الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تبصّر فلو أن البكا رد هالكا
…
على أحد فاكثر بكاك على عمر
وكتب بعضهم إلى أولاد صديقه يعزيهم ويسليهم في والدهم فقال:
فلو كان فيض الدمع ينفع باكيا
…
لعلّمت غرب الدمع كيف يسيل
فإن غاب بدر فالنجوم طوالع
…
ثوابت لا يقضى لهنّ أفول
يغاث بها في ظلمة الليل حائر
…
ويسري عليها بالرفاق دليل
ودخل عبد الملك بن صالح على الرشيد وقد مات له ولد، وولد له في تلك الليلة ولد، فقال سرّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك ولا ساءك فيما سرك وجمع لك بين أجر الصابر وثواب الشاكر. وقال بعضهم:
أليس لهذا صار آخر أمرنا
…
فلا كانت الدنيا القليل سرورها
فلا تعجبي يا نفس مما ترينه
…
فكل أمور الناس هذا مصيرها
وسئل الأصمعي عن قول الخنساء في نعيها صخر حين مات ونعته فقالت:
يذكرني طلوع الشمس صخرا
…
وأندبه لكلّ غروب شمس
فقالوا له: لماذا أنها خصت الشمس دون القمر والكواكب فقال: لكونه كان يركب عند طلوع الشمس يشن الغارات وعند غروبها يجلس مع الضيفان، فذكرته بهذا مدحا لأنه كان يغير على أعدائه ويتقيد بضيفه، وقد رثته بعد البيت الأول بأبيات منها:
ألا يا نفس لا تنسيه حتى
…
أفارق عيشتي وأزور رمسي «1»
ولولا كثرة الباكين حولي
…
على أمواتهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
…
أسلّي النفس عنه بالتأسّي «2»
وقال آخر:
ولولا الأسى ما عشت في الناس ساعة
…
ولكن إذا ناديت جاوبني مثلي
وقال آخر:
وهوّن وجدي عن خليلي أنني
…
إذا شئت لاقيت الذي أنا صاحبه
وقال آخر:
ومما يؤديني إلى الصبر والعزا
…
تردّد فكري في عموم المصائب «3»
الفصل الثالث في المراثي
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم رثاه جماعة من أصحابه وآله بمراث كثيرة منها ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فإنه كان أقرب الناس إليه، وهو أول من رثاه، فقال:
لما رأيت نبينا متجندلا
…
ضاقت علي بعرضهنّ الدّور
فارتاع قلبي عند ذاك لموته
…
والعظم منّي ما حييت كسير
أعتيق ويحك إن خلّك قد ثوى
…
والصبر عندك ما بقيت يسير «4»
يا ليتني من قبل مهلك صاحبي
…
غيبّت في لحد عليه صخور
فلتحدثن بدائع من بعده
…
تعيا بهنّ جوانح وصدور
وقال آخر:
فقدت أرضنا هناك نبيا
…
كان يغدو به النبات زكيا
خلقا عاليا ودينا كريما
…
وصراطا يهدي الأنام سويا
وسراجا يجلو الظلام منيرا
…
ونبيّا مؤيدا عربيا
حازما عازما حليما كريما
…
عائدا بالنوال برّا تقيّا
إن يوما أتى عليك ليوم
…
كوّرت شمسه وكان خليا
فعليك السلام منّا جميعا
…
دائم الدهر بكرة وعشيّا
ورثاه صلى الله عليه وسلم أبو سفيان بن الحارث فقال:
أرقت فبات ليلي لا يزول
…
وليل أخي المصيبة فيه طول
وأسعدني البكاء وذاك فيما
…
أصيب المسلمون به قليل
لقد عظمت مصيبتنا وجلت
…
عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها
…
تكاد بنا جوانبها تميل «1»
فقدنا الوحي والتنزيل فينا
…
يروح به ويغدو جبرائيل
وذاك أحقّ ما سالت عليه
…
نفوس الناس أو كادت تسيل
نبيّ كان يجلو الشك عنا
…
بما يوحى إليه وما يقول
ويهدينا فلا نخشى ملاما
…
علينا والرسول لنا دليل
أفاطم إن جزعت فذاك عذر
…
وإن لم تجزعي فهو السبيل
فقبر أبيك سيّد كلّ قبر
…
وفيه سيّد الناس الرسول
ولما مات أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رثاه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بهذه الأبيات حين رجع من دفنه فقال:
ذهب الذين أحبّهم
…
فعليك يا دنيا السّلام
لا تذكرين العيش لي
…
فالعيش بعدهم حرام
إنّي رضيع وصالهم
…
والطفل يؤلمه الفطام
ورثى بعضهم محمد بن يحيى بعد موته فقال:
سألت الندى والجود مالي أراكما
…
تبدّلتما عزّا بذل مؤبد
وما بال ركن المجد أمسى مهدّما
…
فقالا أصبنا بابن يحيى محمد
فقلت فهلّا متّما بعد موته
…
وقد كنتما عبديه في كلّ مشهد
فقالا أقمنا كي نعزّى بفقده
…
مسافة يوم ثم نتلوه في غد
وقال آخر:
ولا أرتجي في الموت بعدك طائلا
…
لا أتقي للدهر بعدك من خطب
وفي المعنى لبعضهم:
لقد أمنت نفسي المصائب بعده
…
فأصبحت منها آمنا ان أروّعا
فما أتقي للدهر بعدك نكبة
…
ولا أرتجي للعيش بعدك مرتعا «2»
ورثى أشجع السلمي عبد الله بن سعيد فقال:
مضى ابن سعيد حيث لم يبق مشرق
…
ولا مغرب إلا له فيه مادح
وما كنت أدري ما فواضل كفّه
…
على الناس حتى غيبته الصفائح
وأصبح في لحد من الأرض ميتا
…
وكان به حيا تضيق الصحاصح
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض
…
فحسبك منّي ما تكنّ الجوانح «3»
وما أنا من رزء وإن جلّ جازع
…
ولا بسرور بعد فقدك فارح
لئن حسنت فيك المراثي بذكرها
…
فقد حسنت من قبل فيك المدائح
وقال آخر:
إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني
…
أرى الأرض تبقى والأخلّاء تذهب
أخلاي لو غير الحمام أصابكم
…
عتبت ولكن ما على الدهر معتب
وقال العباس بن الأحنف:
إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا
…
أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر
فإن ينقطع منك الرجاء فإنه
…
سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر
وقال آخر يرثي صديقه:
خليلي ما أزداد إلّا صبابة
…
إليك وما تزداد إلا تنائيا
خليلي لو نفس فدت نفس ميّت
…
فديتك مسرورا بنفسي وماليا
وقد كنت أرجو أن تعيش وإن أمت
…
فحال رجاء الله دون رجائيا
ألا فليمت من شاء بعدك إنما
…
عليك من الأقدار كان حذاريا «1»
أخذها بعضهم فقال:
كنت السّواد لمقلتي
…
يبكي عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت
…
فعليك كنت أحاذر
وقال آخر يرثي بعض أولاده:
وقاسمني دهري بني مشاطرا
…
فلما تقضّى شطره عاد في شطري
ألا ليت أمّي لم تلدني وليتني
…
سبقتك إذ كنا إلى غاية تجري
وقد كنت ذا ناب وظفر على العدا
…
فأصبحت لا يخشون نابي ولا ظفري
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخنساء: أخبريني بأفضل بيت قلته في أخيك فقالت:
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى
…
فأنت على من مات بعدك شاغله
ولأبي المحاسن الشواء في صديق له مات وسقط الثلج عقيب موته:
لم أنسه وبنو الملوك أمامه
…
يدمون للأسف الأكفّ عضاضا
والثلج قد غطى الربا فكأنها
…
من حزنها لبست عليه بياضا
وقال آخر:
وليس صرير النعش ما تسمعونه
…
ولكنه أصلاب قوم تقصّفوا
وليس نسيم المسك ريا حنوطه
…
ولكنه ذاك الثناء المخلف
وقال مقاتل بن عطية يرثي الوزير نظام الملك:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة
…
يتيمة صاغها الرحمن من شرف
عزّت ولم تعرف الأيام قيمتها
…
فردّها عندما عزّت إلى الصدف
وقال آخر:
وقبرت وجهك وانصرفت مودّعا
…
بأبي وأمّي وجهك المقبور
وأرى ديارك بعد وجهك قفرة
…
والقبر منك مشيّد معمور
فالناس كلهم لفقدك واجد
…
في كل بيت رنة وزفير
عجبا لأربع أذرع في خمسة
…
في جوفها جبل أشمّ كبير
وكان رجل توفي ولده في يوم عيد فقال:
لبس الرجال جديدهم في عيدهم
…
ولبست حزن أبي الحسين جديدا
أيسرّني عيد ولم أر وجهه
…
فيه ألا بعدا لذلك عيدا
فارقته وبقيت أخلد بعده
…
لا كان ذاك بقا ولا تخليدا
من لم يمت جزعا لفقد حبيبه
…
فهو الخؤون مودة وعهودا
مت مع حبيبك إن قدرت ولا تعش
…
من بعده ذا لوعة مكمودا
ما أمّ خشف قد ملا أحشاءها
…
حذرا عليه وجفنها تسهيدا «2»
إن نام لم تهجع وطافت حوله
…
فيبيت مكلوما بها مرصودا
منّي بأوجع إذ رأيت نوائحا
…
لأبي الحسين وقد لطمن خدودا
ولقد عدمت أبا الحسين جلادتي
…
لما رأيت جمالك المفقودا
كنت الجليد على الرزايا كلها
…
وعلى فراقك لم أجد تجليدا «1»
ولئن بقيت وما هلكت فإن لي
…
أجلا وإن لم أحصه معدودا
لا موت لي إلا إذا الأجل انقضى
…
فهناك لا أتجاوز المحدودا
حزني عليك بقدر حبّك لا أرى
…
يوما على هذا وذاك مزيدا
ما هدّ ركنّي بالسنين وإنّما
…
أصبحت بعدك بالأسى مهدودا
يا ليت إني لم أكن لك والدا
…
وكذاك إنك لم تكن مولودا
فلقد شقيت وربما شقي الفتى
…
بفراق من يهوى وكان سعيدا
من ذمّ جفنا باخلا بدموعه
…
فعليك جفني لم يزل محمودا
فلأنظمنّ مراثيا مشهورة
…
تنسي الأنام كثيّرا ولبيدا
وجميع من نظم القريض مفارق
…
ولدا له أو صاحبا مفقودا
وقال الفقيه منصور بن إسماعيل المصري:
سألت رسوم القبر عمّن ثوى به
…
لأعلم ما لاقى فقالت جوانبه
أتسأل عمّن عاش بعد وفاته
…
بإحسانه إخوانه وأقاربه
وقال الإمام السبكي «2» رحمه الله تعالى يرثي فضل الله العالم:
مصاب ليس يشبهه مصاب
…
لذي الألباب إذ فقد الشّهاب
إمام قد حوى من كلّ علم
…
كنوزا نحوها يسعى الرّكاب «3»
ليبكي كلّ ذي علم عليه
…
فكم علم له ضمّ التراب
وكم كلم موانع قد أتته
…
ثناها وهي عاصية صعاب
فسلطان البلاغ بغير شك
…
شهاب الدين ما فيه ارتياب
سقى الله الكريم ثراه صوبا
…
له من كل رضوان رضاب «4»
وقال الصفدي:
يا غائبا في الثرى تبلى محاسنه
…
الله يوليك غفرانا وإحسانا
إن كنت جرّعت كأس الموت واحدة
…
في كلّ يوم أذوق الموت ألوانا
وقال محمد بن عبد الله العتبي يرثي إبنا له:
أضحت بخدي للدموع رسوم
…
أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم «5»
والصبر يحمد في المواطن كلّها
…
إلا عليك فإنه مذموم
وكتب أحمد بن يوسف إلى عمر بن سعيد يرثي بنتا له فقال:
عجبا للمنون كيف أتتها
…
وتخطّت عبد الحميد أخاكا
شملتنا مصيبتان جميعا
…
فقدنا هذه ورؤية ذاكا
وله يرثي الأمير يلبغا:
ألا إنّما الدنيا غرور وباطل
…
فطوبى لمن كفاه منها تفرّغا «6»
وما عجبي إلا لمن بات واثقا
…
بأيام دهر ما وعى حق يلبغا
وقال آخر:
إلى الله أشكو أن كلّ قبيلة
…
من الناس قد أفنى الحمام خيارها «1»
وقال رجل يرثي صديقا له توفي وكان من الكرماء:
ما درى نعشه ولا حاملوه
…
ما على النعش من عفاف وجود
ولبعض الكتاب في ابن مقلة:
استشعر الكتّاب فقدك سالفا
…
وقضت بصحّة ذلك الأيام
فلذاك سوّدت الدواة كآبة
…
أسفا عليك وشقت الأقلام
وقال الحسن بن مطير الأسدي يرثي معن بن زائدة رحمه الله تعالى:
هلمّا إلى معن وقولا لقبره
…
سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا
فيا قبر معن كنت أوّل حفرة
…
من الأرض خطّت للسماحة مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده
…
وقد كان منه البرّ والبحر مترعا
بلى قد وسعت الجود والجود ميّت
…
ولو كان حيا ضقت حتى تصدّعا
فتى عاش في معروفه بعد موته
…
أناس لهم بالبرّ قد كان أوسعا
ولمّا مضى معن مضى الجود كلّه
…
وأصبح عرنين المكارم أجدعا «2»
وقال آخر:
عجبت لصبري بعده وهو ميّت
…
وقد كنت أبكيه دما وهو غائب
وقال آخر:
فديتك لم أصبر ولي فيك حيلة
…
ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر
وقالت ريطة بنت عاصم:
وقفت فأبكتني ديار عشيرتي
…
على رزئهن الباكيات الحواسر «3»
غدوا كسيوف الهند ورّاد حومة
…
من الموت أعيا وردهنّ المصادر «4»
فوارس حاموا عن حريمي وحافظوا
…
بدار المنايا والقنا متشاجر
ولو أن سلمى نالها مثل رزئنا
…
لهدّت ولكن محمل الرزء عامر
ولما قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسين وحمل رأسه إلى المنصور، أنفذها المنصور مع الربيع إلى عميه إدريس ومحمد وكانا في حبسه، وكان أبوه قائما يصلي فقال له محمد: أوجز، فأوجز وسلم، فلما أتاه، وضع الرأس في حجره فقال: أهلا وسهلا يا أبا القاسم تالله لقد كنت من الناس الذين قال الله تعالى في حقهم: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ 20
«5» . ثم قبله بين عينيه وأنشأ يقول:
فتى كان يحميه من العار سيفه
…
ويكفيه سوءات الأمور اجتنابها
ثم قال للربيع: قل لصاحبك المنصور قد مضى من بؤسنا أيام ومن نعمتك أيام، والملتقى غدا بين يدي الله تعالى، فكان ذلك فألا «6» على المنصور ولم ير بعد ذلك اليوم راحة. وقيل لحسان: ما بالك لم ترث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم أر شيئا إلا رأيته يقصر عنه «7» .
والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثالث والثمانون في ذكر الدنيا وأحوالها وتقلبها بأهلها والزهد فيها
قال الله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى
«1» فوصف سبحانه وتعالى جميع الدنيا بأنها متاع قليل، وأنت أيها الانسان تعلم أنك ما أوتيت من القليل إلا قليلا ثم إن القليل إن تمتعت به فهو لعب ولهو لقوله تعالى: أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ
«2» .
وقال تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ
«3» . فلا تبع أيها العاقل حياة قليلة تفنى بحياة كثيرة تبقى، كما قال ابن عياض: لو كانت الدنيا ذهبا يفنى، والآخرة خزفا يبقى. لوجب علينا أن نختار ما يبقى على ما يفنى، ثم تأمل بعقلك هل آتاك الله من الدنيا مثل ما أوتي سليمان عليه الصلاة والسلام حيث ملكه الله تعالى جميع الدنيا من إنس وجن وسخر له الريح والطير والوحوش، ثم زاده الله تعالى أحسن منها حيث قال:
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ
«4» . فوالله ما عدها نعمة مثل ما عددتموها ولا حسبها رفعة مثل ما حسبتموها، بل خاف أن يكون استدراجا من حيث لا يعلم فقال: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ
«5» . وهذا فصل الخطاب لمن تدبر. هذا قد قال لك ولجميع أهل الدنيا: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 92 عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 93
«6» .
وقال تعالى: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ
«7» .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أريك الدنيا بما فيها؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بيدي وأتى إلى واد من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذارات وخرق بالية وعظام البهائم، فقال: يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم وهي اليوم صارت عظاما بلا جلد، ثم هي صائرة عظما رميما، وهذه العذارت ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبتموها في الدنيا فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية رياشهم أصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد. فمن كان باكيا على الدنيا فليبك قال:
فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا» «8» .
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير من الليف وقد أثر الشريط في جنبه، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: تذكرت كسرى وقيصر. وما كانا فيه من سعة الدنيا، وأنت رسول الله، وقد أثر الشريط بجنبيك، فقال صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدّنيا، ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة.
وروي عن الضحاك قال: لما أهبط الله آدم وحواء إلى الأرض ووجدا ريح الدنيا وفقدا ريح الجنة غشي عليهما أربعين يوم من نتن الدنيا.
وعن ابن معاذ قال: الحكمة تهوي من السماء إلى القلوب فلا تسكن في قلب فيه أربع خصال: ركون إلى الدنيا «9» ، وهم عدو وحسد أخ وحب شرف.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: «يا علي أربع خصال من الشقاء؛ جمود العين، وقسوة القلب، وبعد الأمل، وحب الدنيا» .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء العينين أنيابها بادية، مشوهة الخلق لا يراها أحد إلا هرب منها،
فتشرف على الخلائق أجمعين فيقال لهم: أتعرفون هذه؟
فيقولون: لا، نعوذ بالله من معرفة هذه، فيقال: هذه الدنيا التي تفاخرتم بها وتقاتلتم عليها.
وعن الفضيل بن عياض أنه قال: جعل الخير كله في بيت واحد، وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا، وجعل الشر كلّه في بيت واحد، وجعل مفتاحه حب الدنيا.
وقيل: إن الدنيا مثل ظل الإنسان إن طلبته فر، وإن تركت تبعك، وفي قال بعضهم:
إنّما الرزق الذي تطلبه
…
يشبه الظلّ الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متّبعا
…
وهو وإن ولّيت عنه تبعك
وقد شبهها بعضهم بخيال الظل فقال:
رأيت خيال الظلّ أعظم عبرة
…
لمن كان في علم الحقائق راقي
شخوصا وأصواتا يخالف بعضها
…
لبعض وأشكالا بغير وفاق
تجيء وتمضي بابة بعد بابة
…
وتفنى جميعا والمحرّك باقي «1»
وما أحسن ما قال سليمان بن الضحاك:
ما أنعم الله على عبده
…
بنعمة أوفى من العافيه
وكلّ من عوفي في جسمه
…
فإنّه في عيشة راضيه
والمال حلو حسن جيّد
…
على الفتى لكنه عاريه «2»
ما أحسن الدّنيا ولكنّها
…
مع حسنها غدّارة فانيه
وتوفي رجل من كندة فكتب على قبره هذه الأبيات:
يا واقفين ألم تكونوا تعلموا
…
إن الحمام بكم علينا قادم
لو تنزلون بشعبنا لعرفتمو
…
أنّ المفرّط في التزوّد نادم
لا تستعزّوا بالحياة فإنّكم
…
تبنون والموت المفرّق هادم
سلوى الرّدى ما بيننا في حفرة
…
حيث المخدّم واحد والخادم
وقال آخر:
عن قليل أصير كوم تراب
…
وتقول الرفاق هذا فلان
صار تحت التراب عظما رميما
…
وجفاه الأصحاب والخلّان
وما أحسن ما قال عبد الله بن طاهر:
أليس إلى ذا صار آخر أمرنا
…
فلا كانت الدنيا القليل سرورها
فلا تعجبي يا نفس ممّا ترينه
…
فكلّ أمور الناس هذا مصيرها
وقال شرف الدين بن أسد:
يا من تملّك ملكا لا بقاء له
…
حمّلت نفسك آثاما وأوزارا
هل الحياة بذي الدنيا وإن عذبت
…
إلا كطيف خيال في الكرى زارا
وقال بعضهم:
وغاية هذي الدار لذّة ساعة
…
ويعقبها الأحزان والهمّ والندم
وهاتيك دار الأمن والعزّ والتّقى
…
ورحمة ربّ الناس والجود والكرم
وقال غيره:
حسّنت ظنّك بالأيام إذ حسنت
…
ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
…
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
وقال آخر:
فإن كنت لا تدري متى الموت فاعلمن
…
بأنّك لا تبقى إلى آخر الدّهر
يا ابن آدم:
أين الأولون والآخرون، أين نوح شيخ المرسلين، أين إدريس رفيع رب العالمين، أين إبراهيم خليل الرحمن، أي موسى الكليم من بين سائر النبيين، أين عيسى روح الله
وكلمته رأس الزاهدين، وإمام السائحين، أين محمد خاتم النبيين، أين أصحابه الأبرار، أين الأمم الماضية، أين الملوك السالفة، أين القرون الخالية، أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان، أين الذين قهروا الأبطال والشجعان، أين الذين دانت لهم المشارق والمغارب، أين الذين تمتعوا باللذات والمشارب، أين الذين تاهوا على الخلائق كبرا وعتيا، أين الذين راحوا في الحلل بكرة وعشيا، أين الذين اغتروا بالأجناد، أين أصحاب الوزراء، والقواد، أين أصحاب السطوة والأعوان، أين أصحاب الإمرة والسلطان، أين أصحاب الأعمال والولايات، أين الذين خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات، أين الذين قادوا الجيوش والعساكر، أين الذين عمروا القصور والدساكر، أين الذين أعطوا النصر في موطن الحروب، والمواقف، أين الذين آمنوا بسطوتهم كل خائف، أين الذين ملأوا ما بين الخافقين فخرا وعزا، أين الذين فرشوا القصور حريرا وقزا، أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وعزا هل تحس منهم من أحد، أو تسمع لهم ذكرا، أفناهم الله مفني الأمم وأبادهم مبيد الرمم وأخرجهم من سعة القصور إلى ضيق القبور تحت الجنادل والصخور فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم لم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما اكتسبوا، أسلمهم الأحباء والأولياء، وهجرهم الإخوان الأصفياء، ونسيهم الأقرباء والبعداء، لو نطقوا لأنشدوا:
مقيم بالحجون رهين رمس
…
وأهلي راحلون بكل واد «1»
كأنّي لم أكن لهمو حبيبا
…
ولا كانوا الأحبّة في السواد
فعوجوا بالسلام فإن أبيتم
…
فأوموا بالسلام على البعاد
وقالوا: لا فخر فيما يزول، ولا غنى فيما لا يبقى، وهل الدنيا إلا كما قال بعض الحكماء المتقدمين: قدر يغلى وكنيف يملى.
وفي هذا المعنى قال الشاعر:
ولقد سألت الدار عن أخبارهم
…
فتبسّمت عجبا ولم تبدي
حتى مررت على الكنيف فقال لي
…
أموالهم ونوالهم عندي
ولقد أصاب ابن السماك حيث قال للرشيد لما قال له عظني، وكان بيده شربة ماء فقال له: يا أمير المؤمنين لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك، قال:
نعم، قال: يا أمير المؤمنين، لو شربتها وحبست عن الخروج أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم، فقال له:
لا خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة.
وقال ابن شبرمة: إذا كان البدن سقيما لم ينفعه الطعام، وإذا كان القلب مغرما لم تنفعه الموعظة.
وروي أن أبا العتاهية مر بدكّان ورّاق وإذا بكتاب فيه:
لا ترجع الأنفس عن غيّها
…
ما لم يكن منها لها زاجر «2»
فقال: لمن هذا البيت؟ فقيل: لأبي نواس قاله للخليفة هارون الرشيد حين نهاه عن حب الجمال وعشق الملاح، فقال: وددت أنه لي بنصف شعري.
وممن استبصر من أبناء الملوك فرأى عيب الدنيا وتقضيها وزوالها، إبراهيم أدهم بن منصور، كان من أبناء ملوك خراسان من كورة بلخ، لما زهد الدنيا زهد في ثمانين سريرا. قال ابن بشار: سألت ابراهيم بن أدهم:
كيف كان بدء أمرك حتى صرت إلى هذا؟ فقال: كان أبي من ملوك خراسان وكان قد حبب إلي الصيد، فبينا أنا راكب فرسي وكلبي معي إذ رأيت ثعلبا أو أرنبا، فحركت فرسي نحوه، فسمعت نداء من ورائي: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت، فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر أحدا، فقلت: لعن الله الشيطان. ثم حركت فرسي، فسمعت نداء أعلى من الأول: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت. فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر شيئا، فقلت: لعن الله الشيطان، ثم حركت فرسي، فسمعت النداء من قربوس سرجي: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت، فوقفت وقلت: هيهات جاءني النذير من رب العالمين، والله لا عصيت ربي ما عصمني بعد يومي هذا.
فتوجهت إلى أهلي وخلفت فرسي وجئت إلى بعض رعاة أبي، فأخذت جبته وكساءه وألقيت إليه ثيابي، فلم أزل أرض تقلني وأرض تضعني حتى صرت إلى العراق فعملت بها أياما فلم يصف لي شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فقال: عليك بالشام، قال: فانصرفت إلى بلد يقال لها المنصورية «3» ، فعلمت بها أياما، فلم
يصف لي شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ فقال:
إن أردت الحلال، فعليك بطرسوس. فإن المباحات بها والعمل فيها كثير، فانصرفت إليها. قال: فبينا أنا قاعد على باب البحر إذ جاءني رجل فاكتراني أنظر له بستانا، فتوجهت معه، فأقمت في البستان أياما كثيرة، فإذا خادم له قد أقبل ومعه أصحاب له ولو علمت أن البستان بخادم ما نظرته، فقعد في مجلسه ثم قال: يا ناظورنا، فأجبته.
قال: اذهب فأتنا بأكبر رمان تقدر عليه وأطيبه. فأتيته برمان، فكسر الخادم واحدة، فوجدها حامضة، فقال:
يا ناظورنا أنت منذ كذا وكذا في بستاننا تأكل من فاكهتنا ورماننا ولا تعرف الحلو من الحامض؟ فقلت: والله ما أكلت من فاكهتكم شيئا، ولا أعرف الحلو من الحامض، قال: فغمز الخادم أصحابه، وقال: ألا تعجبون من هذا، ثم قال لي: لو كنت إبراهيم بن أدهم ما كنت بهذه الصفة، قال: ثم تحدث الناس بذلك، وجاءوا إلى البستان، فلما رأيت كثرة الناس اختفيت والناس داخلون، وأنا هارب منهم. وكان يأكل من كسب يده، وكان يحصد ويحفظ البساتين ويعمل في الطين، فبينما هو يوما يحرس كرما إذ مر به جندي فقال: أعطنا من هذا العنب، فقال له:
إن صاحبه لم يأذن لي، فضربه بالسوط فطأطأ رأسه وقال:
اضرب رأسا طالما عصى الله يا سيدي الجندي، فاستحى الرجل وتركه ومضى.
وروي أن داود عليه الصلاة والسلام بينما هو في الجبال إذ مر على غار فيه رجل عظيم الخلقة من بني آدم ملقى على ظهره وعند رأسه حجر محفور مكتوب فيه: أنا دوسم الملك، تملكت ألف عام وفتحت ألف مدينة. وهزمت ألف جيش، وافتضيت ألف بكر من بنات الملوك ثم صرت إلى ما ترى التراب فراشي والحجر وسادي فمن رآني فلا تغره الدنيا كما غرتني.
وقال وهب بن منبه: خرج عيسى عليه الصلاة والسلام ذات يوم مع أصحابه، فلما ارتفع النهار مروا بزرع قد أفرك. فقالوا: يا نبي الله إنّا جياع فأوحى الله تعالى إليه أن ائذن لهم في قوتهم. فأذن لهم، فتفرقوا في الزرع يفركون ويأكلون، فبينما هم كذلك إذ جاء صاحب الزرع يقول:
زرعي وأرضي ورثتها من أبي وجدي، فبإذن من تأكلون يا هؤلاء؟ قال: فدعا عيسى ربه أن يبعث جميع من ملكها من لدن آدم إلى تلك الساعة، فإذا عند كل سنبلة ما شاء الله من رجل، وامرأة يقولون: أرضنا ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، ففر الرجل منهم، وكان قد بلغه أمر عيسى ولكن لا يعرفه، فلما عرفه قال: معذرة إليك يا نبي الله لم أعرفك، زرعي ومالي حلال لك، فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال: ويحك هؤلاء كلهم ورثوها وعمروها، ثم ارتحلوا عنها، وأنت مرتحل عنها ولا حق بهم، ليس لك أرض ولا مال «1» .
ولما مات الإسكندر قال أرسطاطاليس: أيها الملك لقد حركتنا بسكوتك، وقال بعض الحكماء من أصحابه: لقد كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس. أخذه أبو العتاهية فقال:
كفى حزنا بدفنك ثم إنّي
…
نفضت تراب قبرك من يديّا
وكانت في حياتك لي عظات
…
وأنت اليوم أوعظ منك حيّا
وقال عبد الله بن المعتز:
نسير إلى الآجال في كلّ ساعة
…
فأيامنا تطوى وهنّ مراحل
ولم أر مثل الموت حتى كأنّه
…
إذا ما تخطّته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا
…
فكيف به والشيب في الرأس شاعل
ترحلّ من الدنيا بزاد من التقى
…
فعمرك أيام تعدّ قلائل
وقال عبد الله بن المعلم: خرجنا من المدينة حجّاجا فإذا أنا برجل من بني هاشم من بني العباس بن عبد المطلب قد رفض الدنيا، وأقبل على الآخرة، فجمعتني وإياه الطريق، فأنست به وقلت له: هل لك أن تعادلني، فإن معي فضلا من راحلتي، فجزاني خيرا وقال:
لو أردت هذا لكان سهلا، ثم أنس إلي فجعل يحدثني فقال: أنا رجل من ولد العباس كنت أسكن البصرة وكنت ذا كبر شديد ونعمة طائلة ومال كثير وبذخ زائد، فأمرت يوما خادما لي أن يحشو لي فراشا من حرير ومخدة بورد نثير ففعل، فإني لنائم إذا بقمع وردة قد نسيه الخادم، فقمت إليه فأوجعته ضربا، ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدة، فأتاني آت في منامي في صورة فظيعة فهزني وقال: أفق من غشيتك وانتبه من رقدتك، ثم أنشأ يقول:
يا خل إنك إن توسّد لينّا
…
وسّدت بعد اليوم صمّ الجندل»
فامهد لنفسك صالحا تسعد به
…
فلتندمنّ غدا إذا لم تفعل
فانتبهت مرعوبا وخرجت من ساعتي هاربا إلى ربي كما تراني ثم أنشأ يقول:
من كان يعلم أن الموت يدركه
…
والقبر مسكنه والبعث يخرجه
وأنّه بين جنات مزخرفة
…
يوم القيامة أو نار ستنضجه
فكلّ شيء سوى التقوى به سمج
…
ومن أقام عليه منه أسمجه «2»
ترى الذي اتخذ الدنيا له وطنا
…
لم يدر أن المنايا سوف تزعجه
قال وهب بن منبه: أصبت على قصر غمدان وهو قصر سيف بن ذي يزن بأرض صنعاء اليمن وكان من الملوك الأجلة مكتوبا بالقلم المسندي فترجم بالعربي فإذا هي أبيات جليلة وموعظة عظيمة جميلة وهي هذه الأبيات:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم
…
غلب الرجال فلم تنفعهم القلل «3»
واستنزلوا من أعالي عزّ معقلهم
…
فأسكنوا حفرة يا بئس ما نزلوا «4»
فإذا همو صارخ من بعد ما دفنوا
…
أين الاسرّة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت محجبة
…
وكان من دونها الأستار والكلل «5»
فافصح القبر عنهم حين ساءلهم
…
تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا
…
فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا
وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان معه صاحب في بعض سياحاته فأصابهما الجوع وقد انتهيا إلى قرية فقال عيسى عليه الصلاة والسلام لصاحبه: انطلق فاطلب لنا طعاما من هذه القرية، وأعطاه ما يشتري به، فذهب الرجل وقام عيسى عليه الصلاة والسلام يصلي، فجاء بثلاثة أرغفة، فقعد ينتظر انصراف عيسى من الصلاة فأبطأ عليه، فأكل رغيفا وكان عيسى عليه الصلاة والسلام رآه حين جاء ورأى الأرغفة ثلاثة، فلما انصرف من صلاته لم يجد إلا رغيفين، فقال له: أين الرغيف الثالث؟ فقال الرجل:
ما كانا إلا رغيفين، فأكلاهما.
ثم مرّا على وجوههما حتى أتيا على ظباء ترعى فدعا عيسى عليه الصلاة والسلام واحدا منها، فجاءه فذكاه «6» وأكلا منه، فقال له عيسى: بالذي أراك هذه الآية من أكل الرغيف الثالث؟ فقال: ما كانا إلا اثنين.
ثم مرّا على وجوههما حتى جاءا قرية فدعا عيسى ربه أن ينطق له من يخبره عن حال هذه القرية، فأنطق الله له لبنة، فسألها عيسى فأخبرته بكل ما أراد. وصاحبه يتعجب مما رأى، فقال له عيسى: بحق من أراك هذه الآية: من صاحب الرغيف الثالث؟ فقال: ما كانا إلا إثنين.
فمرّا على وجوههما حتى انتهيا إلى نهر عجاج، فأخذ عيسى صلوات الله عليه بيد الرجل ومشى به على الماء حتى جاوز النهر، فقال الرجل: سبحان الله. فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: بالذي أراك هذه الآية من صاحب الرغيف الثالث؟ فقال: ما كانا إلا اثنين، فمرا على وجوههما حتى أتيا قرية عظيمة خربة، وإذا قريب منها ثلاث لبنات عظام، وقيل ثلاثة أكوام من الرمل، فقال لها:
كوني ذهبا بإذن الله، فكانت، فلما رآها الرجل قال: هذا مال، فقال عيسى: نعم واحدة لي وواحدة لك وواحدة لصاحب الرغيف الثالث، فقال الرجل: أنا صاحب الرغيف الثالث، فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: هي لك كلها، ثم فارقه عيسى.
وأقام الرجل ليس معه ما يحملها عليه، فمرّ به ثلاثة نفر فقتلوه، فقال اثنان منهما للثالث: انطلق إلى القرية فأتنا بطعام، فانطلق فلما غاب قال أحدهما للآخر: إذا جاء قتلناه واقتسمناه المال بيننا، قال الآخر: نعم، وأما الذي ذهب ليشتري الطعام فإنه أضمر لصاحبيه السوء، وقال أجعل لهما في الطعام سما فإذا أكلاه ماتا وآخذ المال لنفسي، فوضع السم في الطعام وجاء فقاما إليه فقتلاه
وأكلا الطعام، فماتا، فمر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام وهم مصروعون حولها فقال: هكذا الدنيا تفعل بأهلها.
وقال الهيثم بن عدي: وجد غار في جبل لبنان زمن الوليد بن عبد الملك وفيه رجل مسجى على سرير من الذهب وعند رأسه لوح من الذهب أيضا مكتوب فيه بالرومية: أنا سبأ بن نواس خدمت عيصو بن اسحاق بن إبراهيم خليل الرب الأكبر، وعشت بعده دهرا طويلا ورأيت عجبا كثيرا ولم أر فيما رأيت أعجب من غافل عن الموت، وهو يرى مصارع آبائه ويقف على قبور أحبابه، ويعلم أنه صائر اليهم، ثم لا يتوب، وقد علمت أن الأجلاف الجفاة يستنزلونني عن سريري ويتولونه وذلك حين يتغير الزمان ويكثر الهذيان ويترأس الصبيان، فمن أدرك هذا الزمان عاش قليلا ومات ذليلا.
وعن عمرو بن ميمون أنه قال: افتتحنا مدينة بفارس فدللنا على مغارة فيها بيت فيه سرير من الذهب عليه رجل عند رأسه لوح مكتوب فيه: أنا بهرام ملك فارس، كنت أغناههم بطشا، وأقساهم قلبا، وأطولهم أملا، وأحرصه على الدنيا، قد ملكت البلاد، وقتلت الملوك، وهزمت الجيوش وأذللت الجبابرة وجمعت من الأموال ما لم يجمعه أحد قبلي، ولم أستطع أن أفتدي به من الموت إذ نزل بي.
ويروى في الإسرائيليات أن عيسى عليه الصلاة والسلام بينا هو في سياحته إذ مرّ بجمجمة نخرة، فسأل الله أن تتكلم فأنطقها الله له فقالت: يا نبي الله: أنا بلوان بن حفص ملك اليمن عشت ألف سنة ورزقت ألف ولد وافتضضت ألف بكر وهزمت ألف جيش وفتحت ألف مدينة، فما كان كل ذلك إلا كحلم النائم، فمن سمع قصتي فلا يغتر بالدنيا. فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام بكاء شديدا حتى غشي عليه.
ووجد مكتوب على قصر قد خرّبت أركانه وبادت أهله وأظلمت نواحيه هذه الأبيات:
هذي منازل أقوام عهدتهم
…
يوفون بالعهد مذ كانوا وبالذمم
تبكي عليهم ديار كان يطربها
…
ترنّم المجد بين الجود والكرم
وقيل في المعنى:
بالله ربّك كم قصر مررت به
…
قد كان أعمر باللّذّات والطرب
نادى غراب المنايا في جوانبه
…
وصاح من بعده بالويل والحرب
وفيه:
أيها الرّافع البناء رويدا
…
لا يردّ المنون عنك البناء
وحكي أن رجلين تنازعا في أرض فأنطق الله تعالى لبنة من جدار تلك الأرض فقالت: إني كنت ملكا من الملوك ملكت الدنيا ألف سنة، ثم صرت رميما ألف سنة، ثم أخذني خزاف وعملني إناء، فاستعملت ألف سنة حتى تكسرت وصرت ترابا، فأخذني طوّاب وعملني لبنا وأنا في هذا الجدار كذا وكذا سنة، فلم تتنازعان في هذه الأرض وأنتم عنها زائلون وإلى غيرها منقلبون والله سبحانه وتعالى أعلم.
وروي أن ملكا بنى قصرا وقال: انظروا إن كان فيه عيب فأصلحوه، فقال رجل: أرى فيه عيبين. فقالوا له: وما هما؟ قال: يموت الملك ويخرب القصر. قال: صدقت ثم أقبل على الله وترك القصر والدنيا.
وقيل: سئل الخضر عليه السلام عن أعجب شيء رآه في الدنيا مع طول سياحته وقطعه للقفار والفلوات، فقال:
أعجب شيء رأيته أني مررت بمدينة لم أر على وجه الأرض أحسن منها، فسألت بعض أهلها متى بنيت هذه المدينة فقالوا سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا متى بنيت، وما زالت كذلك من عهد الطوفان ثم غبت عنها خمسمائة سنة ومررت بها فإذا هي خاوية على عروشها ولم أر أحدا أسأله وإذا رعاة غنم فدنوت منهم فقلت: أين المدينة التي ههنا؟ فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا أنه كان ههنا مدينة، ثم غبت خمسمائة سنة ومررت بها وإذا موضع تلك المدينة بحر وإذا غواصون يخرجون منه شبه الحلية، فقلت للغواصين منذ كم هذا البحر ههنا؟ فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذا البحر من عهد الطوفان، فغبت خمسمائة سنة وجئت فإذا البحر قد غاض ماؤه وإذا مكانه غيضة وصيادون يصيدون فيها السمك في زوارق صغار فقلت لبعضهم، أين البحر الذي كان ههنا؟ فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا أنه كان ههنا بحر.
فغبت خمسمائة عام ثم جئت إلى ذلك، فإذا هو مدينة على الحالة الأولى، والحصون والقصور والأسواق قائمة، فقلت لبعضهم: أين الغيضة التي كانت ههنا، ومتى بنيت
هذه المدينة؟ فقالوا: سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذه المدينة على حالها من عهد الطوفان. فغبت عنها نحو خمسمائة سنة ثم أتيت إليها، فإذا عاليها سافلها وهي تدخن بدخان شديد، فلم أر أحدا أسأله ثم أتيت راعيا فسألته أين المدينة؟ قال سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذا المكان هكذا منذ كان.
فهذا أعجب شيء رأيته في سياحتي. فسبحان مبيد العباد ومفني البلاد ووراث الأرض ومن عليها وباعث من خلق منها بعد رده إليها.
ولبعضهم:
قف بالديار فهذه آثارهم
…
تبكي الأحبّة حسرة وتشوّقا
كم قد وقفت بها أسائل أهلها
…
عن حالها مترحّما أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها
…
فارقت من تهوى وعزّ الملتقى
ولبعضهم:
أيها الربع الذي قد دثرا
…
وكان عينا ثم أضحى أثرا «1»
أين سكانك ماذا فعلوا
…
خبرن عنهم سقيت المطرا
فلقد نادى منادي دارهم
…
رحلوا واستودعوني عبرا «2»
وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: أوحى الله إلى الدنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه، يا دنيا مرّي على أوليائي ولا تحلي لهم فتفتنيهم.
وقال بعض الحكماء: الدنيا كالماء المالح كلما ازداد صاحبها شرابا ازداد عطشا، أو كالكأس من عسل وفي أسفله سم فللذائق منه حلاوة عاجلة وفي أسفله الموت، أو كحلم النائم يفرح في منامه فإذا استيقظ زال فرحه أو كالبرق يضيء قليلا ثم يذهب. ولما بنى المأمون قصره الذي ضرب به المثل نام فيه فسمع قائلا يقول:
أتبني بناء الخالدين وإنّما
…
بقاؤك فيها إن عقلت قليل
لقد كان في ظلّ الأراك كفاية
…
لمن كلّ يوم يقتضيه رحيل
قال، فلم يلبث بعدها إلا قليلا ومات وقال:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض
…
على الماء خانته فروج الأصابع «3»
ووجد مكتوب على قصر باد أهله:
هذي منازل أقوام عهدتهم
…
في خفض عيش نفيس ماله خطر
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا
…
إلى القبور فلا عين ولا أثر
ولو قيل للدنيا صفي نفسك ما عدت ما وصفها به أبو نواس بقوله:
وما الناس إلا هالك وابن هالك
…
وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
…
له عن عدو في ثياب صديق
وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما رجع من صفين ودخل أوائل الكوفة رأى قبرا فقال: قبر من هذا؟
فقالوا: قبر خباب بن الأرت، فوقف عليه وقال: رحم الله خبابا أسلم راغبا وهاجر طائعا وعاش مجاهدا، وابتلي في جسمه آخرا ألا وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ثم مشى فإذا هو بقبور، فجاء حتى وقف عليها، وقال:
السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وبكم عما قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز عنا وعنهم. طوبى لمن ذكر المعاد وعمل ليوم الحساب وقنع بالكفاف، ورضي عن الله تعالى ثم قال: يا أهل القبور أمّا الأزواج فقد نكحت، وأما الديار فقد سكنت وأما الأموال فقد قسمت وهذا ما عندنا، فما عندكم، ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما أنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب الرابع والثمانون فيما جاء في فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخر الأبواب وبه يختم الكتاب ولنذكر أربعين حديثا في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
الحديث الأول: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي صلت عليه الملائكة ومن صلت عليه الملائكة صلى الله عليه ومن صلى الله عليه لم يبق شيء في السموات ولا في الأرض إلا صلى عليه» .
الحديث الثاني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي صلاة واحدة أمر الله حافظيه أن لا يكتبا عليه ذنبا ثلاثة أيام» .
الحديث الثالث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلّى علي مرة خلق الله من قوله ملكا له جناحان جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، رأس وعنقه تحت العرش وهو يقول:
اللهم صلّ على عبدك ما دام يصلي على نبيّك» .
الحديث الرابع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا ومن صلى علي عشرا صلى الله عليه بها مائة ومن صلى علي مائة صلى الله عليه بها ألفا ومن صلى علي ألفا لم يعذبه الله بالنار» .
الحديث الخامس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي مرة كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات» .
الحديث السادس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل يوما وقال: يا محمد جئتك ببشارة لم آت بها أحدا من قبلك وهي أن الله تعالى يقول لك: من صلى عليك من أمتك ثلاث مرات غفر الله له إن كان قائما قبل أن يقعد وإن كان قاعدا غفر له قبل أن يقوم فعند ذلك خر ساجدا لله شاكرا» .
الحديث السابع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي في الصباح عشرا محيت عنه ذنوب أربعين سنة» . الحديث الثامن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي ليلة الجمعة أو يوم الجمعة مائة مرة غفر الله له خطيئته ثمانين سنة» .
الحديث التاسع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي ليلة الجمعة أو يوم الجمعة مائة مرة قضى الله له مائة حاجة ووكل الله به ملكا حين يدفن في قبره يبشره كما يدخل أحدكم على أخيه بالهدية» .
الحديث العاشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي في يوم مائة مرة قضيت له في ذلك اليوم مائة حاجة» .
الحديث الحادي عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقربكم مني مجلسا أكثرك علي صلاة» .
الحديث الثاني عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي ألف مرة بشر بالجنة قبل موته» .
الحديث الثالث عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاءني جبريل عليه السلام وقال لي يا رسول الله لا يصلي عليك أحد إلا ويصلي عليه سبعون ألفا من الملائكة» .
الحديث الرابع عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء بعد الصلاة علي لا يرد» .
الحديث الخامس عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة علي نور على الصراط» وقال عليه الصلاة والسلام:
الحديث السادس عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جعل عبادته الصلاة علي قضى الله له حاجة الدنيا والآخرة» .
الحديث السابع عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي الصلاة علي أخطأ طريق الجنة» .
الحديث الثامن عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة في الهواء بأيديهم قراطيس من نور لا يكتبون إلا الصلاة علي وعلى أهل بيتي» .
الحديث التاسع عشر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن عبدا جاء يوم القيامة بحسنات أهل الدنيا ولم تكن فيها الصلاة علي ردت عليه ولم تقبل منه» .
الحديث العشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى الناس بي أكثرهم علي صلاة» .
الحديث الحادي والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي في كتاب ما لم تزل الملائكة تصلي عليه ما لم يندرس اسمي من ذلك الكتاب» .
الحديث الثاني والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله
ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني الصلاة علي من أمتي فأستغفر لهم» .
الحديث الثالث والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي كنت شفيعه يوم القيامة ومن لم يصل علي فأنا بريء منه» .
الحديث الرابع والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤمر بقوم إلى الجنة فيخطئون الطريق» قالوا: يا رسول الله ولم ذاك؟ قال: سمعوا اسمي ولم يصلوا علي» .
الحديث الخامس والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الحديث السادس والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في مجلس ولم يصل علي فيه إلا تفرقوا كقوم تفرقوا عن ميت ولم يغسلوه» .
الحديث السابع والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى وكّل بقبري ملكا أعطاه أسماء الخلائق كلها فلا يصلي علي أحد إلى يوم القيامة إلا بلغني اسمه وقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فلان بن فلانة صلّى عليك» .
الحديث الثامن والعشرون: عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: «الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أمحى للذنوب من الماء لسواد اللوح» .
الحديث التاسع والعشرون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام إن أردت أن أكون إليك أقرب من كلامك إلى لسانك ومن روحك لجسدك فأكثر الصلاة على النبي الأمي صلى الله عليه وسلم» .
الحديث الثلاثون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ملكا أمره الله تعالى باقتلاع مدينة غضب عليها فرحمها ذلك الملك ولم يبادر إلى اقتلاعها، فغضب الله عليه وكسر أجنحته فمر به جبريل عليه السلام فشكا له حاله فسأل الله فيه فأمره أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه فغفر الله له ورد عليه أجنحته ببركة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم» .
الحديث الحادي والثلاثون: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر مرات وصلى ركعتين ودعا الله تعالى تقبل صلاته وتقضى حاجته ودعاؤه مقبول غير مردود.
الحديث الثاني والثلاثون: عن زيد بن حارثة قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه فقال صلى الله عليه وسلم: «صلوا علي واجتهدوا في الدعاء وقولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» .
الحديث الثالث والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلوا علي فإن صلاتكم علي زكاة لكم واسألوا الله لي الوسيلة» .
الحديث الرابع والثلاثون: عن سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه» .
الحديث الخامس والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلي علي» .
الحديث السادس والثلاثون: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال جزى الله عنا محمدا خيرا وجزى الله نبينا محمدا بما هو أهله، فقد أتعب كاتبيه» .
الحديث السابع والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» .
الحديث الثامن والثلاثون: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يصلي علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه» .
الحديث التاسع والثلاثون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أقربكم مني منزلا يوم القيامة أكثركم علي صلاة» .
الحديث الأربعون: نقل الشيخ كمال الدين الدميري رحمه الله تعالى عن شفاء الصدور لابن سبع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يلقى الله وهو عليه راض فليكثر من الصلاة علي فإن من صلى علي في كل يوم خمسمائة مرة لم يفتقر أبدا وهدمت ذنوبه ومحيت خطاياه ودام سروره واستجيب دعاؤه وأعطي أمله وأعين على عدوه وعلى أسباب الخير وكان ممن يرافق نبيه في الجنان» .
اللهم صلّ على سيد المرسلين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين الذي أنزل عليه في محكم الكتاب العزيز تعظيما له وتوقيرا: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً 45 وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً 46 وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً 47
«1» . فهذا خطاب خاص الخاص ولم يخاطب الله أحدا من المرسلين ولا من
الأنبياء ولا رسولا بالرسالة إلا سيد خلقه محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى نادى أبا البشر: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
«1» ويا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا
«2» ويا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا
«3» ويا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
«4» ويا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي
«5» ، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
«6» . يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ
«7» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ
«8» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ
«9» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ
«10» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ
«11» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
«12» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ
«13» يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً 45 وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً 46
«14» وما ناداه باسمه يا محمد كغيره إلا في أربع مواضع اقتضت الحكمة أن يذكر هناك باسمه محمد صلى الله عليه وسلم. الأول قوله عز وجل: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
«15» . لأن سبب انزالها أن الشيطان صاح يوم احد قد قتل محمد وكان ما كان فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولو قال وما رسولي لقال الأعداء ليس هو محمد فذكره باسمه لأنهم كانوا ينكرون ان اسمه محمدا.
الثاني قوله عز وجل: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ
«16» . الثالث قوله عز وجل: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ 1 وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ
«17» .
فلو قال وآمنوا بما نزل على رسولي لقال الأعداء ليس هو فعرفه باسمه محمد صلى الله عليه وسلم. الرابع قوله عز وجل مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
«18» والحكمة في ذكره هنا باسمه أنه سبحانه وتعالى قال قبلها هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
«19» ، فكان من الأعداء من يقول من هو رسوله الذي أرسله فعرفه باسمه فقال مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
«20» وسماه تعالى باسمه أحمد في موضع واحد وله حكمة وهي أن الله تعالى لما أرسل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام قال لقومه من بني إسرائيل وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ
«21» التي انزلت على موسى وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
«22» لأنه كانوا يعرفونه في التوراة أحمد فما ناداه سبحانه وتعالى باسمه محمد ولا أحمد وإنما ذكر ذلك إعلاما به وتعريفا له وما ناداه إلا بالنبوة والرسالة فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً 45 وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً 46
«23» منيرا أي شاهدا بالإيمان للمؤمنين ومبشرا لأهل التمجيد ونذيرا لأهل التجحيد، وقيل شاهدا لأهل القرآن ومبشرا لهم بالغفران ونذيرا لأهل الكفر والعصيان. وقيل: شاهدا لأمتك ومبشرا بشفاعتك ونذيرا لمن ارتكب مخالفتك. وقيل:
شاهدا بالمنة ومبشرا بالجنة وقوله: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ
«24» أي تدعو الناس بأمر الله تعالى إلى لا إله إلا الله. قال تعالى، وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ
«25» وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه داعيا فقال: أنا الداعي إلى الله، وقوله تعالى: وَسِراجاً مُنِيراً
«26» أي يهتدى به كما يهتدى بالسراج في ظلمة الليل.
فإن قلت: ما الحكمة في قوله تعالى وَسِراجاً مُنِيراً
«27» ولم يقل قمرا منيرا. فالجواب عن ذلك أن السراج أعم من القمر لأن المراد بالسراج هنا الشمس. قال تعالى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً
«28» والشمس أعم نفعا ونورا من القمر، وقيل: المراد بقوله تعالى وَسِراجاً مُنِيراً
«29» السراج الذي يقتبس منه لأن القمر لا تصل إليه
الأيدي حتى يقتبسون منه، والسراج إذا كان في بلد يملأ ذلك البلد نورا لأن كل من جاء يقتبس منه، والقمر ليس كذلك ولهذا كانت قبل ولادته صلى الله عليه وسلم ظلاما فلما ولد ظهر سراج دينه بمكة، فكان أول من اقتبس من الرجال أبو بكر. ومن النساء خديجة ومن الشباب علي ومن الموالي زيد ومن العبيد بلال رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وجاء سلمان من أرض فارس فاقتبس وصهيب من الروم وبلال من الحبشة، ووفد الوفود واقتبسوا، وأبو لهب إلى جانب البيت ولم يقتبس واقتبس الناس من مشارق الأرض ومغاربها حتى امتلأت الأرض من نور سراجه فهو صلى الله عليه وسلم أعظم الأنبياء وأكرم المرسلين وسيد الخلق أجمعين لم يخلق الله أحسن ولا أجمل ولا أكمل ولا أفضل ولا أفصح ولا أرجح ولا أسمح ولا أصبح ولا أجل ولا أعظم ولا أسخى ولا أكرم ولا أبهى ولا أنصف ولا أعدل منه صلى الله عليه وسلم، فلو أن البحار مداد والنبات أقلام وجميع الخلق تكتب معجزاته صلى الله عليه وسلم لعجزوا عن وصف نزر النزر من معجزاته صلى الله عليه وسلم. اللهم اجعلنا من خالص أمته واحشرنا في زمرته وأمتنا على محبته ولا تخالف بنا عن ملته ولا عما جاء به برحمتك يا أرحم الراحمين آمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي عدد ما ذكره الذاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون. نحمدك يا من هيأت لكسب الآداب جميع المعدات وفتحت للتحلي بأنوار آياتك سبل الخيرات ونصلي ونسلم على من كملت آدابه ورشحت بكمال البيان وإعجاز التبيان جنابه سيدنا محمد القائل: إن من البيان لسحرا، وعلى آله وصحبه ما أطلعت حدائق الأتباع زهرا.