الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال، فلما قرأ عمر رضي الله تعالى عنه هذه الأبيات قال: أما ولي السلطان، فلا، وأقطعه دارا بالبصرة في سوقها، فلما مات عمر ركب راحلته وتوجه نحو المدينة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل الثالث من هذا الباب في ذكر من مات بالحب والعشق
حدّث أبو القاسم بن إسماعيل بن عبد الله المأمون قال:
حدثني أبي قال: كان بالمدينة قينة من أحسن الناس وجها وأكملهم عقلا وأكثرهم أدبا قد قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية فوقعت عند يزيد بن عبد الملك فأخذت بمجامع قلبه فقال لها ذات يوم: ويحك أما لك قرابة أو أحد تحبين أن أضيفه وأسدي إليه معروفا؟ قالت:
يا أمير المؤمنين أما قرابة فلا ولكن بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاي وأحب أن ينالهم خير مما صرت إليه.
فكتب إلى عامله بالمدينة في إحضارهم إليه وأن يدفع إلى كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم في الدخول عليه فأذن لهم وأكرمهم غاية الإكرام وسألهم عن حوائجهم فأما اثنان منهم فذكرا حوائجهما فقضاها، وأما الثالث فسأله عن حاجته فقال:
يا أمير المؤمنين ما لي حاجة، قال: ويحك أو لست أقدر على حوائجك؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين ولكن حاجتي ما أظنك تقضيها فقال: ويحك فاسألني فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها، قال: بلى، فلي الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا بسببها تغني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال فافعل قال: فتغير وجه يزيد ثم قام من مجلسه فدخل على الجارية فأعلمها فقالت: وما عليك يا أمير المؤمنين فأمر بالفتى فأحضر وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فنصبت فقعد يزيد على أحدها والجارية على الآخر والفتى على الثالث ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت ثم قال للفتى: سل حاجتك فقال: تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر:
لا أستطيع سلوّا عن مودتها
…
أو يصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا
أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني
…
حتى إذا قلت هذا صادق نزعا «1»
فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت وقال للفتى سل حاجتك فقال:
مرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر:
تخيرت من نعمان عود أراكة
…
لهند ولكن من يبلّغه هندا
ألا عرّجا بي بارك الله فيكما
…
وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا
فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت ثم قال للفتى سل حاجتك؟ قال:
تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر:
منيّ الوصال ومنكم الهجر
…
حتى يفرّق بيننا الدّهر
والله لا أسلوكمو أبدا
…
ما لاح بدر أو بدا فجر
فأمرها فغنت قال: فلم تتم الأبيات حتى خرّ الفتى مغشيا عليه فقال يزيد للجارية: قومي انظري ما حاله فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت، فقال لها يزيد: ابكيه، فقالت: لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي، فقال لها:
ابكيه فوالله لو عاش ما انصرف إلا بك، فبكت الجارية وبكى أمير المؤمنين وأمر بالفتى فجهز ودفن، وأما الجارية فلم تمكث بعده إلا أياما قلائل وماتت.
وحكي عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قدم على عبد الملك بن مروان فجلس ذات ليلة يسامره فتذاكرا الغناء والجواري المغنيات والعشق فقال عبد الملك لعبد الله: حدثني بأمر ما مر لك في هذه الأغاني وما رأيت من الجواري؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين اشتريت جارية مولدة بعشرة آلاف درهم وكانت حاذقة مطبوعة فوصفت ليزيد بن معاوية فكتب إلي في شأنها فكتبت إليه: والله لا تخرج مني ببيع ولا هبة فأمسك عني فكانت عندي على تلك الحالة لا أزداد فيها إلا حبا، فبينما أنا ذات ليلة إذ أتتني عجوز من عجائزنا فذكرت لي أن بعض أعراب المدينة يحبها وتحبه ويراها وتراه وإنه يجيء كل ليلة متنكرا فيقف بالباب فيسمع غناءها ويبكي شغفا وحبا، فراعيت ذلك الوقت الذي قالت عليه العجوز فإذا به قد أقبل مقنعا رأسه وقعد مستخفيا فلم أدع بها في تلك الليلة وجعلت أتأمل موضعها وموضعه فإذا بها تكلمه ويكلمها ولم أر بينهما إلا عتبا ولم يزالا كذلك حتى ابيض الصبح فدعوت بها وقلت لقيّمة الجواري أصلحي فلانة بما يمكنك فأصلحتها وزينتها، فلما جاءت بها قبضت على
يديها وفتحت الباب وخرجت فجئت إلى الفتى فحركته فانتبه مذعورا فقلت: لا بأس عليك ولا خوف هي هبة مني إليك، فدهش الفتى ولم يجبني فدنوت إلى أذنه وقلت: قد أظفرك الله تعالى ببغيتك فقم وانصرف بها إلى منزلك فلم يرد جوابا فحركته فإذا هو ميت فلم أر شيئا قط كان أعجب من أمره. قال عبد الملك: لقد حدثتني بعجب فما صنعت الجارية؟ قلت: ماتت والله بعده بأيام بعد نحول عظيم وتعليل وماتت كمدا ووجدا على الغلام.
وقيل أن عبد الله بن عجلان الهندي رأى أثر كف عشيقته في ثوب زوجها فمات.
وذكر محمد بن واسع الهيتي أن عبد الملك بن مروان بعث كتابا إلى الحجاج بن يوسف الثقفي يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عند عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد
…
إذا ورد عليك كتابي هذا وقرأته فسير لي ثلاث جوار مولدات أبكارا يكون إليهن المتنهى في الجمال وأكتب لي بصفة كل جارية منهن ومبلغ ثمنها من المال فلما ورد الكتاب على الحجاج دعا بالنخاسين وأمرهم بما أمره به أمير المؤمنين وأمرهم أن يسيروا إلى أقصى البلاد حتى يقعوا بالغرض وأعطاهم المال وكتب لهم كتبا إلى كل الجهات فساروا يطلبون ما أراد أمير المؤمنين فلم يزالوا من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم حتى وقعوا بالغرض ورجعوا إلى الحجاج بثلاث جوار مولدات ليس لهن مثيل قال: وكان الحجاج فصيحا فجعل ينظر إلى كل واحدة منهن ومبلغ ثمنها فوجدهن لا يقام لهن بقيمة وأن ثمنهن ثمن واحدة منهن ثم كتب كتابا إلى عبد الملك بن مروان يقول فيه بعد الثناء الجميل:
وصلني كتاب أمير المؤمنين أمتعني الله تعالى ببقائه يذكر فيه أني أشتري له ثلاث جوار مولدات أبكارا وأن أكتب له صفة كل واحدة منهن وثمنها فأما الجارية الأولى أطال الله تعالى بقاء أمير المؤمنين فإنها جارية عيطاء السوالف عظيمة الروادف كحلاء العينين حمراء الوجنتين قد أنهدت نهداها والتفت فخذاها كأنها ذهب شيب بفضة وهي كما قيل:
بيضاء فيها إذا استقبلتها دعج
…
كأنها فضّة قد شابها ذهب
وثمنها يا أمير المؤمنين ثلاثون ألف درهم، وأما الثانية فأنها جارية فائقة في الجمال معتدلة القدر والكمال تشفي السقيم بكلامها الرخيم وثمنها يا أمير المؤمنين ستون ألف درهم، وأما الثالثة، فإنها جارية فاترة الطرف لطيفة الكف عميمة الردف شاكرة للقليل مساعدة للخليل بديعة الجمال كأنها خشف الغزال وثمنها يا أمير المؤمنين ثمانون ألف درهم ثم أطنب في الشكر والثناء على أمير المؤمنين وطوى الكتاب وختمه ودعا النخاسين فقال لهم: تجهزوا للسفر بهؤلاء الجواري إلى أمير المؤمنين. فقال أحد النخاسين:
أيد الله الأمير إني رجل كبير ضعيف عن السفر ولي ولد ينوب عني أفتأذن لي في ذلك؟ قال: نعم، فتجهزوا وخرجوا ففي بعض مسيرهم نزلوا يوما ليستريحوا في بعض الأماكن فنامت الجواري فهبت الريح فانكشف بطن إحداهن وهي الكوفية فبان نور ساطع وكان اسمها مكتوم فنظر إليها ابن النخاس وكان شابا جميلا ففتن بها لساعته فأتاها على غفلة من أصحابه وجعل يقول:
أمكتوم عيني لا تملّ من البكا
…
وقلبي بأسهام الأسى يترشّق
أمكتوم كم من عاشق قتل الهوى
…
وقلبي رهين كيف لا أتعشّق
فأجابته تقول:
لو كان حقا ما تقول لزرتنا
…
ليلا إذا هجعت عيون الحسّد
قال: فلما جن الليل انتضى الفتى ابن النخاس سيفه وأتى نحو الجارية فوجدها قائمة تنتظر قدومه فأخذها وأراد أن يهرب ففطن به أصحابه فأخذوه وكتفوه وأوثقوه بالحديد ولم يزل مأسورا معهم إلى أن قدموا على عبد الملك بن مروان فلما مثلوا بالجواري بين يديه أخذ الكتاب ففتحه وقرأه فوجد الصفة وافقت اثنتين من الجواري ولم توافق الثالثة ورأى في وجهها صفرة وهي الجارية الكوفية فقال للنخاسين: ما بال هذه الجارية لم توافق حليتها التي ذكرها الحجاج في كتابه وما هذا الاصفرار الذي بها والانتحال فقالوا يا أمير المؤمنين نقول ولنا الأمان، قال: وإن كذبتم هلكتم. فخرج أحد النخاسين وأتى بالفتى وهو مصفّد بالحديد فلما قدموه بين يدي أمير المؤمنين بكى بكاء شديدا وأيقن بالعذاب ثم أنشأ يقول:
أمير المؤمنين أتيت رغما
…
وقد شدّت إلى عنقي يديّا
مقرّا بالقبيح وسوء فعلي
…
ولست بما رميت به بريّا
فإن تقتل ففوق القتل ذنبي
…
وأن تعفو فمن جود عليّا
فقال عبد الملك: يا فتى ما حملك على ما صنعت
استخفاف بنا أم هوى الجارية، قال: وحق رأسك يا أمير المؤمنين وعظم قدرك ما هو إلا هوى الجارية فقال: هي لك بما أعددته لها فأخذها الغلام بكل ما أعده لها أمير المؤمنين من الحلي والحلل وسار بها فرحا مسرورا إلى نحو أهله حتى إذا كانا ببعض الطريق نزلا بمرحلة ليلا فتعانقا وناما فلما أصبح الصباح وأراد الناس السير نبهوهما فوجدوهما ميتين فبكوا عليهما ودفنوهما بالطريق ووصل خبرهما إلى عبد الملك فبكى عليهما وتعجب من ذلك.
ومن ذلك
…
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخرج خالد بن الوليد المخزومي رضي الله تعالى عنه إلى مشركي خزاعة قال خالد: فأخرجني إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف فارس من أهل النجدة والبأس قال: فجد بنا المسير إليهم فسبق إليهم الخبر فخرجوا إلينا فقاتلناهم قتالا شديدا حتى تعالى النهار وطار الشرار وهاجت الفرسان وتلاحمت الأقران فلولا الله تعالى أيدنا بنصره لكادت الدائرة أن تكون علينا ولكن تداركنا الله برحمة منه فهزمناهم وقتلناهم قتلا ذريعا ولم ندع لهم فارسا إلا قتلناه. ثم طلبنا البيوت فنهبنا وسبينا. فلما هدأ القتال والنهب أمرت أصحابي بجمع السبايا لنقدم بهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما خرجنا وأحصيناهم، خرج منهم غلام لم يراهق الحلم، ولم يجر عليه القلم، وهو ماسك بشابة جميلة فقلنا له: يا غلام انعزل عن النساء فصاح صيحة مزعجة وهجم علينا فو الله لقد قتل منا في بقية نهارنا مائة رجل، قال خالد: فرأيت أصحابي قد كرهوا قتاله، وتأخروا عنه فملك منهم جوادا وعلا على ظهره ونادى: البراز يا خالد قال: فبرزت إليه بنفسي بعد أن أنشدت شعرا فو الله لم يمهلني حتى أتم شعري بل حمل علي فتطاعنا حتى تكسرت القنا وتضاربنا بالسيوف حتى تفللت فوالله لقد اقتحمت الأهوال ومارست الأبطال فما رأيت أشد من حملاته ولا أسرع من هجماته فبينما نحن نعترك إذ كبا به فرسه فصار بين قوائمه فوثبت عليه وعلوت على صدره وقلت له: إفد نفسك بقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنا أردك من حيث جئت، قال: يا خالد ما أنصفتني أتركني حتى أجد من نفسي القوة، قال خالد: فتركته، وقلت: لعله أن يسلم ثم شددته وثاقا وصفدته بالحديد وأنا أبكي إشفاقا على حسن شبابه ثم أوثقته على بعير لي فلما علم أن لا خلاص له قال: يا خالد سألتك بحق إلهك إلا ما شددت ابنة عمي على ناقة أخرى إلى جانبي؟ قال خالد: فأخذتها وشددتها على ناقة أخرى إلى جانبه ووكلت بهما جماعة من أشد القوم بالقواضب والرماح وسرنا، فلما استقامت مطاياهما جعل الغلام والجارية يتناشدان الأشعار ويبكيان إلى آخر الليل فسمعته يذكر قصيدة يسب فيها الإسلام ويذكر أن لا يسلم أبدا فأخذت السيف وضربته فرميت رأسه فصاحت الجارية وأكبت صارخة فحركتها فوجدتها ميتة فأبركنا الأباعر وحفرنا ودفناهما فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلنا نحدثه بعجيب ما رأينا مع الغلام فقال: لا تحدثوني شيئا أنا أحدثكم به فقلنا: من أعلمك به يا رسول الله؟
قال: أخبرني جبريل عليه السلام وتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من موافقتهما وموافقة أجلهما.
ومن ذلك، ما حكاه الثوري، قال: حدثني جبلة بن الأسود وما رأيت شيخا أصبح ولا أوضح منه قال:
خرجت في طلب إبل لي ضلت، فما زلت في طلبها إلى أن أظلم الظلام، وخفيت الطريق، فسرت أطوف وأطلب الجادة فلا أجدها فبينما أنا كذلك إذ سمعت صوتا حسنا بعيدا وبكاء شديدا فشجاني حتى كدت أسقط عن فرسي؛ فقلت: لأطلبن الصوت ولو تلفت نفسي فما زلت أقرب إليه إلى أن هبطت واديا فإذا راع قد ضم غنما له إلى شجرة وهو ينشد ويترنم:
وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها
…
أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ودّ جليسها
…
إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
قال فدنوت منه وسلمت عليه فرد السلام وقال: من الرجل؟ فقلت: منقطع به الممالك، أتاك يستجير بك، ويستعينك، قال: مرحبا وأهلا انزل على الرحب والسعة فعندي وطاء وطيء وطعام غير بطيء. فنزلت فنزع شملته وبسطها تحتي ثم أتاني بتمر وزبد ولبن وخبز ثم قال:
اعذرني في هذا الوقت. فقلت: والله ان هذا لخير كثير.
فمال إلى فرسي فربطه وسقاه وعلفه فلما أكلت توضأت وصليت واتكأت فإني لبين النائم واليقظان إذ سمعت حس شيء وإذا بجارية قد أقبلت من كبد الوادي فضحت الشمس حسنا فوثب قائما إليها وما زال يقبل الأرض حتى وصل إليها وجعل يتحادثان. فقلت: هذا رجل عربي ولعلها حرمة له، فتناومت وما بي نوم فما زالا في أحسن حديث ولذة مع شكوى وزفرات إلا أنهما لا يهم أحدهما لصاحبه بقبيح فلما طلع الفجر عانقها وتنفسا الصعداء وبكى وبكت ثم قال لها: يا ابنة العم سألتك بالله لا تبطئي عني كما أبطأت الليلة، قالت: يا ابن العم أما علمت أني
أنتظر الواشين والرقباء حتى يناموا. ثم ودعته وسارت وكل واحد منهما يلتفت نحو الآخر ويبكي. فبكيت رحمة لهما وقلت في نفسي: والله لا أنصرف حتى أستضيفه الليلة وأنظر ما يكون من أمرهما فلما أصبحنا قلت له: جعلني الله فداءك، الأعمال بخواتيمها وقد نالني أمس تعب شديد فأحب الراحة عندك اليوم، فقال: على الرحب والسعة لو أقمت عندي بقية عمرك ما وجدتني إلا كما تحب؛ ثم عمد إلى شاة فذبحها وقام إلى نار فأججها وشواها وقدمها إلي فأكلت وأكل معي إلا أنه أكل أكل من لا يريد الأكل فلم أزل معه نهاري ذلك ولم أر أشفق منه على غنمه ولا ألين جانبا ولا أحلى كلاما إلا أنه كالولهان ولم أعلمه بشيء مما رأيت فلما أقبل الليل وطأت وطائي فصليت وأعلمته أني أريد الهجوع لما مر بي من التعب بالأمس، فقال لي: نم هنيئا، فأظهرت النوم ولم أنم فأقام ينتظرها إلى هنيهة من الليل فأبطأت عليه فلما حان وقت مجيئها قلق قلقا شديدا وزاد عليه الأمر فبكى ثم جاء نحوي فحركني فأوهمته أني كنت نائما فقال: يا أخي، هل رأيت الجارية التي كانت تتعهدني وجاءتني البارحة، قلت: قد رأيتها، قال: فتلك ابنة عمي وأعز الناس علي وإني لها محب ولها عاشق وهي أيضا محبة لي أكثر من محبتي لها وقد منعني أبوها من تزويجها لي لفقري وفاقتي وتكبر علي فصرت راعيا بسببها فكانت تزورني في كل ليلة وقد حان وقتها الذي تأتي فيه واشتغل قلبي وتحدثني نفسي أن الأسد قد افترسها، ثم أنشأ يقول:
ما بال ميّة لا تأتي كعادتها
…
أعاقها طرب أم صدّها شغل
نفسي فداؤك قد أهللت بي سقما
…
تكاد من حرّه الأعضاء تنفصل «1»
قال: ثم انطلق عني ساعة فغاب وأتى بشيء فطرحه بين يدي فإذا هي الجارية قد قتلها الأسد وأكل أعضاءها وشوه خلقتها ثم أخذ السيف وانطلق فأبطأ هنيهة وأتى ومعه رأس الأسد فطرحه ثم أنشأ يقول:
إلا أيها الليث المدلّ بنفسه
…
هلكت لقد جرّيت حقا لك الشّرا
وخلفتني فردا وقد كنت آنسا
…
وقد عادت الأيام من بعدها غبرا «2»
ثم قال: بالله يا أخي إلا ما قبلت ما أقول لك فإني أعلم أن المنية قد حضرت لا محالة فإذا أنا مت فخذ عباءتي هذه فكفني فيها وضم هذا الجسد الذي بقي منها معي، وادفنا في قبر واحد وخذ شويهاتي «3» هذه وجعل يشير إليها فسوف تأتيك امرأة عجوز هي والدتي فأعطها عصاي هذه وثيابي وشويهاتي وقل لها: مات ولدك كمدا بالحب فإنها تموت عند ذلك فادفنها إلى جانب قبرنا وعلى الدنيا مني السلام.
قال: فو الله ما كان إلا قليل حتى صاح ووضع يده على صدره ومات لساعته، فقلت: والله لأصنعن له ما أوصاني به فغسلته وكفنته في عباءته وصليت عليه ودفنته ودفنت باقي جسدها إلى جانبه وبت تلك الليلة باكيا حزينا فلما كان الصباح أقبلت امرأة عجوز وهي كالولهانة فقالت لي:
هل رأيت شابا يرعى غنما فقلت لها: نعم، وجعلت أتلطف بها ثم حدثتها بحديثه وما كان من خبره فأخذت تصيح وتبكي وأنا ألاطفها إلى أن أقبل الليل وما زالت تبكي بحرقة إلى أن مضى من الليل برهة فقصدت نحوها فإذا هي مكبة على وجهها وليس لها نفس يصعد ولا جارحة تتحرك فحركتها فإذا هي ميتة فغسلتها وصليت عليها ودفنتها إلى جانب قبر ولدها وبت الليلة الرابعة فلما كان الفجر قمت فشددت فرسي وجمعت الغنم وسقتها فإذا أنا بصوت هاتف يقول:
كنّا على ظهرها والدهر يجمعنا
…
والشمل مجتمع والدار والوطن
فمزّق الدهر بالتفريق ألفتنا
…
وصار يجمعنا في بطنها الكفن
قال: فأخذت الغنم ومضيت إلى الحي لبني عمهم فأعطيتهم الغنم وذكرت لهم القصة فبكى عليهم أهل الحي بكاء شديدا ثم مضيت إلى أهلي وأنا متعجب مما رأيت في طريقي.
ومن ذلك
…
ما حكي أن زوج عزة أراد أن يحج بها فسمع كثير الخبر فقال: والله لأحجنّ لعلي أفوز من عزة بنظرة، قال: فبينما الناس في الطواف إذ نظر كثير لعزة وقد مضت إلى جملة فحيته ومسحت بين عينيه وقالت له: يا جمل فبادر ليلحقها ففاتته فوقف على الجمل وقال:
حيتّك عزة بعد الحجّ وانصرفت
…
فحيّ ويحك من حيّاك يا جمل
لو كنت حيّيتها ما كنت ذا سرف
…
عندي ولا مسّك الإدلاج والعمل
قال: فسمعه الفرزدق فتبسم وقال له: من تكون يرحمك الله قال: أنا كثير عزة فمن أنت يرحمك الله؟ قال:
أنا الفرزدق بن غالب التميمي، قال: أنت القائل:
رحلت جمالهم بكلّ أسيلة
…
تركت فؤادي هائما مخبولا «1»
لو كنت أملكهم إذا لم يرحلوا
…
حتى أودّع قلبي المتبولا «2»
ساروا بقلبي في الحدوج وغادروا
…
جسمي يعالج زفرة وعويلا «3»
فقال الفرزدق: نعم، فقال كثير: والله لولا إني بالبيت الحرام لأصيحن صيحة أفزع هشام بن عبد الملك وهو على سرير ملكه، فقال الفرزدق: والله لأعرّفن بذلك هشاما ثم توادعا وافترقا فلما وصل الفرزدق إلى دمشق دخل إلى هشام بن عبد الملك فعرّفه بما اتفق له مع كثير فقال له: اكتب إليه بالحضور عندنا لنطلق عزة من زوجها ونزوجه إياها، فكتب إليه بذلك فخرج كثير يريد دمشق فلما خرج من حيه وسار قليلا رأى غرابا على بانة وهو يفلي نفسه وريشه يتساقط فاصفر لونه وارتاع من ذلك وجدّ في السير ثم إنه مال ليسقي راحلته من حي بني فهد وهم زجرة الطير فبصر به شيخ من الحي فقال: يا ابن أخي أرأيت في طريقك شيئا فراعك؟ قال: نعم رأيت غرابا على بانة يتفلى وينتف ريشه فقال له الشيخ: أما الغراب فإنه اغتراب والبانة بين والتفلي فرقة، فازداد كثير حزنا على حزنه لما سمع من الشيخ هذا الكلام وجدّ في السير إلى أن وصل إلى دمشق ودخل من أحد أبوابها فرأى الناس يصلون على جنازة فنزل وصلى معهم، فلما قضيت الصلاة صاح صائح لا إله إلا الله ما أغفلك يا كثير عن هذا اليوم، فقال: ما هذا اليوم يا سيدي؟ فقال: إن هذه عزة قد ماتت وهذه جنازتها فخر مغشيا عليه، فلما أفاق أنشأ يقول:
فما أعرف الفهدي لا درّ دره
…
وأزجره للطير لا عزّ ناصره
رأيت غرابا قد علا فوق بانة
…
ينتّف أعلى ريشه ويطايره
فقال غراب واغتراب من النوى
…
وبانة بين من حبيب تعاشره
ثم شهق شهقة فارقت روحه الدنيا ومات من ساعته ودفن مع عزة في يوم واحد.
وحكى الأصمعي: قال: بينما أنا أسير في البادية إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت:
أيا معشر العشّاق بالله خبروا
…
إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع
فكتبت تحته:
يداري هواه ثم يكتم سرّه
…
ويخشع في كلّ الأمور ويخضع
ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت مكتوبا تحته:
فكيف يداري والهوى قاتل الفتى
…
وفي كلّ يوم قلبه يتقطع
فكتبت تحته:
إذا لم يجد صبرا لكتمان سرّه
…
فليس له شيء سوى الموت أنفع
ثم عدت في اليوم الثالث فوجدت شابا ملقى تحت ذلك الحجر ميتا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد كتب قبل موته:
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا
…
سلامي على من كان للوصل يمنع
وحكي أيضا عن الأصمعي رحمه الله تعالى أنه قال:
بينما أنا نائم في بعض مقابر البصرة إذ رأيت جارية على قبر تندب وتقول:
بروحي فتى أوفى البرية كلها
…
وأقواهم في الحبّ صبرا على الحب
قال: فقلت لها: يا جارية بم كان أوفى البرية وبم كان أقواها؟ فقالت: يا هذا، إنه ابن عمي هويني فهويته فكان إن أباح عنفوه وإن كتم لاموه فأنشد بيتي شعر وما زال يكررهما إلى أن مات؛ والله لأندبنه حتى أصير مثله في قبر إلى جانبه فقلت لها: يا جارية فما البيتان؟ قالت:
يقولون لي إن بحت قد غرّك الهوى
…
وإن لم أبح بالحبّ قالوا تصبّرا