الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل لرجل: هل فيكم حائك؟ قال: لا. قيل: فمن ينسج لكم ثيابكم؟ قال: كلّ منا ينسج لنفسه في بيته.
وكان أردشير بن بابك لا يرتضي لمنادمته ذا صناعة رديئة كحائك وحجام، ولو كان يعلم الغيب مثلا. وقال كعب: لا تستشيروا الحاكة، فإن الله تعالى سلب عقولهم ونزع البركة من كسبهم، لأن مريم عليها السلام مرت بجماعة من الحياكين، فسألتهم عن الطريق فدلوها على غير الطريق، فقالت: نزع الله البركة من كسبكم.
وقال أبو العتاهية:
ألا إنّما التقوى هي العز والكرم
…
وحبّك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة
…
إذا صحّح التقوى وإن حاك أو حجم
وهذا ما أردناه سياقة في هذا الباب. والله الموفق للصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب السادس والخمسون في شكوى الزمان وانقلابه بأهله والصبر على المكاره والتسلي عن نوائب الدهر
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في شكوى الزمان وانقلابه بأهله
روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ما من يوم ولا ليلة ولا شهر ولا سنة إلا والذي قبله خير منه سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم. وكان معاوية رضي الله تعالى عنه يقول: معروف زماننا منكر زمان قد مضى، ومنكره معروف زمان لم يأت.
وكانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي فسبقها، فشق ذلك على الصحابة رضي الله عنهم، فقال صلى الله عليه وسلم:«إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه» . وحكي عن شيخ من همدان قال: بعثني أهلي في الجاهلية إلى ذي الكلاع الحميري بهدايا، فمكثت شهرا لا أصل إليه، ثم بعد ذلك أشرف أشرافة من كوة، فخرّ له من حول القصر سجدا، ثم رأيته من بعد ذلك وقد هاجر إلى حمص واشترى بدرهم لحما، وسمطه خلف دابته وهو القائل هذه الأبيات:
أف للدنيا إذا كانت كذا
…
أنا منها في بلاء وأذى
إن صفا عيش امرىء في صبحها
…
جرعته ممسيا كأس الردى
ولقد كنت إذا ما قيل من
…
أنعم العالم عيشا قيل ذا
وقال يونس بن ميسرة: لا يأتي علينا زمان إلا بكينا منه ولا يتولى عنا زمان إلا بكينا عليه. ومن ذلك قوله:
ربّ يوم بكيت منه فلما
…
صرت في غيره بكيت عليه
ومثله:
وما مرّ يوم أرتجي فيه راحة
…
فأخبره إلّا بكيت على أمسي
ومن كلام ابن الأعرابي:
عن الأيام عدّ فعن قليل
…
ترى الأيام في صور الليالي
وقال رضي الله عنه: ما قال الناس لشيء طوبى إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء.
قال الشاعر:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم
…
ولا الدار بالدار التي كنت أعهد
ودخل داود عليه الصلاة والسلام غارا، فوجد فيه رجلا ميتا وعند رأسه لوح مكتوب فيه، أنا فلان ابن فلان الملك عشت ألف عام، وبنيت ألف مدينة، وافتضضت ألف بكر، وهزمت ألف جيش، ثم صار أمري إلى أن بعثت زنبيلا من الدراهم في رغيف فلم يوجد، ثم بعثت زنبيلا من الجواهر فلم يوجد، فدققت الجواهر واستفيتها فمت مكاني، فمن أصبح وله رغيف وهو يحسب أن على وجه الأرض أغنى منه أماته الله كإماتتي.
وذكر أن عبد الرحمن بن زياد لما ولي خراسان حاز من الأموال ما قدر لنفسه أنه إن عاش مائة سنة ينفق في كل يوم
ألف درهم على نفسه أنه يكفيه، فرؤي بعد مدة وقد احتاج إلى أن باع حلية مصحفه وأنفقها.
وقال هيثم بن خالد الطويل: دخلت على صالح مولى منارة في يوم شات وهو جالس في قبة مغشاة بالسمور، وجميع فروشها سمور، وبين يديه كانون فضة يبخر فيه بالعود، ثم رأيته بعد ذلك في رأس الجسر وهو يسأل الناس.
ولما قتل عامر بن إسماعيل مروان بن محمد ونزل في داره وقعد على فرشه، دخلت عليه عبدة بنت مروان فقالت: يا عامر: إن دهرا أنزل مروان عن فرشه وأقعدك عليه قد أبلغ في عظتك.
وقال مالك بن دينار: مررت بقصر تضرب فيه الجواري بالدفوف ويقلن:
ألا يا دار لا يدخلك حزن
…
ولا يغدر بصاحبك الزمان
فنعم الدار تأوي كلّ ضيف
…
إذا ما ضاق بالضيف المكان
ثم مررت عليه بعد حين وهو خراب وبه عجوز فسألتها عما كنت رأيت وسمعت، فقالت: يا عبد الله إن الله يغيّر ولا يتغيّر والموت غالب كل مخلوق، قد والله دخل بها الحزن وذهب بأهلها الزمان.
وقال أبو العتاهية:
لئن كنت في الدنيا بصيرا فإنّما
…
بلاغك منها مثل زاد المسافر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه
…
فما فاته منها فليس بضائر
وقال عبد الملك بن عمير: رأيت رأس الحسين رضي الله عنه بين يدي ابن زياد في قصر الكوفة، ثم رأيت رأس زياد بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك، قال سفيان، فقلت له: كم كان بين أول الرؤوس وآخرها؟
قال: اثنتا عشرة سنة.
إنّ للدّهر صرعة فاحذرنها
…
لا تبيتنّ قد أمنت الشرورا
قد يبيت الفتى معافى فيردى
…
ولقد كان آمنا مسرورا
وكان محمد بن عبد الله بن طاهر في قصره على الدجلة ينظر، فإذا هو بحشيش في وسط الماء وفي وسطه قصبة على رأسها رقعة، فدعا بها فإذا فيها مكتوب شعرا وهو للشافعي رضي الله تعالى عنه:
تاه الأعيرج واستعلى به البطر
…
فقل له خير ما استعملته الحذر
أحسنت ظنّك بالأيام إذ حسنت
…
ولم تخفّ سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
…
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
قال: فما انتفع بنفسه.
وأعجب ما وجد في السير خبر القاهر أحد الخلفاء وقلعه من الملك وخروجه إلى الجامع في بطانة جبة بغير ظهارة، ومد يده يسأل الناس بعد أن كان ملكه لأقطار الأرض، فتبارك الله يعز من يشاء ويذل من يشاء.
وقيل: كان لمحمد المهلبي قبل اتصاله بالسلطان حال ضعيف، فبينما هو في بعض أسفاره مع رفيق له من أصحاب الحرث والمحراث إلا أنه من أهل الأدب إذ أنشده يقول:
ألا موت يباع فأشتريه
…
فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن نفس حر
…
تصدّق بالوفاة على أخيه
قال: فرثى له رفيقه وأحضر له بدرهم ما سدّ به رمقه، وحفظ الأبيات وتفرقا، ثم ترقّى المهلبي إلى الوزارة، وأخنى الدهر على ذلك الرجل الذي كان رفيقه، فتوصل إلى إيصال رقعة إليه مكتوب فيها:
ألا قل للوزير فدته نفسي
…
مقال مذكّر ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضنك عيش
…
ألا موت يباع فأشتريه
فلما قرأها نذكر، فأمر له بسبعمائة درهم ووقّع تحت رقعته: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ
«1» . ثم قلّده عملا يرتزق منه.
ودخل مسلمة بن زيد بن وهب على عبد الملك بن مروان فقال له: أي الزمان أدركته أفضل، وأي الملوك أكمل؟ فقال: أما الملوك فلم أر إلا حامدا وذاما، وأما الزمان فيرفع أقواما ويضع آخرين، وكلهم يذكر أنه يبلي جديدهم ويفرق عديدهم ويهرم صغيرهم ويهلك كبيرهم.
وقال حبيب بن أوس:
لم أبك من زمن لم أرض خلّته
…
إلّا بكيت عليه حين ينصرم «1»
وقال آخر:
يا معرضا عنّي بوجه مدبر
…
ووجوه دنياه عليه مقبلة
هل بعد حالك هذه من حالة
…
أو غاية إلّا انحطاط المنزلة
وقال عبد الله بن عروة بن الزبير:
ذهب الذين إذا رأوني مقبلا
…
بشّوا إليّ ورحبوا بالمقبل
وبقيت في خلف كأنّ حديثهم
…
ولغ الكلاب تهارشت في المنزل «2»
وقال آخر في معناه:
يا منزلا عبث الزمان بأهله
…
فأبادهم بتفرّق لا يجمع
أين الذين عهدتهم بك مرة
…
كان الزمان بهم يضر وينفع
أيام لا يغشى لذكرك مربع
…
إلّا وفيه للمكارم مرتع
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
…
وبقي الذين حياتهم لا تنفع
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
وإنّي رأيت الدهر منذ صحبته
…
محاسنه مقرونة ومعايبه
إذا سرّني في أوّل الأمر لم أزل
…
على حذر من أن تذمّ عواقبه
وقال بعضهم:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم
…
والمنكرون لكل أمر منكر
وبقيت في خلف يزيّن بعضه
…
بعضا ليدفع معور عن معور «3»
حلف الزمان ليأتين بمثلهم
…
حنثت يمينك يا زمان فكفّر «4»
وكان يقال: إذا أدبر الأمر أتى الشر من حيث يأتي الخير.
وكان يقال: بتقلب الدهر تعرف جواهر الرجال.
ويقال: زمام العافية بيد البلاء ورأس السلامة تحت جناح العطب. وقال بعضهم: نحن في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا والشر إلا إقبالا والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا، اضرب بطرفك حيث شئت هل تنظر إلا فقيرا يكابد فقرا، أو غنيا بدّل نعمة الله كفرا، أو بخيلا اتخذ بحق الله وفرا، أو متمردا كأن بسمعه عن سماع المواعظ وقرا.
وقال آخر: نحن في زمان إذا ذكرنا الموتى حييت القلوب، وإذا ذكرنا الأحياء ماتت القلوب «5» . ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر أخيه فيقول يا ليتني مكانه» .
ويقال: لا يقاوم عز الولاية بذل العزل.
بيت:
ما من مسيء وإن طالت إساءته
…
إلا ويكفيك يوم من مساويه
وقال الأمين:
يا نفس قد حقّ الحذر
…
أين المفر من القدر
كلّ امرىء مما يخا
…
ف ويرتجيه على خطر
من يرتشف صفو الزما
…
ن يغص يوما بالكدر
وقال بعضهم: