الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوحيد، وزاد الراكب لعظم موقع الصوت الحسن من القلب، وأخذه بمجامع النفس.
فصل في الصوت الحسن
قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ
«1» هو الصوت الحسن، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: أتدرون متى كان الحداء؟ قالوا: لا بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله. قال: إن أباكم مضر خرج في طلب مال له، فوجد غلاما قد تفرقت إبله، فضربه على يده بالعصا، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح: وايداه، فسمعت الإبل صوته، فعطفت عليه، فقال مضر: لو اشتق من الكلام مثل هذا لكان كلاما تجتمع عليه الإبل، فاشتق الحداء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه لما أعجبه حسن صوته: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود، وقيل: إن داود عليه الصلاة والسلام كان يخرج إلى صحراء بيت المقدس يوما في الأسبوع، وتجتمع عليه الخلق، فيقرأ الزبور بتلك القراءة الرخيمة، وكان له جاريتان موصوفتان بالقوة والشدة فكانتا تضبطان جسده ضبطا شديدا خيفة أن تنخلع أوصاله مما كان ينتحب، وكانت الوحوش والطير تجتمع لاستماع قراءته.
قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: بلغنا أن الله تعالى يقيم داود عليه الصلاة والسلام يوم القيامة عند ساق العرش، فيقول: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم.
وقال سلام الحادي للمنصور، وكان يضرب المثل بحدائه: مر يا أمير المؤمنين بأن يظمأوا إبلا ثم يورودها الماء فإني آخذ في الحداء فترفع رؤوسها، وتترك الشرب.
وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يجري في الجسم مجرى الدم في العروق، فيصفو له الدم، وتنمو له النفس ويرتاح له القلب، وتهتز له الجوارح، وتخف له الحركات، ولهذا كرهوا للطفل أن ينام على أثر البكاء، حتى يرقص ويطرب، وزعمت الفلاسفة: أن النغم فصل بقي من النطق لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس وحنت إليه الروح. ألا ترى إلى أهل الصناعات كلها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم ترنموا بالألحان، واستراحت إليها أنفسهم، وليس من أحد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه، ويعجبه طنين رأسه، ولو لم يكن من فضل الصوت الحسن إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا صيد إلا وفيها معاناة على البدن، وتعب على الجوارح ما خلا السماع، فإنه لا معاناة فيه على البدن ولا تعب على الجوارح، وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خيري الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف، وصلة الأرحام، والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب، وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويتذكر نعيم الملكوت، ويمثله في ضميره، ولأهل الرهبانية نغمات، وألحان شجية يمجدون الله تعالى بها، ويبكون على خطاياهم، ويتذكرون نعيم الآخرة.
وكان أبو يوسف القاضي يحضر مجلس الرشيد، وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور به بكاء، كأنه يتذكر نعيم الآخرة، وقد تحن القلوب إلى حسن الصوت حتى الطير والبهائم، وكان صاحب الفلاحات يقول: إن النحل أطرب الحيوان كله على الغناء.
قال الشاعر:
والطير قد يسوقه للموت
…
إصغاؤه إلى حنين الصوت
وزعموا أن في البحر دواب ربما زمرت أصواتا مطربة، ولحونا مستلذة يأخذ السامعين الغشي من حلاوتها، فاعتنى بها وضعة الألحان بأن شبهوا بها أغانيهم، فلم يبلغوا، وربما يغشى على سامع الصوت الحسن للطافة وصوله إلى الدماغ وممازجته القلب. ألا ترى إلى الأم كيف تناغي ولدها، فيقبل بسمعه على مناغاتها، ويتلهى عن البكاء، والإبل يزداد نشاطها وقوتها بالحداء، فترفع آذانها وتلتفت يمنة ويسرة، وتتبختر في مشيتها.
وزعموا أن السماكين بنواحي العراق يبنون في جوف الماء حفائر ثم يضربون عندها بأصوات شجية فتجتمع السمك في الحفائر، فيصيدونه وقد نبهت على ذلك في باب ذكر البحار، وما فيها من العجائب.
والراعي إذا رفع صوته، ونفخ في يراعته تلقته الغنم بآذانها، وجدّت في رعيها، والدابة تعاف الماء، فإذا سمعت الصفير بالغت في الشرب وليس شيء مما يستلذ به أخف مؤنة من السماع.
