الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتها
…
فرجت وكان يظنّها لا تفرج
وقال آخر:
لئن صدّع البين المشتّت شملنا
…
فللبين حكم في الجموع صدوع «1»
وللنجم من بعد الرجوع استقامة
…
وللشمس من بعد الغروب طلوع
وإن نعمة زالت عن الحرّ وانقضت
…
فإنّ بها بعد الزوال رجوع
فكن واثقا بالله واصبر لحكمه
…
فإن زوال الشرّ عنك سريع
ولنذكر نبذة ممن حصل له الفرج بعد الشدة:
روي أن الوليد بن عبد الملك كتب إلى صالح بن عبد الله عامله على المدينة المنورة، أن أخرج الحسن بن الحسن بن علي من السجن وكان محبوسا واضربه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة سوط. فأخرجه إلى المسجد واجتمع الناس، وصعد صالح يقرأ عليهم الكتاب ثم نزل يأمر بضربه، فبينما هو يقرأ الكتاب إذ جاء علي بن الحسين عليه السلام، فأفرج له الناس حتى أتى إلى جنب الحسن، فقال يا ابن العم مالك ادع الله تعالى بدعاء الكرب يفرج الله عنك، قال: ما هو يا ابن العم؟ فقال: لا إله إلا الحليم الكريم لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان رب السموات ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، ثم انصرف عنه، وأقبل الحسن يكررهما فلما فرغ صالح من قراءة الكتاب ونزل قال: أراه في سجنه مظلوما أخرجوه وأنا أراجع أمير المؤمنين في أمره، فأطلق بعد أيام وأتاه الفرج من عند الله تعالى.
وقال الربيع: لما حبس المهدي موسى بن جعفر، رأى في المنام عليا رضي الله تعالى عنه وهو يقول: يا محمد فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ 22
«2» ، قال الربيع، فأرسل المهدي إليّ ليلا فراعني ذلك، فجئته، فإذا هو يقرأ هذه الآية، وكان حسن الصوت، فقص عليّ الرؤيا ثم قال: ائتني بموسى بن جعفر، فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جانبه، وقال يا أبا الحسن رأيت أمير المؤمنين يقرأ عليّ كذا فعاهدني أن لا تخرج عليّ ولا على أحد من ولدي، فقال: والله ما ذاك من شأني، فقال: صدقت، ثم قال يا ربيع أعطه ثلاث آلاف دينار ورده إلى أهله بالمدينة، قال الربيع: فأحكمت أمره ليلا، فما أصبح إلا على الطريق.
وقال إسماعيل بن بشار:
وكلّ حر وإن طالت بليته
…
يوما تفرّج غمّاه وتنكشف
وقال مسلم بن الوليد: كنت يوما جالسا عند خياط بازاء منزلي فمر بي إنسان أعرفه، فقمت إليه وسلمت عليه وجئت به إلى منزلي لأضيفه وليس معي درهم بل كان عندي زوج أخفاف، فأرسلتها مع جاريتي لبعض معارفها فباعهما بتسعة دراهم واشترت بها ما قلته لها من الخبز واللحم، فجلسنا نأكل وإذا بالباب يطرق فنظرت من شق الباب وإذا بإنسان يسأل هذا منزل فلان؟ ففتحت الباب وخرجت، فقال أنت مسلم بن الوليد، قلت: نعم، واستشهدت له بالخياط على ذلك فأخرج لي كتابا وقال هذا من الأمير يزيد بن مزيد، فإذا فيه: قد بعثنا لك بعشرة آلاف درهم لتكون في منزلك وثلاثة آلاف درهم تتجمل بها لقدومك علينا، فأدخلته إلى داري وزدت في الطعام واشتريت فاكهة وجلسنا فأكلنا ثم وهبت لضيفي شيئا يشتري به هدية لأهله وتوجهنا إلى باب يزيد بالرقة فوجدناه في الحمام، فلما خرج استؤذن لي عليه فدخلت، فإذا هو جالس على كرسي وبيده مشط يسرح به لحيته فسلمت عليه فرد أحسن رد وقال: ما الذي أقعدك عنا؟
قلت: قلة ذات اليد وأنشدته قصيدة مدحته بها، قال:
أتدري لم أحضرتك؟ قلت: لا أدري، قال: كنت عند الرشيد منذ ليال أحادثه فقال لي يا يزيد من القائل فيك هذه الأبيات:
سلّ الخليفة سيفا من بني مضر
…
يمضي فيخترق الأجسام والهاما
كالدهر لا ينثني عمّا يهمّ به
…
قد أوسع الناس إنعاما وإرغاما
فقلت: والله لا أدري يا أمير المؤمنين، فقال سبحان الله، أيقال فيك مثل هذا ولا تدري من قاله؟ فسألت فقيل لي هو مسلم بن الوليد، فأرسلت إليك فانهض بنا إلى الرشيد فسرنا إليه واستؤذن لنا فدخلنا عليه فقبلت الأرض وسلمت فرد على السلام فأنشدته ما لي فيه من شعر، فأمر
لي بمائتي ألف درهم وأمر لي يزيد بمائة وتسعين ألف درهم وقال: ما ينبغي لي أن اساوي أمير المؤمنين في العطاء فانظر إلى هذا التيسير الجسيم بعد العسر العظيم.
وما أحسن ما قيل:
الأمن والخوف أيام مداولة
…
بين الانام وبعد الضيق تتسع
ولما وجه سليمان بن عبد الملك محمد بن يزيد إلى العراق ليطلق أهل السجون ويقسم الأموال، ضيق على يزيد بن أبي مسلم فلما ولي يزيد بن عبد الملك الخلافة ولي يزيد بن أبي مسلم أفريقية، وكان محمد بن يزيد واليا عليها فاستخفى محمد بن يزيد فطلبه يزيد بن أبي مسلم وشدّد في طلبه فأتي به إليه في شهر رمضان عند المغرب وكان في يد يزيد بن أبي مسلم عنقود عنب فقال لمحمد بن يزيد حين رآه: يا محمد بن يزيد، قال: نعم، قال: طالما سألت الله أن يمكنني منك، فقال: وأنا والله طالما سألت الله أن يجيرني منك، فقال: والله ما أجارك ولا أعانك، وإن سبقني ملك الموت إلى قبض روحك سبقته، والله لا آكل هذه الحبة العنب حتى أقتلك. ثم أمر به فكتف ووضع في النطع وقام السياف فأقيمت الصلاة، فوضع العنقود من يده وتقدم ليصلي، وكان أهل أفريقية قد أجمعوا على قتله فلما رفع رأسه ضربه رجل بعمود على رأسه فقتله، وقيل لمحمد بن يزيد: اذهب حيث شئت فسبحان من قتل الأمير وفك الأسير.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول أطلق القاتل، فارتعت لذلك ودعوت بالشموع ونظرت في أوراق السجن وإذا ورقة إنسان ادّعي عليه بالقتل وأقرّ به، فأمرت بإحضاره فلما رأيته وقد ارتاع فقلت له: إن صدقتني أطلقتك، فحدثني أنه كان هو وجماعة من أصحابه يرتكبون كل عظيمة، وأن عجوزا جاءت لهم بامرأة فلمّا صارت عندهم صاحت الله الله وغشي عليها، فلما أفاقت قالت: أنشدك الله في أمري فإن هذه العجوزة غرتني وقالت إن في هذه الدار نساء صالحات وأنا شريفة، جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمي فاطمة وأبي الحسين بن علي فاحفظوهم فيّ، فقمت دونها وناضلت عنها فاشتد عليّ واحد من الجماعة، وقال لا بد منها وقاتلني فقتلته، وخلصت الجارية من يده، فقالت:
سترك الله كما سترتني وسمع الجيران الصيحة فدخلوا علينا فوجدوا الرجل مقتولا والسكين بيدي فأمسكوني وأتوا بي إليك وهذا أمري، فقال إسحاق: قد وهبتك لله ولرسوله فقال: وحق اللذين وهبتني لهما لا أعود إلى معصية أبدا.
وأمر الحجاج بإحضار رجل من السجن فلما حضر أمر بضرب عنقه فقال: أيها الأمير أخرني إلى غد، قال وأي فرج لك في تأخير يوم واحد؟ ثم أمر برده إلى السجن فسمعه الحجاج في السجن يقول:
عسى فرج يأتي به الله إنّه
…
له كلّ يوم في خليقته أمر
فقال الحجاج: والله ما أخذه إلا من كتاب الله وهو قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
«1» وأمر بإطلاقه.
وقال بعض جلساء المعتمد، كنا بين يديه ليلة فخفق رأسه بالنعاس فقال: لا تبرحوا، حتى أغفى سويعة، فغفا ساعة ثم أفاق جزعا مرعوبا وقال: امضوا إلى السجن وائتوني بمنصور الجمال، فجاءوا به فقال له: كم لك في السجن؟ قال: سنة ونصف، قال: على ماذا؟ قال: أنا جمال من أهل الموصل وضاق عليّ الكسب ببلدي فأخذت جملي وتوجهت إلى بلد غير بلدي لأعمل عليه فوجدت جماعة من الجند قد ظفروا بقوم غير مستقيمي الحال وهم مقدار عشرة أنفس وجدوهم يقطعون الطريق فدفع واحد منهم شيئا للأعوان فأطلقوه وأمسكوني عوضه وأخذوا جملي فناشدتهم الله فأبوا وسجنت أنا والقوم، فأطلق بعضهم ومات بعضهم وبقيت أنا فدفع له المعتمد خمسمائة دينار وأجرى له ثلاثين دينارا في كل شهر وقال:
اجعلوه على جمالنا، ثم قال: أتدرون ما سبب فعلي هذا؟
قلنا: لا. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول أطلق منصورا الجمال من السجن وأحسن إليه.
وأخذ الطاعون أهل بيت فسدّ بابه، ففضل فيه طفل يرضع لم يشعر به أحد ففتح الباب بعد شهر فوجدوا الطفل قد عطف الله عليه كلبة ترضعه مع جرو لها، فسبحان القادر على كل شيء لا إله غيره ولا معبود سواه.
قال الشاعر:
إذا تضايق أمر فانتظر فرجا
…
فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج
وقال آخر:
فلا تجزعن إن أظلم الدهر مرّة
…
فإنّ اعتكار الليل يؤذن بالفجر
وقال آخر:
لعمرك ما كلّ التعاطيل ضائرا
…
ولا كلّ شغل فيه للمرء منفعه
إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى
…
عليك سواء فاغتنم لذّة الدّعه «1»
فإن ضقت فاصبر يفرج الله ما ترى
…
ألا ربّ ضيق في عواقبه سعه
وقال الرياشي: ما اعتراني هم فأنشدت قول أبي العتاهية حيث قال:
هي الأيام والغير
…
وأمر الله ينتظر
أتيأس أن ترى فرجا
…
فأين الله والقدر
إلّا سرّى عني وهبت ريح الفرج.
ويروى أن سلطان صقلية أرق ذات ليلة ومنع النوم، فأرسل إلى قاعد البحر وقال له: انفذ الآن مركبا إلى أفريقية يأتوني بأخبارها، فعمد القائد إلى مقدم مركب وأرسله فلما أصبحوا إذا بالمركب في موضعه كأنه لم يبرح، فقال الملك لقائد البحر: أليس قد فعلت ما أمرتك به؟ قال: نعم، قد امتثلت أمرك وأنفذت مركبا فرجع بعد ساعة وسيحدثك مقدم المركب، فأمر بإحضاره فجاء ومعه رجل فقال له الملك: ما منعك أن تذهب حيث أمرت؟
قال: ذهبت بالمركب فبينما أنا في جوف الليل والرجال يجدفون إذا بصوت يقول: يا الله يا الله يا غياث المستغيثين يكررها مرارا، فلما استقر صوته في أسماعنا ناديناه مرارا لبيك لبيك وهو ينادي يا ألله يا ألله يا غياث المستغيثين، فجدفنا بالمركب نحو الصوت فلقينا هذا الرجل غريقا في آخر رمق من الحياة فطلعنا به المركب وسألناه عن حاله فقال: كنا مقلعين من أفريقية فغرقت سفينتنا منذ أيام وأشرفت على الموت وما زلت أصيح حتى أتاني الغوث من ناحيتكم، فسبحان من أسهر سلطانا وأرقه في قصره لغريق في البحر حتى استخرجه من تلك الظلمات الثلاث ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الوحدة، فسبحانه لا إله غيره ولا معبود سواه.
