الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأوصيكما يا ابني سدوس كلاكما
…
بتقوى الذي أعطاكما وبراكما
بشكر إذا ما أحدث الله نعمة
…
وصبر لأمر الله فيما ابتلاكما
وقال:
أيا صاحبي إن رمت أن تكسب الع
…
لا وترقى إلى العلياء غير مزاحم
عليك بحسن الصبر في كلّ حالة
…
فما صابر فيما يروم بنادم
وقال آخر:
هو الدهر قد جرّبته وبلوته
…
فصبرا على مكروهه وتجلدا
وحدث الزبير قال: قامت عائشة بعدما دفن أبوها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقالت: نضّر الله وجهك، وشكر صالح سعيك، فقد كنت للدنيا مذلّا بإدبارك عنها، وللآخرة معزا بإقبالك عليها، ولئن كان رزؤك أعظم المصائب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكبر الأحداث بعده، فإن كتاب الله تعالى قد وعدنا بالثواب على الصبر في المصيبة، وأنا تابعة له في الصبر، فأقول إنا لله وإنا إليه راجعون، ومستعيضة بأكثر الاستغفار لك، فسلام الله عليك، توديع غير قالية لحياتك، ولا رازئة على القضاء فيك.
ولما مات ذر الهمداني جاء أبوه، فوجده ميتا وكان موته فجأة، وعياله يبكون عليه فقال: ما لكم، والله ما ظلمناه ولا قهرناه ولا ذهب لنا بحق ولا أصابنا فيه، ما أخطأ من كان قبلنا في مثله، ولما وضعه في حفرته قال: رحمك الله يا بني وجعل أجري فيك لك، والله ما بكيت عليك وإنما بكيت لك، فو الله لقد كنت بي بارا ولي نافعا وكنت لك محبا وما بي إليك من وحشة وما بي إلى أحد غير الله من فاقة، وما ذهبت لنا بعزة وما أبقيت لنا من ذل، ولقد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر لولا هول المطلع لتمنيت ما صرت إليه، فليت شعري ماذا قلت وماذا قيل لك، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنك وعدت الصابرين على المصيبة ثوابك ورحمتك، اللهم وقد وهبت ما جعلت لي من الأجر إلى ذر صلة مني فلا تحرمني ولا تعرفه قبيحا وتجاوز عنه، فإنك رحيم بي وبه، اللهم قد وهبت لك إساءته لي فهب لي إساءته إليك، فإنك أجود مني وأكرم. اللهم إنك قد جعلت لك عليه حقا وجعلت لي عليه حقا قرنته بحقك، فقلت: اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ
«1» . اللهم إني قد غفرت له ما قصر فيه من حقي، فاغفر له ما قصر فيه من حقك، فإنك أولى بالجود والكرم. فلما أراد الإنصراف قال: يا ذر قد انصرفنا وتركناك ولو أقمنا عندك ما نفعناك.
وفي الحديث: إذا مات ولد العبد يقول الله تعالى للملائكة: ماذا قال عبدي عند قبض روح ولده وثمرة فؤاده؟ فيقولون: إلهنا حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: أشهدكم يا ملائكتي أني بنيت له بيتا في الجنة وسميته بيت الحمد. وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه دفن ابنا له وضحك عند قبره، فقيل له:
أتضحك عند القبر؟ قال: أردت أن أرغم أنف الشيطان، فينبغي للعبد أن يتفكر في ثواب المصيبة فتسهل عليه، فإذا أحسن الصبر استقبله يوم القيامة ثوابها، حتى يود لو أن أولاده وأهله وأقاربه ماتوا قبله لينال ثواب المصيبة. وقد وعد الله تعالى في المصيبة ثوابا عظيما إذا صبر صاحبها، واحتسب وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ
«2» . وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155
«3» الآية. اللهم رضينا بقضائك وصبرنا على بلائك واغفر لنا ولوالدينا ولكل المسلمين يا رب العالمين.
الفصل الثاني من هذا الباب في التعازي والتأسي
روى الترمذي في كتاب السنن للبيهقي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عزى مصابا فله مثل أجره» . وروينا في كتاب الترمذي أيضا بسند متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من عزى ثكلى كسي برداء في الجنة» . وروينا في سنن ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن، عن عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة» .
واعلم أن التعزية هي التصبير وذكر ما يسلي صاحب الميت ويخفف حزنه ويهون مصيبته وهي مستحبة، فإنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي
أيضا داخلة في قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى
«1» . وهي من أحسن ما يستدل به في التعزية.
وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» .
واعلم أن التعزية مستحبة قبل الدفن وبعده، وتكره بعد ثلاثة أيام، لأن التعزية لتسكين قلب المصاب، والغالب سكونه بعد ثلاثة أيام، فلا يجدد الحزن. هكذا قال الجماهير من أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه.
وقيل: إنها لا تفعل بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين، وهما إذا كان المعزّي أو صاحب المصيبة غائبا حال الدفن فاتفق رجوعه بعد الثلاثة، وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصلت، واستحب أصحاب الشافعي أن يقول في تعزية المسلم بالمسلم: عظم الله أجرك، وأحسن عزاءك وغفر لميتك. وفي المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وفي الكافر بالكافر: أخلف الله عليك ولا نقص لك عددا.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد بعض أصحابه فسأل عنه فقالوا:
يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عن بنيه، فقال: يا رسول الله هلك، فعزاه فيه ثم قال:
يا فلان أيما كان أحب إليك أن تتمتع به عمرك أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته وقد سبقك إليه، فيفتحه لك؟ فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقه إلى باب الجنة أحب إلي من التمتع به في دار الدنيا. قال: ذلك لك.
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي رحمهما الله:
أن الشافعي قد بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعا شديدا، فبعث إليه الشافعي رحمه الله يقول: يا أخي عزّ نفسك بما تعزّ به غيرك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أمض المصائب «2» فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ ألهمك الله عند المصائب صبرا، وأجزل لنا ولك بالصبر أجرا.
وروي عن ابن المبارك قال: مات لي ابن فمرّ بي مجوسي وقال: ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام، فقال: اكتبوها منه. عن معاذ بن جبل أنه قال: مات لي ابن، فكتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل، سلام عليكم، فإني أحمد الله الملك الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر ورزقنا وإياك الشكر، ثم اعلم أن أنفسنا وأموالنا وأهلنا وأولادنا من مواهب الله تعالى الهنية وعواريه المستودعة، يمتعنا بها إلى أجل معدود ويقبضها لوقت معلوم، ثم فرض الله تعالى علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله الهنية وعواريه المستودعة. متعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه بأجر كبير إن صبرت واحتسبت، فاصبر واحتسب، واعلم أن الجزع لا يرد ميتا ولا يطرد حزنا.
وروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان إذا عزى مرزأ قال: ليس مع العزاء مصيبة ولا مع الجزع فائدة، والموت أشد مما قبله، وأهون مما بعده، فاذكر مصيبتك برسول الله صلى الله عليه وسلم تهن عليك مصيبتك.
وعزى الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه صديقا له فقال:
إنا نعزيك لا أنا على ثقة
…
من الحياة ولكن سنة الدين
فما المعزّى بباق ببعد ميّته
…
ولا المعزّي ولو عاشا إلى حين
كتب بعضهم إلى أخ له يعزيه: أنت يا أخي أعزك الله عالم بالدنيا وما خلقت له من الفناء وإنها لم تعط إلا أخذت ولم تسر إلا أحزنت، وإن الموت سبيل محتوم على الأولين والآخرين لا دافع عنه ولا مؤخر لما قضى الله عز وجل منه، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وعزّى رجل بعض الخلفاء بابن له، فكتب إليه يقول:
تعزّ أمير المؤمنين فإنه
…
لما قد ترى يغدو الصغير ويولد
هل الابن إلا من سلالة آدم
…
لكلّ على حوض المنية مورد
وكتب بعضهم إلى صديق له وقد ماتت ابنته فقال:
الموت أخفى سوأة للبنات
…
ودفنها يروى من المكرمات
أما رأيت الله سبحانه
…
قد وضع النعش بجنب البنات
وكتب بعضهم إلى صديق له يعزيه بأخيه ويسليه:
ما تصنع يا أخي والقضاء نازل والموت حكم شامل، وإن لم تلذ بالصبر فقد اعترضت على مالك الأمر، وأنت تعلم
أن نوائب الدهر لا تدفع إلا بعزائم الصبر، فاجعل بين هذه اللوعة الغالبة والدمعة الساكبة حاجبا من فضلك وحاجزا من عقلك ودافعا من دينك ومانعا من يقينك، فإن المحن إذا لم تعالج بالصبر كانت كالمنح إذا لم تقابل بالشر، فصبرا صبرا، ففحول الرجال لا تستفزّها الأيام بخطوبها، كما أن متون الجبال لا تهزها العواصف بهبوبها، فعزيز علي أن أخاطب مولاي معزّيا وأكاتب مسليا عن كبير أو صغير مما يتعلق بخدمته أو ينتهي إلى جملته، فكيف بالصنو الأكرم والذخر الأعظم والركن الأشد والسهم الأسد والشهاب الأسطع والحسام الأقطع، لكن التعزية سيرة سائرة وسنة ماضية غابرة، وقدر الله هو المقدر وأجل الله إذا جاء لا يؤخر، ولولا أن الذكرى تنفع والتعزية يستوي فيها الأشرف والأوضع، لأجللت مولاي أن أفاتحه معزيا وأخاطبه مسليا، ولكن بحمد الله العالم لا يعلم والسابق لا يتقدم فبمولاي يقتدى في الصبر على النوائب وبنوره يهتدى في مشكلات المذاهب، وكل ما كان من الرزء أوجع كان الأجر عليه أوسع. جعل الله مولاي من الصابرين على المصيبة وأعظم أجره وجعل الجنة نصيبه.
وعزّى رجل فتى عن أبيه فلم يجده كما أحب فقال:
يا بني سوء الخلف أضر علينا من فقد السلف. ومات لبعض ملوك كندة ابنة فوضع بين يديه بدرة من المال وقال: من بالغ في تعزيته فهي له، فدخل عليه أعرابي وقال: عظم الله أجر الملك كفيت المؤونة وسترت العورة، ونعم الصهر القبر، فقال: قد أبلغت وأوجزت ثم دفعها له.
وعزّت أعرابية قوما فقالت: جافى الله عن ميتكم الثرى وأعانه على طول البلى وآجركم ورحمه. وكان لعلي بن الحسين جليس مات له ابن فجزع عليه جزعا شديدا، فعزاه علي بن الحسين رحمه الله ووعظه فقال: يا ابن رسول الله إن ابني كان مسرفا على نفسه، فقال:
لا تجزع، فإن من ورائه ثلاث خلال. أولهن: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن سيدنا محمدا رسول الله، والثانية:
شفاعة جدي صلى الله عليه وسلم، والثالثة: رحمة الله التي وسعت كل شيء، فأين يخرج ابنك عن واحدة من هذه الخلال.
وقال سليمان بن عبد الملك عند موت ابنه لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة: إنه في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة، فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين، وعليك بالصبر، فنظر إلى رجاء كالمستريح بمشورته فقال رجاء:
أفضها يا أمير المؤمنين، فما بذلك من بأس، لقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، وقال:«إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون» . فأرسل سليمان عينيه حتى قضى أربه ثم أقبل عليهم، قال: لولا نزفت هذه العبرة لا نصدع كبدي «1» ، ثم إنه لم يبك بعدها.
وكتب الإسكندر إلى أمه قبل وفاته بقليل: إذا وصل إليك كتابي هذا فاجمعي أهل بلدك وأعدى لهم طعاما ووكلي بالأبواب من يمنع من أصابته مصيبة في أم أو أب أو أخ أو أخت أو ولد، ففعلت، فلم يدخل إليها أحد، فعلمت أن الإسكندر عزّاها في نفسه.
ولما قتل الفضل بن سهل دخل المأمون على أمه يعزيها فيه فقال: يا أماه لا تحزني على الفضل، فأنا خلف منه، فقالت: كيف لا أحزن على ولد عوضني عنه خليفة مثلك، فعجب المأمون من جوابها، وكان يقول:
ما سمعت قط أحسن منه ولا أجلب للقلوب. فقال لها:
عليك بالصبر، فإن فيه مزيد الأجر.
وممن جزع على ولده جعفر بن علية لما قتله الحارث قام نساء الحي يبكون عليه، وقام أبوه إلى ولد كل شاة وناقة فذبحه وألقاها بين أيديها وقال لها: ابكين معي على جعفر، فما زالت النوق ترغو والشياه تيعر والنساء يصرخن ويبكين وهو يبكي معهن، فلم ير مأتم كان أوجع منه.
وقال يحيى بن خالد: التعزية بعد ثلاثة أيام تجدد الحزن، والتهنئة بعد سنة تجدد الفرح.
ومما قيل في التأسي والتسلي بالخلف عن السلف:
قيل: عزى بعض الشعراء يزيد بن معاوية في والده فقال:
أصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة
…
واشكر إلهك من بالملك حاباكا «2»
لا رزء أصبح في الأيام نعرفه
…
كما رزئت ولا عقبى كعقباكا «3»
وقال آخر:
لا بدّ من فقد ومن فاقد
…
هيهات ما في الناس من خالد
وقال آخر: