الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا بيضة حتى أتى على ذلك جميعه، ثم رجع وهو جائع.
وكان ميسرة البراش يأكل الكبش العظيم ومائة رغيف، فذكر ذلك للمهدي، فقال: دعوت يوما بالفيل وأمرت، فألقي إليه رغيف رغيف، فأكل تسعة وتسعين، وألقي إليه تمام المائة، فلم يأكله.
وحدث الشيخ نبيه الدين الجوهري أنه سمع الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام يقول: إن معاوية بن أبي سفيان كان يأكل في كل يوم مائة رطل بالدمشقي ولا يشبع. ونزل رجل بصومعة راهب، فقدم إليه الراهب أربعة أرغفة، وذهب ليحضر إليه العدس، فحمله وجاء، فوجده قد أكل الخبز، فذهب، فأتى بخبز فوجده قد أكل العدس، ففعل معه ذلك عشر مرات، فسأله الراهب: أين مقصدك؟ قال: إلى الأردن. قال: لماذا؟ قال: بلغني أن بها طبيبا حاذقا أسأله عما يصلح معدتي، فإني قليل الشهوة للطعام، فقال له الراهب: إن لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: إذا ذهبت وأصلحت معدتك، فلا تجعل رجوعك عليّ.
وأما المهازلة على الطعام:
فقد روي عن يحيى بن عبد الرحمن رضي الله تعالى عنه قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسودة فصنعت حريرة، فجئت به، فقلت لسودة: كلي، فقالت: لا أحبه، فقلت: والله لتأكلين أو لألطخن وجهك، فقالت: ما أنا بذائقته، فأخذت من الصحفة شيئا، فلطخت به وجهها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بيني وبينها، فتناولت من الصحفة شيئا، فلطخت به وجهها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
واشترى غندر يوما سمكا وقال لأهله: أصلحوه، ونام، فأكل عياله السمك ولطخوا يده، فلما انتبه قال: قدّموا إليّ السمك، قالوا: قد أكلت. قال: لا، قالوا: شم يدك، ففعل، فقال: صدقتم، ولكن ما شبعت. ودخل الحمدوني على رجل وعنده أقوام بين أيديهم أطباق الحلوى ولا يمدون أيديهم، فقال: لقد ذكرتموني ضيف إبراهيم وقول الله تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً
«1» ثم قال: كلوا رحمكم الله فضحكوا، وأكلوا. والحكايات في ذلك كثيرة.
وأما الضيافة وإطعام الطعام:
فقد قال الله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ
الْمُكْرَمِينَ 24
«2» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ولا يؤذ جاره» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من أكل وذو عينين ينظر إليه ولم يواسه ابتلي بداء لا دواء له» .
وقال الحسن: كنا نسمع أن إحدى مواجب الرحمة إطعام الأخ المسلم الجائع. وقيل لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: بم اتخذك الله خليلا؟ قال: بثلاث: ما خيرت بين شيئين إلا اخترت الذي لله على غيره، ولا اهتممت بما تكفل لي به، ولا تغديت ولا تعشيت إلا مع ضيف.
ويقولون: ما خلا مضيف الخليل عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا ليلة واحدة من ضيف.
وكان الزهري إذا لم يأكل أحد من أصحابه من طعامه حلف لا يحدثه عشرة أيام. وقالوا: المائدة مرزوقة. أي من كان مضيافا وسع الله عليه، وقالوا: أول من سن القرى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وأول من ثرد الثريد وهشمه هاشم، وأول من أفطر جيرانه على طعامه في الإسلام عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهو أول من وضع موائده على الطريق، وكان إذا خرج من بيته طعام لا يعود منه شيء، فإن لم يجد من يأكله تركه على الطريق.
وقيل لبعض الكرماء: كيف اكتسبت مكارم الأخلاق، والتأدب مع الأضياف؟ فقال: كانت الأسفار تحوجني إلى أن أفد على الناس، فما استحسنته من أخلاقهم اتبعته وما استقبحته اجتنبته.
وأما آداب المضيف
فهو أن يخدم أضيافه ويظهر لهم الغنى وبسط الوجه.
فقد قيل: البشاشة في الوجه خير من القرى، قالوا:
فكيف بمن يأتي بها وهو ضاحك؟ وقد ضمن الشيخ شمس الدين البديوي رحمه الله هذا الكلام بأبيات، فقال:
إذا المرء وافى منزلا منك قاصدا
…
قراك وأرمته لديك المسالك
فكن باسما في وجهه متهلّلا
…
وقل مرحبا أهلا ويوم مبارك
وقدّم له ما تستطيع من القرى
…
عجولا ولا تبخل بما هو هالك
فقد قيل بيت سالف متقدّم
…
تداوله زيد وعمرو ومالك
بشاشة وجه المرء خير من القرى
…
فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك
وقالت العرب: تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة وإطالة الحديث عند المؤاكلة، وقال حاتم الطائي:
سلي الطارق المعتّر يا أمّ مالك
…
إذا ما أتاني بين ناري ومجزري «1»
أأبسط وجهي إنه أول القرى
…
وأبذل معروفي له دون منكري
وقال آخر في عبد الله بن جعفر:
إنك يا ابن جعفر خير فتى
…
وخيرهم لطارق إذا أتى «2»
ولله در القائل:
الله يعلم أنّه ما سرّني
…
شيء كطارقة الضيوف النزّل
ما زلت بالترحيب حتى خلتني
…
ضيفا له والضيف ربّ المنزل
أخذه من قول الشاعر:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا
…
نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل
وما أحسن ما قال سيف الدولة بن حمدان:
منزلنا رحب لمن زاره
…
نحن سواء فيه والطارق
وكلّ ما فيه حلال له
…
إلّا الذي حرّمه الخالق
وقال الأصمعي: سألت عيينة بن وهب الدارمي عن مكارم الأخلاق فقال: أو ما سمعت قول عاصم بن وائل:
وإنّا لنقري الضيف قبل نزوله
…
ونشبعه بالبشر من وجه ضاحك
وقال بعض الكرام:
أضاحك ضيفي قبل أن أنزل رحله
…
ويخصب عندي والمحلّ جديب
وما الخصب للأضياف أن تكثر القرى
…
ولكنّما وجه الكريم خصيب
وقال آخر:
عودت نفسي إذا ما الضيف نبّهني
…
عقر العشار على عسر وإيسار «3»
ومن آداب الضيف أن يتفقد دابة ضيفه ويكرمها قبل إكرام الضيف قال الشاعر:
مطية الضيف عندي تلو صاحبها
…
لن يأمن الضيف حتى تكرم الفرسا
وقال علي بن الحسين رضي الله تعالى عنها: من تمام المروءة خدمة الرجل ضيفه كما خدمهم أبونا إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه بنفسه وأهله. أما سمعت قول الله عز وجل؟ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ
«4» . ومن آداب المضيف أن يحدث أضيافه بما تميل إليه نفوسهم، ولا ينام قبلهم، ولا يشكو الزمان بحضورهم، ويبش عند قدومهم، ويتألم عند وداعهم، وأن لا يحدث بما يروعهم به.
كما حكى بعضهم قال: استدعاني إسحاق بن إبراهيم الظاهري إلى أكل هريسة في بكرة نهار فدخلت، فأحضرت لنا الهريسة فأكلنا، فإذا شعرة قد جاءت على لقمة غفل عنها طباخه، فاستدعى خادمه، فأسر إليه شيئا لم نعلمه، فعاد الخادم ومعه صينية مغطاة، فكشف عن الصينية، فإذا يد الطباخ مقطوعة تختلج، فتكدر علينا عيشنا وقمنا من عنده ونحن لا نعقل. فيجب على المضيف أن يراعي خواطر أضيافه كيفما أمكن ولا يغضب على أحد بحضورهم، ولا ينغص عيشهم بما يكرهونه، ولا يعبس بوجهه ولا يظهر نكدا، ولا ينهر أحدا ولا يشتمه بحضرتهم، بل يدخل على قلوبهم السرور بكل ما أمكن.
كما حكي عن بعض الكرام أنه دعا جماعة من أصحابه إلى بستانه وعمل لهم سماطا وكان له ولد جميل الطلعة، فكان الولد في أول النهار يخدم القوم ويأنسون به، ففي آخر النهار صعد إلى السطح، فسقط فمات لوقته، فحلف أبوه على أمه بالطلاق الثلاث أن لا تصرخ ولا تبكي إلى أن تصبح، فلما كان الليل سأله أضيافه عن ولده، فقال:
هو نائم، فلما أصبحوا وأرادوا الخروج قال لهم: إن رأيتم أن نصلي على ولدي، فإنه بالأمس سقط من على السطح، فمات لساعته، فقالوا له: لم لا أخبرتنا حين سألناك؟
فقال: ما ينبغي لعاقل أن ينغص على أضيافه في التذاذهم ولا يكدر عليهم في عيشهم، فتعجبوا من صبره وتجلده، ومكارم أخلاقه، ثم صلوا على الغلام وحضروا دفنه وبكوا عليه وانصرفوا.
وعلى المضيف أن يأمر غلمانه بحفظ نعال أضيافه وتفقد غلمانهم بما يكفيهم، ويسهل حجابه وقت الطعام ولا يمنع واردا.
وقيل لبعض الأمراء الكرام: لا بأس بالحجاب لئلا يدخل من لا يعرفه الأمير ويحترز عن العدو، فقال: إن عدوا يأكل طعامنا ولا ينخدع لا يمكّنه الله منا، الأليق بالكريم الرئيس أن يمنع حاجبه من الوقوف ببابه عند حضور الطعام، فإنه ذلك أول الشناعة عليه، وعليه أن يسهر مع أضيافه ويؤانسهم بلذيذ المحادثة وغريب الحكايات، وأن يستميل قلوبهم بالبذل لهم من غرائب الطرف إن كان من أهل ذلك، وأن يري أضيافه مكان الخلاء «1» ، فقد قيل عن ملك الهند أنه قال: إذا ضافك أحد فأره الكنيف «2» فإني ابتليت به مرة، فوضعته في قلنسوتي. وقالوا لا بأس أن يدخل دار أخيه يستطعم للصداقة الوكيدة.
وقد قصد النبي صلى الله عليه وسلم والشيخان منزل الهيثم بن التيهان وأبي أيوب الأنصاري، وكذلك كانت عادة السلف رضي الله تعالى عنهم. وكان لعون بن عبد الله المسعودي ثلاثمائة وستون صديقا، فكان يدور عليهم في السنة، ولا بأس أن يدخل الرجل بيت صديقه، فيأكل وهو غائب، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار بريرة رضي الله عنها، فأكل طعامها وهي غائبة.
وكان الحسن رضي الله عنه يوما عند بقال، فجعل يأخذ من هذه الجونة «3» تينة ومن هذه فستقة فيأكلها، فقال له هشام: ما بدا لك يا أبا سعيد في الورع؟ فقال له: يا لكع اتل عليّ آية الأكل، فتلا: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ
إلى قوله: أَوْ صَدِيقِكُمْ
«4» فقال الصديق: من استروحت إليه النفس واطمأن إليه القلب، وعلى المضيف الكريم أن لا يتأخر عن أضيافه ولا يمنعه عن ذلك قلة ما في يده بل يحضر إليهم ما وجد. فقد جاء عن أنس وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم كانوا يقدمون الكسرة اليابسة وحشف التمر. ويقولون: ما ندري أيهما أعظم وزرا الذي يحتقر ما قدم إليه أو الذي يحتقر ما عنده أن يقدمه. وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من ألقم أخاه لقمة حلوة صرف الله عنه مرارة الموقف» .
حكي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه كان نازلا عند الزعفراني ببغداد، فكان الزعفراني يكتب في كل يوم رقعة بما يطبخ من الألوان ويدفعها إلى الجارية، فأخذها الشافعي منها يوما وألحق فيها لونا آخر، فعرف الزعفراني ذلك، فأعتق الجارية سرورا بذلك، وكانت سنّة السلف رضي الله عنهم أن يقدموا جملة الألوان دفعة ليأكل كل شخص ما يشتهي. ومن السنّة أن يشيع المضيف الضيف إلى باب الدار، وعلى المضيف إذا قدم الطعام إلى أضيافه أن لا ينتظر من يحضر من عشيرته، فقد قيل: ثلاثة تضني:
سراج لا يضيء ورسول بطيء ومائدة ينتظر لها من يجيء، ونزل الإمام الشافعي رضي الله عنه بالإمام مالك رضي الله عنه، فصب بنفسه الماء على يديه وقال له: لا يرعك ما رأيت مني، فخدمة الضيف على المضيف فرض:
أعرض طعامك وابذله لمن أكلا
…
واحلف على من أبى واشكر لمن فعلا
ولا تكن سابري العرض محتشما
…
من القليل فلست الدهر محتفلا
ومن البلاء من يعزم على الضيف، فيعتذر له، فيمسك عنه بمجرد الاعتذار، كأنه تخلص من ورطة، وقيل لبعض البخلاء: ما الفرج بعد الشدة؟ قال: أن يعتذر الضيف بالصوم. ومن البخلاء من يعجبه طعامه ويصف زبادية ويشتهي أن تبقى على حالها، ومنهم من يحضر طعامه فإذا رآه ضيوفه أمر بأن يرفع منها أطيبها وأشهاها إلى النفوس، ويعتذر أن في أصحابه من يحضر بالغداة عنده.
وحكي عن بعض البخلاء أنه استأذن عليه ضيف وبين يديه خبز وزبدية فيها عسل نحل، فرفع الخبز وأراد أن يرفع العسل، فدخل الضيف من قبل أن يرفعه، فظن البخيل أن ضيفه لا يأكل العسل بلا خبز، فقال له: ترى أن تأكل عسلا بلا خبز، قال: نعم، وجعل يلعق العسل لعقة بعد لعقة، فقال له البخيل: مهلا يا أخي والله أنه يحرق القلب، قال: نعم صدقت، ولكنه قلبك.
وحكي عن بعضهم أنه قال: غلب عليّ الجوع مرة،