قال أفلاطون: من حزن فليسمع الأصوات الحسنة، فإن النفس إذا حزنت خمدت نارها، فإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمدت وما زالت ملوك فارس تلهي المحزون بالسماع، وتعلل به المريض، وتشغله عن التفكير، ومنهم أخذت العرب حتى قال ابن غيلة الشيباني:
وسماع مسمعة يعللنا
…
حتى ننام تناوم العجم
وحكي أن البعلبكي مؤذن المنصور رجع في أذانه ليلة وجارية تصب الماء على يد المنصور، فارتعدت حتى وقع الأبريق من يدها، فقال له المنصور: خذ هذه الجارية، فهي لك ولا تعد ترجع هذا الترجيع.
وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمارة في قينة:
ألم ترها لا أبعد الله دارها
…
إذا رجّعت في صوتها كيف تصنع
تدير نظام القول ثم تردّه
…
إلى صلصل من صوتها يترجّع
وبعد، فهل خلق الله شيئا أوقع بالقلوب، وأشد اختلاسا للعقول من الصوت الحسن لا سيما إذا كان من وجه حسن كما قال الشاعر:
ربّ سماع حسن
…
سمعته من حسن
مقرّب من فرح
…
مبعّد من حزن
لا فارقاني أبدا
…
في صحة من بدن
وهل على الأرض من جبان مستطار الفؤاد يغني بقول جرير:
قل للجبان إذا تأخرّ سرجه
…
هل أنت من شرك المنية ناجي
إلا وقد شجعت نفسه، وقوي قلبه.
أم هل على الأرض من بخيل قد انقبضت أطرافه يوما يغني بقول حاتم الطائي:
يرى البخيل سبيل المال واحدة
…
إنّ الجواد يرى في ماله سبلا
إلا انبسطت أنامله، ورشحت أطرافه.
واختلف الناس في الغناء، فأجازه عامة أهل الحجاز، وكرهه عامة أهل العراق، فمن حجة من أجازه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان:«شن الغطاريف على بني عبد مناف، فو الله لشعرك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام» .
واحتجوا في أباحة الغناء، واستحسانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها: «أهديتم الفتاة إلى بعلها؟
قالت: نعم. قال: فبعثتم معها من يغني؟ قالت: لم نفعل. قال: أو ما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم القول، ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم
…
فحيّونا نحييكم
ولولا الحبّة السمراء
…
لم نحلل بواديكم
ولا بأس بالغناء إذا لم يكن فيه أمر محرم، ولا يكره السماع عند العرس والوليمة والعقيقة وغيرها، فإن فيه تحريكا لزيادة سرور مباح أو مندوب، ويدل عليه ما روي من إنشاء النساء بالدف والألحان عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قلن:
طلع البدر علينا
…
من ثنيّات الوداع «1»
وجب الشكر علينا
…
ما دعا لله داع
أيّها المبعوث فينا
…
جئت بالأمر المطاع
ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد الحرام حتى أكون أنا التي أسأمه.
ويدل عليه أيضا ما روي في الصحيحين من حديث عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر دخل عليها، وعندها جاريتان في أيام منى يدففان ويضربان والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرها أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، وقال: دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد.
وعن قرة بن خالد بن عبد الله بن يحيى قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه للنابغة الجعدي:
أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من هناتك، فأسمعه كلمة، فقال له، وإنك لقائلها. قال: نعم. قال: طالما غنيت بها خلف جمال الخطاب.
وعن عبد الله بن عوف قال: أتيت باب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فسمعته يغني بالركابية يقول:
فكيف ثوائي بالمدينة بعدما
…
قضى وطرا منها جميل بن معمر
وكان جميل بن معمر من أخصّاء عمر قال، فلما استأذنت عليه قال لي: أسمعت ما قلت؟ قلت: نعم.
قال: إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم.
وقد أجازوا تحسين الصوت في القراءة والأذان، فإن كانت الألحان مكروهة، فالقراءة والأذان أحق بالتنزيه عنها، وإن كانت غير مكروهة، فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن، وما جعلت العرب الشعر موزونا إلا لمد الصوت والدندنة، ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنشور.
ومن حجة من كره الغناء أنه قال: أنه ينفر القلوب، ويستفز العقول، ويبعث على اللهو، ويحض على الطرب، وهذا باطل في أصله وتأولوا في ذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً
«1» . وأخطأ من أوّل هذا التأويل إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السير، والأحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن، ويقولون: إنها أفضل منه، وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا.
وقال رجل للحسن البصري: ما تقول في الغناء يا أبا سعيد؟ فقال: نعم العون على طاعة الله تعالى يصل الرجل به رحمه ويواسي به صديقه. قال: ليس عن هذا أسألك.
قال: وعم سألتني؟ قال: أن يغني الرجل. قال: وكيف يغني؟ فجعل الرجل يلوي شدقيه ويفتح منخريه، فقال الحسن: والله يا ابن أخي ما ظننت أن عاقلا يفعل بنفسه هذا أبدا، فلم ينكر الحسن عليه إلا تشويه وجهه وتعويج فمه.
وسمع ابن المبارك سكران يغني هذا البيت:
أذلّني الهوى فأنا الذليل
…
وليس إلى الذي أهوى سبيل
قال: فأخرج دواة وقرطاسا، وكتب البيت، فقيل له:
أتكتب بيت شعر سمعته من رجل سكران، فقال: أما سمعتم المثل: رب جوهرة في مزبلة.
وكان لأبي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب، وكان يغني على شرابه بقول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
…
ليوم كريهة وسداد ثغر
قال: فأخذه العسس ليلة وحبسه، ففقد أبو حنيفة صوته، واستوحش له، فقال لأهله: ما فعل جارنا الكيال؟
قالوا: أخذه العسس، وهو في الحبس، فلما أصبح أبو حنيفة توجه إلى عيسى بن موسى، فاستأذن عليه، فأسرع إذنه، وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي أبواب الملوك، فأقبل عليه عيسى بن موسى، وسأله عما جاء بسببه، فقال:
أصلح الله الأمير: إن لي جارا من الكيالين أخذه عسس الأمير ليلة كذا، فوقع في حبسه، فأمر عيسى بن موسى بإطلاق كل من في الحبس إكراما لأبي حنيفة، فأقبل الكيال على أبي حنيفة يتشكر له، فلما رآه أبو حنيفة قال له: هل أضعناك يا فتى؟ يعرض له بشعره الذي ينشده، قال: لا والله ولكنك بررت وحفظت.
وكان عروة بن أدية ثقة في الحديث روى عنه مالك بن أنس، وكان شاعرا مجيدا لبقا غزلا، وكان يصوغ ألحان الغناء على شعره وينحلها للمغنين. قيل: إنه وقفت عليه إمرأة يوما وحوله التلاميذ، فقالت له: أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح، وأنت تقول:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي «2»
…
عمدت نحو سقاء القوم أبترد
هبي بردت ببرد الماء ظاهره
…
فمن لنار على الأحشاء تتّقد
وكان عبد الملك الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة. قيل: إنه مر يوما بسلامة وهي تغني، فأقام يسمع غناءها فرآه مولاها، فقال له: هل
لك أن تدخل، وتسمع، فأبى، فلم يزل به حتى دخل فغنته، فأعجبته، ولم يزل يسمعها، ويلاحظ النظر حتى شغف بها، فلما شعرت بلحظه إياها غنته:
رب رسولين لنا بلغّا
…
رسالة من قبل أن نبرحا
الطرف للطرف بعثناهما
…
فقضيّا حاجة وما صرّحا
قال: فأغمي عليه، وكاد يهلك، فقالت له: إنّي والله أحبك. قال: وأنا والله أحبك، قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك. قال: وأنا والله كذلك. قالت: فما يمنعك من ذلك؟ قال: أخشى أن تكون صداقة ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة. أما سمعت قوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ 67
«1» . ثم نهض وعاد إلى طريقته التي كان عليها، وأنشأ يقول:
قد كنت أعذل في السفاهة أهلها
…
فاعجب لما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم إنّما
…
سبل الضلالة والهدى أقسام
وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية بالشام، فأنزله في دار عياله، وأظهر من إكرامه ما يستحقه، فغاظ ذلك فاختة بنت قرظة زوج معاوية فسمعت ذات ليلة غناء عند عبد الله بن جعفر، فجاءت إلى معاوية، فقالت: هلم، فاسمع ما في منزلك الذي جعلته من لحمك ودمك، وأنزلته بين حرمك، فجاء معاوية، فسمع شيئا حرّكه وأطربه، فقال: والله إني لأسمع شيئا تكاد الجبال أن تخر له، ثم انصرف، فلما كان في آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله بن جعفر، وهو قائم يصلي، فنبه فاختة، وقال لها: اسمعي مكان ما أسمعتني، هؤلاء قومي ملوك بالنهار رهبان بالليل.
ثم إن معاوية أرق ذات ليلة، فقال لخادمه: اذهب فانظر من عند عبد الله بن جعفر، وأخبره إني قادم عليه، فذهب وأخبره، فأقام عبد الله كل من كان عنده، فلما جاء معاوية لم ير في المجلس غير عبد الله، فقال: مجلس من هذا؟
قال عبد الله: هذا مجلس فلان يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: مره، فليرجع إلى مجلسه حتى لم يبق إلا مجلس رجل واحد. قال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين. قال: إن أذني عليلة، فمره أن يرجع إلى مجلسه، وكان مجلس بديح المغنّي، فأمره عبد الله بن جعفر، فرجع إلى موضعه، فقال له معاوية:
داو أذني من علتها، فتناول العود وغنى وقال:
ودّع سعاد فإنّ الرّكب مرتحل
…
وهل تطيق وداعا أيها الرجل
قال: فحرك عبد الله بن جعفر رأسه، فقال له معاوية:
لم حركت رأسك يا ابن جعفر؟ قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين لو لقيت لأبليت، ولو سئلت لأعطيت، وكان معاوية قد خضب. قال، فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا، وكان عند معاوية جارية أعز جواريه عليه، وكانت تتولى خضابه، فغنى بديح وقال:
أليس عندك شكر للتي جعلت
…
ما ابيضّ من قادمات الرأس كالحمم «2»
وجددّت منك ما قد كان أخلقه
…
صرف الزمان وطول الدهر والقدم «3»
فطرب معاوية طربا شديدا، وجعل يحرك رجله، فقال له ابن جعفر يا أمير المؤمنين إنك سألتني عن تحريك رأسي، فأجبتك وأخبرتك، وأنا أسألك عن تحريك رجلك، فقال: كل كريم طروب، ثم قام، وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتي له إذني، ثم ذهب، فبعث إلى ابن جعفر بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب من خاصة كسوته، وإلى كل رجل منهم بألف دينار، وعشرة أثواب.
وحدّث ابن الكلبي، والهيثم بن عدي قالا: بينما عبد الله بن جعفر في بعض أزقة المدينة إذا سمع غناء، فأصغى إليه، فإذا صوت رقيق لقينة تغني وتقول:
قل لكرام ببابنا يلجوا
…
ما في التّصابي على الفتى حرج «4»
فنزل عبد الله عن دابته، ودخل على القوم بلا إذن، فلما رأوه قاموا إجلالا له، ورفعوا مجلسه، فأقبل عليه صاحب المجلس، وقال يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدخل مجلسنا بلا إذن، وليس هذا من شأنك؟ فقال عبد الله: لم أدخل إلا بإذن. قال: ومن أذن لك؟ قال: قينتك هذه سمعتها تقول: قل للكرام ببابنا يلجوا. فولجنا، فإن كنا كراما، فقد أذن لنا، وإن كنّا لئاما خرجنا مذمومين، فقبل صاحب المنزل يده، وقال: جعلت فداك، والله ما أنت إلا من أكرم
الناس، فبعث عبد الله إلى جارية من جواريه، فحضرت ودعا بثياب وطيب، فكسا القوم، وطيبهم، ووهب الجارية لصاحب المنزل، وقال: هذه أحذق بالغناء من جاريتك.
وسمع سليمان بن عبد الملك مغنيا في عسكره، فقال:
اطلبوه، فجاءوا به، فقال: أعد عليّ ما غنيت به، فغنى وأحفل «1» . وكان سليمان أغير «2» الناس، فقال لأصحابه:
كأنها والله جرجرة الفحل في الشوك، وما أظن أنثى تسمع هذا إلّا صبت «3» إليه، ثم أمر به فخصي.
أصل الغناء ومعدنه:
قال أبو المنذر هشام: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج، فأما النصب، فغناء الفتيان والركبان، وأما السناد: فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأما الهزج:
فالخفيف كله وهو الذي يستفز القلوب ويهيج الحليم.
وقيل: كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى، فاشيا ظاهرا، وهي المدينة والطائف وخيبر وفدك ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب.
ويقال: إن أول من صنع العود لامك بن قاين بن آدم، وبكى به على ولده، ويقال: إن صانعه بطليموس صاحب الموسيقى، وهو كتاب اللحون الثمانية، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك، وحسبنا الله، ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب التاسع والستون في ذكر المغنين والمطربين وأخبارهم ونوادر الجلساء في مجالس الرؤساء
قيل: إن أول من غنى في العرب قينتان للنعمان يقال لهما: الجرادتان ومن غنائهما:
ألا يا قين ويحك قم فهينم «4»
…
لعلّ الله يسقينا غماما
وإنما غنتا هذا حين حبس الله عنهم المطر.
وقيل: أول من غنّى في الإسلام الغناء الرقيق طويس وهو الذي علم ابن سريج والدلال نوبة الضحى، وكان يكنى أبا عبد النعيم، ومن غنائه، وهو أول صوت غنى به في الإسلام هذا البيت:
قد براني الشوق حتى
…
كدت من وجدي أذوب «5»
ثم نجم بعد طويس ابن طنبور، وأصله من اليمن، وكان أهزج الناس وأخفهم غناء، ومن غنائه:
وفتيان على شرب جميعا
…
دلفت لهم بباطية هدور «6»
فلا تشرب بلا طرب فإنّي
…
رأيت الخيل تشرب بالصفير
ومنهم حكم الوادي، ومن غنائه:
إمدح الكأس ومن أعملها
…
واهج قوما قتلونا بالعطش
إنما الراح ربيع باكر
…
فإذا ما وافت المرء انتعش
وكان لهارون الرشيد جماعة من المغنين منهم: إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي وغيرهما، وكان له زامر يقال له: برصوما، وكان إبراهيم أشدهم تصرفا في الغناء، وابن جامع أحلاهم نغمة، فقال الرشيد يوما لبرصوما: ما تقول في ابن جامع؟ قال يا أمير المؤمنين، وما أقول في العسل الذي من حيثما ما ذقته فهو طيب. قال: فإبراهيم الموصلي؟ قال: بستان فيه جميع الأزهار والرياحين.
وكان ابن محرز يغني كل إنسان بما يشتهيه كأنه خلق من قلب كل إنسان. وغنى رجل بحضرة الرشيد بهذه الأبيات:
وأذكر أيام الحمى ثمّ أنثني
…
على كبدي من خشية أن تصدّعا
فليست عشيات الحمى برواجع
…
عليك ولكن خل عينيك تدمعا
بكت عيني اليسرى فلما نهيتها
…
عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا «1»
قال: فاستخف الرشيد الطرب، فأمر له بمائة ألف درهم.
وحدّث ابن الكلبي عن أبيه قال: كان ابن عائشة من أحسن الناس غناء وأنبههم فيه، وكان من أضيق الناس خلقا إذا قيل له غنّ قال: لمثلي يقال غنّ، عليّ عتق رقبة إن غنيت يومي هذا، فلما كان في بعض الأيام سال وادي العقيق، فلم يبق في المدينة مخبأة ولا مخدرة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره، وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني وهو معتجر «2» بفضل ردائه، فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وكان الحسن فيمن خرج إلى العقيق وبين يديه عبدان أسودان كأنهما ساريتان يمشيان أمام دابته، فقال لهما:
أقسم بالله إن لم تفعلا ما آمركما به لأنكلن بكما، فقالا يا مولانا قل ما أمرتنا به، فلو أمرتنا أن نقتحم النار فعلنا.
قال: فاذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه فأمسكاه، فإن لم يفعل ما آمره به وإلا فاقذفا به في العقيق.
قال: فمضيا والحسن يقفوهما «3» ، فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بمنكبيه، فقال: من هذا؟ فقال له الحسن: أنا هذا يا ابن عائشة، فقال: لبيك وسعديك بأبي أنت وأمي قال: اسمع مني ما أقول لك، واعلم أنك مأسور في أيديهما، وقد أقسمت إن لم تغن مائة صوت ليطرحانك في العقيق. قال: فصاح ابن عائشة: ووايلاه واعظم مصيبتاه، فقال له الحسن: دعنا من صياحك وخذ فيما ينفعنا. قال: اقترح وأقم من يحصي، ثم أقبل يغني، فترك الناس العقيق، وأقبلوا عليه، فلما تمت أصواته مائة كبّر الناس بلسان واحد تكبيرة ارتجت لها أقطار الأرض، وقالوا للحسن: صلى الله على جدك حيا وميتا، فما اجتمع لأحد من أهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت، فقال له الحسن: ما فعلت هذا بك يا ابن عائشة إلا لأخلاقك الشرسة، فقال ابن عائشة: والله ما مرت بي شدة أعظم من هذه لقد بلغت أطراف أعضائي، فكان ابن عائشة بعد ذلك إذا قيل له: ما أشد يوم مر عليك؟ يقول: يوم العقيق.
وحدّث أبو جعفر البغدادي قال: حدثني عبد الله بن محمد كاتب بغداد عن أبي عكرمة قال: خرجت يوما إلى المسجد الجامع، فمررت بباب أبي عيسى بن المتوكل، فإذا على بابه المشدود، وهو أحذق خلق الله تعالى بالغناء، فقال: أين تريد يا أبا عكرمة؟ قلت: المسجد الجامع لعلي أستفيد حكمة أكتبها، فقال: أدخل بنا إلى أبي عيسى. قلت: أمثل أبي عيسى في قدره، وجلالته يدخل عليه بلا إذن؟ فقال للحاجب: أعلم أمير المؤمنين بمكان أبي عكرمة، فما لبث إلا ساعة حتى خرج الغلمان إليّ فحملوني حملا، فدخلت إلى دار ما رأيت أحسن منها بناء، ولا أظرف منها هيئة فلما نظرت إلى أبي عيسى قال لي: ما يعيش من يحتشم اجلس، فجلست، فأتينا بطعام كثير، فلما انقضى أتينا بشراب، وقامت جارية تسقينا شرابا كالشعاع في زجاجة كأنها كوكب دري، فقلت: أصلح الله الأمير وأتم عليه نعمه ولا سلبه ما وهبه. قال: فدعا أبو عيسى بالمغنين وهم المشدود ودبيس ورقيق. ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء، فابتدأ المشدود وغنى يقول:
لما استقلّ بارداف تجاذبه
…
واخضرّ فوق بياض الدرّ شاربه
وأشرق الورد من نسرين وجنته
…
واهتزّ أعلاه وارتجّت حقائبه «4»
كلّمته بجفون غير ناطقة
…
فكان من ردّه ما قال حاجبه
ثم سكت وغنّى دبيس:
الحبّ حلو أمرّته عواقبه
…
وصاحب الحبّ صبّ القلب ذائبه
استودع الله من بالطرف ودّعني
…
يوم الفراق ودمع العين ساكبه
ثم انصرفت وداعي الشوق يهتف بي
…
إرفق بقلبك قد عزّت مطالبه «5»
ثم سكت وغنّى رقيق:
بدر من الإنس حفّته كواكبه
…
قد لاح عارضه واخضرّ شاربه
إن يوعد الوعد يوما فهو مخلفه
…
أو ينطق القول يوما فهو كاذبه
ثم سكت، وابتدأ المشدود يقول:
يا دير حنّة من ذات الأكيراح
…
من يصح عنك فإنّي لست بالصاحي
ثم سكت وغنى دبيس:
دع البساتين من آس وتفّاح
…
واعدل هديت إلى شيخ الأكيراح
واعدل إلى فتية ذابت لحومهم
…
من العبادة إلّا نضو أشباح
ثم أقبل أبو عيسى على المشدود وقال له غنّ لي شعري فغنّاه:
يا لجّة الدمع هل للغمض مرجوع
…
أم للكرى من جفون العين ممنوع
ما حيلتي وفؤادي قائم دنف
…
بعقرب الصدغ من مولاي ملسوع
لا والذي تلفت نفسي بفرقته
…
فالقلب من فرق الأحزان مصدوع «1»
ما أرّق العين إلّا حبّ مبتدع
…
ثوب الجمال على خدّيه مخلوع
قال أبو عكرمة: فو الله لقد حضرت من المجالس ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، فما حضرت مثل ذلك المجلس ولولا أن أبا عيسى قطعهم ما انقطعوا.
وحكي عن الرشيد أنه قال يوما للفضل بن الربيع: من بالباب من الندماء؟ قال: جماعة فيهم هاشم بن سليمان مولى بني أمية، وأمير المؤمنين يشتهي سماعه. قال: فأذن له وحده، فدخل، فقال: هات يا هاشم، فغناه من شعر جميل حيث يقول:
إذا ما تراجعنا الذي كان بيننا
…
جرى الدمع من عيني بثينة بالكحل
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها
…
ويا ويح عقلي ما أصبت به أهلي
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما
…
قتيلا بكى من حبّ قاتله قبلي
قال: فطرب الرشيد طربا شديدا، وقال: أحسنت لله أبوك، قلّده عقدا نفسيا. فما رآه هاشم ترقرقت عيناه بالدموع، فقال له الرشيد: ما يبكيك يا هاشم؟ فقال:
يا أمير المؤمنين إن لهذا العقد حديثا عجيبا إن أذن لي أمير المؤمنين حدثته به، فقال: قد أذنت لك. قال يا أمير المؤمنين: قدمت يوما على الوليد وهو على بحيرة طبربة، ومعه قينتان «2» لم ير مثلهما جمالا وحسنا، فلما وقعت عينه عليّ قال: هذا إعرابي قد ظهر من البوادي أدعو به لنسخر به، فدعاني، فسرت إليه. ولم يعرفني، فغنت إحدى الجاريتين بصوت هو لي، فأخطأته الجارية، فقلت لها: أخطأت يا جارية، فضحكت، ثم قالت: يا أمير المؤمنين ألم تسمع ما يقول هذا الأعرابي يعيب علينا غناءنا؟ فنظر إليّ كالمنكر، فقلت يا أمير المؤمنين: أنا أبين لك الخطأ، فلتصلح، وتر كذا، ووتر كذا، ففعلت وغنت شيئا ما سمع منها إلا في هذا اليوم، فقامت الجارية مكبة عليّ وقالت: أستاذي هاشم وربّ الكعبة، فقال الوليد: أهاشم بن سليمان أنت؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، وكشفت عن وجهي، وأقمت معه بقية يومنا، فأمر لي بثلاثين ألف درهم، فقالت الجارية يا أمير المؤمنين أتأذن لي في بر أستاذي؟ فقال الوليد: ذلك إليك، فحلت يا أمير المؤمنين هذا العقد من عنقها ووضعته في عنقي، وقالت: هو لك، ثم قربوا إليه السفينة ليرجع إلى موضعه، فركب في السفينة، وطلعت معه إحدى الجاريتين، وتبعتها صاحبتي، فأرادت أن ترفع رجلها، وتطلع السفينة فسقطت في الماء، فغرقت لوقتها، وطلبت، فلم يقدر عليها، فاشتد جزع الوليد عليها، وبكى بكاء شديدا، وبكيت أنا عليها أيضا بكاء شديدا، فقال لي يا هاشم: ما نرجع عليك مما وهبناه لك، ولكن نحب أن يكون هذا العقد عندنا نذكرها به، فبعني إياه، فعوضني عنه ثلاثين ألف درهم، فلما وهبتني العقد يا أمير المؤمنين تذكرت قضيته، وهذا سبب بكائي، فقال الرشيد:
لا تعجب، فإن الله كما ورثنا مكانهم ورثنا أموالهم.
وقال علي بن سليمان النوفلي: غنى دحمان الأشقر عند الرشيد يوما فأنشده:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا «3»
…
كفى لمطايانا «4» برؤياك هاديا «5»