وحكى سيدي أبو بكر الطرطوشي في كتابه سراج الملوك قال: أخبرني أبو الوليد الباجي عن أبي ذر قال:
كنت أقرأ على الشيخ أبي حفص عمر بن أحمد بن شاهين ببغداد جزأ من الحديث في حانوت رجل عطار، فبينما أنا جالس معه في الحانوت إذ جاء رجل من الطوافين ممن يبيع العطر في طبق يحمله على يده، فدفع إليه عشرة دراهم وقال له: أعطني بها أشياء سماها له من العطر فأعطاه إياها فأخذها في طبقه وأراد أن يمضي فسقط الطبق من يده فانكب جميع ما فيه فبكى الطواف وجزع حتى رحمناه فقال أبو حفص لصاحب الحانوت: لعلك تعينه على بعض هذه الأشياء، فقال سمعا وطاعة، فنزل وجمع له ما قدر على جمعه منها ودفع له ما عدم منها، وأقبل الشيخ على الطواف يصبره ويقول له لا تجزع فأمر الدنيا أيسر من ذلك فقال الطواف: أيها الشيخ ليس جزعي لضياع ما ضاع لقد علم الله تعالى أني كنت في القافلة الفلانية فضاع لي هميان «2» فيه أربعة آلاف دينار ومعها فصوص قيمتها كذلك فما جزعت لضياعها حيث كان لي غيرها من المال، ولكن ولد لي ولد في هذه الليلة فاحتجنا لأمه ما تحتاج النفساء ولم يكن عندي غير هذه العشرة دراهم فخشيت أن أشتري بها حاجة النفساء فأبقى بلا رأس مال، وأنا قد صرت شيخا كبيرا لا أقدر على التكسب، فقلت في نفسي أشتري بها شيئا من العطر فأطوف به صدر النهار فعسى أستفضل شيئا أسد به رمق أهلي ويبقى رأس المال أتكسب به، واشتريت هذا العطر فحين انكب الطبق علمت أنه لم يبق لي إلا الفرار منهم، فهذا الذي أوجب جزعي. قال أبو حفص وكان رجل الجند جالسا إلى جانبي يستوعب الحديث فقال للشيخ أبي حفص:
يا سيدي أريد أن تأتي بهذا الرجل إلى منزلي، فظننا أن يعطيه شيئا، قال: فدخلنا إلى منزله فأقبل على الطواف وقال له: عجبت من جزعك، فأعاد عليه القصة فقال له الجندي: وكنت في تلك القافلة؟ قال: نعم وكان فيها فلان وفلان فعلم الجندي صحة قوله فقال: وما علامة الهميان وفي أي موضع سقط منك؟ فوصف له المكان والعلامة، قال الجندي إذا رأيته تعرفه، قال: نعم. فأخرج الجندي له هميانا ووضعه بين يديه فحين رآه صاح وقال:
هذا همياني والله وعلامة صحة قولي أن فيه من الفصوص ما هو كيت وكيت ففتح الهميان فوجده كما ذكر، فقال الجندي خذ مالك بارك الله لك فيه. فقال الطواف إن هذه الفصوص قيمتها مثل الدنانير وأكثر فخذها وأنت في حل
منها ونفسي طيبة بذلك، فقال الجندي ما كنت لآخذ على أمانتي مالا، وأبى أن يأخذ شيئا ثم دفعها للطواف جميعها فأخذها ومضى ودخل الطواف وهو من الفقراء وخرج وهو من الأغنياء، اللهم أغن فقرنا ويسر أمرنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وحكي: أن الملك ناصر الدولة من آل حمدان كان يشكو وجع القولنج حتى أعيا الأطباء دواؤه لم يجدوا له شفاء، فدسوا على قتله وأرصدوا له رجلا ومعه خنجر فلما كان في بعض دهاليز القصر وثب عليه ذلك الرجل وضربه بالخنجر فجاءت الضربة أسفل خاصرته فلم تخط المعى الذي فيه القولنج فخرج ما فيه من الخلط فعافاه الله تعالى وبرىء أحسن ما كان. وبضد هذا ما حكاه أبو بكر الطرطوشي قال: حدثنا القاضي أبو مروان الداراني بطرطوشة قال: نزلت قافلة بقرية خربة من أعمال دانية فأووا إلى دار خربة هناك فاستكنوا فيها من الرياح والأمطار واستوقدوا نارهم وسووا معيشتهم، وكان في تلك الخربة حائط مائل قد أشرف على الوقوع، فقال رجل منهم: يا هؤلاء لا تقعدوا تحت هذا الحائط ولا يدخلن أحد في هذه البقعة فأبوا إلا دخولها فاعتزلهم ذلك الرجل وبات خارجا عنهم ولم يقرب ذلك المكان، فأصبحوا في عافية وحملوا على دوابهم، فبينما هم كذلك إذ دخل ذلك الرجل إلى الدار ليقضي حاجته فخر عليه الحائط فمات لوقته. قال وأخبرني أبو القاسم بن حبيش بالموصل قال:
لقد جرت في هذه الدار وأشار إلى دار هناك، قضية عجيبة، قلت: وما هي؟ قال: كان يسكن هذه الدار رجل من التجار ممن يسافر إلى الكوفة في تجارة الخز، فاتفق أنه جعل جميع ما معه من الخز في خرج وحمله على حماره وسار مع القافلة، فلما نزلت القافلة أراد انزال الخرج عن الحمار فثقل عليه فأمر انسانا هناك فأعانه على إنزاله، ثم جلس يأكل فاستدعى ذلك الرجل ليأكل معه فسأله عن أمره فأخبره أنه من أهل الكوفة وأنه خرج لحاجة عرضت له بغير نفقة ولا زاد، فقال له الرجل: كن رفيقي آنس بك وتعينني على سفري ونفقتك ومؤنتك عليّ، فقال له الرجل: وأنا أيضا أختار صحبتك وأرغب في مرافقتك، فسار معه في سفره وخدمه أحسن خدمة إلى أن وصلا إلى تكريت، فنزل الرفقة خارج المدينة ودخل الناس إلى قضاء حوائجهم، فقال التاجر لذلك الرجل: احفظ حوائجنا حتى أدخل المدينة وأشتري ما نحتاج إليه، ثم دخل المدينة وقضى جميع حوائجه ورجع فلم يجد القافلة ولا صاحبه، ورحلت الرفقة ولم ير أحدا فظن أنه لما رحلت الرفقة رحل ذلك الخادم معهم فلم يزل يسير ويجد في السير في المشي إلى أن أدرك القافلة بعد جهد عظيم وتعب شديد، فسألهم عن صاحبه فقالوا ما رأيناه ولا جاء معنا ولكنه ارتحل على أثرك فظننا أنك أمرته، فكرّ الرجل راجعا إلى تكريت وسأل عن الرجل فلم يجد له أثرا ولا سمع له خبرا، فيئس منه ورجع إلى الموصل مسلوب المال فوصلها نهارا فقيرا جائعا عريانا مجهودا فاستحى أن يدخلها نهارا فتشمت به الأعداء، نعوذ بالله من شماتتهم، وخشي أن يحزن الصديق إذا رآه على تلك الحالة، فاستخفى إلى الليل ثم عاد إلى داره فطرق الباب فقيل له:
من هذا؟ قال: فلان، يعني نفسه، فأظهروا له سرورا عظيما وحاجة إليه وقالوا: الحمد لله الذي جاء بك في هذا الوقت على ما نحن فيه من الضرورة والحاجة، فإنك أخذت مالك معك وما تركت لنا نفقة كافية، وأطلت سفرك واحتجنا وقد وضعت زوجتك اليوم والله ما وجدنا ما نشتري به شيئا للنفساء، فأتنا بدقيق ودهن نسرج به علينا فلا سراج عندنا، فلما سمع ذلك ازداد غما على غمه وكره أن يخبرهم بحاله فيحزنهم بذلك فأخذ وعاء للدهن ووعاء للدقيق وخرج إلى حانوت أمام داره وكان فيه رجل يبيع الدقيق والزيت والعسل ونحو ذلك، وكان البياع أطفأ سراجه وأغلق حانوته ونام، فناداه فعرفه فأجابه، وشكر الله على سلامته، فقال له: افتح حانوتك واعطنا ما نحتاج إليه من دقيق وعسل ودهن، فنزل البياع إلى حانوته وأوقد المصباح ووقف يزن له ما طلب، فبينما هو كذلك إذ حانت من التاجر التفاتة إلى قعر الحانوت فرأى خرجه الذي هرب به صاحبه فلم يملك نفسه أن وثب إليه والتزمه، وقال يا عدو الله ائتني بمالي، فقال له البياع: ما هذا يا فلان؟ والله ما علمتك متعديا وأنا أبدا ما جنيت عليك ولا على غيرك فما هذا الكلام، قال: هذا خرجي هرب به خادم كان يخدمني وأخذ حماري وجميع مالي، فقال البياع: والله ما لي علم غير أن رجلا ورد علي بعد العشاء واشترى مني عشاءه وأعطاني هذا الخرج فجعلته في حانوتي وديعة إلى حين يصبح، والحمار في دار جارنا والرجل في المسجد نائم، قال له: أحمل معي الخرج وامض بنا إلى الرجل فرفع الخرج على عاتقه ومضى معه إلى المسجد فإذا الرجل نائم في المسجد فوكزه برجله فقام الرجل مرعوبا، فقال مالك؛ قال: أين مالي يا خائن؟
قال: ها هو في خرجك فوالله ما أخذت منه ذرة، قال: