الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحسنت الأيام مطالبتي لأحسنت مطالبتك ولأنت على ما لم تفعل أقدر مني على رد ما قد فعلت. قال: فبكى المأمون وقال: بالله أعد عليّ ما قلت، فأعاده، فالتفت المأمون إلى يحيى بن أكثم وقال: أما تنظر إلى مخاطبة هذا الرجل بأصغريه «1» ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المرء بأصغريه قلبه ولسانه» . والله لا وقفت لك إلا وأنا قائم على قدمي، فوقف وأمر له بصلة جزيلة واعتذر إليه، فلما همّ المأمون بالانصراف قال الرجل يا أمير المؤمنين: بيتان قد حضراني، ثم أنشد يقول:
ما جاد بالوفر إلّا وهو معتذر
…
ولا عفا قطّ إلّا وهو مقتدر
وكلّما قصدوه زاد نائله
…
كالنار يؤخذ منها وهي تستعر
وقيل: إن بعض الحكماء لزم باب كسرى في حاجة دهرا، فلم يوصل إليه، فكتب أربعة أسطر في ورقة ودفعها للحاجب، فكان في السطر الأول: العديم لا يكون معه صبر على المطالبة، وفي السطر الثاني: الضرورة والأمل أقدماني عليك، وفي السطر الثالث: الانصراف من غير فائدة شماتة الأعداء، وفي السطر الرابع: أما نعم فمثمرة، وأما لا فمريحة. فلما قرأها كسرى دفع له في كل سطر ألف دينار.
وحكي أن رجلا كان جارا لابن عبيد الله، فأصاب الناس قحط بالعراق حتى رحل أكثر الناس عنه، فعزم جار ابن عبيد الله على الخروج من البلاد في طلب المعيشة، وكانت له زوجة لا تقدر على السفر، فلما رأت زوجها تهيأ للسفر قالت له: إذا سافرت من الذي ينفق علينا؟
قال: إن لي على ابن عبيد الله دينار ومعي به أشهاد عليه شرعي، فخذي الأشهاد وقدميه إليه، فإذا قرأه أنفق عليك مما عنده حتى أحضر، ثم ناولها رقعة كتب فيها هذه الأبيات يقول:
قالت وقد رأت الأحمال محدجة
…
والبين قد جمّع المشكوّ والشاكي
من لي إذا غبت في ذا المحل «2» قلت لها
…
الله وابن عبيد الله مولاك
فمضت إليه المرأة وحكت له ما قال زوجها، وأخبرته بسفره، وناولته الرقعة، فقرأها، وقال: صدق زوجك، وما زال ينفق عليها ويواصلها بالبر والإحسان إلى أن قدم زوجها فشكره على فضله وإحسانه.
وحكي أن مطيع بن أياس مدح معن بن زائدة بقصيدة حسنة، ثم أنشدها بين يديه، فلما فرغ من إنشاده أراد معن أن يباسطه، فقال يا مطيع: إن شئت أعطيناك وإن شئت مدحناك كما مدحتنا، فاستحيا مطيع من اختيار الثواب وكره اختيار المدح وهو محتاج، فلما خرج من عند معن أرسل إليه بهذين البيتين:
ثناء من أمير خير كسب
…
لصاحب نعمة وأخي ثراء
ولكنّ الزمان برى عظامي
…
ومالي كالدراهم من دواء
فلما قرأها معن ضحك وقال: ما مثل الدراهم من دواء.
وأمر له بصلة جزيلة ومال كثير.
قال الشاعر:
هززتك لا إنّي جعلتك ناسيا
…
لأمري ولا إنّي أردت التقاضيا
ولكن رأيت السيف من بعد سلّه
…
إلى الهزّ محتاجا وإن كان ماضيا «3»
وقال آخر:
ماذا أقول إذا رجعت وقيل لي
…
ماذا لقيت من الجواد الأفضل
إن قلت أعطاني كذبت وإن أقل
…
بخل الجواد بماله لم يجمل «4»
فاختر لنفسك ما أقول فإنني
…
لا بدّ أخبرهم وإن لم أسأل
وقال آخر:
لنوائب الدنيا خبأتك فانتبه
…
يا نائما من جملة النوّام
أعلى الصراط تزيل لوعة كربتي
…
أم في المعاد تجود بالإنعام
ومما يستحسن إلحاقه بهذا الباب:
ذكر شيء مما جاء في ذم السؤال والنهي عنه:
روي عن عبد الرحمن بن عوف بن مالك الأشجعي
رضي الله تعالى عنه قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فبسطنا أيدينا وكنا حديثي عهد بالمبايعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام يا رسول الله نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وتقيموا الصلوات الخمس، وتطيعوا الله، وأسرّ كلمة خفية وهي: ولا تسألوا الناس شيئا، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا يناوله إياه، رواه مسلم.
وقال رجل لابنه: إياك أن تريق ماء وجهك عند من لا ماء في وجهه.
وكان لقمان يقول لولده: يا بني إياك والسؤال فإنه يذهب ماء الحياء من الوجه، وأعظم من هذا استخفاف الناس بك. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: لأن تدخل يدك فم التنين إلى المرفق خير لك من أن تبسطها إلى غني قد نشأ في الفقر.
وقيل لأعرابي: ما السقم الذي لا يبرأ والجرح الذي لا يندمل؟ قال: حاجة الكريم إلى اللئيم.
وقال أبو محلم السعدي:
إذا رماك الدهر في الضيق فانتجع
…
قديم الغنى في الناس إنّك حامده «1»
ولا تطلبنّ الخير ممّن أفاده
…
حديثا ومن لا يورث المجد والده
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مسألة الناس من الفواحش ما أحلّ من الفواحش غيرها» . وقال عليه الصلاة والسلام:
«لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه» .
قال الشاعر:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله
…
عوضا ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال وزنته
…
رجح السؤال وخفّ كل نوال
وقال أحمد الأنباري:
لموت الفتى خير من البخل للغنى
…
وللبخل خير من سؤال بخيل
لعمرك ما شيء لوجهك قيمة
…
فلا تلق إنسانا بوجه ذليل
وقال سلم الخاسر:
إذا أذن الله في حاجة
…
أتاك النجاح على رسله
فلا تسأل الناس من فضلهم
…
ولكن سل الله من فضله
ويقال: أحب الناس إلى الله من سأله وأبغض الناس إلى الناس من احتاج إليهم وسألهم، وفي هذا المعنى قيل:
لا تسألنّ من ابن آدم حاجة
…
وسل الذي أبوابه لا تحجب «2»
الله يغضب إن تركت سؤاله
…
وبنيّ آدم حين يسأل يغضب
وقال محمود الوراق:
شاد الملوك قصورهم وتحصنوا
…
من كل طالب حاجة أو راغب
فارغب إلى ملك الملوك ولا تكن
…
ياذا الضراعة طالبا من طالب
وقال ابن دقيق العيد:
وقائلة مات الكرام فمن لنا
…
إذا عضّنا الدهر الشديد بنابه
فقلت لها من كان غاية قصده
…
سؤالا لمخلوق فليس بنابه
إذا مات من يرجى فمقصودنا الذي
…
ترجّينه باق فلوذي ببابه
وقال بعض أهل الفضل:
لما افتقرت لصحبي ما وجدتهمو
…
لجأت لله لبّاني وأغناني
واها على بذل وجهي للورى سفها
…
فلو بذلت إلى مولاي والاني
وسأل رجل رجلا حاجة فلم يقضها فقال: سألت فلانا حاجة أقل من قيمته، فردني ردا أقبح من خلقته.
وسأل عروة مصعبا حاجة فلم يقضها فقال: علم الله تعالى أن لكل قوم شيخا يفزعون إليه وأنا أفزع منك «3» .
ويقال: لا شيء أوجع للأخيار من الوقوف بباب الأشرار.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
بلوت بني الدنيا فلم أر فيهم
…
سوى من غدا والبخل ملء إهابه «1»
فجردت من غمد القناعة صارما
…
قطعت رجائي منهم بذبابه «2»
فلا ذا يراني واقفا في طريقه
…
ولا ذا يراني قاعدا عند بابه
غني بلا مال عن الناس كلّهم
…
وليس الغنى إلّا عن الشيء لا به
إذا ما ظالم استحسن الظلم مذهبا
…
ولجّ عتوا في قبيح اكتسابه «3»
فكله إلى صرف الليالي فإنها
…
ستبدي له ما لم يكن في حسابه «4»
فكم قد رأينا ظالما متمردا
…
يرى النجم تيها تحت ظلّ ركابه «5»
فعمّا قليل وهو في غفلاته
…
أناخت صروف الحادثات ببابه
فأصبح لا مال ولا جاه يرتجى
…
ولا حسنات تلتقي في كتابه
وجوزي بالأمر الذي كان فاعلا
…
وصبّ عليه الله سوط عذابه
وقال آخر:
لا تسألنّ إلى صديق حاجة
…
فيحول عنك كما الزمان يحول
واستغن بالشيء القليل فإنّه
…
ما صان عرضك لا يقال قليل
من عفّ خفّ على الصديق لقاؤه
…
وأخو الحوائج وجهه مملول
وأخوك من وفّرت ما في كفّه
…
ومتى علقت به فأنت ثقيل
وقال آخر:
ليس جودا أعطيته بسؤال
…
قد يهزّ السؤال غير جواد
إنما الجود ما أتاك ابتداء
…
لم تذق فيه ذلّة التّرداد
وقال آخر:
لا تحسبن الموت موت البلى
…
إنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكنّ ذا
…
أخفّ من ذاك لذلّ السؤال
وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه:
قنعت بالقوت من زماني
…
وصنت نفسي عن الهوان
خوفا من الناس أن يقولوا
…
فضل فلان على فلان
من كنت عن ماله غنيّا
…
فلا أبالي إذا جفاني
ومن رآني بعين نقص
…
رأيته بالتي رآني
ومن رآني بعين تم
…
رأيته كامل المعاني
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الرابع والخمسون في ذكر الهدايا والتحف وما أشبه ذلك
قال الله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها
«6» فسرها بعضهم بالهدية.
وقال صلى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا فانها تجلب المحبة وتذهب الشحناء» . وقال صلى الله عليه وسلم: «الهدية مشتركة» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من