الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال محمود الوراق:
إلهي لك الحمد الذي أنت أهله
…
على نعم ما كنت قط لها أهلا
إن زدت تقصيرا تزدني تفضّلا
…
كأنّي بالتقصير أستوجب الفضلا
وقد أحسن نصيب في وصف الثناء والشكر بقوله:
فعاجوا وأثنوا بالذي أنت أهله
…
ولو سكنوا أثنت عليك الحقائب «1»
وقال رجل من غطفان:
الشكر أفضل ما حاولت ملتمسا
…
به الزيادة عند الله والناس
وقيل: أشكر المنعم عليك وأنعم على الشاكر لك تستوجب من ربك الزيادة ومن أخيك المناصحة.
الفصل الثالث من هذا الباب في المكافأة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تقدروا فادعوا له» . ولما قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام يخدمهم بنفسه، فقيل له يا رسول الله: لو تركتنا كفيناك، فقال: كانوا لأصحابي مكرمين «2» . وقيل: أتى رجل من الأنصار إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
أذكر صنيعي إذ فاجأك ذو سفه
…
يوم السقيفة والصّدّيق مشغول
فقال عمر بأعلى صوته: ادن مني، فدنا منه، فأخذ بذراعه حتى استشرفه الناس «3» وقال: ألا إن هذا ردّ عني سفيها من قومه يوم السقيفة ثم حمله على نجيب وزاد في عطائه، وولاه صدقة قومه وقرأ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ 60
«4» ، وقال رجل لسعيد بن العاص، وهو أمير الكوفة: لي يد عندك بيضاء. قال: وما هي؟ قال:
كبت بك فرسك «5» ، فتقدمت إليك قبل غلمانك، فأخذت بعضدك وأركبتك، وأسقيتك ماء، قال: فأين كنت إلى الآن؟ قال: حجبت عن الوصول إليك، قال: قد أمرنا لك بمائتي ألف درهم، وبما يملكه الحاجب إذ حجبك عنا.
وقال قطري بن الفجاءة الخارجي: وكان قد أسره الحجاج ثم منّ عليه، فأطلقه، فقيل له: عاود قتال عدو الله، فقال: هيهات شدّ يدا مطلقها وأرقّ رقبة معتقها، ثم قال:
أأقاتل الحجاج عن سلطانه
…
بيد تقر بأنّها مولاته
ماذا أقول إذا وقفت إزاءه
…
في الصف واحتجّت له فعلاته
أأقول جار عليّ؟ لا إنّي إذا
…
لأحق من جارت عليه ولاته
وتحدّث الأقوام أنّ صنائعا
…
غرست لديّ فحنظلت نخلاته «6»
واجتاز الشافعي رحمه الله تعالى بمصر في سوق الحدادين، فسقط سوطه، فقام إنسان، فأخذه ومسحه وناوله إياه، فقال لغلامه: كم معك؟ قال: عشرة دنانير، قال: ادفعها إليه واعتذر له.
واستنشد عبد الملك عامر الشعبي، فأنشده لغير ما شاعر حتى أنشد لحسان:
من سرّه شرف الحياة فلم يزل
…
في عصبة من صالحي الأنصار
البائعين نفوسهم لنبيّهم
…
بالمشرفيّ وبالقنا الخطّار «7»
الناظرين بأعين محمرّة
…
كالجمر غير كليلة الأبصار «8»
فقام أنصاري، فقال: يا أمير المؤمنين: استوجب عامر الصلة على ستون من الإبل كما أعطينا حسان يوم قالها، فقال عبد الملك: وله عندي ستون ألفا، وستون من الإبل.
وعن علي كرم الله وجهه: أحسنوا في عقب غيركم تحفظوا في عقبكم. وقال المدائني: رأيت رجلا يطوف بين الصفا والمروة على بغلة، ثم رأيته ماشيا في سفر،
فسألته عن ذلك فقال: ركبت حيث يمشي الناس، فكان حقا على الله أن يرجلني حيث يركب الناس.
ومما جاء في المكافأة ما حكي عن الحسن بن سهل قال: كنت يوما عند يحيى بن خالد البرمكي وقد خلا في مجلسه لإحكام أمر من أمور الرشيد، فبينما نحن جلوس إذ دخل عليه جماعة من أصحاب الحوائج، فقضاها لهم، ثم توجهوا لشأنهم، فكان آخرهم قياما أحمد بن أبي خالد الأحول، فنظر يحيى إليه والتفت إلى الفضل ابنه، وقال: يا بني إن لأبيك مع أبي هذا الفتى حديثا، فإذا فرغت من شغلي هذا، فاذكرني أحدثك به، فلما فرغ من شغله، وطعم «1» قال له ابنه الفضل: أعزك الله يا أبي، أمرتني أن أذكرك حديث أبي خالد الأحول، قال: نعم يا بني. لما قدم أبوك من العراق أيام المهدي كان فقيرا لا يملك شيئا، فاشتد بي الأمر إلى أن قال لي من في منزلي: إنا قد كتمنا حالنا وزاد ضررنا ولنا اليوم ثلاثة أيام ما عندنا شيء نقتات به، قال:
فبكيت يا بني لذلك بكاء شديدا، وبقيت ولهان وحيران مطرقا مفكرا، ثم تذكرت منديلا كان عندي، فقلت لهم:
ما حال المنديل؟ فقالوا: هو باق عندنا، فقلت ادفعوه لي، فأخذته، ودفعته إلى بعض أصحابي وقلت له: بعه بما تيسر، فباعه بسبعة عشر درهما، فدفعتها إلى أهلي، وقلت: أنفقوها إلى أن يرزق الله غيرها.
ثم بكرت من الغد إلى باب أبي خالد وهو يومئذ وزير المهدي، فإذا الناس وقوف على داره ينتظرون خروجه، فخرج عليهم راكبا، فلما رآني سلم عليّ، وقال: كيف حالك؟ فقلت: يا أبا خالد ما حال رجل يبيع من منزله بالأمس منديلا بسبعة عشر درهما، فنظر إليّ نظرا شديدا، وما أجابني جوابا.
فرجعت إلى أهلي كسير القلب، وأخبرتهم بما اتفق لي مع أبي خالد، فقالوا: بئس والله ما فعلت. توجهت إلى رجل كان يرتضيك لأمر جليل، فكشفت له سرك وأطلعته على مكنون أمرك، فأزريت عنده بنفسك وصغرت عنده منزلتك بعد أن كنت عنده جليلا، فما يراك بعد اليوم إلا بهذه العين.
فقلت: قد قضي الأمر الآن بما لا يمكن استدراكه، فلما كان من الغد بكرت إلى باب الخليفة، فلما بلغت الباب استقبلني رجل، فقال لي: قد ذكرت الساعة بباب أمير المؤمنين، فلم ألتفت لقوله، فاستقبلني آخر، فقال لي، كمقالة الأول، ثم استقبلني حاجب أبي خالد، فقال لي: أين تكون قد أمرني أبو خالد بإجلاسك إلى أن يخرج من عند أمير المؤمنين. فجلست حتى خرج، فلما رآني دعاني، وأمر لي بمركب، فركبت وسرت معه إلى منزله، فلما نزل قال: عليّ بفلان وفلان الحنّاطين «2» ، فأحضرا، فقال لهما: ألم تشتريا مني غلات السواد بثمانية عشر ألف ألف درهم؟ قالا: نعم، قال: ألم أشترط عليكما شركة رجل معكما؟ قالا: بلى، قال: هو هذا الرجل الذي اشترطت شركته لكما، ثم قال لي: قم معهما، فلما خرجنا قالا لي: ادخل معنا بعض المساجد حتى نكلمك في أمر يكون لك فيه الربح الهنيء، فدخلنا مسجدا، فقالا لي: إنك تحتاج في هذا الأمر إلى وكلاء وأمناء وكيالين وأعوان ومؤن لم تقدر منها على شيء، فهل لك أن تبيعنا شركتك بمال نعجله، فتنتفع به، ويسقط عنك التعب والكلف؟ فقلت لهما: وكم تبذلان لي؟ فقالا: مائة ألف درهم، فقلت لا أفعل، فما زالا يزيداني وأنا لا أرضى إلى أن قالا لي: ثلاثمائة ألف درهم ولا زيادة عندنا على هذا، فقلت: حتى أشاور أبا خالد. قالا: ذلك لك. فرجعت إليه وأخبرته، فدعا بهما، وقال لهما: هل وافقتماه على ما ذكر؟ قال: نعم. قالا: اذهبا، فاقبضاه المال الساعة.
ثم قال لي: أصلح أمرك وتهيأ فقد قلدتك العمل.
فأصلحت شأني وقلدني ما وعدني به، فما زلت في زيادة حتى صار أمري إلى ما صار. ثم قال لولده الفضل: يا بني فما تقول في ابن من فعل بأبيك هذا الفعل، وما جزاؤه؟
قال: حق لعمري وجب عليك له، فقال: والله يا ولدي ما أجد له مكافأة غير أني أعزل نفسي وأوليه، ففعل ذلك رضي الله عنه، وهكذا تكون المكافأة.
ومن ذلك ما حكي عن العباس صاحب شرطة المأمون قال: دخلت يوما مجلس أمير المؤمنين ببغداد وبين يديه رجل مكبل بالحديد، فلما رآني قال له: عباس، قلت لبيك يا أمير المؤمنين، قال: خذ هذا إليك فاستوثق منه، واحتفظ به، وبكر به إليّ في غد واحترز عليه كل الاحتراز.
قال العباس: فدعوت جماعة، فحملوه ولم يقدر أن يتحرك فقلت في نفسي مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الاحتفاظ به ما يجب إلا أن يكون معي في بيتي، فأمرتهم، فتركوه في مجلس لي في داري، ثم
أخذت أسأله عن قضيته، وعن حاله، ومن أين هو، فقال:
أنا من دمشق، فقلت جزى الله دمشق وأهلها خيرا، فمن أنت من أهلها؟ قال: وعمن تسأل؟ قلت: أتعرف فلانا؟
قال: ومن أين تعرف ذلك الرجل؟ فقلت: وقع لي معه قضية. فقال: ما كنت بالذي أعرفك خبره حتى تعرفني قضيتك معه.
فقال: ويحك كنت مع بعض الولاة بدمشق، فبغى أهلها وخرجوا علينا حتى أن الوالي تدلى في زنبيل من قصر الحجاج، وهرب هو وأصحابه، وهربت في جملة القوم، فبينما أنا هارب في بعض الدروب، وإذا بجماعة يعدون خلفي، فما زلت أعدو أمامهم حتى فتهم، فمررت بهذا الرجل الذي ذكرته لك، وهو جالس على باب داره، فقلت: أغثني أغاثك الله، قال: لا بأس عليك أدخل الدار، فدخلت، فقالت زوجته: أدخل تلك المقصورة فدخلتها، ووقف الرجل على باب الدار، فما شعرت إلا وقد دخل والرجال معه يقولون هو والله عندك، فقال:
دونكم الدار، ففتشوها حتى لم يبق سوى تلك المقصورة وامرأته فيها، فقالوا: هو ههنا، فصاحت بهم المرأة ونهرتهم فانصرفوا، وخرج الرجل وجلس على باب داره ساعة وأنا قائم أرجف ما تحملني رجلاي من شدة الخوف، فقالت المرأة: اجلس لا بأس عليك، فجلست، فلم ألبث حتى دخل الرجل، فقال: لا تخف قد صرف الله عنك شرهم، وصرت إلى الأمن والدعة إن شاء الله تعالى.
فقلت له: جزاك الله خيرا.
فما زال يعاشرني أحسن معاشرة وأجملها، وأفرد لي مكانا في داره، ولم يحوجني إلى شيء، ولم يفتر عن تفقد أحوالي، فأقمت عنده أربعة أشهر في أرغد عيش وأهنئه إلى أن سكنت الفتنة وهدأت وزال أثرها، فقلت له: أتأذن لي في الخروج حتى أتفقد حال غلماني، فلعلي أقف منهم على خبر، فأخذ عليّ المواثيق بالرجوع إليه، فخرجت وطلبت غلماني، فلم أر لهم أثرا، فرجعت إليه، وأعلمته الخبر، وهو مع هذا كله لا يعرفني، ولا يسألني، ولا يعرف اسمي، ولا يخاطبني إلا بالكنية، فقال: علام تعزم؟ فقلت: عزمت على التوجه إلى بغداد، فقال: القافلة بعد ثلاثة أيام تخرج، وها أنا أقد أعلمتك. فقلت له: إنك تفضلت عليّ هذه المدة، ولك عليّ عهد الله أني لا أنسى لك هذا الفضل، ولأوفينك مهما استطعت، قال: فدعا غلاما له أسود، وقال له: أسرج الفرس الفلاني، ثم جهز آلة السفر، فقلت في نفسي: أظن أنه يريد أن يخرج إلى ضيعة أو ناحية من النواحي، فأقاموا يومهم ذلك في كد وتعب.
فلما كان يوم خروج القافلة جاءني السحر، وقال لي:
يا فلان قم فإن القافلة تخرج الساعة، وأكره أن تنفرد عنها، فقلت في نفسي: كيف أصنع، وليس معي ما أتزود به ولا ما أكري به مركوبا «1» ، ثم قمت، فإذا هو وامرأته يحملان بقجة من أفخر الملابس وخفين جديدين وآلة السفر، ثم جاءني بسيف، ومنطقة، فشدهما في وسطي، ثم قدم بغلا، فحمل عليه صندوقين وفوقها فرش، ودفع إلي نسخة ما في الصندوقين، وفيهما خمسة آلاف درهم، وقدم إلي الفرس الذي كان جهزه، وقال: اركب، وهذا الغلام الأسود يخدمك ويسوس مركوبك. وأقبل هو وامرأته يعتذران إلي من التقصير في أمري، وركب معي يشيعني، وانصرفت إلى بغداد، وأنا أتوقع خبره لأفي بعهدي له في مجازاته ومكافأته، وأشغلت مع أمير المؤمنين، فلم أتفرغ أن أرسل إليه من يكشف خبره، فلهذا أنا أسأل عنه.
فلما سمع الرجل الحديث قال: لقد أمكنك الله تعالى من الوفاء، ومكافأته على فعله ومجازاته على صنيعه بلا كلفة عليك، ولا مؤنة تلزمك، فقلت: وكيف ذلك؟ قال:
أنا ذلك الرجل، وإنما الضر الذي أنا فيه غيّر عليك حالي، وما كنت تعرفه مني، ثم لم يزل يذكر لي تفاصيل الأسباب حتى أثبت معرفته. فما تمالكت أن قمت وقبّلت رأسه، ثم قلت له: فما الذي أصارك إلى ما أرى؟
فقال: هاجت بدمشق فتنة مثل الفتنة التي كانت في أيامك، فنسبت إليّ، وبعث أمير المؤمنين بجيوش فأصلحوا البلد، وأخذت أنا وضربت إلى أن أشرفت على الموت، وقيدت وبعث بي إلى أمير المؤمنين، وأمري عنده عظيم وخطبي لديه جسيم، وهو قاتلي لا محالة، وقد أخرجت من عند أهلي بلا وصية، وقد تبعني من غلماني من ينصرف إلى أهلي بخبري، وهو نازل عند فلان، فإن رأيت أن تجعل من مكافأتك لي أن ترسل من يحضره لي حتى أوصيه بما أريد، فإن أنت فعلت ذلك، فقد جاوزت حد المكافأة وقمت لي بوفاء عهدك.
قال العباس: قلت: يصنع الله خيرا. ثم أحضر حدادا في الليل فك قيوده، وأزال ما كان فيه من الأنكال «2» وأدخله حمام داره، وألبسه من الثياب ما احتاج إليه، ثم
سيّر من أحضر إليه غلامه، فلما رآه جعل يبكي ويوصيه، فاستدعى العباس نائبه، وقال: عليّ بالفرس الفلاني، والفرس الفلاني والبغل الفلاني، والبغلة الفلانية حتى عد عشرة ثم عشرة من الصناديق ومن الكسوة كذا وكذا، ومن الطعام كذا وكذا قال ذلك الرجل: وأحضر لي بدرة عشرة آلاف درهم، وكيسا فيه خمسة آلاف دينار، وقال لنائبه في الشرطة: خذ هذا الرجل وشيّعه إلى حد الأنبار «1» . فقلت له: إن ذنبي عند أمير المؤمنين عظيم، وخطبي جسيم.
وإن أنت احتججت بأني هربت بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه فأرد وأقتل. فقال لي: أنج بنفسك ودعني أدبر أمري، فقلت: والله ما أبرح من بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك، فإن احتجت إلى حضوري حضرت، فقال لصاحب الشرطة: إن كان الأمر على ما يقول فليكن في موضع كذا، فإن أنا سلمت في غداة غد أعلمته، وإن أنا قتلت، فقد وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه، وأنشدك الله أن لا يذهب من ماله درهم، وتجتهد في إخراجه من بغداد.
قال الرجل: فأخذني صاحب الشرطة وصيرني في مكان أثق به، وتفرغ العباس لنفسه، وتحنط وجهّز له كفنا. قال العباس: فلم أفرغ من صلاة الصبح إلا وأرسل المأمون في طلبي ويقولون: يقول لك أمير المؤمنين هات الرجل معك وقم. قال: فتوجهت إلى دار أمير المؤمنين، فإذا هو جالس وعليه ثيابه وهو ينتظرنا. قال: أين الرجل؟
فسكت، فقال: ويحك أين الرجل؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إسمع مني، فقال: لله عليّ عهد لئن ذكرت إنه هرب لأضربنّ عنقك. فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين ما هرب. ولكن اسمع حديثي وحديثه، ثم شأنك ما تريد أن تفعله في أمري قال: قل.
فقلت: يا أمير المؤمنين كان من حديثي معه كيت وكيت وقصصت عليه القصة جميعها وعرفته أنني أريد أن أفي له وأكافئه على ما فعله معي، وقلت: أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين: إما أن يصفح عني، فأكون قد وفيت وكافأت، وإما أن يقتلني فأقيه بنفسي. وقد تحنطت وها كفني يا أمير المؤمنين، فلما سمع المأمون الحديث قال: ويلك لا جزاك الله عن نفسك خيرا إنه فعل بك ما فعل من غير معرفة، وتكافئه بعد المعرفة، والعهد بهذا لا غير. هلّا عرفتني خبره فكنا نكافئه عنك ولا نقصر في وفائك له، فقلت: يا أمير المؤمنين إنه ههنا قد حلف أن لا يبرح حتى يعرف سلامتي، فإن احتجت إلى حضوره حضر. فقال المأمون، وهذه منه أعظم من الأولى إذهب الآن إليه، فطيّب نفسه وسكّن ورعه وائتني به حتى أتولّى مكافأته.
قال العباس: فأتيت إليه، وقلت له: ليزل خوفك، إن أمير المؤمنين قال كيت وكيت. فقال الحمد لله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه، ثم قام، فصلى ركعتين ثم ركب وجئنا، فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين أقبل عليه وأدناه من مجلسه، وحدثه حتى حضر الغداء، وأكل معه وخلع عليه، وعرض عليه أعمال دمشق، فاستعفى، فأمر له المأمون بعشرة أفراس بسروجها ولجمها وعشرة أبغال بآلاتها وعشر بدر وعشرة آلاف دينار، وعشرة مماليك بدوابهم، وكتب إلى عامله بدمشق بالوصية به، وإطلاق خراجه، وأمره بمكاتبته بأحوال دمشق، فصارت كتبه تصل إلى المأمون، وكلما وصلت خريطة البريد وفيها كتابه يقول لي: يا عباس هذا كتاب صديقك.
والله تعالى أعلم.
ومن عجائب هذا الأسلوب وغرائبه:
ما أورده محمد بن القاسم الأنباري رحمه الله تعالى، أن سوارا صاحب رحبة سوار وهو من المشهورين، قال:
انصرفت يوما من دار الخليفة المهدي، فلما دخلت منزلي دعوت بالطعام، فلم تقبله نفسي، فأمرت به، فرفع، ثم دعوت جارية كنت أحبها وأحب حديثها وأشتغل بها فلم تطب نفسي، فدخل وقت القائلة «2» ، فلم يأخذني النوم، فنهضت وأمرت ببغلة، فأسرجت وأحضرت فركبتها، فلما خرجت من المنزل استقبلني وكيل لي ومعه مال، فقلت:
ما هذا؟ فقال: ألفا درهم جبيتها من مستغّلك الجديد، قلت: أمسكها معك واتبعني.
فأطلقت رأس البغلة حتى عبرت الجسر، ثم مضيت في شارع دار الرقيق حتى انتهيت إلى الصحراء، ثم رجعت إلى باب الأنبار، وانتهيت إلى باب دار نظيف عليه شجرة، وعلى الباب خادم، فعطشت، فقلت للخادم: أعندك ماء تسقينيه؟ قال: نعم، ثم دخل وأحضر قلة نظيفة طيبة الرائحة عليها منديل فناولني، فشربت، وحضر وقت العصر، فدخلت مسجدا على الباب فصليت فيه، فلما
قضيت صلاتي إذ أنا بأعمى يلتمس، فقلت: ما تريد يا هذا؟ قال: إياك أريد. قلت: فما حاجتك؟ فجاء حتى جلس إلى جانبي، وقال: شممت منك رائحة طيبة، فظننت أنك من أهل النعيم فأردت أن أحدثك بشيء، فقلت: قل.
قال: ألا ترى إلى باب هذا القصر؟ قلت: نعم، قال:
هذا قصر كان لأبي، فباعه، وخرج إلى خراسان وخرجت معه فزالت عنا النعم التي كنا فيها، وعميت، فقدمت هذه المدينة، فأتيت صاحب هذا الدار لأسأله شيئا يصلني به وأتوصل إلى سوار، فإنه كان صديقا لأبي، فقلت: ومن أبوك؟ قال: فلان بن فلان، فعرفته، فإذا هو كان من أصدق الناس إليّ، فقلت له: يا هذا إن الله تعالى قد أتاك بسوار، منعه من الطعام والنوم والقرار، حتى جاء به، فأقعده بين يديك، ثم دعوت الوكيل، فأخذت الدراهم منه، فدفعتها إليه، وقلت له: إذا كان الغد فسر إلى منزلي.
ثم مضيت، وقلت: ما أحدّث أمير المؤمنين بشيء أظرف من هذا، فأتيته، فاستأذنت عليه فأذن لي، فلما دخلت عليه حدثته بما جرى لي فأعجبه ذلك وأمر لي بألفي دينار، فأحضرت، فقال: إدفعها إلى الأعمى، فنهضت لأقوم، فقال: إجلس، فجلست، فقال: أعليك دين؟ قلت: نعم. قال: كم دينك؟ قلت: خمسون ألفا، فحادثني ساعة، وقال امض إلى منزلك، فمضيت إلى منزلي فإذا بخادم معه خمسون ألفا، وقال: يقول لك أمير المؤمنين اقض بها دينك. قال: فقبضت منه ذلك، فلما كان من الغد أبطأ علي الأعمى، وأتاني رسول المهدي يدعوني فجئته، فقال: قد فكرت البارحة في أمرك، فقلت: يقضي دينه، ثم يحتاج إلى القرض أيضا، وقد أمرت لك بخمسين ألفا أخرى، قال: فقبضتها وانصرفت، فجاءني الأعمى، فدفعت إليه الألفي دينار، وقلت له: قد رزقك الله تعالى بكرمه، وكافأك على إحسان أبيك، وكافأني على إسداء المعروف إليك، ثم أعطيته شيئا آخر من مالي، فأخذه وانصرف. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومما هو أوضح حسنا وأرجح معنى ما حكاه القاضي يحيى بن أكثم رحمة الله عليه قال:
دخلت يوما على الخليفة هارون الرشيد ولد المهدي وهو مطرق مفكّر، فقال لي: أتعرف قائل هذا البيت؟:
الخير أبقى وإن طال الزمان به
…
والشر أخبث ما أوعيت من زاد
فقلت يا أمير المؤمنين: إن لهذا البيت شأنا مع عبيد بن الأبرص فقال: عليّ بعبيد، فلما حضر بين يديه قال له:
أخبرني عن قضية هذا البيت، فقال: يا أمير المؤمنين، كنت في بعض السنين حاجا، فلما توسطت البادية في يوم شديد الحر سمعت ضجة عظيمة في القافلة ألحقت أولها بآخرها، فسألت عن القصة، فقال لي رجل من القوم:
تقدم تر ما بالناس، فتقدمت إلى أول القافلة، فإذا أنا بشجاع «1» أسود فاغر فاه كالجذع وهو يخور كما يخور الثور ويرغو كرغاء البعير، فهالني أمره وبقيت لا أهتدي إلى ما أصنع في أمره، فعدلنا عن طريقه إلى ناحية أخرى، فعارضنا ثانيا، فعلمت أنه لسبب ولم يجسر أحد من القوم أن يقربه، فقلت: أفدي هذا العالم بنفسي وأتقرب إلى الله تعالى بخلاص هذه القافلة من هذا، فأخذت قربة من الماء، فتقلدتها وسللت سيفي وتقدمت. فلما رآني قربت منه سكن، وبقيت متوقعا منه وثبة يبتلعني فيها، فلما رأى القربة فتح فاه، فجعلت فم القربة فيه، وصببت الماء كما يصب في الإناء، فلما فرغت القربة تسيب في الرمل ومضى، فتعجبت من تعرضه لنا وانصرافه عنّا من غير سوء لحقنا منه. ومضينا لحجنا ثم عدنا في طريقنا ذلك وحططنا في منزلنا ذلك في ليلة مظلمة مدلهمة، فأخذت شيئا من الماء وعدلت إلى ناحية عن الطريق، فقضيت حاجتي ثم توضأت وصليت، وجلست أذكر الله تعالى، فأخذتني عيني «2» ، فنمت مكاني، فلما استيقظت من النوم لم أجد للقافلة حسا، وقد ارتحلوا وبقيت منفردا لم أر أحدا، ولم أهتد إلى ما أفعله، وأخذتني حيرة وجعلت أضطرب وإذا بصوت هاتف أسمع صوته ولا أرى شخصه يقول:
يا أيها الشخص المضلّ مركبه
…
ما عنده من ذي رشاد يصحبه
دونك هذا البكر «3» منّا تركبه
…
وبكرك الميمون حقّا تجنبه «4»
حتى إذا ما الليل زال غيهبه «5»
…
عند الصباح في الفلا تسيبه «6»
فنظرت، فإذا أنا ببكر قائم عندي، وبكري إلى جانبي، فأنخته وركبته وجنّبت بكري، فلما سرت قدر عشرة أميال لاحت لي القافلة، وانفجر الفجر، ووقف البكر، فعلمت أنه قد حان نزولي فتحولت إلى بكري وقلت:
يا أيها البكر قد أنجيت من كرب
…
ومن هموم تضلّ المدلج الهادي «1»
ألا تخبّرني بالله خالقنا
…
من ذا الذي جاد بالمعروف في الوادي
وارجع حميدا فقد بلّغتنا مننا
…
بوركت من ذي سنام رائح غادي
فالتفت البكر إليّ وهو يقول:
أنا الشجاع الذي ألفيتني رمضا
…
والله يكشف ضرّ الحائر الصادي «2»
فجدت بالماء لما ضنّ حامله
…
تكرّما منك لم تمنن بإنكاد
فالخير أبقى وإن طال الزمان به
…
والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد
هذا جزاؤك مني لا أمنّ به
…
فاذهب حميدا رعاك الخالق الهادي
فعجب الرشيد من قوله وأمر بالقصة والأبيات، فكتبت عنه، وقال: لا يضيع المعروف أين وضع، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
الباب الثالث والاربعون في الهجاء ومقدماته
القصد من الهجاء الوقوف على ملحه وما فيه من ألفاظ فصيحة ومعان بديعة، لا التشفي بالأعراض والوقوع فيها.
وليس الهجاء دليلا على إساءة المهجو ولا صدق الشاعر فيما رماه به، فما كل مذموم بذميم، وقد يهجى الإنسان بهتانا وظلما أو عبثا أو ارهابا.
قال المتوكل لأبي العيناء: كم تمدح الناس وتذمهم، قال: ما أحسنوا وأساءوا. وقد رضي الله تعالى على عبد من عبيده فمدحه، فقال: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
«3» ، وغضب على آخر، فقال: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ 12 عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ 13
«4» قيل الزنيم: الملصق بالقوم وليس منهم.
وقال دعبل في المأمون بعد البيعة له وقتل الأمين.
إنّي من القوم الذين همو همو
…
قتلوا أخاك وشرفّوك بمقعد
شادوا لذكرك بعد طول خموله
…
واستنقذوك من الحضيض الأوهد «5»
فقال المأمون: ما أبهته «6» ليت شعري متى كنت خاملا، وفي حجر الخلافة ربيت وبدرّهما غذيت.
ولما قتل جعفر بن يحيى بكى عليه أبو نواس، فقيل له:
أتبكي على جعفر وأنت هجوته؟ فقال: كان ذلك لركوب الهوى، وقد بلغه والله أني قلت:
ولست وإن أطنبت «7» في وصف جعفر
…
بأول إنسان خري في ثيابه
فكتب: يدفع إليه عشرة آلاف درهم يغسل بها ثيابه.
ومن العبث بالهجو ما روي أن الحطيئة همّ بهجاء، فلم يجد من يستحقه فقال:
أبت شفتاي اليوم إلّا تكلّما
…
بسوء فلا أدري لمن أنا قائله
أرى بي وجها قبّح الله خلقه
…
فقبّح من وجه وقبّح حامله
وعبث بأمه فقال:
تنحّي فاجلسي عنّا بعيدا
…
أراح الله منك العالمينا
أغربالا إذا استودعت سرّا
…
وكانونا على المتحدّثينا
حياتك ما علمت حياة سوء
…
وموتك قد يسر الصالحينا
وقال رجل: ما أبالي أهجيت أم مدحت، فقال له الأحنف: أرحت نفسك من تعب الكرام. وأنا أقول: إنما يخشى من الهجو من يخاف على عرضه وأما من لا يخاف
على عرضه فقد يستوي عنده المدح والذم وبئس الرجل ذاك. وكان الرجل من نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟
يقول: من نمير وأمال بها عنقه، فلما هجاهم جرير بقوله:
فغض الطرف إنك من نمير
…
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
صار إذا قيل لأحدهم: ممن الرجل: يقول من بني عامر، وما لقيت قبيلة من العرب بهجو ما لقيت نمير بهجو جرير.
وهجا ابن سام رجلا فقال:
يا طلوع الرقيب من غير إلف
…
يا غريما أتى على ميعاد
يا ركودا في وقت غيم وصيف
…
يا وجوه التّجار يوم كساد
وقصد ابن عيينة قبيصة المهلبي، واستماحه «1» . فلم يسمح له بشيء «2» ، فانصرف مغضبا، فوجه إليه داود بن يزيد بن حاتم، فترضاه، وأحسن إليه، فقال في ذلك:
داود محمود وأنت مذّمم
…
عجبا لذاك وأنتما من عود
ولربّ عود قد يشقّ لمسجد
…
نصفا وباقيه لحشّ «3» يهودي
فالحشّ أنت له وذاك بمسجد
…
كم بين موضع مسلح «4» وسجود
هذا جزاؤك يا قبيص لأنّه
…
جادت يداه وأنت قبل حديد
وله هجاء في خالد:
أبوك لنا غيث يغيث بوبله
…
وأنت جراد لست تبقي ولا تذر
له أثر في المكرمات يسرنا
…
وأنت تعفّي دائما ذلك الأثر «5»
وقال المبرد في حقه: لم يجتمع لأحد من المحدثين في بيت واحد هجاء رجل ومدح أبيه إلّا له. ولما قعد حماد عجرد لتأديب ولد الأمين، قال بشار بن برد:
قل للأمين جزاك الله صالحه
…
لا يجمع الله بين السخل والذيب «6»
السخل يعلم أن الذئب آكله
…
والذئب يعلم ما بالسخل من طيب
فشاعت الأبيات، فأمر الأمين بإخراج حماد.
