الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحاط علمه بما ذرأ وبرأ وأنت عالم بخفيات الأمور ومحصي وساوس الصدور، وأنت بالمنزل الأعلى، وعلمك محيط بالمنزل الأدنى، تعاليت علوا كبيرا، يا مغيث أغثني، وفكّ أسري، واكشف ضري، فقد نفذ صبري، فقمت وتوضأت في الحال وصليت ركعتين وتلوت ما سمعته منه، ولم تختلف عليّ منه كلمة واحدة، فما تم القول حتى سقط القيد من رجلي ونظرت إلى أبواب السجن فرأيتها قد فتحت. فقمت، فخرجت ولم يعارضني أحد، فأنا والله طليق الرحمن، وأعقبني الله بصبري فرجا، وجعل لي من ذلك الضيق مخرجا، ثم ودعني وانصرف يقصد الحجاز.
وفيما يروى عن الله تعالى أنه أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام، يا داود من صبر علينا وصل إلينا.
وقال بعض الرواة: دخلت مدينة يقال لها: دقار، فبينما أنا أطوف في خرابها إذا رأيت مكتوبا بباب قصر خرب بماء الذهب واللازورد هذه الأبيات:
يا من ألحّ عليه الهمّ والفكر
…
وغيّرت حاله الأيام والغير «1»
أما سمعت لما قد قيل في مثل
…
عند الاياس فأين الله والقدر «2»
ثمّ الخطوب إذا أحداثها طرقت
…
فاصبر فقد فاز أقوام بما صبروا «3»
وكلّ ضيق سيأتي بعده سعة
…
وكلّ فوت وشيك بعده الظفر
ولما حبس أبو أيوب في السجن خمس عشرة سنة ضاقت حيلته، وقلّ صبره، فكتب إلى بعض إخوانه يشكو إليه طول حبسه وقلة صبره، فرد عليه جواب رقعته يقول:
صبرا أبا أيوب صبر مبرّح
…
وإذا عجزت عن الخطوب فمن لها
إنّ الذي عقد الذي انعقدت به
…
عقد المكاره فيك يملك حلّها
صبرا فإن الصبر يعقب راحة
…
ولعلّها أن تنجلي ولعلّها
فأجابه أبو أيوب يقول:
صبّرتني ووعظتني وأنا لها
…
وستنجلي بل لا أقول لعلّها
ويحلّها من كان صاحب عقدها
…
كرما به إذ كان يملك حلّها
فما لبث بعد ذلك أياما حتى أطلق مكرما:
وأنشدوا:
إذا ابتليت فثق بالله وارض به
…
إنّ الذي يكشف البلوى هو الله
اليأس يقطع أحيانا بصاحبه
…
لا تيأسنّ فإنّ الصانع الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته
…
فما ترى حيلة فيما قضى الله
الفصل الثالث من هذا الباب في التأسي في الشدة والتسلي عن نوائب الدهر
قال الثوري رحمه الله تعالى: لم يفقه عندنا من لم يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة. وقيل: الهموم التي تعرض للقلوب كفارات للذنوب. وسمع حكيم رجلا يقول لآخر: لا أراك الله مكروها، فقال: كأنك دعوت عليه بالموت، فإن صاحب الدنيا لا بد أن يرى مكروها. وتقول العرب: ويل أهون من ويلين.
وقال ابن عيينة: الدنيا كلها غموم، فما كان فيها من سرور فهو ربح. وقال العتبي: إذا تناهى الغم إنقطع الدمع بدليل أنك لا ترى مضروبا بالسياط ولا مقدما لضرب العنق يبكي.
وقيل: تزوج مغنّ بنائحة فسمعها تقول: اللهم أوسع لنا في الرزق، فقال لها: يا هذه إنما الدنيا فرح وحزن وقد أخذنا بطرفي ذلك، فإن كان فرح دعوني، وإن كان حزن دعوك.
وقال وهب بن منبه: إذا سلك بك طريق البلاء سلك بك طريق الأنبياء. وقال مطرف: ما نزل بي مكروه قط فاستعظمته إلا ذكرت ذنوبي فاستصغرته. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه يرفعه: «يود أهل العافية يوم القيامة أن لحومهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب الله تعالى لأهل البلاء» . وروى أبو عتبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبدا ابتلاه فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه.
قالوا: وما اقتناه؟ قال: لا يترك له مالا ولا ولدا» .
ومر موسى عليه الصلاة والسلام برجل كان يعرفه مطيعا لله عز وجل قد مزقت السباع لحمه وأضلاعه وكبده ملقاة على الأرض، فوقف متعجبا، فقال: أي رب عبدك ابتليته بما أرى، فأوحى الله تعالى إليه أنه سألني درجة لم يبلغها بعمله، فأحببت أن أبتليه لأبلغه تلك الدرجة.
وكان عروة بن الزبير صبورا حين ابتلي. حكي أنه خرج إلى الوليد بن يزيد فوطىء عظما، فما بلغ إلى دمشق حتى بلغ به كل مذهب، فجمع له الوليد الاطباء، فأجمع رأيهم على قطع رجله، فقالوا له: اشرب مرقّدا، فقال: ما أحب أن أغفل عن ذكر الله تعالى، فأحمى له المنشار، وقطعت رجله، فقال ضعوها بين يدي ولم يتوجع، ثم قال: لئن كنت ابتليت في عضو فقد عوفيت في أعضاء. فبينما هو كذلك إذ أتاه خبر ولده أنه أطلع من سطح على دواب الوليد، فسقط بينها فمات. فقال: الحمد لله على كل حال لئن أخذت واحدا لقد أبقيت جماعة. وقدم على الوليد وفد من عبس فيهم شيخ ضرير، فسأله عن حاله وسبب ذهاب بصره فقال: خرجت مع رفقة مسافرين ومعي مالي وعيالي، ولا أعلم عبسيا يزيد ماله على مالي، فعرسنا في بطن واد، فطرقنا سيل، فذهب ما كان لي من أهل ومال وولد غير صبي صغير وبعير، فشرد البعير، فوضعت الصغير على الأرض ومضيت لآخذ البعير، فسمعت صيحة الصغير، فرجعت إليه فإذا رأس الذئب في بطنه وهو يأكل فيه، فرجعت إلى البعير، فحطم وجهي برجليه، فذهبت عيناي، فأصبحت بلا عينين ولا ولد ولا مال ولا أهل، فقال الوليد: إذهبوا إلى عروة ليعلم أن في الدنيا من هو أعظم مصيبة منه.
وقيل: الحوادث الممضة «1» مكسبة لحظوظ جليلة، أما ثواب مدخر أو تطهير من ذنب أو تنبيه من غفلة أو تعريف لقدر النعمة.
قال البحتري: يسلّي محمد بن يوسف على حبسه:
وما هذه الأيام إلّا منازل
…
فمن منزل رحب إلى منزل ضنك «2»
وقد دهمتك الحادثات وإنما
…
صفا الذهب الابريز قبلك بالسّبك
أما في نبي الله يوسف اسوة
…
لمثلك محبوس عن الظلم والإفك «3»
أقام جميل الصبر في السجن برهة
…
فآل به الصبر الجميل إلى الملك
وقال علي بن الجهم لما حبسه المتوكل:
قالوا حبست فقلت ليس بضائري
…
حبسي وأي مهند لا يغمد
والشمس لولا أنها محجوبة
…
عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والنار في أحجارها مخبوءة
…
لا تصطلى إن لم تثرها الأزند
والحبس ما لم تغشه لدنيّة
…
شنعاء نعم المنزل المتودّد
بيت يجدد للكريم كرامة
…
ويزار فيه ولا يزور ويحمد
لو لم يكن في الحبس إلّا أنّه
…
لا تستذلّك بالحجاب الأعبد
غرّ الليالي باديات عوّد
…
والمال عارية يعار وينفد
ولكل حيّ معقب ولربما
…
أجلى لك المكروه عمّا يحمد
لا يؤيسنك من تفرّج نكبة
…
خطب رماك به الزمان الأنكد
كم من عليل قد تخطّاه الردى
…
فنجا ومات طبيبه والعوّد «4»
صبرا فإن اليوم يعقبه غد
…
ويد الخلافة لا تطاولها يد
قال: وأنشد إسحاق الموصلي في إبراهيم بن المهدي حين حبس:
هي المقادير تجري في أعنّتها «5»
…
فاصبر فليس لها صبر على حال «6»
يوما تريك خسيس الأصل ترفعه
…
إلى العلاء ويوما تخفض العالي
فما أمسى حتى وردت عليه الخلع السنية من المأمون رضي الله عنه، وقال إبراهيم بن عيسى الكاتب في إبراهيم بن المدني حين عزل.
ليهن أبا إسحاق أسباب نعمة
…
مجددة بالعزل والعزل أنبل
شهدت لقد منّوا عليك وأحسنوا
…
لأنك يوم العزل أعلى وأفضل
وقال آخر:
قد زاد ملك سليمان فعاوده
…
والشمس تنحطّ في المجرى وترتفع
وقال أبو بكر الخوارزمي لمعزول: الحمد لله الذي ابتلى في الصغير وهو المال، وعافى في الكبير وهو الحال:
ولا عار إن زالت عن الحر نعمة
…
ولكنّ عارا أن يزول التجمّل «1»
وقيل: المال حظ ينقص ثم يزيد، وظل ينحسر ثم يعود. وسئل بزرجمهر عن حاله في نكبته فقال: عولت على أربعة أشياء: أولها أني قلت القضاء والقدر لا بد من جريانهما، الثاني: أني قلت إن لم أصبر فما أصنع، الثالث: أني قلت قد كان يجوز أن يكون أعظم من هذا، الرابع: أني قلت لعل الفرج قريب، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب السابع والخمسون ما جاء في اليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة والفرح والسرور ونحو ذلك مما يتعلق بهذا الباب
فمما يليق بهذا الباب من كتاب الله عز وجل قوله تعالى:
سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً
«2» . وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ 28
«3» . وقوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ
«4» .
ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو كان العسر في حجر لدخل عليه اليسر حتى يخرجه. وقال عليه الصلاة والسلام: «عند تناهي الشدة يكون الفرج، وعند تضايق البلاء يكون الرخاء» .
وقال علي رضي الله عنه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم:«أفضل عبادة أمتي انتظارها فرج الله تعالى» . وقال الحسن: لما نزل قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً 5 إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً 6
«5» ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أبشروا فلن يغلب عسر يسرين» .
ومن كلام الحكماء: إن تيقنت لم يبق هم.
وقال أبو حاتم:
إذا اشتملت على البؤس القلوب
…
وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمأنت
…
وأرست في مكامنها الخطوب
ولم نر لانكشاف الضرّ وجها
…
ولا أغنى بحيلته الأريب «6»
أتاك على قنوط منك غوث
…
يمن به اللطيف المستجيب «7»
وقال آخر:
عسى الهمّ الذي أمسيت فيه
…
يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويغاث عان
…
ويأتي أهله النائي الغريب «8»
وقال آخر:
تصبّر أيها العبد اللبيب
…
لعلك بعد صبرك ما تخيب
وكل الحادثات إذا تناهت
…
يكون وراءها فرج قريب
وقال إبراهيم بن العباس:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى
…
ذرعا وعند الله منها المخرج