الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا عمير، فقال: أخذت الإبل من أهل الإبل، والجزية من أهل الذمة عن يد وهم صاغرون ثم قسمتها بين الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، فو الله يا أمير المؤمنين لو بقي عندي منها شيء لأتيتك به.
فقال عمر: عد إلى عملك يا عمير، قال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تردني إلى أهلي، فأذن له فأتى أهله، فبعث عمر رجلا يقال له حبيب بمائة دينار وقال له: اختبر لي عميرا وأنزل عليه ثلاثة أيام حتى ترى حاله هل هو في سعة أم ضيق، فإن كان في ضيق فادفع إليه المائة دينار، فأتاه حبيب، فنزل به ثلاثا، فلم ير له عيشا إلا الشعير والزيت، فلما مضت ثلاثة أيام قال: يا حبيب، إن رأيت أن تتحول إلى جيراننا فلعلهم أن يكونوا أوسع عيشا منا، فإننا والله وتالله لو كان عندنا غير هذا لآثرناك به.
قال: فدفع إليه المائة دينار، وقال: قد بعث بها أمير المؤمنين إليك، فدعا بفرو خلق لامرأته، فجعل يصر منها الخمسة دنانير والستة والسبعة، ويبعث بها إلى إخوانه من الفقراء إلى أن أنفذها، فقدم حبيب على عمر، وقال:
جئتك يا أمير المؤمنين من عند أزهد الناس وما عنده من الدنيا قليل ولا كثير، فأمر له عمر بوسقين «1» من طعام وثوبين، فقال يا أمير المؤمنين أما الثوبان فأقبلهما، وأما الوسقان فلا حاجة لي بهما عند أهلي صاع من بر هو كافيهم حتى أرجع إليهم.
وروي أن عمر رضي الله عنه صرّ أربعمائة دينار وقال للغلام: إذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تربص عنده في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع بها، فذهب بها الغلام إليه، وقال له: يقول لك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اجعل هذه في بعض حوائجك قال: وصله الله ورحمه، ثم دعا بجاريته وقال لها: اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها، فرجع الغلام إلى عمر وأخبره فوجده قد عد مثلها لمعاذ بن جبل، فقال له: انطلق بها إلى معاذ بن جبل، وانظر ما يكون من أمره، فمضى إليه وقال له كما قال لأبي عبيدة بن الجراح ففعل معاذ كما فعل أبو عبيدة، فرجع الغلام فأخبر عمر، فقال:
إنهم إخوة، بعضهم من بعض رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
الفصل الثاني في أحكام أهل الذمة
روي عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبنا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى أهل الشام.
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من نصارى مدينة كذا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدائننا ولا فيما حواليها كنيسة ولا ديرا ولا قلية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا ما كان مختطا منها في خطط المسلمين في ليل ولا في نهار، وإن نوسع أبوابها للمار وابن السبيل وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم، ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوسا ولا نكتمه عن المسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شرعنا ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع أحدا من ذوي قراباتنا الدخول في دين الإسلام إن أراده، وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس وأن لا نتشبه بالمسلمين في شيء من ملابسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم ولا نركب في السروج ولا نتقلد بالسيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش على خواتمنا بالعربية ولا نبيع الخمر وأن تجز مقادم رؤوسنا ونلزم زيّنا حيثما كنا، وأن نشد الزنار على أوساطنا ولا نظهر صلباننا ولا كتبنا في شيء من أسواق المسلمين وطرقهم، ولا نضرب بالنواقيس في كنائسنا إلا ضربا خفيفا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، ولا نتطلع على منازلهم، وقد شرطنا ذلك على أنفسنا وعلى أهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم، وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل بنا ما يحل بأهل المعاندة والشقاق.
فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن امض ما سألوه والحق فيه حرفين واشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم، أن لا يشتروا شيئا من سبايا المسلمين ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده.
وروي أن بني ثعلبة دخلوا على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقالوا يا أمير المؤمنين إنا قوم من العرب افرض لنا.
قال: نصارى؟
قالوا: نصارى.
قال: ادعوا إلي حجاما، ففعلوا فجز نواصيهم وشق من أرديتهم حزما يحتزمون بها، وأمرهم أن لا يركبوا بالسروج وأن يركبوا على الأكف من شق واحد.
وروي أن أمير المؤمنين الخليفة جعفرا المتوكل أقصى اليهود والنصارى ولم يستعملهم وأذلهم وأبعدهم وخالف بين زيهم وزي المسلمين وقرب منه أهل الحق وأبعد عنه أهل الباطل، فأحيا الله به الحق وأمات به الباطل، فهو يذكر بذلك، ويترحم عليه ما دامت الدنيا.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:
لا تستعملوا اليهود والنصارى، فإنهم أهل رشا في دينهم ولا يحل في دين الله الرشا.
ولما استقدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري رضي الله عنه من البصرة وكان عاملا بها للحساب، دخل على عمر وهو في المسجد فاستأذن لكاتبه وكان نصرانيا، فقال له عمر: قاتلك الله وضرب بيده على فخذه، ولّيت ذميا على المسلمين، أما سمعت الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
«1» . الآية. هلا اتّخذت حنيفيا؟ فقال:
يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه، فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزّهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله.
وكتب بعض العمال إلى عمر رضي الله عنه: إن العدو قد كثر وإن الجزية قد كثرت، أفنستعين بالأعاجم؟ فكتب إليه: إنهم أعداء الله وإنهم لنا غششة فأنزلوهم حيث أنزلهم الله.
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر لحقه رجل من المشركين عند الحرة فقال: إني أريد أن أتبعك وأصيب معك. قال: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع، فلن نستعين بمشرك، ثم لحقه عند الشجرة فقال: جئتك لأتبعك وأصيب معك. قال: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال:
لا. قال: فارجع، فلن أستعين بمشرك، ثم لحقه عند ظهر البيداء، فقال له مثل ذلك، فأجابه بمثل الأول، فقال:
نعم. فخرج به وفرح به المسلمون، وكان له قوة وجلد.
وهذا أصل عظيم في أن لا يستعان بكافر، وهذا وقد خرج ليقاتل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويراق دمه، فكيف استعمالهم على رقاب المسلمين.
وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه إلى عماله أن لا تولوا على أعمالنا إلا أهل القرآن، فكتبوا إليه إنا قد وجدنا فيهم خيانة، فكتب إليهم إن لم يكن في أهل القرآن خير، فأجدر أن لا يكون في غيرهم.
قال أصحاب الشافعي: ويلزمهم أن يتميزوا في اللباس عن المسلمين، وأن يلبسوا قلانس يميزونها عن قلانس المسلمين بالحمرة، ويشد الزنانير على أوساطهم ويكون في رقابهم خاتم من نحاس أو رصاص أو جرس يدخلون به الحمام، وليس لهم أن يلبسوا العمائم ولا الطيلسانات، وأما المرأة فإنها تشد الزنار تحت الإزار، وقيل فوق الإزار وهو الأولى، ويكون في عنقها خاتم تدخل به الحمام، ويكون أحد خفيها أسود والآخر أبيض، ولا يركبون الخيل ولا البغال، ولا الحمير بالأكف عرضا ولا يركبون بالسروج، ولا يتصدرون في المجالس ولا يبدأون بالسلام، ويلجأون إلى أضيق الطرق ويمنعون أن يتطاولوا على المسلمين في البناء، وتجوز المساواة، وقيل:
لا تجوز. وإن تملكوا دارا عالية أقرّوا عليها، ويمنعون من إظهار المنكر كالخمر والخنزير والناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل، ويمنعون من المقام في أرض الحجاز وهي مكة والمدينة واليمامة وإن امتنعوا من أداء الجزية والتزام أحكام أهل الملة انتقض عهدهم، وإن زنى أحد منهم بمسلمة أو أصابها بنكاح أو آوى عينا «2» للكفار أو دل على عورة المسلمين «3» أو فتن مسلما عن دينه أو قتله أو قطع عليه الطريق تنتقض ذمته.