وقال رجل لأخيه لأبويه «7» : لأهجونك هجاء يدخل معك في قبرك، قال: كيف تهجوني وأبوك أبي، وأمك أمي؟ قال أقول:
بني أمية هبّوا طال نومكمو
…
إنّ الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
…
خليفة الله بين الماء والعود
فدخل يعقوب على المهدي، فأخبره أن بشارا هجاه، فاغتاظ المهدي وانحدر إلى البصرة لينظر في أمرها، فسمع أذانا في ضحى النهار فقال: انظروا ما هذا، وإذا به بشار وهو سكران، فقال له: يا زنديق عجب أن يكون هذا من غيرك، ثم أمر به فضربه سبعين سوطا حتى أتلفه بها وألقي في سفينة، فقال: عين الشمقمق تراني حيث يقول:
إن بشار بن برد
…
تيس أعمى في سفينة
فلما مات ألقيت جثته في الماء، فحمله الماء، فأخرجه إلى الدجلة، فجاء بعض أهله، فحملوه إلى البصرة، وأخرجت جنازته، فما تبعه أحد، وتباشر عامة الناس بموته لما كان يلحقهم من الأذى منه.
وخاصم أبو دلامة رجلا، فارتفعا إلى عافية القاضي، فلما رآه أبو دلامة أنشد يقول:
لقد خاصمتني دهاة الرجال
…
وخاصمتها سنّة وافيه
فما أدحض الله لي حجّة
…
ولا خيبّ الله لي قافيه
ومن خفت من جوره في القضاء
…
فلست أخافك يا عافيه
فقال عافية: لأشكونك إلى أمير المؤمنين ولأعلمنه أنك هجوتني. قال له أبو دلامة: إذا والله يعزلك. قال: ولم؟
قال: لأنك لا تعرف الهجاء من المدح، قال: فبلغ ذلك المنصور، فضحك وأمر له بجائزة.
ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده إسماعيل بن علي، وعيسى بن موسى والعباس بن محمد، وجماعة من بني هاشم، فقال له المهدي: والله لئن لم تهج واحدا ممن في هذا البيت لأقطعن لسانك. فنظر إلى القوم وتحير في أمره، وجعل ينظر إلى كل واحد، فيغمزه بأن عليه رضاه، قال أبو دلامة، فازددت حيرة، فما رأيت أسلم لي من أن أهجو نفسي، فقلت:
ألا أبلغ لديك أبا دلامة
…
فلست من الكرام ولا كرامه
جمعت دمامة وجمعت لؤما
…
كذاك اللؤم تتبعه الدمامه
إذا لبس العمامة قلت قردا
…
وخنزيرا إذا نزع العمامه
فضحك القوم ولم يبق منهم أحدا إلا أجازه.
وقال ابن الأعرابي: إن أهجى بيت قاله المحدثون قول محمد بن وهب في محمد بن هاشم:
لم تند كفاك من بذل النوال كما
…
لم يند سيفك مذ قلّدته بدم «1»
وهجا بعضهم القمر، فقال: يهدم العمر ويوجب أجرة المنزل «2» ويشجب الألوان، ويقرض الكتان، ويضل الساري ويعين السارق ويفضح العاشق.
ولابن منقذ في أبي طليب المصري وقد احترقت داره:
أنظر إلى الأيام كيف تسوقنا
…
قسرا إلى الأقدار بالأقدار
ما أوقد ابن طليب قط بداره
…
نارا وكان خرابها بالنّار «3»
وكان للوجيه بن صورة المصري دلال الكتب، دار بمصر موصوفة بالحسن فاحترقت، فقال فيها ابن المنجم:
أقول وقد عاينت دار ابن صورة
…
وللنّار فيها وهجة تتضرّم
فما هو إلا كافر طال عمره
…
فجاءته لمّا استبطأته جهنّم
وقد أحسن الأديب كمال الدين علي بن محمد بن المبارك الشهير بابن الأعمى في ذم دار كان يسكنها حيث قال:
دار سكنت بها أقلّ صفاتها
…
أن تكثر الحشرات في جنباتها
الخير عنها نازح متباعد
…
والشر دان من جميع جهاتها
من بعض ما فيها البعوض عدمته
…
كم أعدم الأجفان طيب سناتها «4»
وتبيت تسعدها براغيث متى
…
غنّت لها رقصت على نغماتها
رقص بتنقيط ولكن قافه
…
قد قدّمت فيه على أخواتها
وبها ذباب كالضباب يسد عين
…
الشمس ما طربي سوى غنّاتها
أين الصوارم والقنا من فتكها
…
فينا وأين الأسد من وثباتها
وبها من الخطّاف ما هو معجز
…
أبصارنا عن وصف كيفياتها
وبها خفافيش تطير نهارها
…
مع ليلها ليست على عاداتها «5»
وبها من الجرذان ما قد قصّرت
…
عنه العتاق الجرد في حملاتها «6»
وبها خنافس كالطنافس أفرشت
…
في أرضها وعلت على جنباتها
لو شمّ أهل الحرب منتن فسوها
…
أردى الكماة الصيد عن صهواتها «7»
وبنات وردان وأشكال لها
…
مما يفوت العين كنه ذواتها
أبدا تمص دماءنا فكأنها
…
حجّامة لبدت على كاساتها
وبها من النمل السليماني ما
…
قد قلّ ذرّ الشمس عن ذراتها
ما راعني شيء سوى وزغانها
…
فتعوذوا بالله من لدغاتها «1»
سجعت على أوكارها فظننتها
…
ورق الحمام سجعن في شجراتها
وبها زنابير تظن عقاربا
…
حر السموم أخف من زفراتها
وبها عقارب كالأقارب رتّع
…
فينا حمانا الله لدغ حماتها
كيف السبيل إلى النجاة ولا نجاة
…
ولا حياة لمن رأى حيّاتها
منسوجة بالعنكبوت سماؤها
…
والأرض قد نسجت على آفاتها
فضجيجها كالرعد في جنباتها
…
وترابها كالرمل في خشناتها
والبوم عاكفة على أرجائها
…
والدود يبحث في ثرى عرصاتها «2»
والجنّ تأتيها إذا جنّ الدّجى
…
تحكي الخيول الجرد في حملاتها
والنار جزء من تلهّب حرها
…
وجهنم تعزى إلى لفحاتها
شاهدت مكتوبا على أرجائها
…
ورأيت مسطورا على جنباتها
لا تقربوا منها وخافوها ولا
…
تلقوا بأيديكم إلى هلكاتها
أبدا يقول الداخلون ببابها
…
يا ربّ نجّ الناس من آفاتها
قالوا إذا ندب الغراب منازلا
…
يتفرّق السّكان من ساحاتها
وبدارنا ألفا غراب ناعق
…
كذب الرواة فأين صدق رواتها
صبرا لعلّ الله يعقب راحة
…
للنفس إذ غلبت على شهواتها
دار تبيت الجنّ تحرس نفسها
…
فيها وتندب باختلاف لغاتها
كم بت فيها مفردا والعين من
…
شوق الصباح تسح من عبراتها «3»
وأقول يا ربّ السموات العلا
…
يا رازقا للوحش في فلواتها
أسكنتني بجهنّم الدنيا ففي
…
أخراي هب لي الخلد في جناتها
واجمع بمن أهواه شملي عاجلا
…
يا جامع الأرواح بعد شتاتها
ولبعضهم في بلّان «4» :
أشكوا إلى الله بلانا «5» بليت به
…
مسّت أنامله ظهري فأدماني
فلا يدلّك تدليكا بمعرفة
…
ولا يسرّح تسريحا بإحسان
وللشيخ شمس الدين البدوي في بلّان أيضا:
وبلان له ظهر يباهي
…
به حدّ الشفار المرهفات
هرى جسمي فألبسه نجيعا
…
على حلل الستور السابلات
ورام يلين أعضائي برفق
…
فأيبسها وكسر فوقحاتي «6»
ولم أنظر له أبدا حميلا
…
وذلك من عظيم المهلكات
وأعمى مقلتي بصنان إبط
…
يفوح به على كل الجهات «7»
فلا تجعل إلهي مثل هذا
…
يغسّلني إذا حانت وفاتي
ولبعضهم في حمام:
وحمّام دخلناه لأمر
…
حكى سقرا وفيها المجرمونا
فيصطرخوا يقولوا أخرجونا
…
فإن عدنا فإنا ظالمونا
وللشريف أبي يعلى الهاشمي البغدادي في نظام الملك يهدده بالهجاء يقول:
أيجمل يا نظام الملك أنّي
…
أعاود من ذراك كما قدمت
وأصدر عن حياضك «1» وهي نهب
…
بأفواه السقاة وما وردت «2»
يدل على فعالك سوء حالي
…
ويخبر عن نوالك إن كتمت «3»
إذا استخبرت ماذا نلت منه
…
وقد عمّ الورى كرما سكتّ
وممن عرض بالهجو في شعره الخوارزمي قال في أبي جعفر:
أبا جعفر لست بالمنصف
…
ومثلك إن قال قولا يفي
فإن أنت أنجزت لي ما وعدت
…
وإلا هجيت وأدخلت في
وقد علم الناس ما بعد في
…
فغط الحديث ولا تكشف
ومدح السراج الورّاق إنسانا فلم يجزه فكتب يعرض له بالهجاء ويهدده، يقول:
أعد مدحي عليّ وخذ سواه
…
فقد أتعبتني يا مستريح
ولا تغضب إذا أنشدت يوما
…
سواه وقيل لي هذا صحيح «4»
وله أيضا يقول:
أعد مدحا كذبت عليك فيه
…
وقد عوفيت بالحرمان عنه
ولكنّي سأصدق فيك قولا
…
فلا يصعب عليك الحقّ منه
وقال بعضهم في حجّاج قدموا ولم يهدوا إليه شيئا:
مضوا ليحجّوا والوجوه كأنّها
…
تكاد لفرط البشر أن توضح السّبلا
وعادوا كأنّ القار فوق وجوههم «5»
…
فلا مرحبا بالقادمين ولا سهلا
وجاءوا وما جادوا بعود أراكة «6»
…
ولا وضعوا في كف طفل لنا نقلا «7»
وقال آخر:
إذا رمت هجوا في فلان تصدني
…
خلائق قبح عنه لا تتزحزح
تجاوز قدر الهجو حتى كأنّه
…
بأقبح ما يهجى به المرء يمدح
وهجا بعضهم امرأة فقال:
لها جسم برغوث وساق بعوضة
…
ووجه كوجه القرد بل هو أقبح
تبرّق عينيها إذا ما رأيتها
…
وتعبس في وجه الضجيع وتكلح
لها منظر كالنار تحسب أنها
…
إذا ضحكت في أوجه الناس تلفح
إذا عاين الشيطان صورة وجهها
…
تعوّذ منها حين يمسي ويصبح
ولبعضهم في عظيم أنف:
لك وجه وفيه قطعة أنف
…
كجدار قد دعّموه ببغله
وهو كالقبر في المثال ولكن
…
جعلوا نصفه على غير قبله
وفيه أيضا:
رأينا للزكي جدار أنف
…
يضاهي في تشامخه الجبالا
تصدّى للهلال لكي يراه
…
فلولا عظمه لرأى الهلالا
ولصفي الدين الحلي: