الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لعمرك إن في ذنبي لشغلا
…
لنفسي عن ذنوب بني أميه
على ربي حسابهم إليه
…
تناهى علم ذلك لا إليه
وقال علي رضي الله عنه: إذا تم العقل نقص الكلام.
وقال أعرابي: رب منطق صدع جمعا «1» وسكوت شعب صدعا «2» ، وقال وهب بن الورد: بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت، والعاشر في عزلة الناس، وقال علي بن هشام رحمة الله تعالى عليه:
لعمرك إنّ الحلم زين لأهله
…
وما الحلم إلّا عادة وتحلّم
إذا لم يكن صمت الفتى عن ندامة
…
وعيّ فإن الصمت أولى وأسلم
وقال ابن عيينة: من حرم الخير فليصمت، فإن حرمهما فالموت خير له، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر رضي الله عنه:«عليك بالصمت إلا من خير، فإنه مطردة للشيطان، وعون على أمر دينك» .
ومن كلام الحكماء: من نطق في غير خير فقد لغا «3» ، ومن نظر في غير اعتبار فقد سها، ومن سكت في غير فكر فقد لها، وقيل: لو قرأت صحيفتك لأغمدت صفيحتك «4» ولو رأيت ما في ميزانك لختمت على لسانك.
ولمّا خرج يونس عليك السلام من بطن الحوت طال صمته، فقيل له: ألا تتكلم؟ فقال: الكلام صيرني في بطن الحوت. وقال حكيم: إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم.
وكان يقال: من السكوت ما هو أبلغ من الكلام لأن السفيه إذا سكت عنه كان في اغتنام «5» .
وقيل لرجل: بم سادكم الأحنف، فو الله ما كان بأكبركم سنا، ولا بأكثركم مالا؟ فقال: بقوة سلطانه على لسانه.
وقيل: الكلمة أسيرة في وثاق الرجل، فإذا تكلم بها صار في وثاقها.
وقيل: اجتمع أربعة ملوك، فتكلموا، فقال ملك الفرس: ما ندمت على ما لم أقل مرة، وندمت على ما قلت مرارا، وقال قيصر: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت، وقال ملك الصين: ما لم أتكلم بكلمة ملكتها، فإذا تكلمت بها ملكتني، وقال ملك الهند:
العجيب ممن يتكلم بكلمة إن رفعت ضرت وإن لم ترفع لم تنفع. وكان بهرام جالسا ذات ليلة تحت شجرة، فسمع منها صوت طائر، فرماه، فأصابه، فقال: ما أحسن حفظ اللسان بالطائر والإنسان. لو حفظ هذا لسانه ما هلك.
وقال علي رضي الله تعالى عنه: بكثرة الصمت تكون الهيبة. وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل. وقال لقمان لولده: يا بني إذا افتخر الناس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك، يقول اللسان كل صباح وكل مساء للجوارح كيف أنتن، فيقلن بخير إن تركتنا.
قال الشاعر:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلي
…
إن البلاء موكّل بالمنطق
الفصل الثاني في تحريم الغيبة
اعلم أن الغيبة من أقبح القبائح وأكثرها انتشارا في الناس حتى لا يسلم منها إلا القليل من الناس وهي ذكرك الإنسان بما يكره ولو بما فيه سواء كان في دينه أو بدنه أو نفسه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو ولده أو والده أو زوجته أو خادمه أو عمامته أو ثوبه أو مشيته أو حركته أو بشاشته أو خلاعته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته بلفظك أو بكتابك أو رمزت إليه بعينك أو يدك أو رأسك أو نحو ذلك.
فأما الدّين فكقولك سارق، خائن، ظالم، متهاون بالصلاة، متساهل في النجاسات، ليس بارا بوالديه، قليل الأدب، لا يضع الزكاة مواضعها، ولا يجتنب الغيبة.
وأما البدن فكقولك: أعمى، أو أعرج، أو أعمش، أو قصيرا، أو طويلا، أو أسود، أو أصفر.
