الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن يحسدوني على ما بي لما بهم
…
فمثل ما بي ممّا يجلب الحسدا
وكان عمر رضي الله عنه يقول: نعوذ بالله من كل قدر وافق إرادة حاسد. وقيل لأرسطاطاليس: ما بال الحسود أشد غما؟ قال: لأنه أخذ بنصيبه من غموم الدنيا، ويضاف إلى ذلك غمه لسرور الناس. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الباب الأربعون في الشجاعة وثمرتها والحروب وتدبيرها وفضل الجهاد وشدة البأس والتحريض على القتال
وفيه فصلان
الفصل الأول في فضل الجهاد في سبيل الله وشدة البأس
قد أثنى الله تعالى على الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، ووصف المجاهدين فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ 4
«1» . وندب إلى جهاد الأعداء ووعد عليه أفضل الجزاء. والرأي في الحرب أمام الشجاعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحرب خدعة» . وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دم في سبيله أو قطرة دمع في جوف ليل من خشيته» . وسمع رجل عبد الله بن قيس رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الجنة تحت ظلال السيوف، فقال: يا أبا موسى أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله، قال: نعم، فرجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه «2» ، فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو، فضرب به حتى قتل.
وكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد: إعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك وتراك، فإذا لقيت العدو فاحرض على الموت توهب لك السلامة، ولا تغسل الشهداء من دمائهم، فإن دم الشهيد يكون له نورا يوم القيامة.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهينا إلى خيبر، الله أكبر خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. وعنه رفعه: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها» .
وعن ابن مسعود رفعه: «إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل» . وقيل: إن أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنه لم يشهد بدرا، فلم يزل متحسرا يقول: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبت عنه، فلما كان يوم أحد قال: واها لريح الجنة دون أحد.
فقاتل حتى قتل، فوجد في بدنه بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه.
وعن فضالة بنت عبيد رفعه: «كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمّي له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر. وعن سهل بن حنيف رفعه: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» . فنسأل الله أن يرزقنا الشهادة، ويجعلنا من الذين أحسنوا فلهم الحسنى وزيادة.
الفصل الثاني في الشجاعة وثمرتها والحروب وتدبيرها
إعلم أن الشجاعة عماد الفضائل، ومن فقدها لم تكمل فيه فضيلة. ويعبر عنها بالصبر وقوة النفس.
قال الحكماء، وأصل الخير كله في ثبات القلب والشجاعة عند اللقاء على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: إذا التقى الجمعان وتزاحف العسكران، وتكالحت الأحداق بالأحداق، برز من الصف إلى وسط المعترك يحمل ويكر وينادي: هل من مبارز. والثاني: إذا نشب القوم واختطوا ولم يدر أحد منهم من أين يأتيه، يكون رابط الجأش ساكن القلب حاضر اللب لم يخالطه الدهش ولا تأخذه الحيرة، فيتقلب تقلب المالك لأموره القائم على نفسه. والثالث:
إذا انهزم أصحابه يلزم الساقة «3» ويضرب في وجوه القوم
ويحول بينهم وبين عدوهم، ويقوي قلوب أصحابه، ويرجّي الضعيف ويمدهم بالكلام الجميل، ويشجع نفوسهم، فمن وقع أقامه ومن وقف حمله ومن كبا به فرسه حماه، حتى ييأس العدو منهم، وهذا أحمدهم شجاعة. وعن هذا قالوا: إن المقاتل من وراء الفارين كالمستغفر من وراء الغافلين، ومن أكرم الكرم الدفاع عن الحرم.
وحكى سيدي أبو بكر الطرطوشي رحمة الله تعالى عليه في كتابه سراج الملوك قال: كان شيوخ الجند يحكون لنا في بلادنا، قالوا: دارت حرب بين المسلمين والكفار، ثم افترقوا، فوجدوا في المعترك قطعة خودة قدر الثلث بما حوته من الرأس، فقالوا: إنه لم ير قط ضربة أقوى منها ولم يسمع بمثلها في جاهلية ولا إسلام، فحملتها الروم وعلقتها في كنيسة لهم، فكانوا إذا عيّروا بانهزامهم يقولون: لقينا أقواما هذا ضربهم، فيرحل أبطال الروم إليها ليروها.
قالوا: ومن الحزم أن لا يحتقر الرجل عدوه وإن كان ذليلا، ولا يغفل عنه وإن كان حقيرا، فكم برغوث أسهر فيلا، ومنع الرقاد ملكا جليلا. قال الشاعر:
فلا تحقرنّ عدوا رماك
…
وإن كان في ساعديه قصر
فإنّ السيوف تحز الرقاب
…
وتعجز عمّا تنال الإبر
واعلموا أن الناس قد وضعوا في تدبير الحروب كتبا ورتبوا فيها ترتيبا، ولنصف منها أشياء نبدأ منها بما ذكره الله تعالى في القرآن العظيم. قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
«1» فقوله تعالى: مَا اسْتَطَعْتُمْ
مشتمل على كل ما هو مقدور البشر من العدة والآلة والحيلة. وفسّر النبيّ صلى الله عليه وسلم القوة حين مر على أناس يرمون، فقال:«ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» .
وأفضل العدة أن تقدم بين يدي اللقاء عملا صالحا من صدقة وصيام ورد المظالم وصلة الرحم ودعاء مخلص، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وأمثال ذلك. والشأن كل الشأن في استجادة القواد، وانتخاب الأمراء، وأصحاب الألوية، فقد قالت حكماء العجم: أسد يقود ألف ثعلب خير من ثعلب يقود ألف أسد. فلا ينبغي أن يقدم الجيش إلا الرجل ذو البسالة والنجدة، والشجاعة والجرأة، ثابت الجأش، صارم القلب، صادق البأس، ممن قد توسط الحروب، ومارس الرجال ومارسوه، ونازل الأقران وقارع الأبطال عارفا بمواضع الفرص خبيرا بمواضع القلب والميمنة والميسرة من الحروب، فإنه إذا كان كذلك وصدر الكل عن رأيه كانوا جميعا كأنهم مثله، فإنه إن رأى لقراع الكتائب وجها وإلّا ردّ الغنم إلى الزريبة.
واعلم أن الحرب خدعة عند جميع العقلاء، وكان عظماء الترك يقولون: ينبغي للعاقل العظيم للقياد أن يكون فيه عدة أخلاق من البهائم، شجاعة الديك، وبحث الدجاجة، وقلب الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وصبر الكلب على الجراح، وحراسة الكركي، وغارة الذئب، وسمن نغير، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والشقاء. وكان يقال: أشد خلق الله تعالى عشرة: الجبال، والحديد ينحت الجبال، والنار تأكل الحديد، والماء يطفىء النار، والسحاب يحمل الماء، والريح تصرف السحاب، والإنسان يتقي الريح بجناحيه، والسكر يصرع الإنسان، والنوم يذهب السكر، والهم يمنع النوم. فأشد خلق ربك الهم، اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن.
ومن الحيل في الحرب أن يبث جواسيسه في عسكر عدوه ليستعلم أخبارهم، ويستميل قلوب رؤسائهم، وذوي الشجاعة منهم، فيدس إليهم، ويعدهم وعدا جميلا. ويقوي أطماعهم في نيل ما عنده من الهبات الفخيمة والولايات السنية، وإن رأى وجها عاجلهم بالهدايا وسامهم إما الغدر بصحبهم، وإما الاعتزال وقت اللقاء، ويكتب على السهام أخبارا مزورة، ويرمي بها في جيوشهم. واعلم أن الحيلة لا ترد القضاء والقدر، وأن الدول إذا زالت صارت حيلتها وبالا عليها، وإذا أذن الله تعالى في حلول البلاء كانت الآفة في الحيلة. وقال الحكماء: إذا نزل القضاء كان العطب في الحيلة.
ويغلب الضعف بإقبال دولته كما يغلب القوي ببقاء مدته، فمن الحزم المألوف عند سوّاس الحروب «2» أن تكون حماة الرجال، وكماة الابطال في القلوب، فإنه إذا انكسر الجناحان كانت العيون ناظرة إلى القلب، فإذا كانت
رايته تخفق وطبوله تضرب كان حصنا للجناحين يأوي إليه كل منهزم، وإذا انكسر القلب تمزق الجناحان. مثال ذلك أن الطائر إذا انكسر أحد جناحيه ترجّى عودته ولو بعد حين، وإذا انكسر الرأس ذهب الجناحان.
وقلّ عسكر انكسر قلبه فأفلح أو تراجع، اللهم إلا أن تكون مكيدة من صاحب الجيش، فيخلي القلب قصدا وتعمدا، حتى إذا توسطه العدو، واشتغل بنهبه انطبق عليه الجناحان. فقد فعل ذلك رجال من أهل الحروب، ويقال: حبب إلى عدوك الفرار بأن لا تتبعهم إذا انهزموا.
ويقال: الشجاع محبب حتى إلى عدوه، والجبان مبغض حتى إلى أمه.
ولما أقبل كسرى بن هرمز إلى محاربة بهرام قال له صاحبه: أما تستعد؟ قال: عدتي ثبات قلبي، وإصابة رأيي، ونصل سيفي، ونصرة خالقي.
وخرج يزيد بن عبد الملك من بعض مقاصيره وعليه درع، وذلك في أيام قتال يزيد بن المهلب، فأنشده مسلمة قول الحطيئة:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
…
دون النساء ولو باتت بأطهار
فقال يزيد: إنما ذاك إذا حاربنا أكفاءنا، وأما مثل هذا ونظرائه فلا. فقام إليه مسلمة، فقبله بين عينيه.
وقيل: لما مات ملك الفرس أرادوا أن يملّكوا عليهم رجلا من آل ساسان، فوفد عليهم بهرام جور فقال:
اعمدوا إلى أسدين جائعين، فاطرحوا بينهما التاج، فمن أخذه فهو الملك. ففعلوا، فدنا منهما فأهويا نحوه، فأخذ برأس أحدهما، فأدناه من رأس الآخر، ثم نطحه به فقتلهما جميعا، وشد على التاج فأخذه ووضعه على رأسه، وملّكته الفرس عليهم.
وقيل: لم يكن في العجم أرمى «1» من الملك بهرام خرج يتصيد يوما، وهو مردف حظيّة «2» له كان يعشقها، فعرضت له ظباء، فقال: في أي موضع تريدين أن أضع هذا السهم؟ فقالت: أريد أن تشبّه ذكرانها بالإناث وأناثها بالذكران، فرمى ظبيا ذكرا بنشابة ذات شعبتين فاقتلع قرنيه، ورمى ظبية بنشابتين أثبتهما في موضع القرنين، ثم سألته أن يجمع بين ظلف الظبي وأذنه بنشابة، رمى أصل الأذن ببندقة ثم أهوى الظبي برجله إلى أذنه ليحتك، فرماه بنشابة فوصل أذنه بظلفه.
ويقال: إن من أعظم المكايد في الحرب الكمين، وذلك أن الفارس لا يزال على حمية في الدفاع وحمي الذمار حتى يلتفت فيرى وراءه بندا منشورا، ويسمع صوت الطبل، فحينئذ يكون همه خلاص نفسه.
وعليك بانتخاب الفرسان واختيار الأبطال ولا تنس قول الشاعر:
والناس ألف منهم كواحد
…
وواحد كالألف إن أمر عنى «3»
بل قد جرب ذلك، فوجد الواحد خيرا من عشرة آلاف، وسأحكي لك من ذلك ما ترى فيه العجب:
فمن ذلك: لما التقى المستعين بن هود مع الطاغية بن روميل النصراني على مدينة وشقة من ثغور بلاد الأندلس، وكان العسكران كالمتكافئين، كل واحد منهما يقارب عشرين ألف مقاتل خيل ورجل «4» . فحدث من حضر الوقعة من الأجناد قال: لما دنا اللقاء. قال الطاغية بن روميل لمن يثق بعقله وممارسته للحروب من رجاله:
استعلم لي من في عسكر المسلمين من الشجعان الذين نعرفهم كما يعرفوننا ومن غاب منهم ومن حضر، فذهب، ثم رجع، فقال له: فيهم فلان وفلان، فعد سبعة رجال.
فقال له: انظر من في عسكري من الرجال المعروفين بالشجاعة، ومن غاب منهم، فعدهم، فوجدهم ثمانية رجال لا يزيدون، فقام الطاغية ضاحكا مسرورا، وهو يقول: ما أبيضك من يوم. ثم ثارت الحرب بينهم، فلم تزل المضاربة بين الفريقين لم يول أحدهم دبره، ولا تزحزح عن مقامه، حتى فني أكثر العسكرين، ولم يفر واحد منهم، قال: فلما كان وقت العصر نظروا إلينا ساعة، ثم حملوا علينا جملة وداخلوا مداخلة، ففرقوا بيننا، وصرنا شطرين، وحالوا بيننا وبين أصحابنا، فكان ذلك سبب وهننا وضعفنا، ولم تقم الحرب إلا ساعة ونحن في خسارة معهم، فأشار مقدم العسكر على السلطان أن ينجو بنفسه، وانكسر عسكر المسلمين، وتفرق جمعهم، وملك العدو مدينة وشقة. فليعتبر ذو الحزم والبصيرة من جمع يحتوي على أربعين ألف مقاتل،
ولم يحضره من الشجعان المعدودين إلا خمسة عشر نفرا، وليعتبر بضمان العلج «1» بالظفر واستبشاره بالغنيمة لما زاد في أبطاله رجل واحد.
وحكى سيدي أبو بكر الطرطوشي رحمة الله تعالى عليه قال: سمعت أستاذنا القاضي أبا الوليد يحيى قال: بينما المنصور بن أبي عامر في بعض غزواته إذ وقف على نشز من الأرض مرتفع، فرأى جيوش المسلمين من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله قد ملأوا السهل والجبل، فالتفت إلى مقدّم العسكر، وهو رجل يعرف بابن المضجعي، فقال له: كيف ترى هذا العسكر أيها الوزير؟
قال: أرى جمعا كثيرا وجيشا واسعا كبيرا، فقال له المنصور: ما ترى هل يكون في هذا الجيش ألف مقاتل من أهل الشجاعة والنجدة والبسالة؟ فسكت ابن المضجعي.
قال له المنصور: ما سكوتك، أليس في هذا الجيش ألف مقاتل؟ قال: لا.
فتعجب المنصور. ثم قال فهل فيهم خمسمائة مقاتل من الأبطال المعدوين؟ قال: لا، فحنق المنصور، ثم قال: أفيهم مائة رجل من الأبطال؟ قال: لا.
قال: أفيهم خمسون رجلا من الأبطال؟ قال: لا. قال:
فسبه المنصور، وأغلظ عليه، وأمر به، فأخرج على أسوأ حال، فلما توسطوا بلاد الروم اجتمعت الروم، وتصافّ الجمعان، فبرز علج من الروم بين الصفين شاكي السلاح «2» ، وجعل يكر ويفر ويقول: هل من مبارز، فبرز إليه رجل من المسلمين، فتجاولا ساعة، فقتله العلج، ففرح المشركون، وصاحوا، واضطرب المسلمون لها، ثم جعل العلج يموج بين الصفين وينادي: هل من مبارز اثنين لواحد، فبرز إليه رجل من المسلمين، فتجاولا ساعة، فقتله العلج، وجعل يكر ويحمل، وينادي ويقول: هل من مبارز؟ ثلاثة لواحد، فبرز إليه رجل من المسلمين، فقتله العلج، فصاح المشركون، وذل المسلمون، وكادت أن تكون كسرة، فقيل للمنصور: مالها إلا ابن المضجعي؟ فبعث إليه، فحضر. فقال له المنصور: ألا ترى ما صنع هذا العلج الكلب منذ اليوم؟ فقال: لقد رأيته، فما الذي تريد؟ قال: أن تكفي المسلمين شره.
قال: الآن يكفى المسلمون شره إن شاء الله تعالى، ثم قصد إلى رجال يعرفهم، فاستقبله رجل من أهل الثغور على فرس قد تهرت أوراكها هزالا، وهو حامل قربة ماء بين يديه على الفرس، والرجل في حليته، ونفسه غير متصنع، فقال له ابن المضجعي: ألا ترى ما يصنع هذا العلج منذ اليوم قال: قد رأيته، فما الذي تريد؟ قال: أريد أن تكفي المسلمين شره. قال: حبا وكرامة.
ثم إنه وضع القربة بالأرض، وبرز إليه غير مكترث به، فتجاولا ساعة، فلم ير الناس إلا المسلم خارجا إليهم يركض ولا يدرون ما هناك، وإذا برأس العلج يلعب بها في يده، ثم ألقى الرأس بين يدي المنصور، فقال له ابن المضجعي: عن هؤلاء الرجال أخبرتك. قال: فرد ابن المضجعي إلى منزلته، وأكرمه ونصر الله جيوش المسلمين وعساكر الموحدين.
حكي أنه كان للعرب فارس يقال له: ابن فتحون، وكان أشجع العرب والعجم في زمانه، وكان المستعين يكرمه ويعظمه ويجري له في كل عطية خمسمائة دينار، وكانت جيوش الكفار تهابه، وتعرف منه الشجاعة، وتخشى لقاءه.
فيحكى أن الرومي كان إذا سقى فرسه ولم يشرب يقول له:
ويلك لم لا تشرب؟ هل رأيت ابن فتحون في الماء.
فحسده نظراؤه على كثرة العطاء، ومنزلته من السلطان، فوشوا به عند المستعين، فأبعده ومنعه من عطائه. ثم إن المستعين أنشأ غزوة إلى بلاد الروم، فتقابل المسلمون والمشركون صفوفا، ثم برز علج إلى وسط الميدان، ونادى وقال: هل من مبارز؟ فبرز إليه فارس من المسلمين، فتجاولا ساعة، فقتله الرومي، فصاح المشركون سرورا، وانكسرت نفوس المسلمين، وجعل الكلب الرومي يجول بين الصفين وينادي: هل من اثنين لواحد؟ فخرج إليه فارس من المسلمين، فقتله الرومي، فصاح الكفار سرورا، وانكسرت نفوس المسلمين، وجعل الكلب يجول بين الصفين وينادي ويقول: ثلاثة لواحد، فلم يجترىء أحد من المسلمين أن يخرج إليه. وبقي الناس في حيرة، فقيل للسلطان: ما لها إلا أبو الوليد بن فتحون، فدعاه، وتلطف به، وقال له: يا أبا الوليد: أما ترى ما يصنع هذا العلج؟ فقال: ها هو بعيني، قال: فما الحيلة فيه؟ قال: الساعة أكفي المسلمين شره، فلبس قميص كتان، واستوى على سرج فرسه بلا سلاح، وأخذ بيده سوطا طويلا، وفي طرفه عقدة معقودة، ثم برز إليه،
فتعجب منه النصراني، ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه فلم تخط طعنة النصراني سرج ابن فتحون، وإذا ابن فتحون متعلق برقبة الفرس ونزل إلى الأرض لا شيء منه في السرج، ثم انقلب في سرجه وحمل على العلج وضربه بالسوط، فالتوى على عنقه، فجذبه بيده من السرج، فاقتلعه، وجاء به يجره حتى ألقاه بين يدي المستعين، فعلم المستعين أنه كان قد أخطأ في صنعه مع أبي الوليد بن فتحون، فاعتذر إليه. وأكرمه، وأحسن إليه، وبالغ في الإنعام عليه، ورده إلى أحسن أحواله، وكان من أعز الناس إليه.
وينبغي لقائد الجيش أن يخفي العلامة التي هو مشهور بها. فإن عدوه قد يستعلم حيلته وألوان خيله ورايته، ولا يلزم خيمته ليلا ولا نهارا، وليبدل زيه ويغيّر خيمته كي لا يلتمس عدوه غرة منه، وإذا سكن الحرب، فلا يمشي في النفر اليسير من قومه خارج عسكره، فإن عيون عدوه متجسسة عليه، وبهذا الوجه كسر المسلمون جيوش أفريقية عند فتحها، وذلك أن الحرب سكنت وسط النهار، فجعل مقدم العدو يمشي خارج عسكره يتميز عساكر المسلمين، فجاء الخبر إلى عبد الله بن أبي السرح وهو نائم في قبته، فخرج فيمن وثق به من رجاله، وحمل على العدو، فقتل الملك، وكان الفتح.
وبمثل هذا قهر ألب أرسلان ملك الترك، ملك الروم وقمعه وقتل رجاله وأباد جمعه. وكانت الروم قد جمعت جيوشا يقل أن يجمع لغيرهم من بعدهم مثلها، وكان قد بلغ عددهم ستمائة ألف، كتائب متواصلة، وعساكر مترادفة، وكراديس «1» يتلو بعضها بعضا، لا يدركهم الطرف ولا يحصيهم العدد، وقد استعدوا من الكراع والسلاح والمجانيق «2» ، والآلات المعدة للحروب، وفتح الحصون بما لا يحصى، وكانوا قد قسموا بلاد المسلمين الشام والعراق، ومصر، وخراسان، وديار بكر، ولم يشكوا أن الدولة قد دارت لهم، وأن نجوم السعود قد خدمتهم، ثم استقبلوا بلاد المسلمين فتواترت أخبارهم إلى بلاد المسلمين، واضطربت لهم ممالك أهل الإسلام، فاحتشد للقائهم الملك ألب أرسلان، وهو الذي يسمى الملك العادل، وجمع جموعه بمدينة أصبهان، واستعد بما قدر عليه، ثم خرج يؤمهم «3» ، فلم يزل العسكران يتدانيان إلى أن عادت طلائع المسلمين إلى المسلمين، وقالوا لألب أرسلان: غدا يتراءى الجمعان، فبات المسلمون ليلة الجمعة، والروم في عدد لا يحصيهم إلا الله الذي خلقهم، وما المسلمون فيهم إلا أكلة جائع، فبقي المسلمون وجلين لما دهمهم، فلما أصبحوا صباح يوم الجمعة نظر بعضهم إلى بعض، فهال المسلمين ما رأوا من كثرة العدو، فأمر ألب أرسلان أن يعد المسلمين، فبلغوا اثني عشر ألفا فكانوا كالشامة البيضاء في الثور الأسود، فجمع ذوي الرأي من أهل الحرب والتدبير والشفقة على المسلمين، والنظر في العواقب، واستشارهم في استخلاص أصوب الرأي، فتشاوروا برهة، ثم اجتمع رأيهم على اللقاء، فتوادع القوم وتحاللوا وناصحوا الإسلام وأهله، وتأهبوا أهبة اللقاء، وقالوا لألب أرسلان:
بسم الله نحمل عليهم.
فقال ألب أرسلان: يا معشر أهل الإسلام أمهلوا، فإن هذا يوم الجمعة، والمسلمون يخطبون المنابر، ويدعون لنا في شرق البلاد وغربها، فإذا زالت الشمس، وعلمنا أن المسلمين قد صلّوا، ودعوا الله أن ينصر دينه حملنا عليهم إذ ذاك، وكان ألب أرسلان قد عرف خيمة ملك الروم وعلامته وزيه وزينته وفرسه، ثم قال لرجاله: لا يتخلف أحد منكم أن يفعل كفعلي، ويتبع أثري، ويضرب بسيفه، ويرمي سهمه حيث أضرب بسيفي، وأرمي بسهمي، ثم حمل برجاله حملة رجل واحد إلى خيمة ملك الروم، فقتلوا من كان دونها، ووصلوا إلى الملك، فقتلوا من كان دونه، وجعلوا ينادون بلسان الروم قتل الملك قتل الملك، فسمعت الروم أن ملكهم قد قتل فتبددوا، وتمزقوا كل بمزق، وعمل السيف فيهم أياما، وأخذ المسلمون أموالهم، وغنائمهم، وأتوا بالملك أسيرا بين يدي ألب أرسلان والحبل في عنقه.
فقال له ألب أرسلان: ماذا كنت تصنع بي لو أسرتني؟
قال: وهل تشك أنني كنت أقتلك، فقال له ألب أرسلان:
أنت أقل في عيني من أن أقتلك اذهبوا به، فبيعوه لمن يزيد فيه، فكان يقاد والحبل في عنقه، وينادى عليه من يشتري ملك الروم، وما زالوا كذلك يطوفون به على الخيام، ومنازل المسلمين، وينادون عليه بالدراهم والفلوس، فلم