الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذا ما طواك الدّهر يا أمّ مالك
…
فشأن المنايا القاضيات وشانيا
قال: فطرب الرشيد طربا شديدا واستعاده منه مرات، ثم قال له: تمنّ عليّ. قال: أتمنى الهنيء والمريء. وهما ضيعتان غلتهما أربعون ألف دينار في كل سنة، فأمر له بهما، فقيل له يا أمير المؤمنين: إن هاتين الضيعتين من جلالتهما يجب أن لا يسمح بمثلهما، فقال الرشيد:
لا سبيل إلى استرداد ما أعطيت، ولكن احتالوا في شرائهما منه، فساوموه فيهما حتى وقفوا معه على مائة ألف دينار، فرضي بذلك، فقال الرشيد: إدفعوها له، فقالوا:
يا أمير المؤمنين في إخراج مائة ألف دينار من بيت المال طعن، ولكن نقطعها له، فكان يوصل بخمسة آلاف وثلاثة آلاف حتى استوفاها.
ومن ذلك ما حكى إسحاق الموصلي قال: كان الواثق بن المعتصم أعلم الناس بالغناء، وكان يضع الألحان العجيبة ويغني بها شعره، وشعر غيره، فقال له يوما: يا أبا محمد لقد فقت أهل العصر في كل شيء، فغنني شعرا أرتاح إليه، وأطرب عليه يومي هذا.
قال إسحاق: فغنيته هذه الأبيات:
ما كنت أعلم ما في البين من حرق
…
حتى تنادوا بأن قد جيء بالسفن
قالت تودّعني والدمع يغلبها
…
فهمهمت بعض ما قالت ولم تبن «1»
مالت إليّ وضمتّني لترشفني
…
كما يميل نسيم الريح بالغصن
وأعرضت ثم قالت وهي باكية
…
يا ليت معرفتّي إيّاك لم تكن
قال: فخلع عليّ خلعة كانت عليه وأمر لي بمائة ألف درهم.
وقال وغنيته يوما:
قفي ودّعينا يا سعاد بنظرة
…
فقد حان منا يا سعاد رحيل
فيا جنّة الدنيا ويا غاية المنى
…
ويا سؤل نفسي هل إليك سبيل
وكنت إذا ما جئت جئت لعلّة
…
فأفنيت علّاتي فكيف أقول «2»
فما كل يوم لي بأرضك حاجة
…
ولا كل يوم لي إليك وصول
فقال: والله لا سمعت يومي غيره وألقى عليّ خلعة من ثيابه، وأمر لي بصلة ما أمر لي قبلها بمثلها.
ومن حكايات الخلفاء ومكارم أخلاقهم:
ما حكي عن إبراهيم بن المهدي قال: قال جعفر بن يحيى يوما لبعض ندمائه: إني قد استأذنت أمير المؤمنين في الخلوة غدا. فهل من مساعدة؟ فقلت: جعلت فداءك أنا أسعد بمساعدتك وأسر بمشاهدتك. فقال: بكر بكور الغراب.
قال: فأتيته عند الفجر، فوجدت الشموع قد أوقدت بين يديه وهو ينتظرني في الميعاد، فلما زلنا في أطيب عيش إلى وقت الضحى، فقدمت إلينا موائد الأطعمة عليها من أفخر الطعام وأطيبه، فأكلنا وغسلنا أيدينا، ثم خلعت علينا ثياب المنادمة، وضمخنا بالخلوق وانتقلنا إلى مجلس الطرب ومدت الستائر وغنت القينات فظللنا بأنعم يوم ثم إنه داخله الطرب. فدعا بالحاجب وقال له: إذا أتى أحد يطلبنا فأذن له ولو كان عبد الملك بن صالح بنفسه، فاتفق بالأمر المقدر أن عم الرشيد عبد الملك بن صالح قدم علينا في ذلك الوقت وكان صاحب جلالة وهيبة ورفعة، وعنده من الورع والزهد والعبادة ما لا مزيد عليه، وكان الرشيد إذا جلس مجلس لهو لا يطلعه على ذلك لشدة ورعه، فلما قدم دخل به الحاجب علينا فلما رأيناه رمينا ما في أيدينا وقمنا إجلالا له نقبل يده وقد ارتعنا لذلك وخجلنا وزاد بنا الحياء، فقال لا بأس عليكم كونوا على ما أنتم عليه، ثم صاح بغلام، فدفع له ثيابه، ثم أقبل علينا وقال: اصنعوا بنا ما صنعتم بأنفسكم قال: فما كان بأسرع من أن طرحت عليه ثياب خز معلم وقدمت إليه موائد الطعام والشراب، فطعم وشرب الشراب لساعته، ثم قال: خففوا عني فإنه شيء ما فعلته والله قط. قال: فتهلل وجه جعفر ثم التفت إلى عبد الملك، فقال له: جعلت فداءك قد علوت علينا وتفضلت، فهل من حاجة تبلغها مقدرتي وتحيط بها نعمتي فاقضيها لك مكافأة لك على ما صنعت؟
قال: بلى إن في قلب أمير المؤمنين بعض تغير عليّ، فتسأله الرضا عني، فقال جعفر: قد رضي عنك أمير المؤمنين قال: وعليّ عشرة آلاف دينار، فقال جعفر: هي حاضرة لك من مالي ولك من مال أمير المؤمنين مثلها.
قال: أريد أن أشد ظهر ابني إبراهيم بمصاهرة من أمير المؤمنين قال: قد زوجه أمير المؤمنين بابنته الغالية. قال:
وأحب أن تخفق الألوية على رأسه. قال: وقد ولّاه أمير المؤمنين مصر. فانصرف عبد الملك بن صالح وبقيت متعجبا من إقدام جعفر على ذلك من غير استئذان وقلت:
عسى أن يجيبه أمير المؤمنين إلى ما سأله من الولاية والمال والرضا إلا المصاهرة قال: فلما كان من الغد بكرت إلى باب الرشيد لأنظر ما يكون من أمرهم، فدخل جعفر فلم يلبث أن دعي بأبي يوسف القاضي ثم بابراهيم بن عبد الملك بن صالح فخرج إبراهيم وقد عقد نكاحه بالغالية بنت الرشيد، وعقد له على مصر الرايات والألوية تخفق على رأسه وخرج كل من في القصر معه إلى بيت عبد الملك بن صالح قال: ثم بعد ذلك خرج إلينا جعفر وقال: أظن أن قلوبكم تعلقت بحديث عبد الملك بن صالح وأحببتم سماع ذلك. قلنا هو كما ظننت.
قال: لما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه قال: كيف كان يومك يا جعفر بالأمس؟ فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى دخول عبد الملك بن صالح فكان متكئا فاستوى جالسا، وقال: لله أبوك ما سألك؟ قلت:
سألني رضاك عنه يا أمير المؤمنين، قال: بم أجبته؟ قلت:
قد رضي عنك أمير المؤمنين. قال: قد رضيت عنه، ثم ماذا قلت، وذكر أن عليه عشرة آلاف دينار. قال: فبم أجبته؟
قلت قد قضاها عنك أمير المؤمنين. قال: وقد قضيتها عنه، ثم ماذا قلت، ورغب أن يشد أمير المؤمنين ظهر ولده إبراهيم بمصاهرة منه قال: فبم أجبته؟ قلت: قد زوّجه أمير المؤمنين بابنته الغالية. قال: قد أجبته إلى ذلك. ثمّ ماذا قلت؟ قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه. قال: فبم أجبته؟ قلت: قد ولاه أمير المؤمنين مصر. قال: قد وليته إياها، ثم نجز له جميع ذلك من ساعته.
قال إبراهيم بن المهدي: فو الله ما أدري أي الثلاثة أكرم وأعجب فعلا ما ابتدأه عبد الملك بن صالح من المنادمة ولم يكن فعل ذلك قط أم إقدام جعفر على الرشيد أم إمضاء الرشيد جميع ما حكم به جعفر، فهكذا تكون مكارم الأخلاق.
وحكى أبو العباس عن عمر الرازي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة فجعلت أسير في جمد من الأرض، فسمعت غناء لم أسمع مثله، فقلت: والله لأتوصلن إليه، فإذا هو عبد أسود، فقلت له: أعد عليّ ما سمعت فقال: والله لو كان عند قرى أقريكه لفعلت، ولكني أجعله قراك، فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، أو عطشان فأروى، ثم اندفع يغني ويقول:
وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها
…
أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ودّ جليسها
…
إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
قال عمر: فحفظته منه، ثم تغنيت به على الحالات التي وصفها إليّ فإذا هي كما ذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب السبعون في ذكر القينات والأغاني
حكى علي بن الجهم قال: لما أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين المتوكل أهدى إليه عبد الله بن طاهر من خراسان جارية يقال لها محبوبة كانت قد نشأت بالطائف فبرعت في الجمال والأدب وأجادت قول الشعر، وحذاقة الغناء، فشغف بها أمير المؤمنين المتوكل حتى كانت لا تفارق مجلسه ساعة واحدة، ثم أنه حصل منه عليها بعد ذلك جفاء، فهجرها.
قال علي بن الجهم، فبينما أنا نائم عنده ذات ليلة إذ أيقظني، فقال: يا علي، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: قد رأيت الليلة في منامي كأني رضيت على محبوبة وصالحتها، فقلت: خيرا رأيت يا أمير المؤمنين أقرّ الله عينك إنما هي جاريتك والرضا والجفاء بيدك، فوالله إنا لفي حديثها إذ جاءت وصيفة فقالت: يا أمير المؤمنين سمعت صوت عود من حجرة محبوبة، فقال: قم بنا يا علي ننظر ما تصنع، فنهضنا حتى أتينا حجرتها فإذا هي تضرب بالعود وتقول:
أدور في القصر لا أرى أحدا
…
أشكو إليه ولا يكلّمني
كأنّني قد أتيت معصية
…
ليس لها توبة تخلّصني
فهل شفيع لنا إلى ملك
…
قد زارني في الكرى وصالحني
حتى إذا ما الصباح لاح لنا
…
عاد إلى هجره وصارمني «1»
قال: فصاح أمير المؤمنين، فلما سمعته تلقته، وأكبت على رجليه تقبلهما، فقال: ما هذا؟ قالت: يا مولاي رأيت في منامي هذه اليلة كأنك قد رضيت عني، فأنشدت ما سمعت. قال: وأنا والله رأيت مثل ذلك، ثم قال يا علي: هل رأيت أعجب من هذا الاتفاق، ثم أخذ بيدها ومضى إلى حجرتها وكان من أمرهما ما كان.
ومن ذلك ما حدث الشيباني قال: كان عند رجل بالعراق قينة، وكان أبو نواس يختلف إليها، وكانت تظهر له أنها لا تحب غيره وكان كلما دخل إليها وجد عندها شابا يجالسها ويحادثها فقال فيها هذه الأبيات:
ومظهرة لخلق الله ودّا
…
وتلقي بالتحية والسّلام
أتيت لبابها أشكوا إليها
…
فلم أخلص إليه من الزّحام
فيا من ليس يكفيها خليل
…
ولا ألفا خليل كلّ عام
أراك بقيّة من قوم موسى
…
فهم لا يصبرون على طعام
وقال أبو سويد: حدثني أبو زيد الأسدي قال: دخلت على سليمان بن عبد الملك وهو جالس في إيوان مبلط بالرخام مفروش بالديباج الأخضر في وسط بستان ملتف قد أثمر وأينع وعلى رأسه وصائف كل واحدة منهن أحسن من صاحبتها، وقد غابت الشمس وغنت الأطيار فتجاوبت وصفقت الرياح على الأشجار فتمايلت. فقلت: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، وكان مطرقا، فرفع رأسه، وقال: أبا زيد في مثل هذا حين تصاحبنا.
فقلت: أصلح الله الأمير أو قامت القيامة؟ قال: نعم على أهل المحبة، ثم أطرق مليا ورفع رأسه وقال: أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا؟ قلت: أصلح الله الأمير قهوة حمراء في زجاجة بيضاء تناولها غادة هيفاء مضمومة لفّاء أشربها من كفها وأمسح فمي بخدها، فلما رأت الوصائف ذلك تنحين عنه، ثم رفع رأسه، فقال: أبا زيد حضرت في يوم فيه انقضاء أجلك ومنتهى مدتك وتصرم عمرك والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك؟.
قلت: نعم أصلح الله الأمير كنت جالسا عند دار أخيك سعيد بن عبد الملك، فإذا أنا بجارية قد خرجت من باب القصر كأنها غزال انفلت من شبكة صياد عليها قميص سكب اسكندراني يبين منه بياض بدنها وتدوير سرتها ونقش تكتها، وفي رجليها نعلان صراران قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها بذؤابتين تضربان إلى حقويها لها صدغان كأنهما نونان وحاجبان قد قوسا على محاجر عينيها، وعينان مملوءتان سحرا، وأنف كأنه قصبة بلور، وفم كأنه جرح يقطر دما وهي تقول: عباد الله من لي بدواء ما لا يشتكى وعلاج ما لا يسمى، طال الحجاب وأبطأ الجواب، والقلب طائر، والعقل عازب والنفس والهة، والفؤاد مختلس، والنوم محتبس. رحمة الله على قوم عاشوا تجلدا وماتوا كمدا، ولو كان إلى الصبر حيلة أو إلى ترك الغرام سبيل لكان أمرا جميلا، ثم أطرقت طويلا ورفعت رأسها، فقلت لها: أيتها الجارية إنسية أنت أم جنية، سماوية أنت أم أرضية؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك واذهلني حسن منطقك، فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني، ثم قالت: أعذر أيها المتكلم فما أوحش الساعد بلا مساعد، والمقاساة لصب معاند، ثم انصرفت، فو الله ما أكلت طعاما طيبا إلا غصصت به لذكرها، ولا رأيت حسنا إلا سمج في عيني لحسنها فقال سليمان: أبا زيد كاد الجهل يستفزني والصبا يعاودني والحلم يعزب عني لشجو ما سمعت. اعلم يا أبا زيد أن تلك التي رأيتها هي الذلفاء التي قيل فيها:
إنّما الذلفاء ياقوتة
…
أخرجت من كيس دهقان «1»
شراؤها على أخي ألف ألف درهم، وهي عاشقة لمن باعها والله إن مات ما يموت إلا بحبها ولا يدخل القبر إلا بغصتها، وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت نهية. قم أبا زيد في دعة الله تعالى، ثم قال: يا غلام نفله ببدرة، فأخذتها وانصرفت.
وقال: فلما أفضت الخلافة إليه صارت الذلفاء إليه، فأمر بفسطاط «2» ، فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة تحتها أنواع الزهر ما بين أصفر فاقع وأحمر ساطع وأبيض ناصع.
وكان لسليمان مغن يقال له سنان، به يأنس وإليه يسكن فأمره أن يضرب فسطاطه بالقرب منه، وكانت الذلفاء قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزه، فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان في أكمل سرور، وأتم حبور إلى أن انصرف من الليل إلى فسطاطه، فنزل به جماعة من إخوانه
فقالوا له: نريد قرى «1» أصلحك الله. قال: وما قراكم؟
قالوا: أكل وشرب وسماع. قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم، وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه عنه إلا ما كان في مجلسه. قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا. قال: فاختاروا صوتا واحدا أغنيكموه. قالوا: غننا صوت كذا، فرفع صوته يغني بهذه الأبيات:
محجوبة سمعت صوتي فأرّقها
…
من آخر الليل لما نبّه السّحر
لم يحجب الصوت أحراس ولا غلق
…
فدمعها لطروق الصوت منحدر
لو مكنّت لمشت نحوي على قدم
…
تكاد من لينها في المشي تنفطر «2»
قال: فسمعت الذلفاء صوت سنان، فخرجت إلى صحن الفسطاط تسمع، فجعلت لا تسمع شيئا من حسن خلق ولطافة قد إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها، فحرك ذلك ساكنا من قلبها، فهملت عيناها، وعلا نحيبها، فانتبه سليمان، فلم يجدها معه، فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال، فقال: ما هذا يا ذلفاء؟
فقالت:
ألا ربّ صوت رائع من مشوّه
…
قبيح المحيا واضع الأب والجدّ «3»
يروعك منه صوته ولعله
…
إلى أمة يعزى معا وإلى عبد
فقال سليمان: دعيني من هذا، فو الله لقد خامر قلبك منه ما خامر «4» ، ثم قال: يا غلام عليّ بسنان، فدعت الذلفاء خادما لها، فقالت له إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان، فحذرته، فلك عشرة آلاف درهم، وأنت حر لوجه الله تعالى، فخرج الرسولان، فسبق رسول أمير المؤمنين سليمان، فلما أتى به قال يا سنان: ألم أنهك عن مثل هذا؟
قال يا أمير المؤمنين حملني على ذلك حلمك، وأنا عبد أمير المؤمنين، وغرس نعمته فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عن عبده، فليفعل. قال: قد عفوت عنك ولكن أما علمت أن الفرس إذا صهل ودقت له الحجرة «5» ، وأن الفحل إذا هدر ضبعت «6» له الناقة، وأن الرجل إذا تغنى أصغت له المرأة. إياك إياك والعود إلى ما كان منك، فيطول غمك.
وحكي أن الرشيد فصد يوما فأرسلت إليه بعض حظاياه قدحا فيه شراب مع وصيفة لها حسنة الوجه جميلة الطلعة بديعة المحيا، وغطته بمنديل مكتوب عليه هذه الأبيات:
فصدت عرقا تبتغي صحّة
…
ألبسك الله به العافية
فاشرب بهذا الكأس يا سيدي
…
واهنأ به من كفّ ذي الجارية
واجعل لمن أنفذه خلوة
…
تحظى بها في الليلة الآتية
قال: فنظر الرشيد إلى الوصيفة التي جاءت بالقدح فاستحسنها، فافتضها، ثم أرسلها فعلمت مولاتها بذلك، فكتبت إليه رقعة تقول فيها هذه الأبيات:
بعثت الرسول فأبطا قليلا
…
على الرغم منّي فصبرا جميلا
وكنت الخليل وكان الرسول
…
فصرت الرسول وصار الخليلا
كذا من يوجّه في حاجة
…
إلى من يحبّ رسولا جميلا
قال فاستحسن الرشيد ذلك منها وأرسل إليها: أنا عندك الليلة.
وأهدى داود بن روح المهلبي إلى المهدي جارية، فحظيت عنده، فواعدته المبيت عنده ليلة، فمنعها الحيض، فكتب إليها يقول:
لأهجرنّ حبيبا خان موعده
…
وكان منه لصفو العيش تكدير
فأرسلت إليه تجيبه:
لا تهجرنّ حبيبا خان موعده
…
ولا تذمنّ وعدا فيه تأخير
ما كان حبسي إلا من حدوث أذى
…
لا يستطاع له بالقول تفسير
وقال محمد بن مروان يصف جارية له:
أمست تباع ولو تباع بوزنها
…
درّا بكى أسفا عليها البائع
وكان للمأمون جويرية «1» من أحسن الناس وأسبقهم إلى كل نادرة فحظيت عنده، فحسدها الجواري وقلن لا حسب لها، فنقشت على خاتمها حسبي حسني، فازداد بها المأمون عجبا، فسمتها الجواري، فماتت، فجزع عليها المأمون جزعا شديدا وقال:
اختلست ريحانتي من يدي
…
أبكي عليها آخر الأبد
كانت هي الأنس إذا استوحشت
…
نفسي من الأقرب والأبعد
وروضة كان بها مرتعي
…
ومنهلا كان بها موردي
كانت يدي كان بها قوتي
…
فاختلس الدهر يدي من يدي
وللمتوكل في قينة:
أمازحها فتغضب ثم ترضى
…
فكلّ فعالها حسن جميل
فإن غضبت فأحسن ذي دلال
…
وإن رضيت فليس لها عديل «2»
وحدّث أبو عبد الله بن عبد البر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان في المدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لإحداهما رشا وللأخرى جؤذر وكان بالمدينة رجل مضحك لا يكاد يغيب عن مجلس المستظرفين، فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليسخر به، فلما أتاه قال له: أصلحك الله إنك لفي لذتك ولا لذة لي قال: وما لذتك؟ قال: تحضر لي نبيذا، فإنه لا يطيب لي عيش إلا به، فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر «3» ، فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه فتناوم الهاشمي وغمز جاريتيه عليه، فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين وأهل اليمن يسمون الكنف بالمراحيض، فقال لهما: يا حبيبتي أين المرحاض؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول سيدنا؟ قالت: يقول غنياني
رحضت فؤادي فخلّيتني
…
أهيم من الحب في كل وادي «4»
فاندفعتا تغنيانه، فقال في نفسه: والله ما أظنهما فهمتا عني، وما أظنهما إلا مكيتين وأهل مكة يسمونها المخارج، فقال: يا حبيبتي أين المخرج؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول سيدنا؟ قالت يقول غنياني:
خرجت لها من بطنه مكّة بعدما
…
أقام المنادي بالعشي فأعتما
فاندفعتا تغنيانه، فقال في نفسه: لم يفهما عني، وما أظنهما إلا شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب، فقال:
يا حبيبتي أين المذهب؟ فقالت إحداهما لصاحبتها:
ما يقول حبيبنا؟ قالت: يقول غنياني
ذهبت من الهجران في كل مذهب
…
ولم يك حقا كل هذا كل هذا التّجنب
فغنتاه الصوت، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لم يفهما عني، وما أظن القحبتين إلا مدنيتين، وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء، فقال: يا حبيبتي أين بيت الخلاء؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول سيدنا؟
قالت: يقول غنياني
خلا علي بقاع الأرض إذ ظعنوا
…
من بطن مكة واسترعاني الحزن
قال فغنتاه، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ما أظن الفاسقتين إلا بصريتين، وأهل البصرة يسمونها الحشوش، فقال: يا حبيبتي أين الحشوش؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول سيدنا؟ قالت: يقول غنياني
أوحشوني وعزّ صبري فيهم
…
ما احتيالي وما يكون فعالي
قال فاندفعتا تغنيانه فقال: ما أراهما إلا كوفيتين، وأهل الكوفة يسمونها الكنف، فقال لهما: يا حبيبتي أين الكنيف؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: يعيش سيدنا ما رأيت أكثر اقتراحا من هذا الرجل. قالت: ما يقول؟ قالت:
يسأل أن تغني له
تكنّفني الهوى طفلا
…
فشيّبني وما اكتهلا