقهم.
وكان إذا اشتد البرد وغلب الشتاء أمر غلمانه بنار فيوقدونها في بقاع الأرض لينظر إليها من ضل عن الطريق ليلا، فيقصدها، ولم يكن حاتم يمسك شيئا ما عدا فرسه وسلاحه، فإنه كان لا يجوز بهما، ثم جاد بفرسه في سنة مجدبة.
حكي أن ملكان ابن أخي ماوية قال: قلت لها يوما: يا عمة حدثيني ببعض عجائب حاتم وبعض مكارم أخلاقه، فقالت: يا ابن أخي أعجب ما رأيت منه أصابت الناس سنة أذهبت الخف والظلف «2» ، وقد أخذني وإياه الجوع وأسهرنا، فأخذت سفانة، وأخذ عديا، وجعلنا نعللهما حتى ناما، فأقبل عليّ يحدثني ويعللني بالحديث حتى أنام، فرفقت به لما به من الجوع، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال لي: أنمت؟ فلم أجبه.
فسكت ونظر في فناء الخباء، فإذا شيء قد أقبل، فرفع رأسه، فإذا امرأة فقال: ما هذا؟ فقالت: يا أبا عدي أتيتك من عند صبية يتعاوون كالكلاب أو كالذئاب جوعا، فقال لها: أحضري صبيانك، فوالله لأشبعنهم، فقامت سريعة لأولادها، فرفعت رأسي وقلت له يا حاتم: بماذا تشبع أطفالها، فو الله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل، فقال: والله لأشبعنك وأشبعن صبيانك وصبيانها، فلما جاءت المرأة نهض قائما، وأخذ المدية بيده وعمد إلى فرسه، فذبحه، ثم أجج نارا ودفع إليها شفرة، وقال:
قطعي واشوي وكلي واطعمي صبيانك، فأكلت المرأة وأشبعت صبيانها، فأيقظت أولادي وأكلت وأطعمتهم، فقال: والله إن هذا لهو اللؤم تأكلون وأهل الحي حالهم مثل حالكم، ثم أتى الحي بيتا بيتا يقول لهم انهضوا بالنار، فاجتمعوا حول الفرس، وتقنّع حاتم بكسائه وجلس ناحية، فو الله ما أصبحوا وعلى وجه الأرض منها قليل ولا كثير إلا العظم والحافر، ولا والله ما ذاقها حاتم، وإنه لأشدهم جوعا.
وأخباره كثيرة مشهورة ومن شعره:
أماويّ إنّ المال غاد ورائح
…
ويبقى من المال الأحاديث والذكر
وقد علم الأقوام لو أنّ حاتما
…
أراد ثراء المال كان له وفر «3»
وأغار قوم على طيء، فركب حاتم فرسه وأخذ رمحه ونادى في جيشه وأهل عشيرته، ولقي القوم، فهزمهم وتبعهم، فقال له كبيرهم: يا حاتم هب لي رمحك، فرمى به إليه، فقيل لحاتم: عرضت نفسك للهلاك، ولو عطف عليك لقتلك. فقال: قد علمت ذلك، ولكن ما جواب من يقول هب لي؟
ولما مات عظم على طيء موته، فادعى أخوه أنه يخلفه، فقالت له أمه: هيهات شتان والله ما بين خلقتيكما، وضعته، فبقي والله سبعة أيام لا يرضع حتى ألقمت إحدى ثديي طفلا من الجيران، وكنت أنت ترضع ثديا ويدك على الآخر، فأنّى لك ذلك. قال الشاعر:
يعيش الندى ما عاش حاتم طيّء
…
وإن مات قامت للسخاء مآتم
وكانت العرب تسمي الكلب داعي الضمير، ومتمم النعم، ومشيد الذكر لما يجلب من الأضياف بنباحه.
والضمير: الغريب، وكانوا إذا اشتد البرد وهبت الرياح، ولم تشبّ النيران فرقوا الكلاب حوالي الحي وربطوها إلى العمد لتستوحش فتنبح، فتهتدي الضلّال وتأتي الأضياف على نباحها.
والحكايات في ذكر الأجواد والكرماء والأسخياء وأهل المعروف وما كانوا عليه من السخاء والكرم أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. ففي مثل هذه المناقب فليتنافس المتنافسون ولمثلها فليعمل العاملون، فإن فيها عز الدنيا وشرف الآخرة، وحسن الصيت وخلود جميل الذكر، فإنا لم نجد شيئا يبقى على ممر الدهر إلا الذكر حسنا كان أو قبيحا.
وقد قال الشاعر:
ولا شيء يدوم فكن حديثا
…
جميل الذكر فالدنيا حديث
فانتهز فرصة العمر ومساعدة الدنيا ونفوذ الأمر وقدم لنفسك كما قدموا، تذكر بالصالحات كما ذكروا، وادّخر نفسك في القيامة كما ادّخروا، واعلم أن المأكول للبدن والموهوب للمعاد والمتروك للعدو، فاختر أي الثلاث شئت.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الرابع والثلاثون في البخل والشح وذكر البخلاء وأخبارهم وما جاء عنهم
قال الله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
«1» الآية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيّاكم والشّحّ فإن الشح أهلك من كان قبلكم» وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البخل جامع لمساوىء القلوب وهو زمام يقاد به إلى كل سوء» . وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهما: إن البخل لو كان قميصا ما لبسته أو كان طريقا ما سلكته.
وقيل: بخلاء العرب أربعة: الحطيئة وحميد الأرقط وأبو الأسود الدؤلي وخالد بن صفوان. فأما الحطيئة فمرّ به إنسان وهو على باب داره وبيده عصا، فقال: أنا ضيف فأشار إلى العصا وقال: لكعاب الضيفان أعددتها. وأما حميد الأرقط، فكان هجاء للضيفان فحّاشا عليهم، نزل به مرة أضياف، فأطعمهم تمرا، وهجاهم وذكر أنهم أكلوه بنواه. وأما أبو الأسود، فتصدّق على سائل بتمرة، فقال له: جعل الله نصيبك من الجنة مثلها. وكان يقول: لو أطعنا المساكين في أموالنا كنا أسوأ حالا منهم. وأما خالد بن صفوان، فكان يقول للدرهم إذا دخل عليه:
يا عيّار كم تعير وكم تطرف وتطير، لأطيلن حبسك. ثم يطرحه في الصندوق ويقفل عليه. وقيل له: لم لا تنفق، ومالك عريض؟ فقال: الدهر أعرض منه.
وأنشد بعضهم:
وهبني جمعت المال ثم خزنته
…
وحانت وفاتي هل أزاد به عمرا
إذا خزّن المال البخيل فإنّه
…
سيورثه غمّا ويعقبه وزرا «2»
واستأذن حنظلة على صديق له بخيل، فقيل: هو محموم، فقال: كلوا بين يديه حتى يعرق. وكتب سهل بن هارون كتابا في مدح البخل وأهداه إلى الحسن بن سهل فوقع على ظهره، «قد جعلنا ثوابك عليه ما أمرت به فيه» «3» .
وقال ابن أبي فنن:
ذريني وإتلافي لمالي فإنّني
…
أحبّ من الأخلاق ما هو أجمل
وإنّ أحقّ الناس باللوم شاعر
…
يلوم على البخل الرجال ويبخل
وكان عمر بن يزيد الأسدي بخيلا جدا، أصابه القولنج «4» في بطنه فحقنه الطبيب بدهن كثير فانحل ما في بطنه في الطست، فقال لغلامه: اجمع الدهن الذي نزل من الحقنة وأسرج به. وكان المنصور شديد البخل جدا، مر به مسلم الحادي في طريقه إلى الحج، فحدا له يوما بقول الشاعر:
أغرّ بين الحاجبين نوره
…
يزينه حياؤه وخيره «5»
ومسكه يشوبه كافوره
…
إذا تغذّى رفعت ستوره «6»
فطرب حتى ضرب برجله المحمل ثم قال: يا ربيع أعطه نصف درهم، فقال مسلم: نصف درهم! يا أمير المؤمنين، والله لقد حدوت لهشام، فأمر لي بثلاثين ألف درهم. فقال: تأخذ من بيت مال المسلمين ثلاثين ألف درهم، يا ربيع: وكّل به من يستخلص منه هذا المال. قال
الربيع: فما زلت أمشي بينهما وأروضه حتى شرط مسلم على نفسه أن يحدو له في ذهابه وإيابه بغير مؤنة.
وكان أبو العتاهية، ومروان بن أبي حفصة بخيلين يضرب ببخلهما المثل، قال مروان: ما فرحت بشيء أشد مما فرحت بمائة ألف درهم وهبها لي المهدي، فوزنتها فرجحت درهما، فاشتريت به لحما. واشترى يوما لحما بدرهم، فلما وضعه في القدر دعاه صديقه، فرد اللحم على القصاب بنقصان دانقين، فجعل القصاب ينادي على اللحم ويقول: هذا لحم مروان، واجتاز يوما بأعرابية، فأضافته، فقال: إن وهب لي أمير المؤمنين مائة ألف درهم وهبت لك درهما، فوهبه سبعين ألف درهم، فوهبها أربعة دوانق.
ومن الموصوفين بالبخل: أهل مرو، يقال إن عادتهم إذا ترافقوا في سفر أن يشتري كل واحد منهم قطعة لحم ويشكها في خيط ويجمعون اللحم كله في قدر، ويمسك كل واحد منهم طرف خيطه، فإذا استوى جر كل منهم خيطه وأكل لحمه وتقاسموا المرق.
وقيل لبخيل: من أشجع الناس؟ قال: من سمع وقع أضراس الناس على طعامه ولم تنشق مرارته. وقيل لبعضهم: أما يكسوك محمد بن يحيى؟ فقال: والله لو كان له بيت مملوء إبرا، وجاء يعقوب ومعه الأنبياء شفعاء والملائكة ضمناء يستعير منه إبرة ليخيط بها قميص يوسف الذي قدّ من دبر «1» ، ما أعاره إياها، فكيف يكسوني؟ وقد نظم ذلك من قال:
لو أن دارك أنبتت لك واحتشت
…
إبرا يضيق بها فناء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك إبرة
…
ليخيط قدّ قميصه لم تفعل
وكان المتنبي بخيلا جدا مدحه إنسان بقصيدة، فقال له:
كم أمّلت منا على مدحك؟ قال: عشرة دنانير. قال له:
والله لو ندفت قطن الأرض بقوس السماء على جباه الملائكة ما دفعت لك دانقا.
وقال دعبل: كنا عند سهل بن هارون، فلم نبرح حتى كاد يموت من الجوع، فقال: ويلك يا غلام آتنا غداءنا، فأتي بقصعة فيها ديك مطبوخ تحته ثريد قليل، فتأمل الديك فرآه بغير رأس، فقال لغلامه: وأين الرأس؟ فقال:
رميته، فقال: والله إني لأكره من يرمي برجله، فكيف برأسه؟ ويحك أما علمت أن الرأس رئيس الأعضاء ومنه يصيح الديك ولولا صوته ما أريد، وفيه فرقه الذي يتبرك به وعينه التي يضرب بها المثل، فيقال: شراب كعين الديك، ودماغه عجيب لوجع الكلية، ولم نر عظما أهش تحت الأسنان من عظم رأسه، وهبك ظننت أني لا آكله، أما قلت عنده من يأكله. أنظر في أي مكان رميته فأتني به.
فقال: والله لا أدري أين رميته، فقال: ولكني أنا أعرف أين رميته. رميته في بطنك، الله حسبك.
وقيل: من الناس من يبخل بالطعام ويجود بالمال وبالعكس. قال بعضهم في أبي دلف:
أبو دلف يضيّع ألف ألف
…
ويضرب بالحسام على الرّغيف
أبو دلف لمطبخه قتار
…
ولكن دونه سلّ السيوف «2»
واشتكى رجل مروزي صدره من سعال، فوصفوا له سويق اللوز فاستثقل النفقة، ورأى الصبر على الوجع أخف عليه من الدواء، فبينما هو يماطل الأيام ويدافع الآلام إذ أتاه بعض أصدقائه، فوصف له ماء النّخالة، وقال: إنه يجلو الصدر، فأمر بالنخالة فطبخت له وشرب من مائها، فجلا صدره ووجده يعصم «3» ، فلما حضر غداؤه أمر به، فرفع إلى العشاء، وقال لامرأته: اطبخي لأهل بيتنا النخالة فإني وجدت ماءها يعصم ويجلو الصدور. فقالت: لقد جمع الله لك بهذه النخالة بين دواء وغذاء، فالحمد لله على هذه النعمة «4» .
وعن خاقان بن صبح قال: دخلت على رجل من أهل خراسان ليلا فأتانا بمسرجة فيها فتيلة في غاية الرقة، وقد علق فيها عودا بخيط، فقلت له: ما بال هذا العود مربوطا؟
قال: قد شرب الدهن وإذا ضاع ولم نحفظه احتجنا إلى غيره، فلا نجد إلا عودا عطشانا، ونخشى أن يشرب الدهن.
قال: فبينما أنا أتعجب وأسأل الله العافية إذ دخل علينا شيخ من أهل مرو، فنظر إلى العود، فقال الرجل: يا فلان
لقد فررت من شيء ووقعت فيما هو شر منه، أما علمت أن الريح والشمس يأخذان من سائر الأشياء وينشفان هذا العود، لم لا اتخذت مكان هذا العود إبرة من حديد، فإن الحديد أملس وهو مع ذلك غير نشاف، والعود أيضا ربما يتعلق به شعرة من قطن الفتيلة فينقصها. فقال له الرجل الخراساني: أرشدك الله، ونفع بك، فلقد كنت في ذلك من المسرفين.
وقال الهيثم بن عدي: نزل على أبي حفصة الشاعر رجل من اليمامة، فأخلى له المنزل ثم هرب مخافة أن يلزمه قراه في هذه الليلة فخرج الضيف واشترى ما احتاج إليه، ثم رجع وكتب إليه:
يا أيها الخارج من بيته
…
وهاربا من شدة الخوف
ضيفك قد جاء بزاد له
…
فارجع وكن ضيفا على الضيف
واشترى رجل من البخلاء دارا وانتقل إليها، فوقف ببابه سائل فقال له: فتح الله عليك. ثم وقف ثان، فقال له مثل ذلك، ثم وقف ثالث، فقال له مثل ذلك، ثم التفت إلى ابنته، فقال لها: ما أكثر السّؤال في هذا المكان. قالت:
يا أبت ما دمت مستمسكا لهم بهذه الكلمة فما تبال كثروا أم قلوا. وألأم اللئام وأبخلهم حميد الأرقط الذي يقال له هجّاء الأضياف، وهو القائل في ضيف له يصف أكله بهذا البيت من قصيدة له:
ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت
…
وبين أخرى تليها قيد أظفور
وقال فيه أيضا:
تجهز كفّاه ويحدر حلقه
…
إلى الزور ما ضمّت عليه الأنامل «1»
وأكل أعرابي مع أبي الأسود رطبا فأكثر، ومد أبو الأسود يده إلى رطبة ليأخذها فسبقه الأعرابي إليها فسقطت منه في التراب، فأخذها أبو الأسود وقال: لا أدعها للشيطان يأكلها، فقال الأعرابي: والله ولا لجبريل وميكائيل لو نزل من السماء ما تركها.
وقال أعرابي لنزيل نزل به: نزل بواد غير ممطور ورجل بك غير مسرور، فأقم بعدم أو ارحل بندم.
وللحمدوني:
رأيت أبا زرارة قال يوما
…
لحاجبه وفي يده الحسام
لئن وضع الخوان ولاح شخص
…
لاختطفن رأسك والسلام
فقال سوى أبيك فذاك شيخ
…
بغيض ليس يردعه الكلام
فقام وقال من حنق إليه
…
ببيت لم يرد فيه القيام
أبي وابنا أبي والكلب عندي
…
بمنزلة إذا حضر الطعام
وقال له أبن لي يا ابن كلب
…
على خبزي أصادر أو أضام
إذا حضر الطعام فلا حقوق
…
علي لوالديّ ولا ذمام
فما في الأرض أقبح من خوان
…
عليه الخبز يحضره الزحام
فأين هذا من القائل:
بخيل يرى في الجود عارا وإنما
…
يرى المرء عارا أن يضنّ ويبخلا
إذا المرء أثرى ثم لم يرج نفعه
…
صديق فلاقته المنية أوّلا
وقال آخر:
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري
…
فليس إليه ما حييت سبيل
أرى الناس إخوان الكريم وما أرى
…
بخيلا له في العالمين خليل
وقالوا: إذا سألت لئيما شيئا فعاجله ولا تدعه يفكر، فإنه كلما فكّر ازداد بعدا وقال ربعي الهمداني:
جمعت صنوف المال من كلّ وجهة
…
وما نلتها إلّا بكفّ كريم
وإني لأرجو أن أموت وتنقضي
…
حياتي وما عندي يد للئيم
وأنشد الجاحظ لأبي الشمقمق:
ممّن تعلمت هذا
…
أن لا تجود بشي
أما مررت بعبدة
…
لعبد حاتم طي
ومما قالته الشعراء في البخلاء وطعامهم، فمن أهجى ما قيل فيهم بيت جرير في بني تغلب:
والتغلبي إذا تنحنح للقرى
…
حكّ أسته وتمثّل الأمثالا
وله أيضا فيهم:
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم
…
واستوثقوا من رتاج الباب والدار
قوم إذا استنبح الضيفان كلبهم
…
قالوا لأمّهم بولي على النار
فتمنع البول شحّا أن تجود به
…
وما تبول لهم إلّا بمقدار
والخبز كالعنبر الهندي عندهم
…
والقمح خمسون إردبّا بدينار
فأين هؤلاء من الذي قال فيه الشاعر:
أبلج بين حاجبيه نوره
…
إذا تغدى رفعت ستوره
وقال بعضهم في بخيل:
أتانا بخيل بخبز له
…
كمثل الدراهم في رقته
إذا ما تنفس حول الخوان
…
تطاير في البيت من خفّته
وقال آخر:
تراهم خشية الأضياف خرسا
…
يقيمون الصلاة بلا أذان
وقال آخر وقد بات عند بخيل:
فبتنا كأنّا بينهم أهل مأتم
…
على ميّت مستودع بطن ملحد
يحدّث بعضا بعضنا بمصابه
…
ويأمر بعضا بعضنا بالتجلد «1»
وقال آخر:
وجيرة لا ترى في الناس مثلهم
…
إذا يكون لهم عيد وإفطار
إن يوقدوا يوسعونا من دخانهم
…
وليس يبلغنا ما تطبخ النار
وقال آخر وأجاد:
فصدّق أيمانه إن قال مجتهدا
…
لا والرغيف فذاك البرّ من قسمه
فإن هممت به فاعبث بخبزته
…
فإنّ موقعها من لحمه ودمه
قد كان يعجبني لو أنّ غيرته
…
على جرادقه «2» كانت على حرمه
وقال آخر:
ذهب الكرام فلا كرام
…
وبقي العضاريط اللّئام
من لا يقيل ولا يني
…
ل ولا يشمّ له طعام
وقال آخر:
خليلي من كعب أعينا أخاكما
…
على دهره إنّ الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه
…
مخافة أن يرجى نداء حزين
إذا جئته في حاجة سدّ بابه
…
فلم تلقه إلّا وأنت كمين «3»
وقال آخر:
له يومان يوم ندى ويومّ
…
يسل السيف فيه من القراب «4»
فأما جوده فعلى قحاب
…
وأما سيفه فعلى الكلاب
وقال آخر:
زففت إلى نبهان من صفو فكرتي
…
عروسا غدا بطن الكتاب لها صدرا
فقبّلها عشرا وهام بحبها
…
فلما ذكرت المهر طلّقها عشرا
وقال آخر:
لو عبر البحر بأمواجه
…
في ليلة مظلمة باردة
وكفّه مملوءة خردلا
…
ما سقطت من كفّه واحدة «1»
وقال آخر:
يا قائما في داره قاعدا
…
من غير معنى لا ولا فائدة
قد مات أضيافك من جوعهم
…
فاقرأ عليهم سورة المائدة
وقال آخر:
نوالك دونه شوك القتاد
…
وخبزك كالثريا في البعاد «2»
فلو أبصرت ضيفا في منام
…
لحرمت الرّقاد إلى العباد
وقال آخر:
لا تعجبنّ لخبز زلّ من يده
…
فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا
وقال ابن أبي حازم:
وقالوا قد مدحت فتى كريما
…
فقلت وكيف لي بفتى كريم
بلوت ومرّ بي خمسون حولا
…
وحسبك بالمجرب من عليم
فلا أحد يعدّ ليوم خير
…
ولا أحد يجود على عديم «3»
ومن رؤساء أهل البخل محمد بن الجهم، وهو الذي قال: وددت لو أن عشرة من الفقهاء وعشرة من الخطباء وعشرة من الشعراء وعشرة من الأدباء تواطأوا على ذمي واستسهلوا شتمي حتى ينتشر ذلك في الآفاق، فلا يمتد إلي أمل آمل ولا يبسط نحوي رجاء راج. وقال له أصحابه يوما إنّا نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار شهوتك، فلو جعلت لنا علامة نعرف بها وقت استثقالك لمجالستنا، فقال: علامة ذلك أن أقول يا غلام هات الغداء.
وقال عمر بن ميمون مررت ببعض طرق الكوفة فإذا أنا برجل يخاصم جارا له، فقلت: ما بالكما؟ فقال أحدهما:
إن صديقا لي زارني فاشتهى رأسا فاشتريته وتغدينا وأخذت عظامه فوضعتها على باب داري أتجمل بها فجاء هذا فأخذها ووضعها على باب داره يوهم الناس أنه هو الذي اشترى الرأس.
قال رجل من البخلاء لأولاده: اشتروا لي لحما، فاشتروه، فأمر بطبخه فلما استوى أكله جميعه حتى لم يبق في يده إلا عظمة، وعيون أولاده ترمقه «4» . فقال ما أعطي أحدا منكم هذه العظمة حتى يحسن وصف أكلها. فقال ولده الأكبر: أمشمشها يا أبت وأمصها حتى لا أدع للذر «5» فيها مقيلا «6» قال: لست بصاحبها.
فقال الأوسط: ألوكها يا أبت وألحسها حتى لا يدري أحد لعام هي أم لعامين. قال لست بصاحبها.
فقال الأصغر: يا أبت أمصها ثم أدقها وأسفها سفا.
قال: أنت صاحبها، وهي لك زادك الله معرفة وحزما.
ووقف أعرابي على باب أبي الأسود وهي يتغدى، فسلم فرد عليه ثم أقبل على الأكل ولم يعزم عليه، فقال له الأعرابي: أما أني قد مررت بأهلك، قال: كذلك كان طريقك. قال: وامرأتك حبلى، قال: كذلك كان عهدي بها. قال: قد ولدت، قال: كان لا بد لها أن تلد. قال:
ولدت غلامين. قال: كذلك كانت أمها. قال: مات أحدهما. قال: ما كانت تقوى على إرضاع اثنين. قال: ثم مات الآخر. قال: ما كان ليبقى بعد موت أخيه. وقال:
ماتت الأم. قال: حزنا على ولديها. قال: ما أطيب طعامك. قال: لأجل ذلك أكلته وحدي وو الله لا ذقته يا أعرابي.
وقيل: خرج أعرابي قد ولّاه الحجاج بعض النواحي فأقام بها مدة طويلة، فلما كان في بعض الأيام ورد عليه أعرابي من حيه فقدم إليه الطعام وكان إذ ذاك جائعا، فسأله عن أهله وقال: ما حال ابني عمير؟ قال: على ما تحب قد