الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما ما جاء في الاحتراز على الأموال:
فقد قالوا: ينبغي لصاحب المال أن يحترز ويحتفظ عليه من المطمعين والمبرطحين والمحترفين والموهمين والمتنسمين.
فأما المطمعون: فهم الذين يتلقون أصحاب الأموال بالبشر والإكرام والتحية والإعظام إلى أن يأنسوا بهم ويعرفوهم بالمشاهدة، وربما قضوا ما قدروا عليه من حوائجهم إلى أن يألفوها ويحصل بينهم سبب الصداقة، ثم إن أحدهم يذكر لصاحب المال في معرض المقال أنه كسب فائدة كثيرة في معيشته، ثم يمشي معه في الحديث إلى أن يقول إني فكرت فيما عليك من المؤن والنفقات، وهذا أمر يعود ضرره في المستقبل إن لم تساعد بالمكاسب، وغرضي التقرب إليك ونصحك وخدمتك، وأريد أن أوجه إليك فائدة من المتجر بشرط أن لا أضع يدي لك على مال بل يكون مالك تحت يدك أو تحت يد أحد من جهتك. ويخرج له في صفة الناصحين المشفقين، فإذا أجابه إلى ذلك كان أمره معه على قسمين: إن ائتمنه، وجعل المال بيده أعطاه اليسير منه على صفة أنه من الربح، وطاول به الأوقات ودفع إليه في المدة الطويلة الشيء اليسير من ماله، ثم يحتج عليه ببعض الآفات ويدعي الخسارة، فإن لزمه صاحب المال قابحه، وبرطل من جملة المال صاحب جاه، فيدفعه ويقول هذا راباني، فإن روعي صاحب المال وفق بينهما على أن يكتب عليه ببقية المال وثيقة، فلا يستوفي ما فيها إلا في الآخرة، وإن هو لم يأتمنه وعول أن يكون القبض بيده، والمتاع مخزونا لديه، واطأ عليه البائعين والمشترين وحصل لنفسه وعمل ما يقول به، فإن حصل لصاحب المال أدنى ربح أوهمه أن مفاتيح الأرزاق بيده، وإن كسد المشتري أو رخص أحال الأمر على الأقدار وقال ليس لي علم بالغيب.
ومن أشد المطمعين المتعرضون لصنعة الكيمياء وهم الطماعون المطمعون في عمل الذهب والفضة من غير معدنها، فيجب أن يحذر التقرب منهم والاستماع لهم في شيء من حديثهم، فإن كذبهم ظاهر، وذلك أنهم يوهمون الغير أنهم ينيلونهم خيرا ويطلعونهم على صنعتهم ابتداء منهم لا لحاجة، وهذا يستحيل. ويحتجون بأن ما يلجئهم إلى ذلك إلا عدم الامكان وتعذر المكان.
فمنهم من يكون شوقه إلى أن يدخل إلى مكان ويترك عنده عدة لها قيمة، فيأخذها وينسحب. ومنهم من يشترط أن عمله لا ينتهي إلى مدة فيقنع في تلك المدة بالأكل غدوة وعشية وسبيله بعد ذلك إن كان معروفا قال: فسد عليّ العمل من جهة كيت وكيت، ويقول للذي ينفق عليه: هل لك في المعاودة؟ فإن حمله الطمع ووافقه كان هذا له أتم غرض، ثم يحتال آخر المدة على الفراق بأي سبب كان. وإن كان منكورا غافل صاحب المكان وخرج هاربا.
ومن المطمعين قوم يجعلون في الجبال أمارات من ردم وحجر ويأتون إلى أصحاب الأموال ويقولون: إنا نعرف علم كنز فيه من الإمارات كيت وكيت ثم يوقفونهم على ورقة متصنعة ويقولون: نريد أن تأخذ لنا عدة تنفق علينا ومهما حصل من فضل الله تعالى لنا ولك، فيوافقهم على ذلك، ويطون نفسه على أن المدة تكون قريبة، فيعملون يوما أو يومين فيظهر لهم أكثر الامارات فيزداد طمعا ويعتقد الصحة، ثم يدرجونه إلى أن ينفق عليهم ما شاء الله تعالى، ويكون آخر أمرهم كصاحب الكيمياء. وإن كانوا منكورين ورغبتهم الطمعة في قماشه أو في العدة التي معه، فربما قتلوه هناك لأجل ذلك ومضوا، فهذا أمر المطمعين.
وأما المبرطحون: فهم من الخونة والناس بهم أكثر غررا، وذلك أنهم إذا ندب صاحب المال أحد منهم لشراء حاجة سارع فيها واحتاط في جودتها وتوفير كيلها أو وزنها أو درعها ووضع من أصل ثمنها شيئا وزنه من عنده حتى يبيض وجهه عند صاحب المال، ويعتقد نصحه وأمانته ونجح مساعيه، وكذلك إن ندبه لشيء يبيعه استظهر واستجاد النقد ولا يزال هكذا دأبه حتى يلقي مقاليد أموره إليه فيستعطفه، ويفوز به، ثم يغير الحال الأول في الباطن. فينبغي لصاحب المال أن لا يغفل عنه.
وأما المحترفون الموهمون: فهم الذين يتعرضون لذوي الأموال فيظهرون لهم الغنى والكفاية ويباسطونهم مباسطة الأصدقاء، ويعتمدون جودة اللباس ويستعملون كثيرا من الطيب، ثم إن أحدهم يذكر أنه يربح الأرباح العظيمة، فيما يعانيه ويذكر ذلك مع الغير، ولا يزال كذلك حتى يثبت ويستقر في ذهن صاحب المال أنه يكتسب في كل سنة الجمل الكثيرة من المال، وأنه لا يبالي إذا أنفق أو أكل أو شرب، فتشره نفس صاحب المال لذلك فيقول له على سبيل المداعبة يا فلان: تريد الدنيا كلها لنفسك. لم لا تشركنا في متاجرك هذه وأرباحك؟ فيقول له: أنت جبان يعز عليك إخراج الدينار، وتظن أنك إن أظهرته
خطف منك، ولا تدري أنه مثل البازي إن أرسلته أكل وأطعمك، وإن أمسكته لم يصد شيئا واحتجت إلى أن تطعمه، وإلا مات، وأنا والله لو كان عندي علم أنك تنبسط لهذا كنت فعلت معك خيرا كثيرا ولكن ما كان إلا هكذا، وما كان لا كلام فيه والعمل في المستأنف، فيشكره صاحب المال ويسأله أخذ المال فيمطله بتسليمه، فيزداد فيه رغبة إلى أن يسلمه إليه. فيكون حاله كحال المطمع إذا صار المال تحت يده.
وأما المتنسمون: فهم أهل الرياء المظهرون التعفف والنسك ومجانبة الحرام ومواظبة الصلاة والصيام لكي يشتهر ذكرهم عند الخاص والعام، ثم يلقون ذوي الأموال بالبشر والاكرام والتلطف في المقال، ويمشون إلى أبواب الملوك على صفة التهاني بالأعياد، وربما يأتي معه بأحد من الأولاد، ويظهرون النزاهة والغنى، ويجعلون الدين سلما إلى الدنيا، وأكثر أغراضهم أن تودع عندهم الأموال وتفوض إليهم الوصايا، ويجلهم العوام، وتقبل شهادتهم الحكام وتندبهم الملوك إلى الوصايا والأموال، وهؤلاء أشر من اللصوص والقطاع، وذلك أن شهرة اللصوص والقطاع تدعو إلى الاحتراز منهم، وتشبه هؤلاء بأهل الخير يحمل الناس على الاغترار بهم.
قال الشاعر:
صلّى وصام لأمر كان أمّله
…
حتى حواه فما صلّى ولا صاما
وقيل: لا فقير أفقر من غني يأمن الفقر.
قال الشاعر:
ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى
…
وأن الغنى يخشى عليه من الفقر
وأوصى بعض الحكماء ولده فقال له: يا بني عليك بطلب العلم، وجمع المال، فإن الناس طائفتان خاصة وعامة، فالخاصة تكرمك للعلم والعامة تكرمك للمال.
وقال بعض الحكماء: إذا افتقر الرجل اتهمه من كان به موثقا، وأساء به الظن من كان ظنه حسنا. ومن نزل به الفقر والفاقة لم يجد بدا من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب بهاؤه، وما من خلة هي للغنى مدح إلا وهي للفقير عيب، فإن كان شجاعا سمي أهوج، وإن كان مؤثرا سمي مفسدا، وإن كان حليما سمي ضعيفا، وإن كان وقورا سمي بليدا، وإن كان لسنا سمي مهذارا، وإن كان صموتا سمي عييا. قال ابن كثير:
الناس أتباع من دامت له نعم
…
والويل للمرء إن زلّت به القدم
المال زين ومن قلّت دراهمه
…
حي كمن مات إلّا أنّه صنم
لما رأيت إخلّائي وخالصتي
…
والكل مستتر عنيّ ومحتشم
أبدوا جفاء وإعراضا فقلت لهم
…
أذنبت ذنبا فقالوا ذنبك العدم «1»
وكان ابن مقلة وزيرا لبعض الخلفاء، فزوّر عنه يهودي كتابا إلى بلاد الكفار وضمنه أمورا من أسرار الدولة، ثم تحيل اليهودي إلى أن وصل الكتاب إلى الخليفة فوقف عليه، وكان عند ابن مقلة حظية هويت هذا اليهودي، فأعطته درجا بخطه، فلم يزل يجتهد حتى حاكى خطه ذلك الخط الذي كان في الدرج، فلما قرأ الخليفة الكتاب أمر بقطع يد ابن مقلة، وكان ذلك يوم عرفة، وقد لبس خلعة العيد ومضى إلى داره وفي موكبه كل من في الدولة، فلما قطعت يده وأصبح يوم العيد لم يأت أحد إليه ولا توجع له. ثم اتضحت القضية في أثناء النهار للخليفة أنها من جهة اليهودي والجارية فقتلهما أشر قتلة ثم أرسل إلى ابن مقلة أموالا كثيرة وخلعا سنية وندم من فعله واعتذر إليه، فكتب ابن مقلة على باب داره يقول:
تحالف الناس والزمان
…
فحيث كان الزمان كانوا
عاداني الدهر نصف يوم
…
فانكشف الناس لي وبانوا
يا أيّها المعرضون عنّي
…
عودوا فقد عاد لي الزمان
ثم أقام بقية عمره يكتب بيده اليسرى. قال بعضهم:
إنما قوة الظهور النقود
…
وبها يكمل الفتى ويسود
كم كريم أزرى به الدهر يوما
…
ولئيم تسعى إليه الوفود
والأطباء يعلمون أمراضا من علاجها اللعب بالدينار وشرب الأدوية والمساليق التي يغلى فيها الذهب.
قال الشاعر:
إحرص على الدرهم والعين
…
تسلم من العيلة والدّين «1»
فقوة العين بإنسانها
…
وقوة الإنسان بالعين «2»
واعلم أن القلب عمود البدن، فإذا قوي القلب قوي سائر البدن، وليس له قوة أشد من المال. وبالضد إذا ضعف الفقر ضعف له البدن.
حكي أن ملكا رأى شيخا قد وثب وثبة عظيمة على نهر فتخطاه، والشاب يعجز عن ذلك، فعجب منه، فاستحضره، فحادثه في ذلك، فأراه ألف دينار مربوطة على وسطه.
وقال لقمان لابنه: يا بني شيئان إذا أنت حفظتهما لا تبالي ما صنعت بعدهما، دينك لمعادك ودرهمك لمعاشك. والكلام في هذا المعنى كثير. وقد اقتصرت منه على النزر اليسير. وقد كان في الناس من يتظاهر بالغنى ويراه مروءة وفخرا.
فمن ذلك: ما حكي عن أحمد بن طولون أنه دخل يوما بعض بساتينه فرأى النرجس وقد تفتح زهره فاستحسنه، فدعا بغدائه فتغدى، ثم دعا بشرابه فشرب، فلما انتشى قال: عليّ بألف مثقال من المسك، فنثره على أوراق النرجس «3» . ولنذكر الآن نبذة من الذخائر والتحف.
حكي الرشيد بن الزبير في كتابه الملقب بالعجائب والطرف: أن أبا الوليد ذكر في كتابه المعروف بأخبار مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة عام الفتح في سنة ثمان من الهجرة، وجد في الجب الذي كان في الكعبة سبعين ألف أوقية من الذهب مما كان يهدى للبيت، قيمتها ألف ألف وتسعمائة ألف وتسعون ألف دينار.
وباع زهرة التميمي يوم القادسية منطقة كان قد قتل صاحبها بثمانين ألف دينار، ولبس سلبه وقيمته خمسمائة ألف وخمسون ألفا.
وأصاب رجل يوم القادسية راية كسرى فعوّض عنها ثلاثين ألف دينار، وكانت قيمتها ألف ألف دينار ومائتي ألف.
ووجد المستورد بن ربيعة يوم القادسية أبريق ذهب مرصعا بالجوهر، فلم يدر أحد ما قيمته، فقال رجل من الفرس: أنا آخذه بعشرة آلاف دينار، ولم يعرف قيمته، فذهب إلى سعد بن أبي وقاص، فأعطاه إياه وقال: لا تبعه إلا بعشرة آلاف دينار، فباعه سعد بمائة ألف دينار.
ولما أتت الترك إلى عبد الله بن زياد ببخارى في سنة أربع وخمسين كان مع ملكهم امرأته خاتون، فلما هزمهم الله تعالى أعجلوها عن لبس خفها فلبست إحدى فردتيه ونسيت الأخرى، فأصابها المسلمون، فقومت بمائتي ألف دينار.
ولما فتح قتيبة بن مسلم بخارى في سنة تسع وثمانين وجد فيها قدر ذهب ينزل إليها بسلالم.
ودفع مصعب بن الزبير حين أحس بالقتل إلى زياد مولاه فصا من ياقوت أحمر، وقال له انج به، وكان قد قوم ذلك الفص بألف ألف درهم، فأخذه زياد ورضه بين حجرين وقال: والله لا ينتفع به أحد بعد مصعب.
وذكر مصعب بن الزبير أن بعض عمال خراسان في ولايته ظهر على كنز، فوجد فيه حلة كانت لبعض الأكاسرة مصوغة من الذهب مرصعة بالدر والجواهر، والياقوت الأحمر والأصفر والزبرجد، فحملها إلى مصعب بن الزبير، فخرج من قوّمها «4» فبلغت قيمتها ألفي ألف دينار، فقال: إلى من أدفعها؟ فقيل: إلى نسائك وأهلك. فقال:
لا، بل إلى رجل قدم عندنا يدا، وأولانا جميلا. ادع لي عبد الله بن أبي دريد، فدفعها إليه.
ولما صار موجود عماد الدولة في قبضة أمير الجيوش وجد في جملته دملج ذهب فيه جوهرة حمراء كالبيضة وزنها سبعة عشر مثقالا، فأنفذها أمير الجيوش إلى المستنصر، فقومت بتسعين ألف دينار.
ووجد في بستان العباس بن الحسن الوزير مما أعد له من آلة الشرب يوم قتل، سبعمائة صينية من ذهب وفضة، ووجد له مائة ألف مثقال عنبر.
وترك هشام بن عبد الملك بعد موته اثني عشر ألف قميص وشي، وعشرة آلاف تكة حرير، وحملت كسوته لما حج على سبعمائة جمل، وترك بعد وفاته أحد عشر ألف ألف دينار، ولم تأت دولة بني العباس إلا وجميع
أولاده فقراء لا مال لواحد منهم، وبين الدولة العباسية ووفاة هشام سبع سنين.
ولما قتل الأفضل بن أمير الجيوش في شهر رمضان سنة خمس عشرة وخمسمائة، خلف بعده مائة ألف ألف دينار، ومن الدراهم مائة وخمسين أردبا وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج ودواة من الذهب قوم ما عليها من الجواهر واليواقيت بمائتي ألف دينار، وعشرة بيوت في كل بيت منها مسمار ذهب قيمته مائة دينار على كل مسمار عمامة لونا، وخلف كعبة عنبر يجعل عليه ثيابه إذا نزعها، وخلف عشرة صناديق مملوءة من الجوهر الفائق الذي لا يوجد مثله، وخلّف خمسمائة صندوق كبار لكسوة حشمه وخلف من الزبادي الصيني والبلور المحكم وسق مائة جمل، وخلّف عشرة آلاف معلقة فضة، وثلاثة آلاف معلقة ذهب، وعشرة آلاف زباية فضة كبار وصغار، وأربع قدور ذهبا كل قدر وزنها مائة رطل، وسبعمائة جام ذهبا بفصوص زمرد، وألف خريطة مملوءة دراهم خارجا عن الأرادب في كل خريطة عشرة آلاف درهم، وخلّف من الخدم والرقيق والخيل والبغال والجمال وحلى النساء ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، وخلّف ألف حسكة ذهبا وألفي حسكة فضة، وثلاثة آلاف نرجسة ذهبا، وخمسة آلاف نرجسة فضة، وألف صورة ذهبا وألف صورة فضة منقوشة عمل المغرب، وثلاثمائة تور ذهبا، وأربعة آلاف تور فضة، وخلّف من البسط الرومية والأندلسية ما ملأ به خزائن الإيوان وداخل قصر الزمرد، وخلّف من البقر والجاموس والأغنام ما يباع لبنه في كل سنة بثلاثين ألف دينار، وخلّف من الحواصل المملوءة من الحبوب ما لا يحصى.
ولما احتوى الناصر على ذخائر قصر العاضد وجد فيه طبلا كان بالقرب من موضع العاضد محتفظا به، فلما رأوه سخروا منه، فضرب عليه إنسان فضرط، فضحكوا منه، ثم أمسكه آخر وضربه، فضرط فضحكوا عليه، فكسروه استهزاء وسخرية، ولم يدروا خاصيته، وكان الفائدة فيه أنه وضع للقولنج، فلما أخبروا بخاصيته ندموا على كسره.
وقد جمعت الملوك من الأموال والذخائر والتحف كنوزا لا تحصى، وبعد ذلك ماتوا ونفذت ذخائرهم، وفنيت أموالهم، فسبحان من يدوم ملكه وبقاؤه.
قال بعضهم:
هب الدنيا تقاد إليك عفوا
…
أليس مصير ذلك للزوال
فضمنت أنا هذا البيت وقلت:
أيا من عاش في الدنيا طويلا
…
وأفنى العمر في قيل وقال
وأتعب نفسه فيما سيفنى
…
وجمّع من حرام أو حلال
هب الدنيا تقاد إليك عفوا
…
أليس مصير ذلك للزوال «1»
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثاني والخمسون في ذكر الفقر ومدحه
قد دلّ قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى 6 أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى 7
«2» على ذم الغنى إن كان سبب الطغيان.
وسئل أبو حنيفة رحمه الله تعالى عن الغنى والفقر فقال:
وهل طغى من طغى من خلق الله عز وجل إلا بالغنى وتلا هذه الآية المتقدمة.
والمحققون يرون الغنى والفقر من قبل النفس لا في المال. وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يرون الفقر فضيلة. وحدث الحسن رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما» ، فقال جليس للحسن: أمن الأغنياء أنا أو من الفقراء؟
فقال: هل تغديت اليوم؟ قال: نعم، قال: فهل عندك ما تتعشى به؟ قال: نعم. قال: فإذا أنت من الأغنياء.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت طاويا «3» ليالي ما له ولا لأهله عشاء، وكان عامة طعامه الشعير، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع،
وكان صلى الله عليه وسلم يأكل خبز الشعير غير منخول. هذا وقد عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض، فأبى أن يقبلها صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول:«اللهم توفني فقيرا ولا تتوفني غنيا واحشرني في زمرة المساكين» .
وقال جابر رضي الله تعالى عنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها، وهي تطحن بالرحى، وعليها كساء من وبر الإبل، فبكى وقال:«تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة» .
قال الله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى 5
«1» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «الفقر موهبة من مواهب الآخرة وهبها الله تعالى لمن اختاره، ولا يختار إلا أولياء الله تعالى» .
وفي الخبر إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل لملائكته: أدنوا إلي أحبائي، فتقول الملائكة: ومن أحباؤك يا إله العالمين؟ فيقول: فقراء المؤمنين أحبائي، فيدنونهم منه، فيقول: يا عبادي الصالحين إني ما زويت الدنيا عنكم لهوانكم عليّ ولكن لكرامتكم تمتعوا بالنظر إليّ وتمتعوا ما شئتم. فيقولون: وعزتك وجلالك لقد أحسنت إلينا بما زويت عنا منها، ولقد أحسنت بما صرفت عنا، فيأمر بهم، فيكرمون ويجبرون ويزفون إلى أعلى مراتب الجنان.
وقال صلى الله عليه وسلم: «هل تنصرون إلا بفقرائكم وضعفائكم، والذي نفسي بيده ليدخلن فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام، والأغنياء يحاسبون على زكاتهم» .
وقال عليه الصلاة والسلام: «رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله تعالى لأبره» ، أي لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة، ولم يعطه من الدنيا شيئا.
وقال عليه الصلاة والسلام: «إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به، الذين إذا استأذنوا على الأمير لا يؤذن لهم، وإن خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لهم. حوائج أحدهم تتلجلج في صدره، لو قسم نوره على الناس يوم القيامة لوسعهم» .
وروي عن خالد بن عبد العزيز أنه قال: كان حيوة بن شريح من البكائين، وكان ضيق الحال جدا، فجلست إليه ذات يوم وهو جالس وحده يدعو، فقلت له: يرحمك الله لو دعوت الله تعالى ليوسع عليك في معيشتك، قال:
فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا، فأخذ حصاة من الأرض وقال: اللهم اجعلها ذهبا، فإذا هي تبرة في كفه ما رأيت أحسن منها، قال: فرمى بها إليّ وقال: هو أعلم بما يصلح عباده، فقلت: ما أصنع بهذه؟ قال: انفقها على عيالك، فهبته والله أن أردها عليه.
وقال عون بن عبد الله: صحبت الأغنياء فلم أجد فيهم أحدا أكثر مني هما لأني كنت أرى ثيابا أحسن من ثيابي ودابة أحسن من دابتي، ثم صحبت الفقراء بعد ذلك، فاسترحت.
قال بعضهم:
وقد يهلك الإنسان كثرة ماله
…
كما يذبح الطاوس من أجل ريشه
وقال عبد الله بن طاهر:
ألم تر أن الدهر يهدم ما بنى
…
ويأخذ ما أعطى ويفسد ما أسدى «2»
فمن سرّه أن لا يرى ما يسوءه
…
فلا يتخذ شيئا ينال به فقدا
وكان من دعاء السلف رضي الله تعالى عنهم: «اللهم إني أعوذ بك من ذل الفقر وبطر الغنى» . وقيل: مكتوب على باب مدينة الرقة: ويل لمن جمع المال من غير حقه، وويلان لمن ورّثه لمن لا يحمده وقدم على من لا يعذره.
ولما فتحت بلخ في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وجد على بابها صخرة مكتوب فيها: إنما يتبين الفقير من الغني بعد الانصراف من بين يدي الله تعالى أي: بعد العرض.
قال الشاعر:
ومن يطلب الأعلى من العيش لم يزل
…
حزينا على الدنيا رهين غبونها «3»
إذا شئت أن تحيا سعيدا فلا تكن
…
على حالة إلا رضيت بدونها
وقال آخر:
ولا ترهبن الفقر ما عشت في غد
…
لكلّ غد رزق من الله وارد
وقال هارون بن جعفر الطالبي:
بوعدت همّتي وقورب مالي
…
ففعالي مقصّر عن مقالي
ما اكتسى الناس مثل ثوب اقتناع
…
وهو من بين ما اكتسوا سربالي
ولقد تعلم الحوادث أنّي
…
ذو اصطبار على صروف الليالي
وقال أعرابي: من ولد في الفقر أبطره الغنى، ومن ولد في الغنى لم يزده إلا تواضعا، فما أحسن الفقر وأكثر ثوابه وأعظم أجر من رضي به، وصبر عليه، اللهم اجعلنا من الصابرين برحمتك يا أرحم الراحمين يا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الباب الثالث والخمسون في التلطف في السؤال وذكر من سئل فجاد
روى الإمام مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أعطوا السائل ولو جاء على فرس» . وما سئل عليه السلام شيئا قط، فقال لا.
وأتى إعرابي إلى علي رضي الله تعالى عنه، فسأله شيئا، فقال: والله ما أصبح في بيتي شيء فضل عن قوتي، فولى الإعرابي وهو يقول: والله ليسألنك الله عن موقفي بين يديك يوم القيامة، فبكى علي رضي الله تعالى عنه بكاء شديدا، وأمر برده، وقال يا قنبر: ائتني بدرعي الفلانية، فدفعها إلى الإعرابي، وقال: لا تخدعن عنها فطالما كشفت بها الكروب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قنبر:
يا أمير المؤمنين كان يجزيه عشرون درهما، فقال: يا قنبر والله ما يسرني أن لي زنة الدنيا ذهبا وفضة، فتصدقت به، وقبل الله مني ذلك، وإنه يسألني عن موقف هذا بين يدي.
وقال علي رضي الله تعالى عنه: إن لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيل السراح. وقال مسلمة لنصيب:
سلني. فقال: كفك بالعطية أبسط من لساني بالمسألة، فقال لحاجبه: إدفع إليه ألف دينار.
وسأل رجل الحسن رضي الله تعالى عنه فقال له: ما وسيلتك؟ قال: وسيلتي أني أتيتك عام أول فبررتني، فقال: مرحبا بمن توسل إلينا بنا، ثم وصله وأكرمه. ويقال: الكريم إذا سئل ارتاح واللئيم إذا سئل ارتاع.
ولما وفد المهدي من الري إلى العراق امتدحه الشعراء، فقال أبو دلامة:
إني نذرت لئن رأيتك قادما
…
أرض العراق وأنت ذو وقر «1»
لتصلينّ على النبيّ محمد
…
ولتملأنّ دراهما حجري
فقال المهدي: صلى الله على محمد، فقال أبو دلامة:
ما أسرعك للأولى وأبطأك عن الثانية، فضحك وأمر له ببدرة، فصبت في حجره. وسمع الرشيد أعرابية بمكة تقول:
طحنتنا كلاكل الأعوام
…
وبرتنا طوارق الأيام «2»
فأتيناكمو نمدّ أكفّا
…
لالتقام من زادكم والطعام
فاطلبوا الأجر والمثوبة فينا
…
أيّها الزائرون بيت الحرام «3»
فبكى الرشيد، وقال لمن معه: سألتكم بالله تعالى إلا ما دفعتم إليها صدقاتكم، فألقوا عليها الثياب حتى وارتها كثرة، وملأوا حجرها دارهم ودنانير.
وسأل اعرابي بمكة وأحسن في سؤاله، فقال: أخ في الله وجار في بلد الله وطالب خير من عند الله، فهل من أخ يواسيني في الله.
قال الشاعر:
ليس في كلّ وهلة وأوان
…
تتهيا صنائع الإحسان
فإذا أمكنت فبادر إليها
…
حذرا من تعذّر الإمكان
وقال البصري:
أضحت حوائجنا إليك مناخة
…
معقولة برحابك الوصّال»
أطلق فديتك بالنجاح عقالها
…
حتى تثور بنا بغير عقال
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: يا كميل مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم ويدلجوا في حاجة من هو نائم، فو الذي وسع سمعه الأصوات ما من أحد أودع قلبا سرورا إلا خلق الله تعالى من ذلك السرور لطفا، فإذا نابته نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الابل. وقال لجابر بن عبد الله: يا جابر من كثرت نعم الله تعالى عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإذا قام بما يجب لله فيها فقد عرضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم بما يجب لله فيها عرض نعمه لزوالها.
وكان لبيد رحمه الله تعالى آلى على نفسه كلما هبت الصبا أن ينحر ويطعم، وربما ذبح العتاق «1» إذا ضاق الخناق، فخطب الوليد بن عتبة يوما فقال: قد علمت ما جعل أبو عقيل على نفسه فأعينوه على مروءته، ثم بعث إليه بخمس من الإبل وبهذه الأبيات:
أرى الجزار يشحذ مديتيه
…
إذا هبّت رياح بني عقيل
طويل الباع أبلج جعبريّ «2»
…
كريم الجدّ كالسّيف الصقيل
وفى ابن الجعبري بما نواه
…
على العلات بالمال القليل
فدعا لبيد بنتا له خماسية وقال: يا بنية إني تركت الشعر، فأجيبي الأمير عني فقالت:
إذا هبّت رياح بني عقيل
…
تداعينا لهبّتها الوليدا
طويل الباع أبلج عبشمي «3»
…
أعان على مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب كأنّ رعيا
…
عليها من بني حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيرا
…
نحرناها وأطعمنا الثريدا
فعد إنّ الكريم له معاد
…
وظنّي في ابن عتبة أن يعودا
فقال: لقد أحسنت والله يا بنية لولا أنك سألت وقلت عد، فقالت: يا أبت إن الملوك لا يستحيا منهم في المسألة، فقال: والله لأنت في هذا أشعر مني. ووفد رجل من بني ضبة على عبد الملك، فأنشده:
والله ما ندري إذا ما فاتنا
…
طلب إليك من الذي نتطلّب
ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد
…
أحدا سواك إلى المكارم ينسب
فاصبر لعادتك التي عوّدتنا
…
أولا فأرشدنا إلى من نذهب
فأمر له بألف دينار، فعاد إليه من قابل، وقال يا أمير المؤمنين: إن الروي لينازعني وإن الحياء يمنعني، فأمر له بألف دينار وقال: والله لو قلت حتى تنفد بيوت الأموال لأعطيتك.
وقيل: إن رجلا عرض للمنصور، فسأله حاجة فلم يقضها، فعرض له بعد ذلك، فقال له المنصور: أليس قد كلمتني مرة قبل هذه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ولكن بعض الأوقات أسعد من بعض وبعض البقاع أعز من بعض، فقال: صدقت، وقضى حاجته وأحسن إليه.
وروي أن أبا دلامة الشاعر كان واقفا بين يدي السفاح في بعض الأيام فقال له: سلني حاجتك. فقال: كلب صيد، فقال: أعطوه إياه، فقال: ودابة أصيد عليها، فقال: أعطوه دابة، فقال: وغلاما يقود الكلب ويصيد به. قال: أعطوه غلاما، قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه. قال:
أعطوه جارية، فقال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال ولا بد لهم من دار يسكنونها. قال: أعطوه دارا تجمعهم، قال:
فإن لم يكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أقطعته عشر ضياع عامرة وعشرة ضياع غامرة، فقال: ما الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال: ما لا نبات فيها. قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين مائة ضيعة غامرة من فيافي بني أسد، فضحك وقال: إجعلوها كلها عامرة. فانظر إلى حذقه بالمسألة، ولطفه فيها كيف ابتدأ بكلب صيد فسهّل القضية، وجعل يأتي بمسألة بعد مسألة على ترتيب وفكاهة حتى سأل ما سأله، ولو سأل ذلك بديهة لما وصل إليه.
وحكي عن المأمون أنه قال ليحيى بن أكثم يوما: سر بنا نتفرج، فسارا، فبينما هما في الطريق وإذا بمقصبة خرج منها رجل بقصبة للمأمون يتظلم له، فنفرت دابته، فألقته على الأرض صريعا، فأمر بضرب عنق ذلك الرجل، فقال يا أمير المؤمنين: إن المضطر يرتكب الصعب من الأمور وهو عالم به، ويتجاوز حد الأدب وهو كاره لتجاوزه، ولو