وأما غيرهما فكقولك: فلان قليل الأدب، متهاون بالناس لا يرى لأحد عليه حقا، كثير النوم، كثير الأكل وما أشبه ذلك، أو كقولك فلان أبوه نجار أو إسكاف أو حداد أو حائك، تريد تنقيصه بذلك أو فلان سيء الخلق متكبر، مراء، معجب، عجول، جبار، ونحو ذلك. أو فلان
واسع الكم، طويل الذيل، وسخ الثوب، ونحو ذلك.
وقد روينا في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره» قيل: وإن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته» قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وروينا في سنن أبي داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا. قال بعض الرواة تعني قصيرة. فقال: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» أي خالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لكثرة نتنها.
وروينا في سنن أبي داود عن أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما عرج بي إلى السماء مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» .
وروي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: من اغتاب المسلمين وأكل لحومهم بغير حق وسعى بهم إلى السلطان، جيء به يوم القيامة مزرقة عيناه ينادي بالويل والثبور ويعرف أهله ولا يعرفونه.
وقال معاوية بن قرة: أفضل النس عند الله أسلمهم صدرا وأقلهم غيبة، وقال الأحنف: فيّ خصلتان: لا أغتاب جليسي إذا غاب عني، ولا أدخل في أمر قوم لا يدخلوني فيه.
وقيل للربيع بن خيثم: ما نراك تعيب أحدا فقال: لست عن نفسي راضيا فأتفرغ لذم الناس وأنشد:
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها
…
لنفسي من نفسي عن الناس شاغل
وقال كثيّر عزة:
وسعى إليّ بعيب عزّة نسوة
…
جعل الإله خدودهنّ نعالها
وقال محمد بن حزم: أول من عمل الصابون سليمان وأول من عمل السويق «1» ذو القرنين وأول من عمل الحيس «2» يوسف، وأول من عمل خبز الجرادق «3» نمروذ، وأول من كتب في القراطيس الحجاج، وأول من اغتاب إبليس لعنه الله اغتاب آدم عليه السلام.
وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام: أن المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنة، وإن أصر فهو أول من يدخل النار.
ويقال: لا تأمن من كذب لك أن يكذب عليك، ومن اغتاب عندك غيرك، أن يغتابك عند غيرك.
وقيل للحسن البصري رضي الله تعالى عنه: إن فلانا اغتابك، فأهدى إليه طبقا من رطب فأتاه الرجل وقال له:
اغتبتك فأهديت إلي، فقال الحسن: أهديت إلي حسناتك فأردت أن أكافئك.
وعن ابن المبارك رحمه الله تعالى قال: لو كنت مغتابا أحدا لاغتبت والدي لأنهما أحق بحسناتي، وإذا حاكى إنسان إنسانا بأن يمشي متعارجا أو متطأطئا أو غير ذلك من الهيئات، يريد تنقيصه بذلك فهو حرام، وبعض المتفقهين والمتعبدين يعرضون بالغيبة تعريضا تفهم به كما تفهم بالتصريح، فيقال لأحدهم كيف حال فلان فيقول الله يصلحنا، الله يغفر لنا، الله يصلحه، نسأل الله العافية، نحمد الله الذي لم يبتلنا بالدخول على الظلمة، نعوذ بالله من الكبر، يعافينا الله من قلة الحياء، الله يتوب علينا
…
وما أشبه ذلك مما يفهم تنقيصه فكل ذلك غيبة محرمة.
واعلم أنه كما يحرم على المغتاب ذكر الغيبة كذلك يحرم على السامع استماعها، فيجب على من يستمع إنسانا يبتدىء بغيبة أن ينهاه إن لم يخف ضررا، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه ومفارقة ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قال بلسانه أسكت وقلبه يشتهي سماع ذلك، قال بعض العلماء، إن ذلك نفاق. قال الله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
«4» ومما أنشدوه في هذا المعنى:
وسمعك صن عن سماع القبيح
…
كصون اللسان عن النطق به