وفي تقدير الجزية اختلاف بين العلماء، فمنهم من قال إنها مقارة الأقل والأكثر على ما كتب به عمر رضي الله عنه إلى عثمان بن حنيف بالكوفة، فوضع على الغني ثمانية وأربعين درهما وعلى من دونه أربعة وعشرين درهما، وعلى من دونه اثني عشر درهما، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولم يخالفه أحد وكان الصرف اثنا عشر بدينار، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل، وأحد قولي الشافعي، ويجوز للإمام أن يزيد على ما قدره عمر، ولا يجوز أن ينقص عنه ولا جزية على النساء والمماليك والصبيان والمجانين.
وأما الكنائس، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن
تهدم كل كنيسة بعد الإسلام، ومنع أن تجدد كنيسة، وأمر أن لا تظهر عليه خارجة من كنيسة ولا يظهر صليب خارج من كنيسة إلّا كسر على رأس صاحبه، وكان عروة بن محمد يهدمها بصنعاء وهذا مذهب علماء المسلمين أجمعين.
وشدد في ذلك عمر بن عبد العزيز وأمر أن لا يترك في دار الإسلام بيعة «1» ولا كنيسة بحال قديمة ولا حديثة.
والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثاني والعشرون في اصطناع المعروف وإغاثة الملهوف وقضاء حوائج المسلمين وإدخال السرور عليهم
قال الله تعالى: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ
«2» . وقال تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى
«3» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مشى في عون أخيه ومنفعته، فله ثواب المجاهدين في سبيل الله، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الخلق كلهم عيال الله، فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله» ، رواه الزار والطبراني في معجمه، ومعنى عيال الله فقراء الله تعالى، والخلق كلهم فقراء الله تعالى، وهو يعولهم.
وروينا في مسند الشهاب عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«خير الناس أنفعهم للناس» .
وعن كثير بن عبيد بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن لله خلقا خلقهم لقضاء حوائج الناس، آلى على نفسه أن لا يعذبهم بالنار، فإذا كان يوم القيامة وضعت لهم منابر من نور يحدثون الله تعالى والناس في الحساب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سعى لأخيه المسلم في حاجة، فقضيت له أو لم تقض غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكتب له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق.
وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قضى لأخيه المسلم حاجة كنت واقفا عند ميزانه، فإن رجح وإلا شفعت له» . رواه أبو نعيم في الحلية.
وروينا في مكارم الأخلاق لأبي بكر الخرائطي، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من مشى في حاجة أخيه المسلم كتب الله له بكل خطوة سبعين حسنة وكفّر عنه سبعين سيئة، فإن قضيت حاجته على يديه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فإن مات في خلال ذلك دخل الجنة بغير حساب» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مشى مع أخيه في حاجة فناصحه فيها جعل الله بينه وبين الناس سبع خنادق ما بين الخندق والخندق كما بين السماء والأرض» . رواه أبو نعيم وابن أبي الدنيا.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله عند أقوام نعما يقرّها عندهم ما داموا في حوائج الناس ما لم يملوا فإذا ملوا نقلها الله إلى غيرهم» رواه الطبراني.
وروينا من طريق الطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد أنعم الله عليه نعمة، فأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه، فتبرّم، فقد عرض تلك النعمة للزوال» . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من أغاث ملهوفا كتب الله له ثلاثا وسبعين حسنة: واحدة منها يصلح بها آخرته ودنياه والباقي في الدرجات» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما يقول الأسد في زئيره؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: يقول: اللهم لا تسلطني على أحد من أهل المعروف» . رواه أبو منصور الديلمي، في مسند الفردوس. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: أنفع الناس للناس، قيل: يا رسول الله، فأي الأعمال أفضل؟ قال:
إدخال السرور على المؤمن، قيل: وما سرور المؤمن؟
قال: إشباع جوعته وتنفيس كربته، وقضاء دينه، ومن
مشى مع أخيه في حاجة كان كصيام شهر واعتكافه، ومن مشى مع مظلوم يعينه ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، ومن كف غضبه ستر الله عورته، وإن الخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لقي أخاه المسلم بما يحب ليسره بذلك سره الله يوم القيامة، رواه الطبراني في الصغير بإسناد حسن، وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدخل على أهل بيت من المسلمين سرورا لم يرض الله له سرورا دون الجنة» ، رواه الطبراني. وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أدخل رجل على المؤمن سرورا إلا خلق الله من ذلك السرور ملكا يعبد الله تعالى ويوحده، فإذا صار العبد في قبره أتاه ذلك السرور، فيقول له: أما تعرفني، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا السرور الذي أدخلتني على فلان. أنا اليوم أؤانس وحشتك وألقنك حجتك وأثبتك بالقول الثابت، وأشهد مشاهدك يوم القيامة وأشفع لك إلى ربك وأريك منزلك في الجنة» ، رواه ابن أبي الدنيا.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يرفعه: «إذا أراد أحدكم الحاجة فليبكر لها يوم الخميس وليقرأ إذا خرج من منزله آخر سورة آل عمران، وآية الكرسي، وإِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 1
«1» ، وأم الكتاب «2» ، فإن فيها حوائج الدنيا والآخرة، وهو حديث مرفوع» .
ومن كلام الحكماء: إذا سألت كريما حاجة، فدعه يفكر فإنه لا يفكر إلا في خير وإذا سألت لئيما حاجة فعاجله، لئلا يشير عليه طبعه أن لا يفعل. وسأل رجل رجلا حاجة، ثم توانى عن طلبها، فقال له المسؤول:
أنمت عن حاجتك؟ فقال: ما نام عن حاجته من أسهرك لها، ولا عدل بها عن محجة النجح من قصدك بها، فعجب من فصاحته وقضى حاجته وأمر له بمال جزيل.
وقال مسلمة لنصيب: سلني، فقال: كفك بالعطية أبسط من لساني بالمسألة، فأمر له بألف دينار. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها، وعنه أيضا قال: لا تكثر على أخيك بالحوائج فإن العجل إذا أفرط في مص ثدي أمه نطحته.
وقال ذو الرياستين لثمامة بن أشرس: ما أدري ما أصنع بكثرة الطلاب؟ فقال: زل عن موضعك وعليّ أن لا يلقاك منهم أحد، فقال له: صدقت، وجلس لهم في قضاء حوائجهم.
وحدّث أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي قال:
عرضت على أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات رقعة في حاجة لي، فقرأها ووضعها من يده، ولم يوقع فيها بشيء، فأخذتها وقمت وأنا أقول متمثلا من حيث يسمع هذين البيتين:
وإذا خطبت إلى كريم حاجة
…
وأبى فلا تقعد عليه بحاجب
فلربّما منع الكريم وما به
…
بخل ولكن سوء حظّ الطالب
فقال: وقد سمع ما قلت، ارجع يا أبا جعفر، بغير سوء حظ الطالب ولكن إذا سألتمونا الحاجة، فعاودونا، فإن القلوب بيد الله تعالى، فأخذ الرقعة ووقع فيها بما أردت.
وسأل إسحاق بن ربعي، إسحاق بن إبراهيم المصعبي أن يوصل له رقعة إلى المأمون، فقال لكاتبه: ضمها إلى رقعة فلان، فقال:
تأنّ لحاجتي واشدد عراها
…
فقد أضحت بمنزلة الضياع
إذا شاركتها بلبان أخرى
…
أضرّ بها مشاركة الرّضاع
وقال أبو دقاقة البصري:
أضحت حوائجنا إليك مناخة
…
معقولة برحابك الوصّال «3»
أطلق فديتك بالنجاح عقالها
…
حتى تثور معا بغير عقال
وقال سلم الخاسر:
إذا أذن الله في حاجة
…
أتاك النجاح على رسله
فلا تسأل الناس من فضلهم
…
ولكن سل الله من فضله
ولله در القائل حيث قال:
أيّها المادح العباد ليعطى
…
إن لله ما بأيدي العباد
فاسأل الله ما طلبت إليهم
…
وارج فرض المقسّم الجوّاد
وعن عبد الله بن الحسن بن الحسين رضي الله تعالى عنهم قال: أتيت باب عمر بن عبد العزيز في حاجة، فقال: إذا كانت لك حاجة إليّ، فأرسل إليّ رسولا أو أكتب لي كتابا، فإني لأستحي من الله أن يراك ببابي.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: والذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلبا سرورا إلا خلق الله تعالى من ذلك السرور لطفا، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الإبل، وقال لجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: يا جابر من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإن قام بما يجب لله فيها عرّضها للدوام والبقاء، وإن لم يقم فيها بما يجب لله عرّضها للزوال.
نعوذ بالله من زوال النعمة ونسأل التوفيق والعصمة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
الباب الثالث والعشرون في محاسن الأخلاق ومساويها
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ 4
«1» .
فخص الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من كريم الطباع ومحاسن الأخلاق، من الحياء والكرم والصفح وحسن العهد بما لم يؤته غيره، ثم ما أثنى الله تعالى عليه بشيء من فضائله بمثل ما أثنى عليه بحسن الخلق، فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ 4
«2» .
قال عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه ويرضى لرضاه، وكان الحسن رضي الله عنه إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أكرم ولد آدم على الله عز وجل وأعظم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منزلة عند الله، أتي بمفاتيح الدنيا فاختار ما عند الله تعالى، وكان يأكل على الأرض ويجلس على الأرض ويقول:«إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» ، ولا يأكل متكئا ولا على خوان، وكان يأكل خبز الشعير غير منخول، وكان يأكل القثاء بالرطب ويقول:«برد هذا يطفىء حر هذا» ، وكان أحب الطعام إليه اللحم، ويقول:
«هذا يزيد في السمع، ولو سألت ربي أن يطعمنيه كل يوم لفعل» ، وكان يحب الدباء، ويقول:«يا عائشة إذا طبختم قدرا، فأكثروا فيه من الدباء، فإنها تشد قلب الحزين» ، وكان يقول:«إذا طبختم الدباء فأكثروا من مرقها» ، وكان يكتحل بالإثمد «3» ولا يفارقه في سفره قارورة الدهن والكحل والمرآة والمشط والإبرة يخيط ثوبه بيده، وكان يضحك من غير قهقهة ويرى اللعب المباح ولا ينكره، وكان يسابق أهله؛ قالت عائشة رضي الله عنها سابقته، فسبقته، فلما كثر لحمي سابقته فسبقني فضرب بكتفي وقال:«هذه بتلك» ، وكان له عبيد وإماء لا يرتفع على أحد منهم في مأكل ولا مشرب ولا ملبس وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، نشأ في بلاد الجهل والصحارى يتيما لا أب له ولا أم، فعلمه الله تعالى جميع محاسن الأخلاق، وكان أفصح الناس منطقا وأحلاهم كلاما، وكان يقول:«أنا أفصح العرب» .
وقال أنس رضي الله عنه: والذي بعثه بالحق نبيا ما قال لي في شيء قط كرهه لم فعلته ولا في شيء لم أفعله لم لا فعلته ولا لامني أحد من أهله إلا قال دعوه إنما كان هذا بقضاء وقدر.
وقال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى: لا مانع من أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا هضم نفسه وتواضع لا يمنع من المرتبة التي هي أعلى مرتبة من العبودية فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الله تعالى مرتبة الملك مع كونه عبدا له متواضعا، فحاز المرتبتين مرتبة العبودة ومرتبة الملكية، ومع ذلك كان يلبس المرقع والصوف ويرقع ثوبه ويخصف نعله ويركب الحمار بلا إكاف ويردف خلفه، ويأكل الخشن من الطعام وما شبع قط من خبز بر ثلاثة أيام متوالية حتى لقي الله تعالى. من دعاه لبّاه «4» ومن صافحه لم يرفع يده حتى يكون هو الذي يرفعها، يعود المريض «5» ويتبع الجنائز ويجالس الفقراء،
أعظم الناس من الله مخافة وأتعبهم لله عز وجل بدنا، وأجدّهم في أمر الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما والله ما كان تغلق من دونه الأبواب ولا كان دونه حجاب صلى الله عليه وسلم.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة قط ولا خادما له، ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون إثما أو قطيعة رحم فيكون أبعد الناس منه.
وقال إبراهيم بن عباس: لو وزنت كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاسن الناس لرجحت، وهي قوله عليه الصلاة والسلام:«إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم» ، وفي رواية أخرى فسعوهم ببسط الوجه والخلق الحسن.
وعنه صلى الله عليه وسلم: «حسن الخلق زمام من رحمة الله تعالى في أنف صاحبه، والزمام بيد الملك، والملك يجره إلى الخير والخير يجره إلى الجنة، وسوء الخلق زمام من عذاب الله تعالى في أنف صاحبه، والزمام بيد الشيطان، والشيطان يجره إلى الشر، والشر يجره إلى النار.
وقال بعض السلف: الحسن الخلق ذو قرابة عند الأجانب والسيء الخلق أجنبي عند أهله.
وقال الفضيل: لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إليّ من أن يصحبني عابد سيء الخلق، لأن الفاجر إذا حسن خلقه خف على الناس وأحبوه، والعابد إذا ساء خلقه مقتوه.
(بيت منفرد) :
إذا رام التخلّق جاذبته
…
خلائقه إلى الطبع القديم «1»
قيل: أبى الله لسيء الخلق التوبة لأنه لا يخرج من ذنب إلا دخل في ذنب آخر لسوء خلقه.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل ما بال فلان، ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون، حتى لا يفضح أحدا، وعنه صلى الله عليه وسلم:«ما شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق» ، وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم قال:
«ثلاث من كن فيه كن له، من صدق لسانه زكا عمله، ومن حسنت نيّته زيد في رزقه، ومن حسن برّه لأهل بيته زيد له في عمره، ثم قال: وحسن الخلق وكف الأذى يزيدان في الرزق.
وقيل: سوء الخلق يعدي لأنه يدعو إلى أن يقابل بمثله.
وكتب الحسن بن علي إلى أخيه الحسين رضي الله عنهم في إعطائه الشعراء، فكتب إليه الحسين: أنت أعلم مني بأن خير المال ما وقي به العرض. فانظر إلى شرف أدبه، وحسن خلقه كيف ابتدأ كتابه بأنت أعلم مني، وكان بينه وبين أخيه كلام، فقيل له: ادخل على أخيك، فهو أكبر منك، فقال: إني سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما اثنين جرى بينهما كلام، فطلب أحدهما رضا الآخر كان سابقه إلى الجنة وأنا أكره أن أسبق أخي الأكبر إلى الجنة، فبلغ ذلك الحسن، فجاءه عاجلا رضي الله عنهما، وأنشد في المعنى:
وإنّي لألقى المرء أعلم أنّه
…
عدوّ وفي أحشائه الضّغن كامن
فأمنحه بشرا فيرجع قلبه
…
سليما وقد ماتت لديه الضغائن
وسرق بعض حاشية جعفر بن سليمان جوهرة نفيسة وباعها بمال جزيل، فأنفذ إلى الجوهريين بصفتها، فقالوا باعها فلان من مدة، ثم إن ذلك الرجل الذي سرقها قبض عليه وأحضر بين يدي جعفر، فلما رأى ما ظهر عليه قال له: أراك قد تغير لونك ألست يوم كذا طلبت مني هذه الجوهرة فوهبتها لك، وأقسم بالله لقد أنسيت هذا، ثم أمر للجوهري بثمنها، وقال للرجل: خذها الآن حلالا طيبا وبعها بالثمن الذي يطيب خاطرك به، لا تبع بيع خائف.
ودخل محمد بن عباد على المأمون، فجعل يعممه بيده وجارية على رأسه تتبسم، فقال لها المأمون: ممّ تضحكين؟ فقال ابن عباد: أنا أخبرك يا أمير المؤمنين تتعجب من قبحي وإكرامك إياي، فقال: لا تعجبي فإن تحت هذه العمامة كرما ومجدا.
قال الشاعر:
وهل ينفع الفتيان حسن وجوههم
…
إذا كانت الأعراض غير حسان
فلا تجعل الحسن الدليل على الفتى
…
فما كلّ مصقول الحديد يماني «2»
وحكي أن بهرام الملك خرج يوما للصيد فانفرد عن أصحابه، فرأى صيدا، فتبعه طامعا في لحاقه حتى بعد عن عسكره، فنظر إلى راع تحت شجرة، فنزل عن فرسه ليبول، وقال للراعي: احفظ علي فرسي حتى أبول، فعمد الراعي إلى العنان وكان ملبسا ذهبا كثيرا، فاستغفل بهرام وأخرج سكينا، فقطع أطراف اللجام وأخذ الذهب الذي عليه، فرفع بهرام نظره إليه، فرآه فغضّ بصره «1» وأطرق برأسه إلى الأرض وأطال الجلوس حتى أخذ الرجل حاجته، ثم قام بهرام، فوضع يده على عينيه، وقال للراعي قدم إليّ فرسي، فإنه قد دخل في عيني من مسافي «2» الريح، فلا أقدر على فتحهما، فقدمه إليه، فركب وسار إلى أن وصل إلى عسكره، فقال لصاحب مراكبه: إن أطراف اللجام قد وهبتها، فلا تتهمن بها أحدا.
وذكر أن أنو شروان وضع الموائد للناس في يوم نوروز «3» وجلس، ودخل وجوه أهل مملكته في الإيوان، فلما فرغوا من الطعام جاءوا بالشراب وأحضرت الفواكه والمشموم «4» في آنية الذهب والفضة، فلما رفعت آنية المجلس أخذ بعض من حضر جام ذهب وزنه ألف مثقال «5» وخبأه تحت ثيابه وأنوشروان يراه، فلما فقده الشرابي صاح بصوت عال: لا يخرجن أحد حتى يفتش، فقال كسرى: ولم؟ فأخبره بالقضية، فقال: قد أخذه من لا يرده ورآه من لا ينم عليه «6» ، فلا تفتش أحدا فأخذ الرجل الجام ومضى فكسره، وصاغ منه منطقة وحلية لسيفه وجدد له كسوة جميلة.
فلما كان في مثل ذلك اليوم «7» جلس الملك ودخل ذلك الرجل بتلك الحلية، فدعاه كسرى، وقال له: هذا من ذاك؟ فقبّل الأرض، وقال: نعم، أصلحك الله.
وقال عبد الله بن طاهر: كنا عند المأمون يوما، فنادى بالخادم: يا غلام، فلم يجبه أحد، ثم نادى ثانيا، وصاح يا غلام، فدخل غلام تركي وهو يقول: ما ينبغي للغلام أن يأكل ويشرب كلما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام إلى كم يا غلام، فنكس المأمون رأسه طويلا، فما شككت أنه يأمرني بضرب عنقه، ثم نظر إليّ فقال:
يا عبد الله إن الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه، وإذا ساءت أخلاقه حسن أخلاق خدمه، وإنا لا نستطيع أن نسيء أخلاقنا لنحسن أخلاق خدمنا.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ورد علينا الوليد بن عتبة بن أبي سفيان المدينة واليا، وكأن وجهه ورقة من ورق المصحف، فوالله ما ترك فينا فقيرا إلا أغناه، ولا مديونا إلا أدى عنه دينه، وكان ينظر إلينا بعين أرق من الماء، ويكلمنا بكلام أحلى من الجنيّ «8» ولقد شهدت منه مشهدا لو كان من معاوية لذكرته، تغدينا يوما عنده، فأقبل الفراش بصحفة، فعثر في وسادة، فوقعت الصحفة من يده، فوالله ما ردها إلا ذقن الوليد، وانكب جميع ما فيها في حجره فبقي الغلام متمثلا واقفا ما معه من روحه إلا ما يقيم رجليه، فقام الوليد فدخل، فغيّر ثيابه، وأقبل علينا تبرق أسارير جبهته، فأقبل على الفراش وقال يا بائس ما أرانا إلا روّعناك، إذهب، فأنت وأولادك أحرار لوجه الله تعالى.
ومرض أحمد بن أبي دؤاد، فعاده المعتصم، وقال:
نذرت إن عافاك الله تعالى أن أتصدق بعشرة آلاف دينار، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، فاجعلها في أهل الحرمين، فقد لقوا من غلاء الأسعار شدة، فقال: نويت أن أتصدق بها على من ههنا، وأطلق لأهل الحرمين مثلها، فقال أحمد: متّع الله الإسلام وأهله بك يا أمير المؤمنين، فإنك كما قال النميري لأبيك الرشيد رحمة الله تعالى عليه:
إن المكارم والمعروف أودية
…
أحلّك الله منها حيث تجتمع
من لم يكن بأمين الله معتصما
…
فليس بالصلوات الخمس ينتفع
وقيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت حسن الخلق؟
فقال: من قيس بن عاصم، بينما هو ذات يوم جالس في داره إذ جاءته خادم له بسفود عليه شواء حار، فنزعت السفود من اللحم وألقته خلف ظهرها فوقع على ابن له، فقتله لوقته، فدهشت الجارية «9» ، فقال: لا روع عليك أنت حرة لوجه الله تعالى.
وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا رأى أحدا من عبيده يحسن صلاته يعتقه، فعرفوا ذلك من خلقه، فكانوا يحسنون الصلاة مراءاة له، فكان يعتقهم، فقيل له في ذلك، فقال: من خدعنا في الله انخدعنا له.
وروي أن أبا عثمان الزاهد اجتاز ببعض الشوارع في وقت الهاجرة، فألقي عليه من فوق سطح طست رماد، فتغير أصحابه، وبسطوا ألسنتهم في الملقي للرماد، فقال أبو عثمان: لا تقولوا شيئا، فإن من استحق أن يصب عليه النار، فصولح بالرماد لم يجز له أن يغضب.
وقيل لإبراهيم بن أدهم «1» تغمده الله تعالى برحمته: هل فرحت في الدنيا قط؟ فقال: نعم مرتين إحداهما أني كنت قاعدا ذات يوم، فجاء إنسان فبال عليّ، والثانية كنت جالسا فجاء إنسان فصفعني.
وروي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه دعا غلاما له، فلم يجبه، فدعاه ثانيا وثالثا فرآه مضطجعا، فقال: أما تسمع يا غلام؟ قال: نعم. قال: فما حملك على ترك جوابي؟ قال: أمنت عقوبتك، فتكاسلت، فقال: اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى.
وحكي أن أبا عثمان الحيري دعاه إنسان إلى ضيافة، فلما وافى باب الدار قال له الرجل: يا أستاذ ليس لي وجه في دخولك، فانصرف رحمك الله، فانصرف أبو عثمان، فلما وافى منزله عاد الرجل إليه، وقال: يا أستاذ ندمت وأخذ يعتذر له، وقال: احضر الساعة، فقام معه فلما وافى داره قال له مثل ما قال في الأولى، ثم فعل به ذلك أربع مرات، وأبو عثمان ينصرف ويحضر، ثم قال: يا أستاذ إنما أردت بذلك اختبارك والوقوف على أخلاقك، ثم جعل يعتذر له ويمدحه. فقال أبو عثمان: لا تمدحني على خلق تجده في الكلاب، فإن الكلب إذا دعي حضر وإذا زجر انزجر.
وقال الحارث بن قصي: يعجبني من القرّاء كل فصيح مضحاك، فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بوجه عبوس فلا كثّر الله في المسلمين مثله.
ومن محاسن الأخلاق ما حكي عن القاضي يحيى بن أكثم قال: كنت نائما ذات ليلة عند المأمون، فعطش، فامتنع أن يصيح بغلام يسقيه، وأنا نائم، فينغص عليّ نومي، فرأيته وقد قام يمشي على أطراف أصابعه حتى أتى موضع الماء وبينه وبين المكان الذي فيه الكيزان نحو من ثلاثمائة خطوة، فأخذ منها كوزا، فشرب، ثم رجع يمشي على أطراف أصابعه حتى قرب من الفراش الذي أنا عليه، فخطا خطوات خائف لئلا ينبهني حتى صار إلى فراشه، ثم رأيته آخر الليل قام يبول، وكان يقوم في أول الليل وآخره، فقعد طويلا يحاول أن أتحرك فيصيح بالغلام، فلما تحركت وثب قائما وصاح يا غلام، وتأهب للصلاة. ثم جاءني، فقال لي: كيف أصبحت يا أبا محمد، وكيف كان مبيتك؟
قلت: خير مبيت جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين، قال:
لقد استيقظت للصلاة، فكرهت أن أصيح بالغلام، فأزعجك، فقلت يا أمير المؤمنين قد خصك الله تعالى بأخلاق الأنبياء، وأحب لك سيرتهم، فهنّاك الله تعالى بهذه النعمة، وأتمها عليك، فأمر لي بألف دينار، فأخذتها وانصرفت.
قال: وبت عنده ذات ليلة، فانتبه وقد عرض له السعال، فجعلت أرمقه، وهو يحشو فمه بكم قميصه يدفع به السعال حتى غلبه، فسعل وأكب على الأرض لئلا يعلو صوته، فأنتبه.
قال يحيى، وكنت معه يوما في بستان ندور فيه، فجعلنا نمر بالريحان، فيأخذ من الطاقة والطاقتين ويقول لقيم البستان: أصلح هذا الحوض، ولا تغرس في هذا الحوض شيئا من البقول، قال يحيى: ومشينا في البستان من أوله إلى آخره، وكنت أنا مما يلي الشمس والمأمون مما يلي الظل، فكان يجذبني أن أتحول أنا في الظل، ويكون هو في الشمس، فأمتنع من ذلك حتى بلغنا آخر البستان، فلما رجعنا قال: يا يحيى والله لتكونن في مكاني ولأكونن في مكانك حتى آخذ نصيبي من الشمس كما أخذت نصيبك، وتأخذ نصيبك من الظل كما أخذت نصيبي. فقلت: والله يا أمير المؤمنين لو قدرت أن أقيك يوم الهول بنفسي لفعلت، فلم يزل بي حتى تحولت إلى الظل وتحول هو إلى الشمس، ووضع يده على عاتقي، وقال: بحياتي عليك إلا ما وضعت يدك على عاتقي مثل ما فعلت أنا، فإنه لا خير في صحبة من لا ينصف.
انظر إلى أخلاقهم رضي الله تعالى عنهم ما أحسنها
وإلى أفعالهم ما أزينها، نسأل الله تعالى أن يحسن أخلاقنا، وأن يبارك لنا في أرزاقنا إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الرابع والعشرون في حسن المعاشرة والمودة والأخوة والزيارة وما أشبه ذلك
اعلم أن المودة والأخوة والزيارة سبب التآلف، والتآلف سبب القوة، والقوة سبب التقوى، والتقوى حصن منيع وركن شديد بها يمنع الضيم وتنال الرغائب وتنجع المقاصد، وقد منّ الله تعالى على قوم وذكرهم نعمته عليهم بأن جمع قلوبهم على الصفا وردها بعد الفرقة إلى الألفة والإخاء، فقال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً
«1» .
ووصف نعيم الجنة وما أعد فيها لأوليائه من الكرامة، إذ جعلهم إخوانا على سرر متقابلين، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإخاء وندب إليه، وآخى بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وقد ذكر الله تعالى أهل جهنم وما يلقون فيها من الألم إذ يقولون: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ 100 وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ 101
«2» .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه:
الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين، وأنشدوا في ذلك:
وما المرء إلا بإخوانه
…
كما يقبض الكفّ بالمعصم
ولا خير في الكفّ مقطوعة
…
ولا خير في الساعد الأجذم
وقال زياد: خير ما اكتسب المرء الإخوان فإنهم معونة على حوادث الزمان ونوائب الحدثان، وعون في السراء والضراء.
ومن كلام علي رضي الله عنه وكرم وجهه:
عليك بإخوان الصفاء فإنّهم
…
عماد إذا استنجدتهم وظهور
وإنّ قليلا ألف خلّ وصاحب
…
وإنّ عدوا واحدا لكثير
وقال الأوزاعي: الصاحب للصاحب كالرقعة في الثوب إن لم تكن مثله شانته. وقال عبد الله بن طاهر: المال غاد ورائح والسلطان ظل زائل والإخوان كنوز وافرة.
وقال المأمون للحسن بن سهل: نظرت في اللذات فوجدتها كلها مملولة سوى سبعة، قال: وما السبعة يا أمير المؤمنين؟ قال: خبز الحنطة، ولحم الغنم، والماء البارد، والثوب الناعم، والرائحة الطيبة والفراش الواطىء، والنظر إلى الحسن من كل شيء، قال: فأين أنت يا أمير المؤمنين من محادثة الرجال؟ قال: صدقت، وهي أولاهن وقال سليمان بن عبد الملك: أكلت الطيب ولبست اللبن وركبت الفاره «3» وافتضضت العذراء، فلم يبق من لذاتي إلا صديق أطرح معه مؤنة التحفظ.
وكذلك قال معاوية رضي الله عنه: نكحت النساء حتى ما أفرق بين امرأة وحائط، وأكلت الطعام حتى لا أجد ما استمرئه، وشربت الأشربة حتى رجعت إلى الماء، وركبت المطايا حتى اخترت نعلي، ولبست الثياب حتى اخترت البياض، فما بقي من اللذات ما تتوق إليه نفسي إلا محادثة أخ كريم.
وأنشدوا في معنى ذلك:
وما بقيت من اللّذات إلّا
…
محادثة الرجال ذوي العقول
وقد كنّا نعدّهم قليلا
…
فقد صاروا أقلّ من القليل
وقال لبيد:
ما عاتب المرء اللبيب كنفسه
…
والمرء يصلحه الجليس الصالح
وقال آخر:
إذا ما أتت من صاحب لك زلة
…
فكن أنت محتالا لزلّته عذرا «4»
وقيل لابن السماك: أي الإخوان أحق ببقاء المودة؟
قال: الوافر دينه، الوافي عقله، الذي لا يملّك على القرب ولا ينساك على البعد، إن دنوت منه داناك، وإن بعدت عنه
راعاك، وإن استعنت به عضدك، وإن احتجت إليه رفدك، وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله. وأنشدوا في المعنى:
إن أخاك الصدق من يسعى معك
…
ومن يضرّ نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك
…
شتّت فيك شمله ليجمعك «1»
وليس أخي من ودّني بلسانه
…
ولكنّ أخي من ودّني وهو غائب
ومن ماله مالي إذا كنت معدما
…
ومالي له إن أعوزته النّوائب
وقال أبو تمام:
من لي بإنسان إذا أغضبته
…
وجهلت كان الحلم ردّ جوابه
وإذا صبوت إلى المدام شربت من
…
أخلاقه وسكرت من آدابه «2»
وتراه يصغي للحديث بطرفه
…
وبقلبه ولعلّه أدرى به «3»
وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أحب إليك؟ قال:
الذي يسد خلتي «4» ويغفر زلتي ويقيل عثرتي. وقيل: من لا يؤاخي إلا من لا عيب فيه قلّ صديقه، ومن لم يرض من صديقه إلا بإيثاره على نفسه دام سخطه، ومن عاتب على كل ذنب ضاع عتبه، وكثر تعبه.
قال الشاعر:
ومن لم يغمض عينه عن صديقه
…
وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
وقال آخر:
إذا كنت في كل الأمور معاتبا
…
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
وإن أنت لم تشرب مرارا على الأذى
…
ظمئت وأيّ الناس تصفو مشاربه
وقال: إذا رأيت من أخيك أمرا تكرهه أو خلة لا تحبها فلا تقطع حبله ولا تصرم وده، ولكن داو كلمته «5» واستر عورته وأبقه وأبرأ من عمله.
قال الله تعالى: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ 216
«6» فلم يأمره بقطعهم، وإنما أمره بالبراءة من عملهم السيء.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الأرواح أجناد مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» . وقال عليه الصلاة والسلام: إن روحي المؤمنين ليلتقيان من مسيرة يوم ما رأى أحدهما صاحبه.
وفي ذلك قال بعضهم:
هويتكم بالسّمع قبل لقائكم
…
وسمع الفتى يهوى لعمري كطرفه «7»
وخبّرت عنكم كلّ جود ورفعة
…
فلما التقينا كنتم فوق وصفه
وقال آخر:
تبسّم الثغر عن أوصافكم فغدا
…
من طيب ذكركم نشرا فأحيانا «8»
فمن هناك عشقناكم ولم نركم
…
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
[وقيل] : ما تحاب اثنان في الله إلا كان أفضلهما عند الله أشدهما حبا لصاحبه.
ما زار أخ أخا في الله شوقا إليه ورغبة في لقائه إلا نادته ملائكة من ورائه طبت وطابت لك الجنة.
وقالوا: ليس سرور يعدل لقاء الإخوان، ولا غم يعدل فراقهم. وقالوا: شر الإخوان الواصل في الرخاء، الخاذل عند الشدة. وقالوا: إن من الوفاء أن تكون لصديق صديقك صديقا، ولعدو صديقك عدوا. وقالوا: أعجب الأشياء ودّ من يهودي وحفظ من نصراني، ورياضة من دهري «9» ، وكرم من أعجمي، والحذر من الكريم إذا أهنته، واللئيم إذا أكرمته، والعاقل إذا أحرجته، والأحمق
إذا مازحته، والفاجر إذا عاشرته.
وقالوا: إصحب من الإخوان من أولاك جمائل كثيرة فكافأته بجميلة واحدة، فنسي جمائله وبقي شاكرا ناشرا ذاكرا لجميلتك، يوليك عليها الإحسان الكثير الجزيل ويجعل أنه ما بلغ من مكافأتك القليل.
وقال ابن عائشة: لقاء الخليل شفاء الغليل. وقال بعض الحكماء: إذا وقع بصرك على شخص فكرهته، فاحذره جهدك.
قال عبد الله بن طاهر:
خليليّ للبغضاء حال مبينة
…
وللحب آثار ترى ومعارف
فما تنكر العينان فالقلب منكر
…
وما تعرف العينان فالقلب عارف
وقال آخر:
وكنت إذا الصديق أراد غيظي
…
وشرّقني على ظمإ بريقي «1»
غفرت ذنوبه وكظمت غيظي
…
مخافة أن أعيش بلا صديق
وقال آخر:
وليس فتى الفتيان من جلّ همّه
…
صبوح وإن أمسى ففضل غبوق «2»
ولكن فتى الفتيان من راح أو غدا
…
لضر عدو أو لنفع صديق
وأما آداب المعاشرة: فالبشاشة والبشر وحسن الخلق والأدب، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أخلاق النبيين والصديقين البشاشة إذا تراءوا والمصافحة إذا تلاقوا وكان القعقاع بن ثور الهذلي إذا جالسه رجل يجعل له نصيبا من ماله ويعينه على حوائجه، ودخل يوما على معاوية، فأمر له بألف دينار وكان هناك رجل قد فسح له في المجلس، فدفعها للذي فسح له، فقال:
وكنت جليس قعقاع بن ثور
…
وما يشقى بقعقاع جليس
ضحوك السن إن نطقوا بخير
…
وعند الشر مطراق عبوس
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لجليسي عليّ ثلاث:
أن أرمقه بطرفي إذا أقبل، وأوسع له إذا جلس، وأصغي له إذا حدث. ويقال: لكل شيء محل، ومحل العقل مجالسته الناس، ومثل الجليس الحسن كالعطار إن لم يصبك من عطره أصابك من رائحته. ومثل الجليس السوء، مثل الكبريت إن لم يحرق ثوبك بناره آذاك بدخانه.
وكانت تحية العرب: «صبحتك الأنعمة وطيب الأطعمة» وتقول أيضا: «صبحتك الأفالح وكل طير صالح» . ووصف المأمون ثمامة بحسن المعاشرة، فقال:
إنه يتصرف مع القلوب تصرف السحاب مع الجنوب «3» .
وقيل: أول ما يتعين على الجليس الإنصاف في المجالسة بأن يلحظ بعين الأدب مكانه من مكان جليسه فيكون كل منهما في محله. وقال صلى الله عليه وسلم: ذو العلم والسلطان أحق بشرف المنزل.
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه، إذا دخلت منزل أخيك فاقبل كرامته كلها ما عدا الجلوس في الصدور وينبغي للإنسان أن لا يقبل بحديثه على من لا يقبل عليه، فقد قيل إن نشاط المتكلم بقدر إقبال السامع، ويتعين عليه أن يحدث المستمع على قدر عقله ولا يبتدع كلاما لا يليق بالمجلس، فقد قيل لكل مقام مقال، وخير القول ما وافق الحال. وأوجبوا على المستمع أنه إذا ورد عليه من المتكلم ما كان مر بسمعه أولا أن لا يقطع عليه ما يقوله، بل يسكت إلى أن يستوعب منه القول، وعدوا ذلك من باب الأدب، ولعله إذا صبر وسكت استفاد من ذلك زيادة فائدة لم تكن في حفظه.
وقيل: ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم: الجالس في مجلس ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمعه، والداخل بين اثنين في حديثهما ولم يدخلاه فيه، والمتعرض لما لا يعنيه، والمتأمّر على رب البيت في بيته، والآتي إلى مائدة بلا دعوة، وطالب الخير من أعدائه، والمستخف بقدر السلطان.
ويتعين على الجليس أن يراعي ألفاظه ويكون على حذر أن يعثر لسانه خصوصا إذا كان جليسه ذا هيبة، فقد قيل:
رب كلمة سلبت نعمة.
وقال أبو العباس السفاح: ما رأيت أغزر من فكر أبي
بكر الهذلي لم يعد علي حديثا قط. وقيل إن أبا العباس كان يحدثه يوما إذ عصفت الريح فأرمت طستا من سطح إلى المجلس، فارتاع من حضر ولم يتحرك الهذلي ولم تزل عينه مطابقة لعين السفاح فقال: ما أعجب شأنك يا هذلي، فقال: إن الله يقول: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ
«1» . وإنما لي قلب واحد، فلما غمره النور بمحادثة أمير المؤمنين لم يكن فيه لحادث مجال، فلو انقلبت الخضراء على الغبراء «2» ما أحسست بها ولا وجمت لها «3» ، فقال السفاح لئن بقيت لك لأرفعن مكانك، ثم أمر له بمال جزيل وصلة كبيرة. وكان ابن خارجة يقول: ما غلبني أحد قط غلبة رجل يصغي إلى حديثي.
وفي نوابغ الحكم: أكرم حديث أخيك بانصاتك وصنه من وصمة التفاتك. وقيل: من حق الملك إذا تثاءب أو ألقى المروحة من يده أو مدّ رجليه أو تمطّى «4» أو اتكأ أو فعل ما يدل على كسله أن يقوم من بحضرته، وكان أردشير إذا تمطّى قام سمّاره «5» .
ومن حق الملك أن لا يعاد عليه حديث وإن طال الدهر. قال روح بن زنباع أقمت مع عبد الملك سبع عشرة سنة، فما أعدت عليه حديثا إلا مرة واحدة، فقال لي: قد سمعته منك. وعن الشعبي قال: ما حدثت بحديث مرتين رجلا بعينه. وقال عطاء بن أبي رباح: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه قط، وقد سمعت به من قبل أن يولد.
وقيل: المودة طلاقة الوجه والتودد إلى الناس. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: إن المسلمين إذا التقيا، فضحك كل واحد منهما في وجه صاحبه ثم أخذ بيده تحاتت ذنوبهما كتحاتّ ورق الشجر، وقيل: البشر يدل على السخاء كما يدل النور على الثمر. وقيل: من السنّة إذا حدثت القوم أن لا تقبل على واحد منهم، ولكن اجعل لكل واحد منهم نصيبا.
وقالوا: إذا أردت حسن المعاشرة فالق عدوك وصديقك بالطلاقة ووجه الرضا والبشاشة ولا تنظر في عطفيك «6» ولا تكثر الالتفات ولا تقف على الجماعات، وإذا جلست فلا تتكبر على أحد وتحفّظ من تشبيك أصابعك، ومن العبث بلحيتك، ومن اللعب بخاتمك، وتخليل أسنانك، وإدخال أصبعك في أنفك، وكثرة بصاقك، وكثرة التمطي والتثاؤب في وجوه الناس وفي الصلاة، وليكن مجلسك هادئا وحديثك منظوما مرتبا، واصغ إلى كلام مجالسك واسكت عن المضاحك ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين، ولا تلح في الحاجات ولا تشجع أحدا على الظلم ولا تهازل أمتك ولا عبدك، فيسقط وقارك عندهما، وإذا خاصمت فانصف وتحفظ من جهلك وتجنب عجلتك وتفكر في حجّتك، ولا تكثر الإشارة بيدك ولا الالتفات إلى من وراءك واهدىء غضبك وتكلم، وإذا قرّبك سلطان فكن منه على حذر، واحذر انقلابه عليك وكلمه بما يشتهي ولا يحملنك لطفه بك على أن تدخل بينه وبين أهله وحشمه، وإن كنت لذلك مستحقا عنده.
وإياك وصديق العافية «7» فإنه أعدى الأعداء ولا تجعل مالك أكرم من عرضك، ولا تجالس الملوك فإن فعلت فالتزم ترك الغيبة ومجانبة الكذب وصيانة السر وقلة الحوائج وتهذيب الألفاظ والمذاكرة بأخلاق الملوك والحذر منهم. وإن ظهرت المودة، ولا تتجشأ بحضرتهم ولا تخلل أسنانك بعد الأكل عندهم، ولا تجالس العامة فإن فعلت فآداب ذلك ترك الخوض في حديثهم وقلة الإصغاء إلى أراجيفهم والتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم.
وإياك أن تمازح لبيبا أو سفيها، فإن اللبيب يحقد عليك والسفيه يتجرأ عليك، ولأن المزاح يخرق الهيبة ويذهب بماء الوجه ويعقب الحقد ويذهب بحلاوة الإيمان والود ويشين فقه الفقيه ويجرّىء السفيه ويميت القلب ويباعد عن الرب تعالى ويكسب الغفلة والذلة، ومن بلي في مجلس بمزاح أو لغط، فليذكر الله عند قيامه، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، غفر له ما كان في مجلسه ذلك.
وأما آداب المسايرة فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاقب هو وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورجل آخر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في سفر على بعير، فكان إذا جاءت نوبته في المشي مشى، فيعزمان عليه أن لا يمشي فيأبى ويقول:
ما أنتم بأقدر مني على مشي وما أنا بأغنى منكم عن أجر، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا تتخذوا ظهور الدواب كراسي» .
وقيل: لا تتقدم الأصاغر على الأكابر إلا في ثلاث: إذا ساروا ليلا أو خاضوا سيلا أو واجهوا خيلا. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث، في نكبته وغيبته ووفاته.
وأما ما جاء في الإخوان القليلي الموافاة العديمي المكافأة الذين ليس عندهم لصديق مصافاة:
فقال وهب بن منبه: صحبت الناس خمسين سنة فما وجدت رجلا غفر لي زلة ولا أقالني عثرة ولا ستر لي عورة. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إذا كان الغدر طبعا، فالثقة بكل أحد عجز. وقيل لبعضهم: ما الصديق؟ قال: اسم وضع على غير مسمى وحيوان غير موجود «1» .
قال الشاعر:
سمعنا بالصديق ولا نراه
…
على التحقيق يوجد في الأنام
وأحسبه محالا نمّقوه
…
على وجه المجاز من الكلام «2»
وقال أبو الدرداء: كان الناس ورقا لا شوك فيه، فصاروا شوكا لا ورق فيه، وقال جعفر الصادق لبعض إخوانه: أقلل من معرفة الناس وأنكر من عرفت منهم، وإن كان مائة صديق فاطرح تسعة وتسعين وكن من الواحد على حذر.
وقيل لبعض الولاة: كم لك صديق؟ فقال أما في حال الولاية فكثير، وأنشد:
الناس إخوان من دامت له نعم
…
والويل للمرء إن زلّت به القدم
ولما نكب علي بن عيسى الوزير لم ينظر ببابه أحدا من أصحابه الذين كانوا يألفونه في ولايته، فلما ردت إليه الوزارة وقف أصحابه ببابه ثانيا فقال:
ما الناس إلّا مع الدنيا وصاحبها
…
فكلما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظّمون أخا الدنيا فإن وثبت
…
يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا
وقال آخر:
فما أكثر الأصحاب حين نعدّهم
…
ولكنّهم في النائبات قليل
وقال البحتري:
إيّاك تغترّ أو تخدعك بارقة
…
من ذي خداع يري بشرا وألطافا
فلو قلبت جميع الأرض قاطبة
…
وسرت في الأرض أوساطا وأطرافا
لم تلق فيها صديقا صادقا أبدا
…
ولا أخا يبذل الإنصاف إن صافى «3»
وقال بعضهم في المعنى أيضا:
خليليّ جربت الزمان وأهله
…
فما نالني منهم سوى الهمّ والعنا «4»
وعاشرت أبناء الزمان فلم أجد
…
خليلا يوفيّ بالعهود ولا أنا
وقال آخر:
لما رأيت بني الزّمان وما بهم
…
خلّ وفيّ للشدائد أصطفي «5»
فعلمت أنّ المستحيل ثلاثة
…
الغول والعنقاء والخلّ الوفي
بيت مفرد:
وكلّ خليل ليس في الله ودّه
…
فإنّي به في ودّه غير واثق
قال آخر:
إذا ما كنت متّخذا خليلا
…
فلا تأمن خليلك أن يخونا
فإنّك لم يخنك أخ أمين
…
ولكن قلّما تلقى أمينا
وقال آخر:
تحبّ عدوي ثم تزعم أنّني
…
أودّك إن الرأي عنك لعازب «1»
وليس أخي من ودّني بلسانه
…
ولكن أخي من ودّني وهو غائب
ومن ماله مالي إذا كنت معدما
…
ومالي له إن أعوزته النوائب «2»
ولما غضب السلطان على الوزير ابن مقلة وأمر بقطع يده لما بلغه أنه زوّر عنه كتابا إلى أعدائه وعزله، لم يأت إليه أحد ممن كان يصحبه ولا توجع له، ثم إن السلطان ظهر له في بقية يومه أنه بريء مما نسب إليه فخلع عليه ورد إليه وظائفه، فأنشد يقول هذه الأبيات:
تحالف الناس والزمان
…
فحيث كان الزمان كانوا
عاداني الدهر نصف يوم
…
فانكشف النّاس لي وبانوا
يا أيّها المعرضون عنّا
…
عودوا فقد عاد لي الزمان
ومثله في المعنى:
أخوك أخوك من يدنو وترجو
…
مودّته وإن دعي استجابا
إذا حاربت حارب من تعادي
…
وزاد سلاحه منك اقترابا
وقال أبو بكر الخالدي:
وأخ رخصت عليه حتى ملّني
…
والشيء مملول إذا ما يرخص
ما في زمانك من يعزّ وجوده
…
إن رمته إلّا صدق مخلص «3»
فيجب على الإنسان أن لا يصحب إلا من له دين وتقوى، فإن المحبة في الله تنفع في الدنيا والآخرة وما أحسن ما قال بعضهم:
وكلّ محبّة في الله تبقى
…
على الحالين من فرج وضيق
وكلّ محبّة فيما سواه
…
فكالحلفاء في لهب الحريق «4»
فينبغي للإنسان أن يجتنب معاشرة الأشرار ويترك مصاحبة الفجار ويهجر من ساءت خلته وقبحت بين الناس سيرته. قال الله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ 67
«5» . وقال تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ
«6» فأثبت الله المماثلة بيننا وبين البهائم وذلك إنما هو في الأخلاق خاصة، فليس أحد من الخلق إلا وفيه خلق من أخلاق البهائم، ولهذا تجد أخلاق الخلائق مختلفة فإذا رأيت الرجل جاهلا في خلائقة غليظا في طبائعه قويا في بدنه لا تؤمن ضغائنه فألحقه بعالم النمورة «7» ، والعرب تقول:
أجهل من نمر وإذا رأيت الرجل هجاما على أعراض الناس فقد ماثل عالم الكلاب فإن دأب الكلب أن يجفو من لا يجفوه ويؤذي من لا يوذيه، فعامله بما كنت تعامل به الكلب إذا نبح، ألست تذهب وتتركه؟
وإذا رأيت إنسانا قد جبل على الخلاف إن قلت نعم قال لا، وإن قلت لا قال نعم، فألحقه بعالم الحمير، فإن دأب الحمار إن أدنيته بعد وإن أبعدته قرب، فلا تنتفع به ولا يمكنك مفارقته.
وإن رأيت إنسانا يهجم على الأموال والأرواح فألحقه بعالم الأسود وخذ حذرك منه كما تأخذ حذرك من الأسد.
وإذا بليت بإنسان خبيث كثير الروغان فألحقه بعالم الثعالب.
وإذا رأيت من يمشي بين الناس بالنميمة ويفرق بين الأحبة فألحقه بعالم الظربان، وهي دابة صغيرة تقول العرب عند تفرق الجماعة مشى بينهم ظربان فتفرقوا.
وإذا رأيت إنسانا لا يسمع الحكمة والعلم وينفر من مجالسة العلماء ويألف أخبار أهل الدنيا، فألحقه بعالم الخنافس، فإنه يعجبها أكل العذرات وملامسة النجاسات
وتنفر من ريح المسك والورد وإذا شمت الرائحة الطيبة ماتت لوقتها.
وإذا رأيت الرجل يصنع بنفسه كما تصنع المرأة لبعلها، يبيض ثيابه ويعدل عمامته وينظر في عطفيه، فألحقه بعالم الطواويس.
وإذا بليت بإنسان حقود لا ينسى الهفوات ويجازي بعد المدة الطويلة على السقطات، فألحقه بعالم الجمال، والعرب تقول أحقد من جمل، فتجنب قرب الرجل الحقود.
وعلى هذا النمط فليحترز العاقل من صحبة الأشرار وأهل الغدر ومن لا وفاء لهم فإنه إذا فعل ذلك سلم من مكائد الخلق وأراح قلبه وبدنه والله أعلم.
وأما الزيارة والاستدعاء إليها فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتباذلين فيّ والمتزاورين فيّ، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من عاد مريضا أو زار أخا نادى مناد أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا» . وقيل: المحبة شجرة أصلها الزيارة.
قال الشاعر:
زر من تحبّ وإن شطّت بك الدار
…
وحال من دونه حجب وأستار «1»
لا يمنعنّك بعد من زيارته
…
إن المحبّ لمن يهواه زوّار
ولكن الزيارة غبا لقوله صلى الله عليه وسلم: «زر غبا تزدد حبّا» «2» .
قال الشاعر في معنى ذلك:
عليك بإغباب الزيارة إنّها
…
إذا كثرت صارت إلى الهجر مسلكا
ألم تر أن الغيث يسأم دائما
…
ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
ويقال الإكثار من الزيارة ممل، والإقلال منها مخل «3» .
وكتب صديق إلى صديقه هذا البيت:
إذا ما تقاطعنا ونحن ببلدة
…
فما فضل قرب الدار منّا على البعد
وقال آخر:
وإن مروري بالديار التي بها
…
سليمى ولم ألمم بها لجفاء
وقال آخر:
قد أتانا من آل سعدى رسول
…
حبّذا ما يقول لي وأقول
وقال آخر:
أزور بيوتا لاصقات ببيتها
…
وقلبي في البيت الذي لا أزوره
وزار محمد بن يزيد المهلبي المستعين ووهب له مائتي ألف درهم، وأقطعه أرضا فقال:
وخصصتني بزيارة أضحى لنا
…
مجدي بها طول الزمان مؤثل
وقضيت ديني وهو دين وافر
…
لم يقضه مع جوده المتوكّل
وكتب المأمون إلى جاريته الخيزران «4» يستدعيها للزيارة:
نحن في أفضل السرور ولكن
…
ليس إلا بكم يتمّ السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي
…
أنّكم غبتم ونحن حضور
فأجدّوا المسير بل إن قدرتم
…
أن تطيروا مع الرياح فطيروا
وقيل لفيلسوف: أي الرسل أنجح؟ قال: الذي له جمال وعقل. وقيل: إذا أرسلتم رسولا في حاجة، فاتخذوه حسن الوجه حسن الاسم. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تبعث رسولا جاهلا، فإن لم تجد حكيما عارفا، فكن رسول نفسك.
وقال بعضهم:
إذا أبطأ الرسول فقل نجاح
…
ولا تفرح إذا عجل الرسول
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.