الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس والعشرون في الحياء والتواضع ولين الجانب وخفض الجناح
وفيه فصلان
الفصل الأول في الحياء
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: مكارم الأخلاق عشرة: صدق الحديث، وصدق اللسان، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والمكافأة بالصنيع، وبذل المعروف، وحفظ الذمام للجار، وحفظ الذمام للصاحب وقرى الضيف ورأسهن الحياء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحياء شعبة من الإيمان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» .
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: من كسا بالحياء ثوبه لم ير الناس عيبه. وعن زيد بن علي عن آبائه يرفعونه:
من لم يستح فهو كافر.
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: إني لأدخل البيت المظلم أغتسل فيه من الجنابة فأحني فيه صلبي حياء من ربي، وقال بعضهم: الوجه المصون بالحياء كالجوهر المكنون في الوعاء.
وقال الخواص: إن العباد عملوا على أربع منازل، على الخوف والرجاء والتعظيم والحياء، فأرفعها منزلة الحياء لما أيقنوا أن الله يراهم على كل حال قالوا: سواء علينا رأيناه أو رآنا، وكان الحاجز لهم عن معاصيه الحياء منه.
ويقال: القناعة دليل الأمانة، والأمانة دليل الشكر، والشكر دليل الزيادة، والزيادة دليل بقاء النعمة، والحياء دليل الخير كله.
الفصل الثاني في التواضع ولين الجانب وخفض الجناح
قال الله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ
«1» . وقال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 83
«2» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل العبادة التواضع» . وقال صلى الله عليه وسلم:
«لا ترفعوني فوق قدري، فتقولوا فيّ ما قالت النصارى في المسيح، فإن الله عز وجل اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا» ، وأتاه صلى الله عليه وسلم رجل فكلمه فأخذته رعدة، فقال صلى الله عليه وسلم له:«هوّن عليك، فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» «3» ، وكان صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه، ويخصف نعله «4» ، ويخدم في مهنة أهله ولم يكن متكبرا ولا متجبرا، أشد الناس حياء وأكثرهم تواضعا، وكان إذا حدث بشيء مما أتاه الله تعالى قال: ولا فخر.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن العفو لا يزيد العبد إلا عزا فاعفوا يعزكم الله، وإن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله، وإن الصدقة لا تزيد المال إلا نماء فتصدقوا يزدكم الله» .
وقال عدي بن أرطأة لإياس بن معاوية: إنك لسريع المشية، قال: ذلك أبعد من الكبر وأسرع في الحاجة.
وخرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: اجلس، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار» .
وقيل: التواضع سلم الشرف. ولبس مطرف بن عبد الله الصوف وجلس مع المساكين، فقيل له في ذلك، فقال: إن أبي كان جبارا، فأحببت أن أتواضع لربي لعله أن يخفف عن أبي تجبره.
وقال مجاهد: إن الله تعالى لما أغرق قوم نوح شمخت الجبال وتواضع الجودي فرفعه فوق الجبال، وجعل قرار السفينة عليه.
وقال الله تعالى لموسى عليه السلام: هل تعرف لم كلمتك من بين الناس؟ قال: لا يا رب. قال: لأني رأيتك تتمرغ بين يدي في التراب تواضعا لي. وقيل: من رفع نفسه فوق قدره استجلب مقت الناس «5» .
وقال أبو مسلم صاحب الذخيرة: ما تاه إلا وضيع ولا فاخر إلا لقيط، وكل من تواضع لله رفعه الله. فسبحان من
تواضع كل شيء لعز جبروت عظمته، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب السابع والعشرون في العجب والكبر والخيلاء وما أشبه ذلك
إعلم أن الكبر والإعجاب يسلبان الفضائل ويكسيان الرذائل، وحسبك من رذيلة تمنع من سماع النصح وقبول التأديب، والكبر يكسب المقت، ويمنع من التألف.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر» ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من جرّ ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه» .
وقال الأحنف بن قيس: ما تكبر أحد إلا من ذلة يجدها في نفسه. ولم تزل الحكماء تتحامى الكبر وتأنف منه.
ونظر أفلاطون إلى رجل جاهل معجب بنفسه فقال:
وددت أني مثلك في ظنك وأن أعدائي مثلك في الحقيقة.
ورأى رجل رجلا يختال في مشيه، فقال: جعلني الله مثلك في نفسك ولا جعلني مثلك في نفسي.
وقال الأحنف: عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر. ومر بعض أولاد المهلب بمالك بن دينار وهو يتبختر في مشيه، فقال له مالك: يا بني لو تركت هذه الخيلاء لكان أجمل بك، فقال: أو ما تعرفني «1» ؟ قال: أعرفك معرفة أكيدة أوّلك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة، فأرخى الفتى رأسه وكف عما كان عليه.
وقالوا: لا يدوم الملك مع الكبر وحسبك من رذيلة تسلب الرياسة والسيادة، وأعظم من ذلك أن الله تعالى حرّم الجنة على المتكبرين، فقال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً
«2» ، فقرن الكبر بالفساد. وقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ
«3» . قال بعض الحكماء:
ما رأيت متكبرا إلا ما تحول ما به بي، يعني أتكبر عليه.
واعلم أن الكبر يوجب المقت ومن مقته رجاله لم يستقم حاله، والعرب تجعل جذيمة الأبرش غاية في الكبر، يقال إنه كان لا ينادم أحدا لتكبره ويقول: إنما ينادمني الفرقدان.
وكان ابن عوانة من أقبح الناس كبرا. روي أنه قال لغلامه: اسقني ماء، فقال: نعم، فقال: إنما يقول نعم من يقدر أن يقول: لا، اصفعوه، فصفع. ودعا أكارا فكلمه، فلما فرغ دعا بماء فتمضمض به استقذارا لمخاطبته.
ويقال: فلان وضع نفسه في درجة لو سقط منها لتكسر.
قال الجاحظ: المشهورون بالكبر من قريش بنو مخزوم، وبنو أمية. ومن العرب: بنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عدي، وأما الأكاسرة فكانوا لا يعدون الناس إلا عبيدا وأنفسهم إلا أربابا، وقيل لرجل من بني عبد الدار: ألا تأتي الخليفة، فقال: أخاف أن لا يحمل الجسر شرفي.
وقيل للحجاج بن أرطأة: ما لك لا تحضر الجماعة «4» ؟ قال: أخشى أن يزاحمني البقالون. وقيل:
أتى وائل بن حجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقطعه أرضا، وقال لمعاوية: أعرض عن هذه الأرض عليه وأكتبها له، فخرج معه معاوية في هاجرة شديدة، ومشى خلف ناقته فأحرقه حر الشمس، فقال له: أردفني خلفك على ناقتك، قال:
لست من أرداف الملوك، قال: فأعطني نعليك. قال: ما بخل يمنعني يا ابن أبي سفيان، ولكن أكره أن يبلغ أقيال اليمن «5» أنك لبست نعلي. ولكن أمش في ظل ناقتي فحسبك بها شرفا، وقيل: أنه لحق زمن معاوية ودخل عليه، فأقعده معه على السرير وحدثه.
وقال المسرور بن هند لرجل: أتعرفني؟ قال: لا، قال:
أنا المسرور بن هند، قال: ما أعرفك. قال: فتعسا ونكسا لمن لم يعرف القمر.
قال الشاعر:
قولا لأحمق يلوي التيه أخدعه
…
لو كنت تعلم ما في التيه لم تته «6»
التيه مفسدة للدين منقصة
…
للعقل مهلكة للعرض فانتبه
وقيل: لا يتكبر إلا كل وضيع، ولا يتواضع إلا كل رفيع، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثامن والعشرون في الفخر والمفاخرة والتفاضل والتفاوت
فمن شواهد المفاخرة قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ 18
«1» . نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعقبة بن أبي معيط، وكانا تفاخرا، وقوله تعالى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ
«2» . نزلت في أبي جهل، وعمار بن ياسر، والنسب إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الأنساب، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«أنا سيد ولد آدم ولا فخر» ، وقد نفى الله تعالى الفخر بالأنساب بقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
«3» . فالفخر في الإسلام بالتقوى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن نبيكم واحد وإن أباكم واحد، وأنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلغت» ؟» .
وقال الأصمعي: بينما أنا أطوف بالبيت ذات ليلة إذ رأيت شابا متعلقا بأستار الكعبة وهو يقول:
يا من يجيب دعا المضطر في الظّلم
…
يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا
…
وأنت يا حيّ يا قيوم لم تنم
أدعوك ربّي حزينا هائما قلقا
…
فارحم بكائي بحق البيت والحرم
إن كان جودك لا يرجوه ذو سفه
…
فمن يجود على العاصين بالكرم
ثم بكى بكاء شديدا وأنشد يقول:
ألا أيّها المقصود في كلّ حاجتي
…
شكوت إليك الضرّ فارحم شكايتي
ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي
…
فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي
أتيت بأعمال قباح رديئة
…
وما في الورى عبد جنى كجنايتي «4»
أتحرقني بالنار يا غاية المنى
…
فأين رجائي ثم أين مخافتي
ثم سقط على الأرض مغشيا عليه، فدنوت منه، فإذا هو زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، فرفعت رأسه في حجري وبكيت، فقطرت دمعة من دموعي على خده ففتح عينيه وقال: من هذا الذي يهجم علينا؟ قلت: عبيدك الأصمعي، سيدي ما هذا البكاء والجزع، وأنت من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة؟ أليس الله تعالى يقول:
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً
«5» . فقال: هيهات هيهات يا أصمعيّ إن الله خلق الجنة لمن أطاعه، ولو كان عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان حرا قرشيا، أليس الله تعالى يقول: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ 101 فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 102 وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ 103
«6» .
والفخر وإن نهت عنه الأخبار النبوية ومجّته العقول الذكية إلا أن العرب كانت تفتخر بما فيها من البيان طبعا لا تكلفا، وجبلة «7» لا تعلما، ولم يكن لهم من ينطق بفضلهم إلا هم ولا ينبه على مناقبهم سواهم.
وكان كعب بن زهير إذا أنشد شعرا قال لنفسه: أحسنت وجاوزت والله الإحسان، فيقال له: أتحلف على شعرك؟
فيقول: نعم لأني أبصر به منكم. وكان الكميت إذا قال قصيدة صنع لها خطبة في الثناء عليها، ويقول عند إنشادها: أي علم بين جنبي وأي لسان بين فكي.
وقال الجاحظ، ولم يصف الطبيب مصالح دوائه للمعالجين ما وجد له طالب. ولما أبدع ابن المقفع في رسالته التي سماها باليتيمة تنزيها لها عن المثل، سكنت
من النفوس موضع إرادته من تعظيمها، ولو لم ينحلها هذا الاسم لكانت كسائر رسائله.
وسنذكر في هذا الباب إن شاء الله تعالى شيئا من نظم البلغاء ونثرهم في الافتخار ومن تفاخر منهم بعون الله وفضله وتيسيره.
قال أبو بكر الهذلي: سايرت المنصور فعرض لنا رجل على ناقة حمراء تطوي الفلاة وعليه جبة حمراء وعمامة عدنية، وفي يده سوط يكاد يمس الأرض، فلما رآه المنصور أمرني بإحضاره، فدعوته، وسألته عن نسبه وبلاده وعن قومه وعشيرته وعن ولاة الصدقة، فأحسن الجواب، فأعجبه ما رأى منه، فقال أنشدني شعرا، فأنشده شعر الأوس بن حجر وغيره من الشعراء من بني عمرو بن تميم، وحدثه حتى أتى على بيت شعر لطريف بن تميم وهو قوله:
إن الأمور إذا أوردتها صدرت
…
إن الأمور لها ورد وإصدار
فقال: ويحك ما كان طريف فيكم حيث قال هذا البيت؟
قال: كان أثقل العرب على عدوه وطأة وأقراهم لضيفه، وأحوطهم من وراء جاره «1» ، اجتمعت العرب بعكاظ، فكلهم أقروا له بهذه الخلال، فقال له: والله يا أخا بني تميم لقد أحسنت إذ وصفت صاحبك، ولكني أحق ببيته منه ومن شعر أبي الطحان:
وإنّي من القوم الذين هم هم
…
إذا مات منهم سيّد قام صاحبه
نجوم سماء كلمّا غاب كوكب
…
بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم
…
دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه «2»
وما زال فيهم حيث كان مسوّدا
…
تسير المنايا حيث سارت ركائبه
ولما قدم معاوية المدينة صعد المنبر فخطب وقال: من ابن علي رضي الله تعالى عنه؟ فقام الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله عز وجل لم يبعث بعثا إلا جعل له عدوا من المجرمين، فأنا ابن علي وأنت ابن صخر وأمك هند وأمي فاطمة وجدتك قيلة وجدتي خديجة، فلعن الله ألأمنا حسبا وأخملنا ذكرا وأعظمنا كفرا وأشدنا نفاقا، فصاح أهل المسجد آمين آمين، فقطع معاوية خطبته ودخل منزله.
وروي أن معاوية خرج حاجّا فمر بالمدينة ففرق على أهلها أموالا ولم يحضر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فلما خرج من المدينة اعترضه الحسن بن علي فقال له معاوية: مرحبا برجل تركنا حتى نفد ما عندنا وتعرض لنا ليبخلنا، فقال له الحسن: ولم ينفد ما عندك وخراج الدنيا يجي إليك، فقال معاوية: إني قد أمرت لك بمثل ما أمرت به لأهل المدينة وأنا ابن هند، فقال الحسن: قد رددته عليك وأنا ابن فاطمة.
ودخل الحسين يوما على يزيد بن معاوية فجعل يزيد يفتخر ويقول: نحن ونحن ولنا من الفخر والشرف كذا وكذا والحسين ساكت فأذن المؤذن فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله قال الحسين: يا يزيد جدّ من هذا؟
فخجل يزيد ولم يرد جوابا. وفي ذلك يقول علي بن محمد بن جعفر:
لقد فاخرتنا من قريش عصابة
…
بمطّ خدود وامتداد أصابع
فلما تنازعنا الفخار قضى لنا
…
عليهم بما نهوى نداء الصوامع
ترانا سكوتا والشهيد بفضلنا
…
عليهم جهير الصوت من كل جامع
وله أيضا:
إني وقوميّ من أنساب قومهم
…
كمسجد الخيف من بحبوحة الخيف
ما علق السيف منا بابن عاشرة
…
إلا وهمته أمضى من السيف
وتفاخر العباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة وعلي بن أبي طالب، فقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، وقال طلحة: أنا خادم البيت ومعي مفتاحه، فقال علي: ما أدري ما تقولان أنا صليت إلى هذه القبلة قبلكما بستة أشهر، فنزلت أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
«3» .
الآية.
وتفاخر رجلان على عهد موسى عليه السلام فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان حتى عد تسعة آباء مشركين، فقال الآخر: أنا ابن فلان ولولا أنه مسلم ما ذكرته، فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أما الذي عد تسعة آباء مشركين فحق على الله أن يجعل عاشرهم في النار، والذي انتسب إلى أب مسلم فحق على الله أن يجعله مع أبيه المسلم في الجنة. قال سلمان الفارسي:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
…
إذا افتخروا بقيس أو تميم
وتفاخر جرير والفرزدق عند سليمان بن عبد الملك، فقال الفرزدق: أنا ابن محي الموتى، فأنكر سليمان قوله، فقال يا أمير المؤمنين قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً
«1» وجدي فدى الموءودات فاستحياهن، فقال سليمان: إنك مع شعرك لفقيه. وكان صعصعة جد الفرزدق أول من فدى الموءودات.
وللعباس بن عبد المطلب:
إن القبائل من قريش كلّها
…
ليرون أنّا هام أهل الأبطح
وترى لنا فضلا على ساداتها
…
فضل المنار على الطريق الأوضح
وكتب الحكم بن عبد الرحمن المرواني من الأندلس إلى صاحب مصر يفتخر:
ألسنا بني مروان كيف تبدلت
…
بنا الحال أو دارت علينا الدوائر
إذا ولد المولود منها تهلّلت
…
له الأرض واهتزت إليه المنابر
وكتب إليه كتابا يهجوه فيه ويسبه، فكتب إليه صاحب مصر: أما بعد: فإنك عرفتنا فهجوتنا ولو عرفناك لأجبناك والسلام.
وكان أبو العباس السفاح يعجبه السّمر «2» ومنازعة الرجال بعضهم بعضا، فحضر عنده ذات ليلة إبراهيم بن مخرمة الكندي وخالد بن صفوان بن الأهتم فخاضوا في الحديث وتذاكروا مصر واليمن، فقال إبراهيم بن مخرمة:
يا أمير المؤمنين إن أهل اليمن هم العرب الذين دانت لهم الدنيا ولم يزالوا ملوكا ورثوا الملك كابرا عن كابر وآخرا عن أول منهم النعمان والمنذر ومنهم عياض صاحب البحرين ومنهم من كان كل يأخذ سفينة غصبا وليس من شيء له خطر إلا إليهم ينسب، إن سئلوا أعطوا وإن نزل بهم ضيف قروه، فهم العرب العاربة وغيرهم المتعربة.
فقال أبو العباس: ما أظن التميمي رضي بقولك.
ثم قال: ما تقول أنت يا خالد؟ قال: إن أذن لي أمير المؤمنين في الكلام تكلمت، قال: تكلم ولا تهب أحدا، وقال: أخطأ المقتحم بغير علم «3» ، ونطق بغير صواب، وكيف يكون ذلك لقوم ليس لهم ألسن فصيحة، ولا لغة صحيحة نزل بها كتاب ولا جاءت بها سنّة، يفتخرون علينا بالنعمان والمنذر ونفتخر عليهم بخير الأنام وأكرم الكرام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فلله المنة به علينا وعليهم، فمنا النبي المصطفى والخليفة المرتضى ولنا البيت المعمور وزمزم، والحطيم، والمقام، والحجابة، والبطحاء، وما لا يحصى من المآثر، ومنا الصديق والفاروق وذو النورين، والرضا والولي وأسد الله وسيد الشهداء، وبنا عرفوا الدين، وأتاهم اليقين، فمن زاحمنا زاحمناه ومن عادانا اصطلمناه «4» ، ثم أقبل خالد على إبراهيم فقال: ألك علم بلغة قومك؟ قال: نعم. قال: فما اسم العين عندكم؟ قال: الجمجمة، قال: فما اسم السن؟
قال: الميدن، قال: فما اسم الأذن؟ قال: الصنارة، قال:
فما اسم الأصابع؟ قال: الشناتير، قال: فما اسم الذئب؟
قال: الكنع، قال: أفعالم أنت بكتاب الله عز وجل؟ قال:
نعم. قال: فإن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا
«5» وقال تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195
«6» وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ
«7» ، فنحن العرب والقرآن بلساننا أنزل، ألم تر أن الله تعالى قال: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
«8» ولم يقل، والجمجمة بالجمجمة، وقال تعالى: وَالسِّنَّ بِالسِّنِ
«9» ولم يقل والميدن بالميدن.
وقال تعالى: وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ
«10» ولم يقل والصنارة بالصنارة، وقال تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي
آذانِهِمْ
«1» ولم يقل شناتيرهم في صناراتهم، وقال تعالى:
فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ
«2» ولم يقل الكنع، ثم قال لإبراهيم إني أسألك عن أربع إن أقررت بهن قهرت وإن جحدتهن كفرت، قال: وما هن؟ قال: الرسول منا أو منكم؟ قال:
منكم. قال: فالقرآن أنزل علينا أو عليكم؟ قال: عليكم.
قال: فالمنبر فينا أو فيكم؟ قال: فيكم. قال: فالبيت لنا أو لكم؟ قال: لكم. قال: فاذهب فما كان بعد هؤلاء فهو لكم، بل ما أنتم إلا سائس قرد، أو دابغ جلد أو ناسج برد، قال: فضحك أبو العباس، وأقرّ لخالد وحباهما جميعا.
وقال بشار بن برد يفتخر:
إذا نحن صلنا صولة مضرية
…
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة
…
ذرا منبر صلّى علينا وسلما
وقال السموأل بن عادياء «3» :
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
…
فكلّ رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
…
فليس إلى حسن الثناء سبيل
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا
…
فقلت لها إنّ الكرام قليل
وما قلّ من كانت بقاياه مثلنا
…
شباب تسامى للعلا وكهول
وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا
…
عزيز وجار الأكثرين ذليل
لنا جبل يحتلّه من بحيره
…
منيع يردّ الطرف وهو كليل
سرى أصله تحت الثرى وسما به
…
إلى النجم فرع لا يزال طويل
وإنّا أناس لا نرى القتل سبّة
…
إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حبّ الموت آجالنا لنا
…
وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منّا سيّد حتف أنفه
…
ولا طلّ منا حيث كان قتيل
تسيل على حدّ الظّبات «4» نفوسنا
…
وليست على غير الظّبات تسيل
ونحن كماء المزن ما في نصابنا
…
كهام ولا فينا يعدّ بخيل «5»
وننكر إن شئنا على الناس قولهم
…
ولا ينكرون القول حين نقول
إذا سيّد منّا خلا قام سيّد
…
قؤول بما قال الكرام فعول
وما خمدت نار لنا دون طارق «6»
…
ولا ذمّنا في النازلين نزيل
وأيامنا مشهورة في عدوّنا
…
لها غرر مشهورة وحجول «7»
وأسيافنا في كلّ شرق ومغرب
…
بها من قراع الدارعين فلول «8»
معوّدة أن لا تسلّ نصالها
…
فتغمد حتى يستباح قتيل
سلي إن جهلت النّاس عنّا وعنهم
…
فليس سواء عالم وجهول
فإنّا بني الريان قطب لقومهم
…
تدور رحاهم حولهم وتجول
ولما قدم وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم خطيبهم وشاعرهم، خطب خطيبهم، فافتخر، فلما سكت، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس أن يخطب بمعنى ما خطب به خطيبهم، فخطب ثابت بن قيس فأحسن، ثم قام شاعرهم وهو الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الملوك فلا حيّ يفاخرنا
…
فينا العلاء وفينا تنصب البيع
ونحن نطعمهم في القحط ما أكلوا
…
من العبيط «1» إذا لم يؤنس الفزع
وننحر الكوم «2» عبطا في أرومتنا
…
للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
تلك المكارم حزناها مقارعة
…
إذا الكرام على أمثالها اقترعوا
ثم جلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت قم، فقام فقال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
…
قد بيّنوا سننا للناس تتبع «3»
يرضى بها كل من كانت سريرته
…
تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوهم
…
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا «4»
سجية تلك منهم غير محدثة
…
إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع
لو كان في الناس سبّاقون بعدهم
…
فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرفع الناس ما أوهت أكفّهم
…
عند الدفاع ولا يوهون ما رفعوا
ولا يضنّون عن جار بفضلهم
…
ولا يمسهم في مطمع طمع «5»
خذ منهم ما أتوا عفوا إذا عطفوا
…
ولا يكن همّك الأمر الذي منعوا
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم
…
إذا تفرّقت الأهواء والشيّع
فقال التميميون عند ذلك: وربكم إن خطيب القوم أخطب من خطيبنا وإن شاعرهم أشعر من شاعرنا، وما انتصفنا ولا قاربنا.
وقال شاعر من بني تميم:
أيبغي آل شداد علينا
…
وما يرعى لشداد فصيل
فإن تغمد مناصلنا نجدها
…
غلاظا في أنامل من يصول
وقال سالم بن أبي وابصة:
عليك بالقصد فيما أنت فاعله
…
إن التخلق يأتي دونه الخلق
وموقف مثل حد السيف قمت به
…
أحمي الذمار وترميني به الحدق «6»
فما زلقت ولا أبديت فاحشة
…
إذا الرجال على أمثالها زلقوا «7»
وأما التفاضل والتفاوت:
فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نظر لخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل قال: يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، لأنهما كانا من خيار الصحابة وأبواهما أعدى عدو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم «8» .
ومن كلام علي رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه:
أما قولك إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن، ولكن ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب.
وقال أحمد بن سهل: الرجال ثلاثة: سابق ولاحق وما حق، فالسابق الذي سبق بفضله، واللاحق الذي لحق بأبيه في شرفه، والماحق الذي محق شرف آبائه.
وقيل: إن عائشة بنت عثمان كفلت أبا الزناد صاحب الحديث، وأشعب الطماع وربتهما، قال أشعب: فكنت أسفل وكان يعلو حتى بلغت أنا وهو هاتين الغايتين.
وقال أبو العواذل زكريا بن هارون:
عليّ وعبد الله بينهما أب
…
وشتّان ما بين الطبائع والفعل
ألم تر عبد الله يلحى على الندى
…
عليا ويلحاه علي على البخل «9»
وحج أبو الأسود الدؤلي بامرأته وكانت شابة جميلة فعرض لها عمر بن أبي ربيعة، فغازلها، فأخبرت أبا الأسود، فأتاه فقال:
وإنّي لينهاني عن الجهل والخنا
…
وعن شتم أقوام خلائق أربع «1»
حياء وإسلام وتقوى وأنّني
…
كريم ومثلي من يضرّ وينفع
فشتّان ما بيني وبينك إنني
…
على كلّ حال أستقيم وتضلع «2»
وقال ربيعة الرقّي:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
…
يزيد سليم والأعزّ بن حاتم
يزيد سليم سالم المال والفتى
…
فتى الأزد للأموال غير مسالم «3»
فهمّ الفتى الأزدي إتلاف ماله
…
وهمّ الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب القيسيّ أنّي هجوته
…
ولكنني فضلت أهل المكارم
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في أخيه الحسين:
يقول أنا الكبير فعظّموني
…
ألا ثكلتك أمّك من كبير
إذا كان الصغير أعمّ نفعا
…
وأجلد عند نائبة الأمور
ولم يأت الكبير بيوم خير
…
فما فضل الكبير على الصغير
والله أعلم بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب التاسع والعشرون في الشرف والسؤدد وعلو الهمة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رزقه الله مالا فبذل معروفه وكف أذاه فذلك السيد.
وقيل لقيس بن عاصم: بم سدت قومك؟ قال: لم أخاصم أحدا إلا تركت للصلح موضعا. وقال سعيد بن العاص: ما شاتمت رجلا مذ كنت رجلا لأني لا أشاتم إلا أحد رجلين إما كريم، فأنا أحق أن أجلّه، وإمّا لئيم فأنا أولى أن أرفع نفسي عنه.
وقالوا: من نعت السيد أن يكون يملأ العين جمالا، والسمع مقالا. وقيل: قدم وفد من العرب على معاوية وفيهم الأحنف بن قيس، فقال الحاجب: إن أمير المؤمنين يعزم عليكم أن لا يتكلم منكم أحد إلا لنفسه، فلما وصلوا إليه قال الأحنف: لولا عزم أمير المؤمنين لأخبرته أن رادفة ردفت «4» ونازلة نزلت «5» ، ونائبة نابت، الكل بهم حاجة إلى المعروف من أمير المؤمنين، فقال له معاوية: حسبك يا أبا بحر، فقد كفيت الشاهد والغائب.
وقال رجل للأحنف: بم سدت قومك، وما أنت بأشرفهم بيتا، ولا أصبحهم وجها، ولا أحسنهم خلقا؟
فقال: بخلاف ما فيك، قال: وما ذاك؟ قال: تركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وقيل: السيد من يكون للأولياء كالغيث الغادي «6» ، وعلى الأعداء كالليث العادي.
وكان سبب ارتفاع عرابة الأوسي وسؤدده أنه قدم من سفر، فجمعه والشماخ بن ضرار المزني الطريق، فتحادثا، فقال له عرابة: ما الذي أقدمك المدينة يا شماخ؟
قال: قدمتها لأمتار «7» منها، فملأ له عرابة رواحله برّا وتمرا وأتحفه بتحف غير ذلك، فأنشد يقول:
رأيت عرابة الأوسيّ يسمو
…
إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد
…
تلقاها عرابة باليمين
وأما علو الهمة فهو أصل الرياسة فممن علت همته وشرفت نفسه عمارة بن حمزة، قيل:
إنه دخل يوما على المنصور، وقعد في مجلسه، فقام رجل، وقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، قال: من ظلمك؟
قال: عمارة بن حمزة غصبني ضيعتي، فقال المنصور: يا عمارة قم، فاقعد مع خصمك، فقال: ما هو لي بخصم إن كانت الضيعة له، فلست أنازعه فيها، وإن كانت لي فقد وهبتها له، ولا أقوم من مقام شرفني به أمير المؤمنين ورفعني، وأقعد في أدنى منه لأجل ضيعة.
وتحدث السفاح هو وأم سلمة يوما في نزاهة نفس عمارة وكبره، فقالت له: ادع به وأنا أهب له سبحتي هذه، فإن ثمنها خمسون ألف دينار، فإن هو قبلها علمنا أنه غير نزه النفس، فوجه إليه فحضر، فحادثته ساعة، ثم رمت إليه بالسبحة، وقالت: هي من الطرف «1» وهي لك، فجعلها عمارة بين يديه، ثم قام وتركها، فقالت: لعله نسيها، فبعثت بها إليه مع خادم فقام للخادم: هي لك، فرجع الخادم فقال: قد وهبها لي، فأعطت أم سلمة للخادم ألف دينار واستعادتها منه.
وأهدى عبيد الله بن السري إلى عبد الله بن طاهر لما ولي مصر مائة وصيف مع كل وصيف ألف دينار، ووجه إليه بذلك ليلا فرده وكتب إليه لو قبلت هديتك ليلا لقبلتها نهارا فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
«2» .
وكان سبب فتح المعتصم عمورية أن امرأة من الثغر سبيت، فنادت وامحمداه وامعتصماه، فبلغه الخبر، فركب لوقته وتبعه الجيش فلما فتحها قال: لبيك أيتها المنادية.
وكان سعيد بن عمرو بن العاص ذا نخوة وهمة، قيل له في مرضه: إن المريض يستريح إلى الأنين وإلى شرح ما به إلى الطبيب، فقال: أما الأنين، فهو جزع وعار، والله لا يسمع الله مني أنينا، فأكون عنده جزوعا، وأما وصف ما بي إلى الطبيب، فو الله لا يحكم غير الله في نفسي إن شاء أمسكها، وإن شاء قبضها.
ومن كبر النفس ما روي عن قيس بن زهير أنه أصابته الفاقة واحتاج فكان يأكل الحنظل «3» حتى قتله، ولم يخبر أحدا بحاجته.
ومن الشرف والرياسة حفظ الجوار، وحمى الذمار.
وكانت العرب ترى ذلك دينا تدعو إليه وحقا واجبا تحافظ عليه، وكان أبو سفيان بن حرب إذا نزل به جار قال: يا هذا إنك اخترتني جارا أو اخترت داري دارا، فجناية يدك عليّ دونك وإن جنت عليك يد، فاحتكم حكم الصبي على أهله.
وكان الفرزدق يجير من عاذ بقبر أبيه غالب بن صعصعة، فمن استجار بقبر أبيه فأجاره امرأة من بني جعفر بن كلاب خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر أن يسميها وينسبها، فعاذت بقبر أبيه، فلم يذكر لها اسما ولا نسبا، ولكن قال:
عجوز تصلي الخمس عاذت بغالب
…
فلا والذي عاذت به لا أضيرها «4»
وقال مروان بن أبي حفصة:
هم يمنعون الجار حتى كأنّما
…
لجارهم بين السماكين منزل «5»
وقال ابن نباتة:
ولو يكون سواد الشعر في ذمم
…
ما كان للشيب سلطان على القمم
وقيل: إن الحجاج أخذ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وعذبه واستأصل موجوده وسجنه، فتوصل يزيد بحسن تلطفه وأرغب السجان واستماله، وهرب هو والسجان، وقصد الشام إلى سليمان بن عبد الملك بن مروان، وكان الخليفة في ذلك الوقت الوليد بن عبد الملك، فلما وصل يزيد بن المهلب إلى سليمان بن عبد الملك أكرمه وأحسن إليه، وأقامه عنده، فكتب الحجاج إلى الوليد يعلمه أن يزيد هرب من السجن وأنه عند سليمان بن عبد الملك أخي أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين وأن أمير المؤمنين أعلى رأيا. فكتب الوليد إلى أخيه سليمان بذلك، فكتب سليمان إلى أخيه يقول: يا أمير المؤمنين إني ما أجرت يزيد بن المهلب إلا لأنه هو وأبوه وإخوته من صنائعنا قديما وحديثا، ولم أجر عدوا لأمير المؤمنين، وقد كان الحجاج فصده وعذبه وأغرمه أربعة آلاف ألف درهم ظلما، ثم طالبه بعدها بثلاثة آلاف ألف درهم وقد صار إلي واستجار بي، فأجرته وأنا أغرم عنه هذه الثلاثة آلاف ألف درهم، فإن رأى أمير المؤمنين، أن لا يخزيني في ضيفي فليفعل، فإنه أهل الفضل والكرم.
فكتب إليه الوليد إنه لا بد أن ترسل إليّ يزيد مغلولا
مقيدا، فلما ورد ذلك على سليمان أحضر ولده أيوب فقيده ودعا يزيد بن المهلب فقيده، ثم شد قيد هذا إلى قيد هذا بسلسلة وغلهما جميعا بغلين وأرسلهما إلى أخيه الوليد، وكتب إليه: أما بعد، يا أمير المؤمنين فقد وجهت إليك يزيد وابن أخيك أيوب بن سليمان، ولقد هممت أن أكون ثالثهما، فإن هممت يا أمير المؤمنين بقتل يزيد، فبالله عليك إبدأ بأيوب من قبله، ثم اجعل يزيد ثانيا واجعلني إذا شئت ثالثا والسلام.
فلما دخل يزيد بن المهلب وأيوب بن سليمان في سلسلة واحدة أطرق الوليد استحياء وقال: لقد أسأنا إلى أبي أيوب إذ بلغنا به هذا المبلغ، فأخذ يزيد ليتكلم ويحتج لنفسه فقال له الوليد: ما يحتاج إلى كلام فقد قبلنا عذرك وعلمنا ظلم الحجاج. ثم إنه أحضر حدادا وأزال عنهما الحديد وأحسن إليهما ووصل أيوب ابن أخيه بثلاثين ألف درهم ووصل يزيد بن المهلب بعشرين ألف درهم وردهما إلى سليمان، وكتب كتابا إلى الحجاج يقول له: لا سبيل لك على يزيد بن المهلب فإياك أن تعاودني فيه بعد اليوم.
فسار يزيد إلى سليمان بن عبد الملك وأقام عنده في أعلى المراتب وأرفع المنازل.
وحكي: أن رجلا من الشيعة كان يسعى في فساد الدولة فجعل المهدي لمن دل عليه أو أتى به مائة ألف درهم، فأخذه رجل من بغداد فأيس من نفسه فمر به معن بن زائدة فقال له: يا أبا الوليد أجرني أجارك الله.
فقال معن للرجل: مالك وماله؟ فقال: إن أمير المؤمنين طالبه قال: خل سبيله، قال: لا أفعل، فأمر معن غلمانه فأخذوه غصبا وأردفه بعضهم خلفه. ومضى الرجل فأخبر أمير المؤمنين المهدي بالقصة، فأرسل خلف معن فأحضره فلما دخل عليه قال له: يا معن أتجير علي، قال: نعم يا أمير المؤمنين قتلت في يوم واحد في طاعتكم خمسة آلاف رجل هذا مع أيام كثيرة تقدمت فيها طاعتي أفما تروني أهلا أن تجيروا إلي رجلا واحدا استجار بي، فاستحيا المهدي وأطرق طويلا ثم رفع رأسه وقال: قد أجرنا من أجرت يا أبا الوليد، قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يصل من استجار بي فيكون قد أجاره وحباه، قال: قد أمرت له بخمسين ألف درهم. فقال معن: يا أمير المؤمنين ينبغي أن تكون صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية وإن ذنب الرجل عظيم فإن رأى أمير المؤمنين أن يجزل صلته فليفعل، قال: قد أمرت له بمائة ألف درهم، فرجع معن إلى منزله ودعا بالرجل ودفع له المال ووعظه وقال له: لا تتعرض لمساخط الخلفاء.
وكان جعفر بن أبي طالب يقول لأبيه: يا أبت إني لأستحي أن أطعم طعاما وجيراني لا يقدرون على مثله، فكان أبوه يقول إني لأرجو أن يكون فيك خلف من عبد المطلب.
وسقط الجراد قريبا من بيت بعض العرب فجاء أهل الحي فقالوا: نريد جارك فقال: أما إذ جعلتموه جاري فوالله لا تصلون إليه، وأجاره حتى طار فسمّي مجير الجراد، وقيل هو أبو حنبل.
والحكايات في معنى ذلك كثيرة والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثلاثون في الخير والصلاح وذكر السادة الصحابة وذكر الأولياء والصالحين رضي الله تعالى عنهم أجمعين
اعلم.. أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، وفضائلهم أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر، وإني والله أحبهم وأحب من يحبهم، وأسأل الله أن يميتني على محبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومحبتهم وأن يحشرنا في زمرتهم وتحت ألويتهم إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.
شعر:
إني أحب أبا حفص «1» وشيعته
…
كما أحبّ عتيقا صاحب الغار «2»
وقد رضيت عليا قدوة علما
…
وما رضيت بقتل الشيخ في الدار «3»
كلّ الصحابة ساداتي ومعتقدي
…
فهل عليّ بهذا القول من عار
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبح منكم اليوم صائما؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أطعم اليوم منكم مسكينا؟ فقال أبو بكر: أنا، قال فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في أحد إلا دخل الجنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: لو كان بعدي نبي لكان عمر، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق بشيرا ما سلكت واديا إلا سلك الشيطان واديا غيره، ولما أسلم رضي الله عنه قال: يا رسول الله ألسنا على الحق، قال: بلى، قال: والذي بعثك بالحق نبيا لا نعبد الله سرا بعد هذا اليوم.
ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام وقف على طور سيناء فأرسل البطريق عظيما لهم وقال: أنظر إلى ملك العرب فرآه على فرس وعليه جبة صوف مرقعة مستقبل الشمس بوجهه ومخلاته في قربوس السرج وعمر يدخل يده فيها ويخرج فلق خبز يابس يمسحها من التبن ويلوكها، فوصفه البطريق فقال: لا ترى بمحاربة هذا طاقة أعطوه ما شاء.
وأما أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه ففضائله كثيرة ومناقبه شهيرة فهو جامع القرآن، ومن استحيت منه ملائكة الرحمن رضي الله عنه.
وقال جميع بن عمير: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أخبريني من كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فاطمة. قلت: إنما أسألك عن الرجال قالت: زوجها، فو الله لقد كان صواما قواما. ولقد سالت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده فردها إلى فيه، قلت:
فما حملك على ما كان فأرسلت خمارها على وجهها وبكت وقالت: أمر قضي عليّ.
وقال معاوية لضرار بن حمزة الكناني: صف لي عليا فاستعفى فألح عليه فقال: أما إذن فلا بد إنه والله كان بعيد المدى شديد القوى يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة طويل الفكرة يقلب كفه ويعاتب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكان والله يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويحب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد الله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ الخائف ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه يقول: يا دنيا إلي تعرضت أم إلي تشّوقت هيهات غرّي غيري لقد أبنتك ثلاثا لا رجعة لي فيك فعمرك قصير وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد ووحشة الطريق، قال: فوكفت دموع معاوية حتى ما يملكها على لحيته وهو يمسحها وقد اختنق القوم بالبكاء، وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال حزني عليه والله حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا تسكن حيرتها ثم قام فخرج.
وقيل أول من سل سيفا في سبيل الله تعالى الزبير بن العوام رضي الله عنه، وذلك أنه صاح على أهل مكة ليلا صائح، فقال: قتل محمد، فخرج متجردا وسيفه معه صلتا فتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك يا زبير؟ قال: سمعت أنك قتلت، قال: فماذا أردت أن تصنع قال: أردت والله أن أستعرض على أهل مكة «1» . وروي: أحبط بسيفي من قدرت عليه فضمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه إزارا له فاستتر به وقال له: أنت حواريي ودعا له.
قال الأوزاعي: كان للزبير ألف مملوك يؤدون الضريبة لا يدخل بيت ماله منها درهم بل كان يتصدق بها، وباع دارا له بستمائة ألف درهم فقيل له يا أبا عبد الله غبنت «2» ، قال: كلا والله لم أغبن أشهدكم أنها في سبيل الله تعالى.
وهبط جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال من حملك على ظهره؟ وكان حمله على ظهره طلحة حتى استقل على الصخر، قال: طلحة، قال: أقرئه السلام وأعلمه أني لا أراه يوم القيامة في هول من أهوالها إلا استنقذته منه. من هذا الذي عن يمينك؟ قال: المقداد بن الأسود، قال: إن الله يحبه ويأمرك أن تحبه. من هذا الذي بين يديك يتقي عنك؟ قال: عمار بن ياسر قال: بشره بالجنة حرمت النار عليه. ومر أبو ذر على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي فلم يسلم، فقال جبريل: هذا أبو ذر لو سلم لرددنا عليه فقال: أتعرفه يا جبريل؟ قال: والذي بعثك بالحق نبيا لهو في ملكوت السموات السبع أشهر منه في الأرض، قال: بم نال هذه المنزلة؟ قال: بزهده في هذه الحطام الفانية. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن
الله ليدفع بالمسلم الصالح عن ألف بيت من جيرانه البلاء، ثمّ قرأ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
«1» الآية.
وقال أبو بكر السفاح لأبي بكر الهذلي: بم بلغ الحسن ما بلغ قال: جمع كتاب الله تعالى وهو ابن اثنتي عشرة سنة لم يجاوز سورة إلى غيرها حتى يعرف تأويلها، ولم يقلب درهما قط في تجارة ولم يل عملا لسلطان ولم يأمر بشيء حتى يفعله ولم ينه عن شيء حتى يدعه، قال السفاح: بهذا بلغ.
وقال الجاحظ: كان الحسن يستثنى من كل غاية فيقال فلان أزهد الناس إلا الحسن وأفقه الناس إلا الحسن وأفصح الناس إلا الحسن وأخطب الناس إلا الحسن.
وقال بعضهم: كان عمر بن عبد العزيز أزهد من أويس لأن عمر ملك الدنيا فزهد فيها وأويس لم يملكها، فقيل:
لو ملكها لفعل كما فعل عمر فقال: ليس من لم يجرب كمن جرب.
وقال أنس في ثابت البناني: إن للخير مفاتيح وإن ثابتا من مفاتيح الخير. وكان حبيب الفارسي من أخيار الناس وهو الذي اشترى نفسه من ربه أربع مرات بأربعين ألفا، كان يخرج البدرة فيقول: يا رب اشتريت نفسي منك بهذه ثم يتصدق بها.
وكان أيوب السختياني من أزهد الناس وأورعهم، ذكر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فقال: رحم الله أيوب لقد شهدت منه مقاما عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم لا أذكر ذلك المقام إلا اقشعر جلدي.
وقال سفيان الثوري: جهدت جهدي على أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك فلم أقدر.
وكان الخليل بن أحمد النحوي من أزهد الناس وأعلاهم نفسا وكان الملوك يقصدونه ويبذلون له الأموال فلا يقبل منها شيئا، وكان يحج سنة ويغزو سنة حتى مات رحمه الله.
وقال ابن خارجة: جالست ابن عون عشرين سنة فما أظن الملكين كتبا عليه شيئا، وروى أنه غسل كرز بن وبرة فلم يوجد على جسده مثقال لحم.
وعن محمد بن الحسن «2» قال: كان أبو حنيفة واحد زمانه، لو انشقت عنه الأرض لانشقت عن جبل من الجبال في العلم والكرم والزهد والورع.
وحج وكيع بن الجراح أربعين حجة ورابط في عبادان أربعين ليلة وختم بها القرآن أربعين ختمة وتصدق بأربعين ألفا وروى أربعة آلاف حديث، وما رؤي واضعا جنبه قط.
ووقف عمر بن عبد العزيز على عطاء بن أبي رباح وهو أسود مفلفل الشعر، يفتي الناس في الحلال والحرام فتمثل يقول: تلك المكارم لا قعبان من لبن «3» .
ومن مشايخ الرسالة رضوان الله عليهم أجمعين سيدي أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المغربي أستاذ إبراهيم بن شيبان، كان عجيب الشأن لم يأكل مما وصلت إليه أيدي بني آدم سنين كثيرة وكان أكله من أصول العشب شيئا تعود أكله.
ومنهم سيدي فتح بن شحرف بن داود: يكنى أبا نصر من الزاهدين الورعين، لم يأكل الخبز ثلاثين سنة، قال أحمد بن عبد الجبار: سمعت أبي يقول: صحبت فتح بن شحرف ثلاثين سنة فلم أره رفع رأسه إلى السماء، ثم رفعها يوما فقال: طال شوقي إليك فعجّل قدومي عليك.
وقال محمد بن جعفر: سمعت إنسانا يقول غسلنا فتح بن شحرف فرأينا مكتوبا على فخذه لا إله إلا الله فتوهمناه مكتوبا وإذا هو عرق داخل الجلد، ومات ببغداد فصلّي عليه ثلاثا وثلاثين مرة أقل قوم كانوا يصلون عليه كانوا نحو من خمسة وعشرين ألفا إلى ثلاثين ألفا.
ومنهم سيدي فتح بن سعيد الموصلي: يكنى أبا نصر من أقران بشر الحافي وسري السقطي كبير الشأن في باب الورع والمجاهدات. قال إبراهيم بن نوح الموصلي:
رجع فتح الموصلي إلى أهله بعد صلاة العتمة وكان صائما فقال: عشوني فقالوا: ما عندنا شيء نعشيك به، فقال: ما بالكم جلوس في الظلمة؟ فقالوا: ما عندنا شيء نسرج به، فجعل يبكي من الفرح ويقول: إلهي مثلي يترك بلا عشاء ولا سراج بأي يد كانت مني، فما زال يبكي إلى الصباح.
وقال فتح: رأيت بالبادية غلاما لم يبلغ الحلم وهو يمشي وحده ويحرك شفتيه فسلمت عليه فرد علي السلام، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى بيت ربي عز وجل فقلت:
بماذا تحرك شفتيك؟ قال أتلو كلام ربي، فقلت: إنه لم يجر عليك قلم التكليف؟ قال: رأيت الموت يأخذ من هو
أصغر سنا مني، فقلت: خطاك قصيرة وطريقك بعيدة، فقال: إنما علي نقل الخطا وعليه البلاغ، فقلت: أين الزاد والراحلة؟ قال: زادي يقيني وراحلتي رجلاي، فقلت:
أسألك عن الخبز والماء، قال: يا عماه أرأيت لو دعاك مخلوق إلى منزله أكان يجمل بك أن تحمل زادك إلى منزله، قلت: لا، فقال: إن سيدي دعا عباده إلى بيته وأذن لهم في زيارته فحملهم ضعف يقينهم على حمل أزوادهم وإني استقبحت ذلك فحفظت الأدب معه، أفتراه يضيعني؟
فقلت: حاشا وكلا ثم غاب عن بصري فلم أره إلا بمكة فلما رآني قال: أيها الشيخ بعدك على ذلك الضعف من اليقين؟
ومنهم سيدي أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري:
صحب شاه الكرماني ويحيى بن معاذ الرازي وكان يقال:
في الدنيا ثلاثة لا رابع لهم، أبو عثمان الحيري بنيسابور والجنيد ببغداد وأبو عبد الله الحلاج بالشام، ومن كلامه:
لا يكمل الرجل حتى يستوي في قلبه أربعة أشياء: المنع والعطاء والعز والذل، وقال: منذ أربعين سنة ما أقامني الله تعالى في حال فكرهته، ولا نقلني إلى شيء فسخطته.
ومنهم سيدي سليمان الخواص: يكنى أبا تراب كان أحد الزهاد المعروفين والعباد الموصوفين سكن الشام ودخل بيروت وكان أكثر مقامه بيت المقدس. قيل:
اجتمع حذيفة المرعشي وإبراهيم بن أدهم ويوسف بن أسباط فتذاكروا الفقر والغنى وسليمان ساكت، فقال بعضهم: الغني من كان له بيت يسكنه وثوب يستره وسداد من عيش يكفه عن فضول الدنيا، وقال بعضهم: الغني من لم يحتج إلى الناس. فقيل لسليمان: ما تقول أنت في ذلك فبكى وقال: رأيت جوامع الغنى في التوكل ورأيت جوامع الفقر في القنوط «1» والغنى حق الغنى من أسكن الله في قلبه من غناه يقينا ومن معرفته توكلا، ومن قسمته رضا فذلك الغني حق الغنى وإن أمسى طاويا «2» وأصبح معوزا «3» فبكى القوم من كلامه.
ومنهم سيدي أبو سليمان بن عبد الرحمن بن أحمد بن عطية الداراني: أحد رجال الطريقة قدس الله سره، كان من أجل السادات وأرباب الجد في المجاهدات. ومن كلامه:
من أحسن في نهاره كفي في ليله ومن أحسن في ليله كفي في نهاره، ومن صدق في ترك شهوة ذهب الله بها من قلبه، والله تعالى أكرم من أن يعذب قلبا بشهوة تركت له، وقال: لكل شيء علامة وعلامة الخذلان ترك البكاء، وقال: لكل شيء صدأ وصدأ نور القلب شبع البطن. وقال أحمد بن أبي الحواري: شكوت إلى أبي سليمان الوسواس فقال: إذا أردت أن ينقطع عنك فأي وقت أحسست به فافرح فإنك إذا فرحت به انقطع عنك لأنه لا شيء أبغض إلى الشيطان من سرور المؤمن، وإذا اغتممت به زادك. وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى:
اجتمعوا ليلا على أبي سليمان الداراني فسمعوه يقول:
يا رب إن طالبتني بسريرتي طالبتك بتوحيدك، وإن طالبتني بذنوبي طالبتك بكرمك، وإن جعلتني من أهل النار أخبرت أهل النار بحبي إياك.
وقال علي بن الحسين الحداد: سألت أبا سليمان بأي شيء تعرف الأبرار؟ قال: بكتمان المصائب وصيانة الكرامات.
وروي عنه أن قال: نمت ليلة عن وردي فإذا حوراء تقول لي: أو تنام وأنا أربّى لك في الخدور منذ خمسمائة عام.
ومنهم سيدي أبو محمد عبد الله بن حنيف: من زهاد المتصوفة كوفي الأصل ولكنه سكن انطاكية. ومن كلامه:
لا تغتم إلا من شيء يضرك غدا ولا تفرح إلا بشيء يسرك غدا، وله كرامات ظاهرة وبركات متواترة.
ومنهم سيدي أبو عبد الله محمد بن يوسف البناء:
أصبهاني الأصل كتب عن ستمائة شيخ ثم غلب عليه الانفراد والخلوة إلى أن خرج إلى مكة بشرط التصوف وقطع البادية على التجريد، وكان في ابتداء أمره يكسب في كل يوم ثلاثة دراهم وثلثا فيأخذ من ذلك لنفسه دانقا ويتصدق بالباقي، ويختم مع العمل كل يوم ختمة فإذا صلى العتمة في مسجده خرج إلى الجبل إلى قريب الصبح ثم يرجع إلى العمل، وكان يقول في الجبل: يا رب إما أن تهب لي معرفتك أو تأمر الجبل أن ينطبق علي فإني لا أريد الحياة بلا معرفتك.
ومنهم سيدي يحيى بن معاذ الرازي قدس الله سره يكنى أبا زكرياء أحد رجال الطريق كان أوحد وقته، ومن كلامه:
لا تكن ممن يفضحه يوم موته ميراثه، ويوم حشره ميزانه، وقال: ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال: إن لم تنفعه فلا تضره وإن لم تسره فلا تغمه وإن لم تمدحه فلا تذمه،
وقال: الصبر على الخلوة من علامات الإخلاص، وقال:
بئس الصديق صديقا يحتاج إلى أن يقال له إذكرني في دعائك، وقال: على قدر حبك لله يحبك الخلق وعلى قدر خوفك من الله تهابك الخلق وعلى قدر شغلك بالله تشتغل في أمرك الخلق، وقال: من كان غناه في كيسه لم يزل فقيرا، ومن كان غناه في قلبه لم يزل غنيا، ومن قصد بحوائجه المخلوقين لم يزل محروما.
وروي أنه قدم شيرازا فجعل يتكلم على الناس في علم الأسرار، فأتته امرأة من نسائها فقالت: كم تأخذ من هذه البلدة؟ قال: ثلاثون ألفا أصرفها في دين علي بخراسان، فقالت: لك علي ذلك على أن تأخذها وتخرج من ساعتك فرضي بذلك فحملت إليه المال فخرج من الغد فعوتبت تلك المرأة فيما فعلت فقالت: إنه كان يظهر أسرار أولياء الله تعالى للسوقة والعامة فغرت على ذلك.
ومنهم سيدي يوسف بن الحسين الرازي: يكنى أبا يعقوب كان وحيد وقته في إسقاط التصنع، عالما أديبا صحب ذا النون المصري وأبا تراب النخشبي. من كلامه:
إذا أردت أن تعلم العاقل من الأحمق فحدثه بالمحال فإن قبل فاعلم أنه أحمق. وقال: إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص فاعلم أنه لا يجيء منه شيء، وقال: لأن ألقى الله تعالى بجميع المعاصي أحب من أن ألقاه بذرة من التصنع، وقال أبو الحسن الدارج: قصدت زيارة ابن الرازي من بغداد فلما دخلت بلده سألت عن منزله فكل من سألته يقول: أي شيء تريد من هذا الزنديق فضيقوا صدري حتى عزمت على الانصراف، فبت تلك الليلة في مسجد ثم قلت في نفسي: جئت هذه البلدة فلا أقل من زيارته فلم أزل أسأل عنه حتى وصلت إلى مسجده فوجدته جالسا في المحراب وبين يديه مصحف يقرأ فيه فدنوت منه وسلمت عليه فرد علي السلام وقال: من أين؟ قلت: من بغداد، فقال: أتحسن من قولهم شيئا؟ قلت: نعم، وأنشدته:
رأيتك تبني دائما في قطيعتي
…
ولو كنت ذا حزم لهدّمت ما تبني
فأطبق المصحف ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته وثوبه ورحمته من كثرة بكائه ثم التفت إلي وقال: يا بني أتلوم أهل البلد على قولهم يوسف بن الحسين زنديق وها أناذا من وقت صلاة الصبح أقرأ القرآن ولم تقطر من عيني قطرة وقد قامت علي القيامة بهذا البيت.
ومنهم سيدي حاتم بن علوان الأصم قدس الله سره: يكنى أبا عبد الرحمن من أكابر مشايخ خراسان صاحب شقيق البلخي، ومن كلامه: إلزم خدمة مولاك تأتك الدنيا راغمة والآخرة راغبة، وقال: من ادعى ثلاثا بغير ثلاث فهو كذاب، من ادعى حب الله تعالى من غير ورع عن محارمه فهو كذاب، ومن ادعى محبة النبي صلى الله عليه وسلم من غير محبة الفقر فهو كذاب، ومن ادعى حب الجنة من غير إنفاق ماله فهو كذاب. وسأله رجل: علام بنيت أمرك في التوكل على الله عز وجل قال: على أربع خصال: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله عز وجل حيث كنت فأنا أستحي منه.
وسبب تسميته بالأصم ما حكاه أبو علي الدقاق أن امرأة جاءت تسأله عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت ريح فخجلت المرأة، فقال حاتم: ارفعي صوتك وأراها أنه أصم فسرت المرأة بذلك وقالت: إنه لم يسمع الصوت، فغلب عليه هذا الاسم رحمة الله تعالى عليه.
ومنهم الحسن بن أحمد الكاتب: من كبار مشايخ المصريين صحب أبا بكر المصري وأبا علي الروذباري وكان أوحد مشايخ وقته، من كلامه: روائح نسيم المحبة تفوح من المحبين وإن كتموها وتظهر عليهم دلائلها وإن أخفوها وتدل عليهم وإن ستروها، وأنشدوا في هذا المعنى:
إذا ما أسرّت أنفس الناس ذكره
…
تبيّنه فيهم ولم يتكلموا
تطيب به أنفاسهم فتذيعها
…
وهل سرّ مسك أودع الريح يكتم
ومن كلامه أيضا: إذا انقطع العبد إلى الله تعالى بالكلية، فأول ما يفيده الاستغناء عن الناس. وقال: صحبة الفساق داء ودواؤها مفارقتهم، وقال: إذا سكن الخوف في القلب لا ينطق اللسان بما لا يعنيه.
ومنهم سيدي جعفر بن نصر الخلدي: يكنى بأبي محمد، بغدادي المنشأ والمولد، صحب الجنيد وانتمى إليه وحج قريبا من ستين حجة، روي أنه مر بمقبرة الشونيزية وامرأة على قبر تندب وتبكي بكاء بحرقة، فقال لها: ما لك تبكين؟ فقالت: ثكلى ولدي، فأنشأ يقول:
يقولون ثكلى ومن لم يذق
…
فراق الأحبّة لم يثكل
لقد جرّعتني ليالي الفراق
…
شرابا أمرّ من الحنظل
وروي أنه كان له فص فوقع منه يوما في الدجلة، وكان عنده دعاء مجرب لرد الضالة إذا دعا به عادت، فدعا به فوجد الفص في وسط أوراق كان يتفحصها، وصورة الدعاء أن تقول: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه إجمع عليّ ضالتي. وقد روي أنه يقرأ قبله سورة الضحى ثلاثا، وروى الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه قال: ودعت في بعض حجاتي المزين الكبير الصوفي، فقلت: زودني شيئا فقال: إن فقدت شيئا أو أردت أن يجمع الله بيني وبينك أو بينك وبين إنسان، فقل: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين كذا، فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء أو الإنسان.
ومنهم سيدي معروف بن فيروز الكرخي. قدس الله سره: يكنى أبا محفوظ من كبار المشايخ مجاب الدعوة وهو أستاذ السرّي، وكان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدبهم وهو صبي، فكان المؤدب يقول له: قل هو ثالث ثلاثة، فيقول: بل هو الواحد الصمد، فضربه المؤدب على ذلك ضربا وجيعا، فهرب منه، فكان أبواه يقولان:
ليته يرجع إلينا على أي دين شاء، فنوافقه عليه، فرجع إلى أبويه، فدق الباب فقيل: من بالباب، فقال: معروف، فقيل: على أي دين، فقال: على دين الإسلام، فأسلم أبواه، وكان مشهورا بإجابة الدعوة، ومن كلامه رضي الله عنه: إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل، وأغلق باب الفترة والكسل، وكان يعاتب نفسه ويقول:
يا مسكين كم تبكي وتندب أخلص تخلص، وقال سري:
سألت معروفا عن الطائعين لله بأي شيء قدروا على الطاعات لله عز وجل؟ قال: بخروج حب الدنيا من قلوبهم ولو كانت في قلوبهم لما صحت لهم سجدة، ومن إنشاداته:
الماء يغسل ما بالثوب من درن «1»
…
وليس يغسل قلب المذنب الماء
وقال إبراهيم الأطروش: كان معروف قاعدا يوما على الدجلة ببغداد، فمر بنا صبيان في زورق يضربون بالملاهي ويشربون، فقال له أصحابه: أما ترى هؤلاء يعصون الله تعالى على هذا الماء؟ فادع عليهم، فرفع يديه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة، فقال له أصحابه: إنما سألناك أن تدعو عليهم، ولم نقل لك ادع لهم، فقال: إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا ولم يضركم ذلك.
وقال سري: رأيت معروفا في المنام كأنه تحت العرش والله تعالى يقول لملائكته: من هذا؟ فقالوا: أنت أعلم يا رب، قال: هذا معروف الكرخي سكر بحبي لا يفيق إلا بلقائي، وقيل له في مرضه: أوص، فقال: إذا مت فتصدقوا بقميصي هذا، فإني أحب أن أخرج من الدنيا عريانا كما دخلتها عريانا. وقال أبو بكر الخياط: رأيت في المنام كأني دخلت المقابر، فإذا أهل القبور جلوس على قبورهم وبين أيديهم الريحان، وإذا أنا بمعروف الكرخي بينهم يذهب ويجيء، فقلت: يا أبا محفوظ؛ ما فعل الله بك؟ أو ليس قد مت؟ قال: بلى. ثم أنشد يقول:
موت التقيّ حياة لا نفاد لها
…
قد مات قوم وهم في الناس أحياء
ومنهم قاسم بن عثمان الكرخي: يكنى أبا عبد الملك من أجلاء المشايخ صحب أبا سليمان الداراني وغيره، وكان من أقران السري والحارث المحاسبي، وكان أبو تراب النخشبي يصحبه، ومن كلامه: من أصلح فيما بقي من عمره غفر له ما مضى وما بقي، ومن أفسد فيما بقي من عمره أخذ بما مضى وما بقي.
وقال: السلامة كلها في اعتزال الناس، والفرح كله في الخلوة بالله عز وجل، وسئل عن التوبة، فقال: التوبة رد المظالم وترك المعاصي وطلب الحلال وأداء الفرائض.
وقال لأصحابه: أوصيكم بخمس: إن ظلمتم فلا تظلموا، وإن مدحتم فلا تفرحوا، وإن ذممتم فلا تحزنوا، وإن كذّبتم فلا تغضبوا، وإن خانوكم فلا تخونوا.
وقال محمد بن الفرج: سمعت قاسم بن عثمان يقول:
إن لله عبادا قصدوا الله بهممهم فأفردوه بطاعتهم واكتفوا به في توكلهم، ورضوا به عوضا عن كل ما خطر على قلوبهم من أمر الدنيا، فليس لهم حبيب غيره، ولا قرة عين إلا فيما قرب إليه، وكان يقول: قليل العمل مع المعرفة خير من كثير العمل بلا معرفة، ثم قال: اعرف وضع رأسك ونم، فما عبد الله الخلق بشيء أفضل من المعرفة.
وروي عنه أنه قال: رأيت في الطواف حول البيت رجلا فتقربت منه، فإذا هو لا يزيد على قوله: اللهم قضيت حاجة المحتاجين وحاجتي لم تقض، فقلت له: ما لك لا تزيد على هذا الكلام؟ فقال: أحدثك، كنا سبعة رفقاء
من بلاد شتى غزونا أرض العدو فاستأسرونا كلنا، فاعتزل بنا لتضرب أعناقنا، فنظرت إلى السماء، فإذا سبعة أبواب مفتحة عليها سبع جوار من الحور العين في كل باب جارية، فقدم رجل منا فضربت عنقه، فرأيت جارية في يدها منديل قد هبطت إلى الأرض، فضربت أعناق الستة وبقيت أنا، وبقي باب وجارية، فلما قدمت لتضرب عنقي استوهبني بعض خواس الملك، فوهبني له، فسمعتها تقول: بأي شيء فاتك هذا يا محروم؟ وأغلقت الباب، فأنا يا أخي متحسر على ما فاتني قال قاسم بن عثمان: أراه أفضلهم لأنه رأى ما لم يروا وترك يعمل على الشوق.
ومنهم سيدي أبو بكر دلف بن جحدر الشبلي: كان جليل القدر مالكي المذهب، عظيم الشأن. صحب الجنيد، ومن في عصره، وكان يبالغ في تعظيم الشرع المطهر، وكان إذا دخل شهر رمضان المعظم جد في الطاعات، ويقول: هذا شهر عظمه ربي، فأنا أولى بتعظيمه. وسئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: خير عمل المرء كسب يمينه، فقال: إذا كان الليل، فخذ ماء وتهيأ للصلاة، وصل ما شئت، ومد يديك، وسل الله عز وجل، فذلك كسب يمينك، ولما حج ورأى مكة المشرفة شرفها الله تعالى وقع مغشيا عليه، فلما أفاق أنشد يقول:
هذه دارهم وأنت محبّ
…
ما بقاء الدموع في الآماق
وروي أنه قال: كنت يوما جالسا، فجرى في خاطري أني بخيل، فقلت: مهما فتح الله عليّ به اليوم أدفعه إلى أول فقير يلقاني، قال: فبينما أنا متفكر إذ دخل عليّ شخص ومعه خمسون دينارا، فقال: اجعل هذه في مصالحك، فأخذتها وخرجت، وإذا أنا بفقير مكفوف بين يدي مزين يحلق رأسه، فتقدمت إليه وناولته الصرة، فقال لي: ادفعها للمزين، فقلت له: إنها دنانير، فقال: إنك لبخيل، قال: فناولتها للمزين، فقال المزين: إن من عاداتنا أن الفقير إذا جلس بين أيدينا لا نأخذ منه أجرا، قال: فرميتها في الدجلة، وقلت: ما أعزك أحد إلا أذله الله تعالى.
ومنهم سيدي زرقان بن محمد أخو ذي النون المصري صاحب سياحة كان بجبل لبنان.
حكي عن يوسف بن الحسين الرازي قال: بينما أنا بجبل لبنان أدور إذ أبصرت زرقان أخا ذي النون المصري جالسا على عين ماء وقت صلاة العصر، فسلمت عليه وجلست من ورائه، فالتفت إليّ وقال: ما حاجتك؟
فقلت: بيتا شعر سمعتهما من أخيك ذي النون المصري أعرضهما عليك، فقال: قل. فقلت سمعته يقول:
قد بقينا مذبذبين حيارى
…
نطلب الوصل ما إليه سبيل
فدواعي الهوى تخفّ علينا
…
وخلاف الهوى علينا ثقيل
فقال زرقان ولكني أقول:
قد بقينا مذهّلين حيارى
…
حسبنا ربّنا ونعم الوكيل
حيثما الفوز كان ذاك منانا
…
وإليه في كل أمر نميل
فعرضت أقوالهما على طاهر المقدسي، فقال: رحم الله ذا النون المصري. رجع إلى نفسه، فقال ما قال، ورجع زرقان إلى ربه، فقال ما قال. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: زرقان بن محمد أخو ذي النون المصري، وأظن أنه أخوه مؤاخاة لا أخوة نسب، وكان من أقرانه ورفقائه.
ومنهم: سيدي أبو عبد الله النباجي سعيد بن بريد: كان من أقران ذي النون المصري، ومن أقران أستاذي أحمد بن أبي الحواري، له كلام حسن في المعرفة وغيرها، روي عنه أنه قال: أصابني ضيق وشدة فبت وأنا مفكر في المسير إلى بعض أخواني، فسمعت قائلا يقول لي في النوم: أيجمل بالحر المريد إذا وجد عند الله ما يريد أن يميل بقلبه إلى العبيد، فانتبهت وأنا من أغنى الناس.
ومنهم: سيدي بشر بن الحارث قدس الله روحه يكنى أبا نصر أحد رجال الطريقة، أصله من مرو وسكن بغداد وكان من كبار الصالحين وأعيان الأتقياء المتورعين، صحب الفضيل بن عياض، وروى عن سري السقطي وغيره.
ومن كلامه: لا تكون كاملا حتى يأمنك عدوك، وكيف يكون فيك خير وأنت لا يأمنك صديقك. وقال: أول عقوبة يعاقبها ابن آدم في الدنيا مفارقة الأحباب، وقال:
غنيمة المؤمن غفلة الناس عنه وخفاء مكانه عنهم. وقال:
التكبر على المتكبر من التواضع. وسئل عن الصبر الجميل، فقال: هو الذي لا شكوى فيه إلى الناس. وقيل:
إنه لقي رجلا سكران، فجعل الرجل يقبل يد بشر ويقول:
يا سيدي يا أبا نصر، وبشر لا يدفعه عن نفسه، فلما ولّى الرجل تغرغرت عينا بشر وجعل يقول: رجل أحب رجلا على خير توهمه لعل المحب قد نجا والمحبوب لا يدري
ما حاله، وروي أن امرأة جاءت إلى أحمد بن حنبل تسأله، فقالت: إني امرأة أغزل بالليل والنهار، وأبيعه ولا أبين غزل الليل من غزل النهار، فهل على ذلك شيء؟ فقال:
يجب أن تبيني، فلما انصرفت قال أحمد لابنه: اذهب، فانظر أين تدخل، فرجع، فقال: دخلت دار بشر، فقال:
قد عجبت أن تكون هذه السائلة من غير بيت بشر. ولما مرض مرضه الذي مات فيه قال له أهله: نرفع ماءك إلى الطبيب قال: أنا بعين الطبيب يفعل بي ما يريد، فألحوا عليه، فقال لأخته: ادفعي إليهم الماء فدفعته إليهم في قارورة، وكان بالقرب منهم طبيب نصراني، فدفعوا إليه القارورة، فقال: حركوا الماء، فحركوه، فقال: ضعوه فوضعوه، فقالوا له: ما بهذا وصفت لنا. قال: وبماذا وصفت لكم؟ قالوا: وصفت بأنك أحذق أهل زمانك في الطب، قال: هو كما وصفت لكم إن هذا الماء إن كان ماء نصراني، فهو ماء راهب قد فتت الخوف كبده وإن كان ماء مسلم، فماء بشر الحافي لأن ما في زمانه أخوف منه، قالوا: هو ماء بشر، فقال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فلما رجعوا إلى بشر قال لهم: أسلم الطبيب. قالوا له: ومن أعلمك بهذا؟ قال: لما خرجتم من عندي نوديت يا بشر ببركة مائك أسلم الطبيب. توفي سنة سبع وعشرين ومائتين.
ومنهم سيدي أبو زيد طيغور بن عيسى البسطامي: من أجلّ المشايخ كبير الشأن، ومن كلامه: ما زلت أسوق إلى الله تعالى نفسي وهي تبكي إلى أن سقتها وهي تضحك.
وسئل: بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟ فقال: ببطن جائع وبدن عار، وقيل له: ما أشد ما لقيت في سبيل الله تعالى؟
فقال: لا يمكن وصفه، فقيل له: ما أهون ما لقيته نفسك منك؟ فقال: أما هذا فنعم دعوتها إلى شيء من الطاعات، فلم تجبني، فمنعتها الماء سنة، وقال: الناس كلهم يهربون من الحساب، ويتجافون عنه، وأنا أسأل الله تعالى أن يحاسبني، فقيل له: لم؟ فقال لعله يقول فيما بين ذلك يا عبدي، فأقول لبيك، فقوله لي عبدي أحب إليّ من الدنيا وما فيها، ثم بعد ذلك يفعل بي ما يشاء. وقال له رجل: دلني على عمل أتقرب به إلى ربي، فقال: أحب أولياء الله ليحبوك فإن الله تعالى ينظر إلى قلوب أوليائه، فلعله ينظر إلى إسمك في قلب وليّ، فيغفر لك. وسئل عن المحبة، فقال: استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك. توفي سنة إحدى وستين ومائتين رحمه الله تعالى. ومنهم شيخ الطائفة سيدي أبو القاسم الجنيد بن محمد القواريري: شيخ وقته وفريد عصره، أصله من نهاوند ومولده ومنشؤه ببغداد صحب جماعة من المشايخ، وصحب خاله السري، والحارث المحاسبي ودرس الفقه على أبي ثور، وكان يفتي في مجلسه بحضرته وهو ابن عشرين سنة. ومن كلامه رضي الله عنه: علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه، وقال: الأدب أدبان: أدب السر وأدب العلانية، فأدب السر طهارة القلوب، وأدب العلانية حفظ الجوارح من الذنوب.
ورؤي في يده يوما سبحة، فقيل له: أنت مع تمكنك وشرفك تأخذ بيدك سبحة؟ فقال: نعم سبب وصلنا به إلى ما وصلنا لا نتركه أبدا. وقال حسن بن محمد السراج:
سمعت الجنيد يقول: رأيت إبليس في منامي، وكأنه عريان، فقلت له: ألا تستحي من الناس؟ فقال: بالله هؤلاء عندك من الناس لو كانوا من الناس ما تلاعبت بهم كما يتلاعب الصبيان بالكرة، ولكن الناس عندي ثلاثة نفر: فقلت: ومن هم؟ قال: في مسجد الشونيزي قد أضنوا قلبي وأنحلوا جسمي كلما هممت بهم أشاروا إلى الله عز وجل، فأكاد أن أحرق، قال الجنيد: فانتبهت من نومي، ولبست ثيابي وجئت إلى مسجد الشونيزي بليل، فلما دخلت أخرج أحدهم رأسه وقال: يا أبا القاسم أنت كلما قيل لك شيء تقبل. قيل: إن الثلاثة الذين كانوا في مسجد الشونيزي أبو حمزة، وأبو الحسن الثوري، وأبو بكر الدقاق رضي الله عنهم، وقال محمد بن قاسم الفارسي: بات الجنيد ليلة العيد في الموضع الذي كان يعتاده في البرية، فإذا هو وقت السحر بشاب ملتف في عباءة وهو يبكي ويقول:
بحرمة غربتي كم ذا الصدود
…
ألا تحنوا عليّ ألا تجودوا
سرور العيد قد عمّ النواحي
…
وحزني في ازدياد لا يبيد
فإن كنت اقترفت خلال سوء
…
فعذري في الهوى أن لا أعود
توفي الجنيد رحمه الله تعالى سنة سبع وتسعين ومائتين ببغداد وصلى عليه نحو ستين ألفا رضوان الله عليهم أجمعين. وممن صحبته وانتفعت بصحبته وفاضت الخيرات عليّ ببركته سيدي الشيخ الإمام العالم العامل أبو المعالي وأبو الصدق أبو بكر بن عمر الطريني المالكي
قدس الله سره وروحه ونور ضريحه، كان أوحد زمانه في الزهد والورع قامعا لأهل الضلال والبدع، وله أسرار ظاهرة وبركات متواترة. قد أطاع أمره الخلائق عجما وعربا، وانتشر ذكره في البلاد شرقا وغربا وأتت الملوك إلى بابه واختاروا أن يكونوا من جملة أصحابه، ما أتاه مكروب إلا فرج الله كربته ولا طالب حاجة إلا قضى الله حاجته، كان محافظا على النوافل ملازما للفرض، وكان أكثر أكله من المباح من نبات الأرض، لم يمنع نفسه في الدنيا بالمآكل والمشارب اللذيذة بل قيل: إنه غضب على نفسه مرة فمنعها شرب الماء شهورا عديدة، وكان رضي الله عنه كثير الشفقة والحنو على أصحابه نصوحا لجميع خلق الله من أعدائه وأحبابه، يدخل عليه أعدى عدوه، فيقبل ببشره وبره عليه، فيخرج عنده وهو أحب الناس إليه، كما قال بعضهم:
وإني لألقى المرء أعلم أنّه
…
عدوي وفي أحشائه الضغن كامن
فأمنحه بشري فيرجع قلبه
…
سليما وقد ماتت لديه الضغائن
وكانت حملة أهل زمانه عليه وأحوالهم في كل أمر راجعة إليه، وكنت كثيرا ما أسمعه يتمثل بهذا البيت:
وما حمّلوني الضيم إلّا حملته
…
لأني محبّ والمحبّ حمول
وكان رضي الله عنه كثير المصافاة عظيم الموافاة، شأنه الحلم والستر لم يهتك حرمة مسلم ولا فضحه، وما استشاره أحد في أمر إلا أرشده إلى الخير ونصحه، صحبته رضي الله عنه نحو خمس عشرة سنة، فكأنها من طيبها كانت سنة، ما قطع بره يوما واحدا عني حتى كنت أظن أن ليس عنده أخص مني، وكان ذلك فعله مع جميع أصحابه قاطبة. بيّض الله وجهه في القيامة، وبلغه من فضل ربه مآربه، وكان رضي الله عنه فقيها في مذهب الإمام مالك، إمام كبير لم ير له في زمانه من شبيه ولا نظير، وله في علم الحقيقة أقوال، وكم رأينا له من مكاشفات وأحوال ولو تتبعت مناقبه لا تسع الكلام، ولكني أقول: كان أوحد عصره والسلام.
عاش رضي الله عنه نيفا وستين سنة، وكان الناس في زمانه في عيشة راضية، وأحوال حسنة، وكان رضي الله عنه كثير الأمراض والأسقام حصل له في آخر عمره ضعف شديد أقام به نحو سنة، ثم تزايد مرضه في العشر الأول من ذي الحجة الحرام، فلما كانت ليلة الحادي عشر اشتد به الأمر واحتضر، ولم يزل في النزع إلى ثلث الليل الأول من الليلة المذكورة، ثم توفي رحمه الله تعالى سعيدا حميدا في ليلة الجمعة حادي عشر ذي الحجة الحرام سنة سبعة وعشرين وثمانمائة، ولما أخبر الناس بوفاته عظم مصابه على المسلمين، ووقع النوح والبكاء والأسف في أقطار البلدان حتى طوائف المخالفين للملة من النصارى وغيرهم، وصاروا يبكون ويتوجعون ويتأسفون على فراقه، وكيف لا، وهو إمام العصر، علامة الدهر حق فيه قول القائل:
حلف الزمان ليأتين بمثله
…
حنثت يمينك يا زمان فكفّر
رضي الله عنه ورضي عنا به، ونفعنا ببركته في الدين والدنيا والآخرة، فشرعوا في تجهيزه وغسله، فكنت ممن حضر غسله، ولكن لم يكن ذهني معي في تلك الساعة لما جرى علينا من المصيبة بفقده، كيف لا، وقد كان والدا شفوقا وبارا محسنا عشوقا، فلما انتهى غسله رضي الله عنه جاء القضاء والنواب والكشاف والولاة وحملوه على أعناقهم ومضوا به إلى جامع الخطبة بالمحلة فضاق بهم الجامع على سعته، وضاقت بهم الشوارع والسكك والطرقات من كثرة الناس، فلم ير أكثر جمعا ولا أغزرها دمعا من ذلك اليوم، وهذا دليل على أنه كان قطب أهل زمانه.
قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: بيننا وبينهم الجنائز. يريد بذلك اجتماع الناس، والله أعلم. فارتفع نعشه على أعناقهم وتقدم للصلاة شيخه العارف بالله تعالى سيدي سليمان الدواخلي نفعنا الله ببركته، ودفن يوم الجمعة بزاويته التي أنشأها بسندفا مع والده الشيخ الإمام العالم العلامة مفتي المسلمين سراج الدين أبي حفص عمر الطريني المالكي في قبر واحد. نفعنا الله ببركته، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، وحشرنا وإياه في زمرة سيد الأولين والآخرين محمد خاتم النبيين، وأفضل المسلمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ونسأله لنا التوفيق والإعانة، وأن يمتع المسلمين بطول بقاء أخيه سيدنا ومولانا الشيخ شمس الدين محمد الطريني أدام الله أيامه للمسلمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الباب الحادي والثلاثون في مناقب الصالحين وكرامات الأولياء رضي الله عنهم
إعلم أن كرامات الأولياء لا تنكر ومناقبهم أكثر من أن تحصر، نسأل الله تعالى أن يحشرنا معهم في زمرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم المحشر إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
حكاية:
قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: احتبس عنا المطر بالبصرة فخرجنا نستسقي مرارا، فلم نر للإجابة أثرا، فخرجت أنا وعطاء السلمي، وثابت البناني، ويحيى البكاء، ومحمد بن واسع، وأبو محمد السختياني، وحبيب الفارسي، وحسان بن ثابت بن أبي سنان، وعتبة الغلام، وصالح المزني، حتى إذا صرنا إلى المصلى بالبصرة خرج الصبيان من المكاتب «1» ، ثم استسقينا، فلم نر للإجابة أثرا حتى انتصف النهار وانصرف الناس وبقيت أنا، وثابت البناني بالمصّلى، فلما أظلم الليل إذا أنا بعبد أسود مليح رقيق الساقين عليه جبة صوف قوّمت «2» ما عليه بدرهمين، فجاء بماء فتوضأ، ثم جاء إلى المحراب، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال:
إلهي وسيدي ومولاي إلى كم تردّ عبادك فيما لا ينفعك، أنفذ ما عندك أم نقص ما في خزائنك، أقسمت عليك بحبك لي إلا ما أسقيتنا غيثك الساعة. قال: فما تم كلامه حتى تغيمت السماء وجاءت بمطر كأفواه القرب.
قال مالك: فتعرضت له، وقلت له: يا أسود أما تستحي مما قلت؟
قال: وما قلت؟ قلت قولك بحبك لي وما يدريك أنه يحبك؟
قال: تنح عني يا من اشتغل عنه بنفسه، أفتراه بدأني بذلك إلا لمحبته إياي؟ ثم قال: محبته لي على قدره، ومحبتي له على قدري.
فقلت له: يرحمك الله ارفق قليلا.
فقال: إني مملوك وعليّ فرض من طاعة مالكي الصغير. قال: فانصرف وجعلنا نقفوا أثره «3» على البعد حتى دخل دار نخّاس «4» .
فلما أصبحنا أتينا النخاس، فقلت: يرحمك الله. أعندك غلام تبيعه منا للخدمة؟ قال: نعم عندي مائة غلام للبيع، فجعل يعرض علينا غلاما بعد غلام حتى عرض علينا سبعين غلاما، فلم ألق حبيبي فيهم، فقال عودا إليّ في غير هذا الوقت، فلما أردنا الخروج من عنده دخلنا حجرة خربة خلف داره، وإذا بالأسود قائم يصلي، فقلت:
حبيبي ورب الكعبة.
فجئت إلى النخاس، فقلت له: بعني هذا الغلام، فقال: يا أبا يحيى: هذا الغلام ليست له همة في الليل إلا البكاء، وفي النهار إلا الخلوة والوحدة، فقلت له: لا بد من أخذه منك ولك الثمن، وما عليك منه، فدعاه، فجاء وهو يتناعس، فقال: خذه بما شئت بعد أن تبرئني من عيوبه كلها، فاشتريته منه بعشرين دينارا، وقلت له: ما اسمك؟ قال: ميمون، فأخذت بيده أريد المنزل، فالتفت إليّ وقال: يا مولاي الصغير: لماذا اشتريتني، وأنا لا أصلح لخدمة المخلوقين؟
فقلت له: والله يا سيدي إنما اشتريتك لأخدمك بنفسي، قال: ولم ذلك؟ فقلت: ألست صاحبنا البارحة بالمصلى؟ قال: بلى، وقد أطلعت على ذلك، قلت:
نعم، وأنا الذي عارضتك البارحة في الكلام بالمصلى.
قال: فجعل يمشي حتى أتى إلى مسجد، فاستأذنني ودخل المسجد، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم رفع طرفه إلى السماء، وقال: إلهي وسيدي ومولاي، سرّ كان بيني وبينك أطلعت عليه غيرك، فكيف يطيب الآن عيشي.
أقسمت عليك بك إلا ما قبضتني إليك الساعة، ثم سجد، فانتظرته ساعة، فلم يرفع رأسه، فجئت إليه وحركته، فإذا هو قد مات رحمة الله تعالى عليه.
قال: فمددت يديه ورجليه، فإذا هو ضاحك مستبشر، وقد غلب البياض على السواد ووجهه كالقمر ليلة البدر، وإذا شاب قد دخل من الباب، وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أعظم الله أجورنا وأجوركم في أخينا ميمون، هاكم الكفن، فناولني ثوبين ما رأيت مثلهما قط، فغسلناه وكفناه فيهما ودفناه. قال مالك بن دينار: فبقبره
نستسقي إلى الآن، ونطلب الحوائج من الله تعالى رحمة الله عليه.
وحكى عن حذيفة المرعشي رضي الله عنه، وكان خدم إبراهيم الخواص «1» رضي الله عنه وصحبه مدة، فقيل له:
ما أعجب ما رأيت منه؟ فقال: بقينا في طريق مكة أياما لم نأكل طعاما، فدخلنا الكوفة، فأوينا إلى مسجد خرب، فنظر إليّ إبراهيم وقال: يا حذيفة أرى بك أثر الجوع، فقلت: هو كما ترى، فقال: عليّ بدواة وقرطاس، فأحضرتهما إليه، فكتب بسم الله الرحمن الرحيم، أنت المقصود بكل حال، والمشار إليه بكل معنى ثم قال:
أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر
…
أنا جائع أنا ضائع أنا عاري
هي ستّة وأنا الضمين لنصفها
…
فكن الضمين لنصفها يا باري
مدحي لغيرك لهب نار خضتها
…
فأجر عبيدك من لهيب النار
قال حذيفة: ثم دفع إليّ الرقعة، وقال: اخرج بها ولا تعلق قلبك بغير الله تعالى، وادفعها إلى أول من يلقاك، قال: فخرجت، فأول من لقيني رجل على بغلة، فناولته الرقعة، فأخذها، فقرأها وبكى، وقال: ما فعل بصاحب هذه الرقعة؟
قلت: هو في المسجد الفلاني، فدفع إليّ صرة فيها ستمائة درهم، فأخذتها ومضيت، فوجدت رجلا، فسألته من هذا الراكب على البغلة؟ فقال: هو رجل نصراني، قال: فجئت إبراهيم وأخبرته بالقصة، فقال: لا تمس الدراهم، فإن صاحبها يأتي الساعة، فلما كان بعد الساعة أقبل النصراني راكبا على بغلته، فترجل على باب المسجد، ودخل، فأكب على إبراهيم يقبل رأسه ويديه ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: فبكى إبراهيم الخواص فرحا به وسرورا، وقال الحمد لله الذي هداك للإسلام وشريعة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
وحكي أن بعضهم كان ملّاحا ببحر النيل المبارك بمصر، قال: كنت أعدّي «2» من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي، ومن الشرقي إلى الجانب الغربي، فبينما أنا ذات يوم في الزورق إذا بشيخ مشرق الوجه عليه مهابة، فقال: السلام عليكم، فرددت عليه السلام، فقال:
أتحملني إلى الجانب الغربي لله تعالى، فقلت: نعم، فطلع إلى الزورق وعديت به إلى الجانب الغربي، وكان على ذلك الفقير مرقعة وبيده ركوة وعصا، فلما أراد الخروج من الزورق قال: إني أريد أن أحملك أمانة، قلت وما هي؟ قال: إذا كان غدا وقت الظهر تجدني عند تلك الشجرة ميتا وستنسى، فإذا ألهمت، فأتني وغسلني وكفني في الكفن الذي تجده عند رأسي، وصلّ عليّ وادفني تحت الشجرة، وهذه المرقعة والعصا والركوة يأتيك من يطلبها منك، فادفعها إليه، ولا تحتقره.
قال الملاح: ثم ذهب وتركني، فتعجبت من قوله، وبت تلك الليلة، فلما أصبحت انتظرت الوقت الذي قال لي، فلما جاء وقت الظهر نسيت، فما تذكرت إلا قريب العصر، فسرت بسرعة، فوجدته تحت الشجرة ميتا ووجدت كفنا جديدا عند رأسه تفوح منه رائحة المسك، فغسلته وكفنته فلما فرغت من غسله حضر عندي جماعة عظيمة لم أعرف منهم أحدا فصلينا عليه، ودفنته تحت الشجرة، كما عهد إليّ ثم عدت إلى الجانب الشرقي، وقد دخل الليل، فنمت.
فلمّا طلع الفجر وبانت الوجوه إذ أنا بشاب قد أقبل عليّ، فحققت النظر في وجهه، فإذا هو من صبيان الملاهي كان يخدمهم، فأقبل وعليه ثياب رقاق، وهو مخضوب الكفين وطاره تحت إبطه، فسلم عليّ، فرددت عليه السلام، فقال: يا ملاح أنت فلان بن فلان. قلت نعم. قال: هات الوديعة التي عندك. قلت: من أين لك هذا «3» ؟ قال: لا تسأل، فقلت لا بد أن تخبرني، فقال لا أدري. إلا أني البارحة كنت في عرس فلان التاجر، فسهرنا نرقص ونغني إلى أن ذكر الله الذاكرون على المآذن، فنمت لأستريح، وإذا برجل قد أيقظني وقال: إن الله تعالى قد قبض فلانا الولي وأقامك مقامه، فسر إلى فلان بن فلان صاحب الزورق، فإن الشيخ أودع لك عنده كيت وكيت، قال: فدفعتها له، فخلع أثوابه الرقاق ورمى بها في الزورق، وقال: تصدق بها على من شئت، وأخذ
الركوة والعصا ولبس المرقعة وسار، وتركني أتحرق وأبكي لما حرمت من ذلك، وأقمت يومي ذلك أبكي إلى الليل، ثم نمت فرأيت رب العزة جل جلاله في النوم، فقال:
يا عبدي أثقل عليك إن مننت على عبد عاص بالرجوع إليّ، إنما ذلك فضلي أوتيه من أشاء من عبادي، وأنا ذو الفضل العظيم.
وحكى أبو إسحاق الصعلوكي قال: خرجت سنة إلى الحج، فبينما أنا في البادية تائه، وقد جن الليل وكانت ليلة مقمرة إذ سمعت صوت شخص ضعيف يقول: يا أبا إسحاق قد انتظرتك من الغداة، فدنوت منه فإذا هو شاب نحيف الجسم قد أشرف على الموت، وحوله رياحين كثيرة منها ما أعرف ومنها ما لا أعرف، فقلت له: من أنت، ومن أين أنت؟ قال: من مدينة شمشاط كنت في عزة ورفعة، فطالبتني نفسي بالغربة والعزلة، فخرجت، وقد أشرفت الآن على الموت فدعوت الله تعالى أن يقيض لي وليا من أوليائه وأرجو أن تكون أنت هو.
فقلت: ألك حاجة؟ قال: نعم لي والدة وأخوة وأخوات، فقلت: هل اشتقت إليهم قط؟ قال: لا. إلا اليوم اشتقت أن أشم ريحهم، فهممت أريدهم فاحتوشتني السباع «1» والهوام وبكين معي، وحملوا إليّ هذه الرياحين التي تراها.
قال أبو إسحاق: فبينما أنا معه يرق له قلبي وإذا بحية عظيمة في فمها باقة نرجس كبيرة، فقالت: دع ولي الله تعالى، فإن الله يغار على أوليائه، قال: فغشي عليه، وغشي عليّ، فما أفقت إلا وهو قد خرجت روحه رحمه الله، قال: فدخلت مدينة شمشاط بعدما حججت فاستقبلتني امرأة بيدها ركوة ما رأيت أشبه بالشاب منها، فلما رأتني نادت: يا أبا إسحاق ما شأن الشاب الغريب الذي مات غريبا، فإني منتظرتك منذ كذا «2» ؟
فذكرت لها القصة إلى أن قلت لها أشم ريحهم، فصاحت أواه أواه قد بلغ والله الشم، ثم شهقت شهقة خرجت روحها فخرج إليها بنات أتراب عليهن مرقعات ومروط «3» ، فكفلن أمرها وتولين دفنها وهن مستترات رضوان الله على الجميع.
(شعر) :
يا نسيما هبّ من وادي قبا
…
خبريني كيف حال الغربا
كم سألت الدهر أن يجمعنا
…
مثل ما كنّا عليه فأبى
وحكي أن رجلا كان يعرف بدينار العيّار «4» وكان له والدة صالحة تعظه وهو لا يتعظ، فمر في بعض الأيام بمقبرة، فأخذ منها عظما، فتفتت في يده، ففكر في نفسه وقال: ويحك يا دينار كأني بك وقد صار عظمك هكذا رفاتا والجسم ترابا، فندم على تفريطه وعزم على التوبة، ورفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي ألقيت إليك مقاليد أمري فاقبلني وارحمني.
ثم أقبل نحو أمه متغير اللون منكسر القلب، فقال:
يا أماه ما يصنع بالعبد الآبق «5» إذا أخذه سيده؟ قالت:
يخشن ملبسه ومطعمه ويغل يديه وقدميه، فقال: أريد جبة من صوف وأقراصا من شعير، وغلّين وافعلي بي كما يفعل بالعبد الآبق لعل مولاي يرى ذلي فيرحمني ففعلت به ما أراد، فكان إذا جنّ عليه الليل أخذ في البكاء والعويل ويقول لنفسه: ويحك يا دينار ألك قوة على النار؟ كيف تعرضت لغضب الجبار، ولا يزال كذلك إلى الصباح.
فقالت له أمه: يا بني أرفق بنفسك، فقال: دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا، يا أماه إن لي غدا موقفا طويلا بين يدي رب جليل ولا أدري أيؤمر بي إلى ظل ظليل أو إلى شر مقيل، قالت: يا بني خذ لنفسك راحة، قال:
لست للراحة أطلب، كأنك يا أماه غدا بالخلائق يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار مع أهلها، فتركته وما هو عليه.
فأخذ في البكاء والعبادة وقراءة القرآن، فقرأ في بعض الليالي فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 92 عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 93
«6» . ففكر فيها وجعل يبكي حتى غشي عليه، فجاءت أمه إليه، فنادته، فلم يجبها، فقالت له: يا حبيبي وقرة عيني أين الملتقى؟ فقال بصوت ضعيف يا أماه: إن لم تجديني في عرصات «7» القيامة، فاسألي مالكا خازن النار عني، ثم شهق شهقة، فمات رحمه الله تعالى.
فغسلته أمه وجهزته، وخرجت تنادي: أيها الناس هلموا
إلى الصلاة على قتيل النار، فجاء الناس من كل جانب، فلم ير أكثر جمعا ولا أغزر دمعا من ذلك اليوم فلما دفنوه نام بعض أصدقائه تلك الليلة، فرآه يتبختر في الجنة وعليه حلة خضراء، وهو يقرأ الآية فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 92 عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ 93
«1» ، ويقول: وعزته وجلاله سألني ورحمني وغفر لي وتجاوز عني ألا أخبروا عني والدتي بذلك.
وحكي عن الحسن البصري قال: نزل سائل «2» بمسجد، فسأل الناس أن يطعموه كسرة، فلم يطعموه، فقال الله تعالى لملك الموت: اقبض روحه، فإنه جائع، فقبض روحه، فلما جاء المؤذن رآه ميتا، فأخبر الناس بذلك، فتعاونوا على دفنه، فلما دخل المؤذن المسجد وجد الكفن في المحراب مكتوبا عليه: هذا الكفن مردود عليكم بئس القوم أنتم استطعمكم فقير، فلم تطعموه حتى مات جوعا، من كان من أحبابنا لا نكله إلى غيرنا.
وحكى أبو علي المصري قال: كان لي جار شيخ يغسل الموتى فقلت له يوما: حدثني أعجب ما رأيت من الموتى، فقال: جاءني شاب في بعض الأيام مليح الوجه حسن الثياب، فقال لي: أتغسل لنا هذا الميت؟ قلت:
نعم. فتبعته حتى أوقفني على باب، فدخل هنيهة، فإذا بجارية هي أشبه الناس بالشاب قد خرجت وهي تمسح عينيها، فقالت: أنت الغاسل؟ قلت: نعم. قالت: بسم الله أدخل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فدخلت الدار وإذا أنا بالشاب الذي جاءني يعالج سكرات الموت، وروحه في لبته، وقد شخص بصره، وقد وضع كفنه وحنوطه عند رأسه، فلم أجلس إليه حتى قبض، فقلت: سبحان الله هذا ولي من أولياء الله تعالى حيث عرف وقت وفاته، فأخذت في غسله، وأنا أرتعد، فلما أدرجته أتت الجارية وهي أخته، فقبلته، وقالت: أما إني سألحق بك عن قريب، فلما أردت الانصراف شكرت لي، وقالت: أرسل إلي زوجتك إن كانت تحسن ما تحسنه أنت، فارتعدت من كلامها وعلمت أنها لاحقة به.
فلما فرغت من دفنه جئت أهلي فقصصت عليها القصة وأتيت بها إلى تلك الجارية، فوقفت بالباب واستأذنت، فقالت: بسم الله تدخل زوجتك، فدخلت زوجتي وإذا بالجارية مستقبلة القبلة وقد ماتت، فغسلتها زوجتي وأنزلتها على أخيها رحمة الله عليهما.
(شعر) :
أأحبابنا بنتم عن الدار فاشتكت
…
لبعدكم آصالها وضحاها «3»
وفارقتم الدار الأنيسة فاستوت
…
رسوم مبانيها وفاح كلاها «4»
كأنّكم يوم الفراق رحلتم
…
بنومي فعيني لا تصيب كراها «5»
وكنت شحيحا من دموعي بقطرة
…
فقد صرت سمحا بعدكم بدماها
يراني بسّاما خليلي يظنّ بي
…
سرورا وأحشائي السّقام ملاها
وكم ضحكة في القلب منها حرارة
…
يشبّ لظاها لو كشفت غطاها «6»
رعى الله أياما بطيب حديثكم
…
تقضّت وحيّاها الحيا وسقاها «7»
فما قلت إيها بعدها لمسامر
…
من الناس إلا قال قلبي آها «8»
وحكي سري السقطي رحمه الله تعالى قال: أرقت ليلة ولم أقدر على النوم فلما طلع الفجر صليت، فلما أصبحت دخلت المارستان «9» فإذا أنا بجارية مقيدة مغلولة «10» وهي تقول:
تغلّ يدي إلى عنقي
…
وما خانت وما سرقت
وبين جوانحي كبد
…
أحسّ بها قد احترقت
قال، فقلت للقيم «1» : ما هذه الجارية؟ قال: هذه جارية اختلّ عقلها، فحبست لعلها تصلح، فلما سمعت كلامه تبسمت وقالت:
معشر الناس ما جننت ولكن
…
أنا سكرانة وقلبي صاحي
لم غللتم يدي ولم آت ذنبا
…
غير هتكي في حبّه وافتضاحي
أنا مفتونة بحبّ حبيب
…
لست أبغي عن بابه من براح «2»
ما على من أحبّ مولى الموالي
…
وارتضاه لنفسه من جناح «3»
قال: فلما سمعت كلامها بكيت بكاءا شديدا، فقالت:
يا سري هذا بكاؤك من الصفة، فكيف لو عرفته حق المعرفة؟ قال: فبينما هي تكلمني إذا جاء سيدها، فلما رآني عظمني، فقلت: والله هي أحق مني بالتعظيم، فلم فعلت بها هذا؟ قال: لتقصيرها في الخدمة، وكثرة بكائها وشدة حنينها وأنينها كأنها ثكلى «4» لا تنام ولا تدعنا ننام، وقد اشتريتها بعشرين ألف درهم لصناعتها فإنها مطربة، قلت: فما كان بدء أمرها؟ قال: كان العود في حجرها يوما، فجعلت تقول:
وحقّك لا نقضت الدّهر عهدا
…
ولا كدّرت بعد الصفو ودّا
ملأت جوانحي والقلب وجدا
…
فكيف أقرّ يا سكني وأهدا
فيا من ليس لي مولى سواه
…
تراك رضيتني بالباب عبدا
فقلت لسيدها: أطلقها وعليّ ثمنها، فصاح وافقراه من أين لك عشرون ألفا يا سري؟ فقلت: لا تعجل عليّ، فقال: تكون في المارستان حتى توفيني ثمنها، فقلت:
نعم، قال سري: فانصرفت وعيني تدمع وقلبي يخشع، وأنا والله ما عندي درهم من ثمنها، فبت طول ليلتي أتضرع إلى الله تعالى، فإذا بطارق يطرق الباب، ففتحت، فدخل عليّ رجل ومعه ستة من الخدم ومعهم خمس بدر «5» ، فقال: أتعرفني يا سري؟ قلت: لا، قال: أنا أحمد بن المثنى كنت نائما، فهتف بي هاتف وقال لي: يا أحمد هل لك في معاملتنا؟ فقلت: ومن أولى مني بذلك؟ فقال:
احمل إلى سري السقطي خمس بدر من أجل الجارية الفلانية، فإن لنا بها عناية، قال سري: فسجدت لله شكرا وجلست أتوقع طلوع الفجر، فلما طلع صلينا وذكرنا، وانصرفنا نحوها، فسمعناها تقول:
قد تصبّرت إلى أن
…
عيل من حبّك صبري «6»
ضاق من غلّي وقيدي
…
وامتهاني منك صدري
ليس يخفى عنك أمري
…
يا منى قلبي وذخري
أنت قد تعتق رقّي
…
وتفكّ اليوم أسري
قال سري: فبينما أنا أسمعها، وإذا بمولاها قد جاء وهو يبكي، فقلت: لا بأس عليك قد جئناك برأس مالك وربح عشرة آلاف درهم، فقال: والله لا فعلت ذلك. قلت:
نزيدك. قال: والله لو أعطيتني ما بين الخافقين «7» ما فعلت، وهي حرة لوجه الله تعالى، فقال: فتعجبت من ذلك، وقلت: ما كان هذا كلامك بالأمس، فقال: حبيبي لا توبخني فالذي وقع لي من التوبيخ كفاني، وأشهدك أني قد خرجت من جميع مالي صدقة في سبيل الله تعالى، وإني هارب إلى الله تعالى، فبالله لا تردني عن صحبتك، فقلت نعم. ثم التفت، فرأيت صاحب المال يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: يا أستاذي ما قبلني مولاي لما ندبني إليه ورد عليّ ما بذلت أشهدك أني قد خرجت من جميع ما أملكه لله تعالى في سبيل الله، وكل عبد أملكه وجارية أحرار لوجه الله تعالى.
قال سري: فقلت: ما أعظم بركتك يا جارية. قال:
فنزعنا الغل من عنقها، والقيد من رجلها، وأخرجناها من المارستان، فنزعت ما كان عليها من ناعم الثياب، ولبست خمارا من صوف ومدرّعة «8» من شعر وولت، وقال
سري: فتوجهت أنا ومولاها وصاحب المال إلى مكة، فبينما نحن نطوف إذ سمعنا صوتا، فتبعناه فإذا هي امرأة كالخيال، فلما رأتني قالت: السلام عليك يا سري، فقلت لها: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته من أنت؟ فقالت:
لا إله إلا الله وقع الشك بعد المعرفة، فتأملتها، فإذا هي الجارية، فقلت لها: ما الذي أفادك الحق بعد انفرادك عن الخلق؟
فقالت: أنسي به ووحشتي من غيره، ثم توجهت إلى البيت، وقالت: إلهي كم تخلفني في دار لا أرى فيها أنيسا، قد طال شوقي، فعجل قدومي عليك، ثم شهقت شهقة وخرّت ميتة رحمة الله تعالى عليها، فلما نظر إليها مولاها بكى وجعل يدعو ويضعف كلاما إلى أن خرّ إلى جانبها ميتا، رحمة الله عليه، فدفناهما في قبر واحد.
شعر:
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم
…
من الودّ إلا ما رجعتم إلى وصلي
ولا تحرموني نظرة من جمالكم
…
فلن تجدوا عبدا ذليلا لكم مثلي
فو الله ما يهوي فؤادي سواكم
…
ولو رشقوه بالأسنّة والنبل
وحكي أنه كان في زمن بني إسرائيل رجل من العباد الموصوفين بالزهد، وكان قد سخر الله له سحابة تسير معه حيث يسير، فاعتراه فتور في بعض الأيام، فأزال الله عنه سحابته وحجب إجابته، فكثر لذلك حزنه وشجونه، وطال كمده وأنينه، وما زال يشتاق إلى زمن الكرامة ويبكي ويتأسف ويتحسر ويتلهف، فقام ليلة من الليالي، فصلى ما شاء الله وبكى وتضرّع «1» ودعا الله تعالى ونام.
فقيل له في المنام: إذا أردت أن يرد الله تعالى عليك سحابتك، فائت الملك الفلاني في بلد كذا واسأله أن يدعو الله لك أن يرد عليك سحابتك، قال: فسار الرجل يقطع الأرض حتى وصل إلى تلك البلد التي ذكرت له في المنام، فدخلها وسأل من يرشده إلى قصر الملك، فجاء إلى القصر وإذا عند بابه غلام جالس على كرسي عظيم من الذهب الأحمر مرصع بالدر والجوهر والناس بين يديه يسألونه حوائجهم، وهو يصرف الناس، فوقف الرجل الصالح بين يديه وسلم عليه، فقال له الغلام: من أين أنت، وما حاجتك؟ فقال من بلاد بعيدة، وقصدي الاجتماع بالملك، فقال له الغلام: لا سبيل لك اليوم، فسل حاجتك أقضها لك إن استطعت، فقال: إن حاجتي لا يقضيها إلا الملك، فقال الغلام: إن الملك ليس له إلا يوم واحد في الجمعة يجتمع إليه الناس فيه، فاذهب حتى يأتي ذلك، فانصرف الرجل إلى مسجد داثر «2» ، وأقام يعبد الله تعالى فيه، وأنكر على الملك لاحتجابه عن الناس، فلما كان ذلك اليوم الذي يجلس فيه الملك جاء إلى القصر، فوجد خلقا كثيرا عند الباب ينتظرون الإذن، فوقف مع جملة الناس.
فلما خرج الوزير أذن للناس في الدخول، فدخل أرباب الحوائج، ودخل صاحب السحابة معهم، وإذا بالملك جالس وبين يديه أرباب دولته على قدر مراتبهم، فجعل رأس النوبة يقدم الناس واحدا بعد واحد حتى وصلت النوبة لصاحب السحابة، فلما نظر إليه الملك قال: مرحبا بصاحب السحابة، اجلس حتى أفرغ من حوائج الناس، وأنظر في أمرك. قال: فتحير صاحب السحابة في أمره، فلما فرغ الملك من حوائج الناس قام من مجلسه، فأخذ بيد صاحب السحابة وأدخله معه إلى قصره، ثم مشى به في دهليز القصر، فلم يجد في طريقه إلا مملوكا واحدا، فسار به حتى انتهى إلى باب من جريد، وإذا به بناء مهدوم وحيطان مائلة، وبيت خرب فيه برش «3» وليس هناك ما يساوي عشرة دراهم إلا سجّادة خلقة. وقدح للوضوء وحصيرة رثة وشيء من الخوص «4» فانخلع الملك من ثياب الملك، ولبس مرقعة من صوف وجعل على رأسه قلنسوة من شعر، ثم جلس وأجلس صاحب السحابة، ونادى يا فلانة، قالت: لبيك. قال: أتدرين من هو الليلة ضيفنا؟ قالت: نعم صاحب السحابة، فدعا بها لحاجة، فخرجت، فإذا هي امرأة كالشن البالي «5» عليها مسح من شعر خشن «6» ، وهي شابة صغيرة، قال الرجل: فالتفت إلى الملك، وقال يا أخي نطلعك على حالنا، أو نقضي حاجتك وتنصرف.
فقلت: والله لقد شغلني حالكما عما جئت بسببه، فقال الملك: الله يعلم أنه كان لي في هذا الأمر آباء كرام صالحون يتوارثون المملكة كابرا عن كابر، فلما توفوا إلى
رحمة الله تعالى، ووصل الأمر إليّ بغّص الله إليّ الدنيا وأهلها فأردت أن أسيح في الأرض «1» وأترك الناس ينظرون لهم من يسوس «2» أمرهم، فيملكونه عليهم، فخفت عليهم دخول الفتنة، وتضييع الدين، والشرائع، وتبديل شمل الدين فبايعوني وأنا والله كاره، فتركت أمورهم على ما كانت عليه، وجعلت السّماط على عادته، والحراس على حالها، والمماليك على دأبها، ولم أغيّر شيئا، وأقعدت المماليك على الأبواب بالسلاح إرهابا لأهل الشرور وردعا عن أهل الخير وتركت القصر مزينا على حاله وفتحت له بابا وهو الذي رأيته يوصلني إلى هذه الخربة، فأدخل فيها وأنزع ثياب الملك وألبس هذا، وأضفر الخوص وأبيعه، وأتقوت من ثمنه أنا وزوجتي هذه التي رأيتها هي ابنة عمي زهدت في الدنيا كزهدي واجتهدت حتى صارت كالشن البالي، والناس لا يعلمون ما نحن فيه ثم إني أقمت لي نائبا ينوب عني طول الجمعة، وعلمت أني مسؤول، فجعلت لي يوما في الجمعة أبرز للناس فيه وأكشف مظالمهم كما رأيت، وأنا على هذه الحالة مدة، فأقم عندنا يرحمك الله حتى نبيع خويصاتنا ونبتاع من ثمنها طعاما وتفطر معنا، وتبيت عندنا الليلة ثم تنصرف بحاجتك إن شاء الله تعالى.
فلما كان آخر النهار دخل علينا غلام خماسي العمر، فأخذ ما عملاه من خوص وسار به إلى السوق، فباعه واشترى من ثمنه خبزا وفولا واشترى بباقي ثمنه خوصا، فلما كان عند الغروب أفطرا وأفطرت معهما وبت عندهما. قال: فقاما في نصف الليل يصليان ويبكيان، فلما كان السحر قال الملك: اللهم إن عبدك هذا يطلب منك رد سحابته وإنك قد دللته علينا، اللهم ارددها عليه إنك على كل شيء قدير، والمرأة تؤمّن على دعائه، وإذا بالسحابة قد طلعت من قبل السماء فقال لي: لك البشارة بقضاء حاجتك وتعجيل إجابتك. قال: فودعتهما وانصرفت والسحابة معي كما كانت، فأنا بعد ذلك لا أسأل الله تعالى بسرهما شيئا إلا أعطاني إياه رحمة الله تعالى عليهما.
شعر:
استعمل الصبر تجني بعده العسلا
…
ولازم الباب حتى تبلغ الأملا
ومرّغ الخدّ في أعتابه سحرا
…
واحمل لمرضاته في الحبّ كلّ بلا
فما يفوز بوصل يا أخيّ سوى
…
صبّ لثقل الهوى والوجد قد حملا
هذا الحبيب ينادي في الدّجى سحرا
…
فانهض وكن رجلا بالسعي قد وصلا
وحكي عن مالك بن دينار «3» رحمه الله تعالى قال:
خرجت إلى مكة حاجا، فبينما أنا سائر إذ رأيت شابا ساكتا لا يذكر الله تعالى، فلما جن الليل رفع وجهه نحو السماء وقال: يا من لا تسره الطاعات، ولا تضره المعاصي، هب لي ما لا يسرك، واغفر لي ما لا يضرك. ثم رأيته بذي الحليفة وقد لبس إحرامه والناس يلبون وهو لا يلبي، فقلت هذا جاهل، فدنوت منه، فقلت له يا فتى، قال:
لبيك، قلت له: لم لا تلبي؟ فقال يا شيخ: وما تغني التلبية، وقد بارزته بذنوب سالفات وجرائم مكتوبات، والله أني لأخشى أن أقول لبيك، فيقول لا لبيك ولا سعديك لا أسمع كلامك، ولا أنظر إليك، فقلت له:
لا تقل ذلك، فإنه حليم إذا غضب رضي، وإذا رضي لم يغضب، وإذا وعد وفى ومتى توعّد عفا، فقال يا شيخ أتشير عليّ بالتلبية؟ قلت: نعم، فبادر إلى الأرض واضطجع ووضع خده على التراب وأخذ حجرا فوضعه على خده الآخر، وأسبل دموعه وقال: لبيك اللهم لبيك قد خضعت لك وهذا مصرعي بين يديك، فأقام كذلك ساعة، ثم مضى، فما رأيته إلا بمنى وهو يقول: اللهم إن الناس ذبحوا ونحروا، وتقربوا إليك، وليس لي شيء أن أتقرب به سوى نفسي، فتقبلها مني ثم شهق شهقة وخرّ ميتا رحمة الله تعالى عليه.
وحكي أنه كان بمدينة بغداد رجل يعرف بأبي عبد الله الأندلسي، وكان شيخا لكل من بالعراق وكان يحفظ ثلاثين ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقرأ بجميع الروايات، فخرج في بعض السنين إلى السياحة، ومعه جماعة من أصحابه مثل الجنيد والشبلي وغيرهما من مشايخ العراق. قال الشبلي: فلم نزل في خدمته، ونحن مكرمون بعناية الله تعالى إلى أن وصلنا إلى قرية من قرى الكفار فطلبنا ماء نتوضأ به، فلم نجد، فجعلنا ندور بتلك القرية، وإذا نحن بكنائس وبها شمامسة، وقساوسة
ورهبان، وهم يعبدون الأصنام، والصلبان، فتعجبنا منهم ومن قلة عقلهم.
ثم انصرفنا إلى بئر في آخر القرية، وإذ نحن بجوار يستقين الماء على البئر وبينهن جارية حسنة الوجه ما فيهن أحسن ولا أجمل منها وفي عنقها قلائد الذهب.
فلما رآها الشيخ تغير وجهه، وقال: هذه ابنة من؟ فقيل له: هذه ابنة ملك هذه القرية، فقال الشيخ: فلم لا يدللها أبوها ويكرمها ولا يدعها تستقي الماء؟ فقيل له: أبوها يفعل ذلك بها حتى إذا تزوجها رجل أكرمته وخدمته ولا تعجبها نفسها، فجلس الشيخ ونكس رأسه، ثم أقام ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، ولا يكلم أحدا، غير أنه يؤدي الفريضة، والمشايخ واقفون بين يديه، ولا يدرون ما يصنعون، قال الشبلي: فتقدمت إليه، وقلت له: يا سيدي إن أصحابك ومريديك يتعجبون من سكوتك ثلاثة أيام وأنت ساكت لم تكلم أحدا، قال: فأقبل علينا، وقال:
يا قوم: إعلموا أن الجارية التي رأيتها بالأمس قد شغفت بها حبا، واشتغل بها قلبي، وما بقيت أقدر أفارق هذه الأرض.
قال الشبلي، فقلت يا سيدي: أنت شيخ أهل العراق ومعروف بالزهد في سائر الآفاق، وعدد مريديك اثنا عشر ألفا، فلا تفضحنا وإياهم بحرمة الكتاب العزيز. فقال يا قوم: جرى القلم بما حكم، ووقعت في بحار العدم وقد انحلت عني عرى الولاية، وطويت عني أعلام الهداية، ثم إنه بكى بكاء شديدا، وقال يا قوم: انصرفوا، فقد نفذ القضاء والقدر، فتعجبنا من أمره، وسألنا الله تعالى أن يجيرنا من مكره، ثم بكينا وبكى حتى أروى التراب.
ثم انصرفنا عنه راجعين إلى بغداد، فخرج الناس إلى لقائه، ومريدوه في جملة الناس، فلم يروه، فسألوا عنه، فعرفناهم بما جرى، فمات من مريديه جماعة كثيرة حزنا عليه وأسفا، وجعل الناس يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى أن يرده عليهم وغلقت الرباطات، والزوايا والخوانق، ولحق الناس حزن عظيم فأقمنا سنة كاملة، وخرجت مع بعض أصحابي نكشف خبره، فأتينا القرية، فسألنا عن الشيخ، فقيل لنا: إنه في البرية يرعى الخنازير، قلنا: وما السبب في ذلك؟ قالوا: إنه خطب الجارية من أبيها، فأبى أن يزوجها إلا ممن هو على دينها ويلبس العباءة ويشد الزنار، ويخدم الكنائس ويرعى الخنازير، ففعل ذلك كله، وهو في البرية يرعى الخنازير. قال الشبلي: فانصدعت قلوبنا، وانهملت بالبكاء عيوننا، وسرنا إليه، وإذا به قائم قدام الخنازير، فلما رآنا نكس رأسه، وإذا عليه قلنسوة النصارى، وفي وسطه زنار، وهو متوكىء على العصا التي كان يتوكأ عليها إذا قام إلى المحراب، فسلمنا عليه، فرد علينا السلام، فقلنا:
يا شيخ ما ذاك وماذا وما هذه الكروب والهموم بعد تلك الأحاديث والعلوم؟ فقال: يا إخواني وأحبابي ليس لي من الأمر شيء، سيدي تصرف في كيف شاء، وحيث أراد أبعدني عن بابه بعد إن كنت من جملة أحبابه، فالحذر الحذر يا أهل وداده من صده وإبعاده، والحذر الحذر يا أهل المودة والصفاء من القطيعة والجفاء، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: يا مولاي ما كان ظني فيك هذا، ثم جعل يستغيث ويبكي ونادى: يا شبلي اتعظ بغيرك.
فنادى الشبلي بأعلى صوته: بك المستعان وأنت المستغاث، وعليك التكلان. إكشف عنا هذه الغمة بحلمك، فقد دهمنا أمر لا كاشف له غيرك، قال: فلما سمعت الخنازير بكاءهم، وضجيجهم أقبلت إليهم وجعلت تمرغ وجوهها بين أيديهم وزعقت زعقة واحدة دويت منها الجبال.
قال الشبلي: فظننت أن القيامة قد قامت، ثم إن الشيخ بكى بكاء شديدا. قال الشبلي: فقلنا له هل لك أن ترجع معنا إلى بغداد؟ فقال: كيف لي بذلك، وقد استرعيت الخنازير بعد أن كنت أرعى القلوب؟ فقلت يا شيخ كنت تحفظ القرآن وتقرأه بالسبع فهل بقيت تحفظ منه شيئا؟
فقال: نسيته كله إلا آيتين، فقلت: وما هما؟ قال: قوله تعالى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ
«1» . والثانية قوله تعالى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ
«2» . فقلت: يا شيخ كنت تحفظ ثلاثين ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل تحفظ منها شيئا؟ قال: حديثا واحدا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«من بدل دينه فاقتلوه» .
قال الشبلي: فتركناه، وانصرفنا، ونحن متعجبون من أمره، فسرنا ثلاثة أيام وإذا نحن به أمامنا قد تطهر من نهر وطلع، وهو يشهد شهادة الحق، ويجدد إسلامه، فلما رأيناه لم نملك أنفسنا من الفرح والسرور، فنظر إلينا، وقال: يا قوم اعطوني ثوبا طاهرا، فأعطيناه ثوبا، فلبسه،
ثم صلى وجلس، فقلنا له: الحمد لله الذي ردك علينا، وجمع شملنا بك، فصف لنا ما جرى لك، وكيف كان أمرك؟ فقال يا قوم: لما وليتم من عندي سألته بالوداد القديم، وقلت له يا مولاي أنا المذنب الجاني، فعفا عني بجوده، وبستره غطاني، فقلنا له: بالله نسألك هل كان لمحنتك من سبب؟ قال: نعم. لما وردنا القرية، وجعلتم تدورون حول الكنائس قلت في نفسي: ما قدر هؤلاء عندي، وأنا مؤمن موحّد، فنوديت في سري ليس هذا منك، ولو شئت عرّفناك، ثم أحسست بطائر قد خرج من قلبي، فكان ذلك الطائر هو الإيمان.
قال الشبلي: ففرحنا به فرحا شديدا، وكان يوم دخولنا يوما عظيما مشهودا، وفتحت الزوايا، والرباطات والخوانق، ونزل الخليفة للقاء الشيخ، وأرسل إليه الهدايا، وصار يجتمع عنده لسماع علمه أربعون ألفا، وأقام على ذلك زمانا طويلا ورد الله عليه ما كان نسيه من القرآن والحديث، وزاده على ذلك.
فبينما نحن جلوس عنده في بعض الأيام بعد صلاة الصبح، وإذا نحن بطارق يطرق باب الزاوية، فنظرت من الباب، فإذا شخص ملتف بكساء أسود، فقلت له: ما الذي تريد؟ فقال: قل لشيخكم إن الجارية الرومية التي تركتها بالقرية الفلانية قد جاءت لخدمتك.
قال: فدخلت فعرفت الشيخ، فاصفر لونه وارتعد، ثم أمر بدخولها، فلما دخلت عليه بكت بكاء شديدا، فقال لها الشيخ: كيف كان مجيئك، ومن أوصلك إلى ههنا؟
قالت: يا سيدي لما وليت من قريتنا جاءني من أخبرني بك، فبت ولم يأخذني قرار، فرأيت في منامي شخصا وهو يقول: إن أحببت أن تكوني من المؤمنات، فاتركي ما أنت عليه من عبادة الأصنام، واتبعي ذلك الشيخ، وادخلي في دينه، فقلت: وما دينه؟ قال: دين الإسلام، قلت: وما هو؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فقلت: كيف لي بالوصول إليه؟ قال: اغمضي عينيك، واعطيني يدك، ففعلت، فمشى قليلا، ثم قال:
افتحي عينيك، ففتحتهما، فإذا أنا بشاطىء الدجلة، فقال:
امضي إلى تلك الزاوية، واقرئي مني الشيخ السلام، وقولي له إن أخاك الخضر يسلم عليك، قال: فأدخلها الشيخ إلى جواره، وقال: تعبدي ههنا. فكانت أعبد أهل زمانها تصوم النهار وتقوم الليل حتى نحل جسمها، وتغير لونها، فمرضت مرض الموت، وأشرفت على الوفاة، ومع ذلك لم يرها الشيخ، فقالت: قولوا للشيخ يدخل عليّ قبل الموت، فلما بلغ الشيخ ذلك دخل عليها، فلما رأته بكت، فقال لها: لا تبكي، فإن اجتماعنا غدا في القيامة في دار الكرامة، ثم انتقلت إلى رحمة الله تعالى، فلم يلبث الشيخ بعدها إلا أياما قلائل حتى مات رحمة الله تعالى عليه.
قال الشبلي: فرأيته في المنام، وقد تزوج بسبعين حوراء وأول ما تزوج بالجارية، وهما مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله، وكفى بالله عليما. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثاني والثلاثون في ذكر الأشرار والفجار وما يرتكبون من الفواحش والوقاحة والسفاهة
عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قبل قيام الساعة يرسل الله ريحا باردة طيبة، فتقبض روح كل مؤمن ويبقى شرار الخلق يتهارجون تهارج الحمير، وعليهم تقوم الساعة» . وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: كفى بالمرء شرا أن لا يكون صالحا ويقع في الصالحين.
وقال لقمان لابنه: يا بني كذب من قال الشر يطفىء الشر، فإن كان صادقا فليوقد نارين ثم ينظر هل تطفىء إحداهما الأخرى، وإنما يطفىء الشر الخير كما يطفىء الماء النار. ووصف بعضهم رجلا من أهل الشر فقال:
فلان عري من حلة التقوى ومحي عنه طابع الهدى، لا تثنيه يد المراقبة، ولا تكفه خيفة المحاسبة، وهو لدعائم دينه مضيع ولدواعي شيطانه مطيع.
شعر:
كأنّه التيس قد أودى به هرم
…
فلا لحم ولا صوف ولا ثمر
وقيل: من فعل ما شاء لقي ما ساء. وقيل: زنى رجل بجارية فأحبلها، فقالوا له: يا عدو الله هلّا إذا ابتليت بفاحشة عزلت؟ قال: قد بلغني أن العزل مكروه، قالوا:
فما بلغك أن الزنا حرام؟
وقيل لأعرابي كان يتعشق قينة: ما يضرك لو اشتريتها ببعض ما تنفق عليها، قال: فمن لي إذ ذاك بلذة الخلسة ولقاء المسارقة وانتظار الموعد.
وقال أبو العيناء: رأيت جارية مع النخاس وهي تحلف أن لا ترجع لمولاها، فسألتها عن ذلك، فقالت: يا سيدي إنه يواقعني من قيام، ويصلي من قعود، ويشتمني بإعراب، ويلحن في القرآن، ويصوم الخميس والاثنين، ويفطر رمضان، ويصلي الضّحى، ويترك الفرض. فقلت:
لا أكثر الله في المسلمين مثله.
وكانت ظلمة القوّادة وهي صغيرة في المكتب تسرق دويات الصبيان وأقلامهم، فلما شبت زنت، فلما كبرت قادت. وقال صاحب المسالك والممالك إن عامة ملوك الهند يرون الزنا مباحا، خلا ملك قمار، قال الزمخشري رحمه الله: أقمت بقمار سنين، فلم أر ملكا أغير منه، وكان يعاقب على الزنا وشرب الخمر بالقتل. وقمار ينسب إليها العود القماري كما ينسب إلى مندل، قال مسكين الدارمي:
ولا ذنب للعود القماريّ إنّه
…
يحرّق إن نمّت عليه روائحه «1»
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: عهدت الناس وهواهم تبع لأديانهم، وإن الناس اليوم أديانهم تبع لأهوائهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم» .
ما جاء في الوقاحة والسفاهة وذكر الغوغاء:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» ، وفي ذلك قيل:
إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا
…
وتستح مخلوقا فما شئت فاصنع
وقال ابن سلام: العاقل شجاع القلب والأحمق شجاع الوجه. وذم رجل قوما، فقال: وجوههم وأيديهم حديد أي وقاح بخلاء. ووصف رجل وقحا فقال: لو دق الحجارة بوجهه لرضها ولو خلا بأستار الكعبة لسرقها.
قال الشاعر:
لو أن لي من جلد وجهك رقعة
…
لجعلت منها حافرا للأشهب «2»
وقال آخر:
إذا رزق الفتى وجها وقاحا
…
تقلّب في الأمور كما يشاء
وقال أنو شروان: أربعة قبائح وهي في أربعة أقبح، البخل في الملوك والكذب في القضاة، والحسد في العلماء، والوقاحة في النساء. ويقال من جسر أيسر ومن هاب خاب.
قال الشاعر:
لا تكوننّ في الأمور هيوبا
…
فإلى هيبة يصير الهبوب
وقال عليّ رضي الله عنه: إذا هبت أمرا فقع فيه، فإنّ شرّ توقّيه أعظم مما تخاف منه «3» . وقال رضي الله عنه: الغوغاء إذا اجتمعوا ضروا، وإذا افترقوا نفعوا، فقيل: قد علمنا مضرة اجتماعهم فما منفعة افتراقهم؟ قال: يرجع أهل المهن إلى مهنهم، فينتفع الناس بهم كرجوع البنّاء إلى بنائه والنسّاج إلى منسجه، والخبّاز إلى مخبزه.
وقال بعض السلف: لا تسبّوا الغوغاء، فإنهم يطفئون الحريق ويخرجون الغريق. وقال الأحنف: ما قل سفهاء قوم إلا ذلوا. وقال حكيم: لا يخرجن أحد من بيته إلا وقد أخذ في حجره قيراطين من جهل، فإن الجاهل لا يدفعه إلا الجهل أراد السفه.
قال الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا «4»
وقيل: الجاهل من لا جاهل له. أي: من لا سفيه له يدفع عنه. وقيل: بينما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس، إذ جاء أعرابي، فلطمه، فقام إليه واقد بن عمرو، فجلد به الأرض، فقال عمر: ليس بعزيز من ليس في قومه سفيه.
وقال الشاعر:
ولا يلبث الجهّال أن يتهضّموا
…
أخا الحلم ما لم يستعن بجهول «5»
وقال صالح بن جناح:
إذا كنت بين الجهل والحلم قاعدا
…
وخيّرت أنّى شئت فالحلم أفضل
ولكن إذا أنصفت من ليس منصفا
…
ولم يرض منك الحلم فالجهل أمثل
وقال الأحنف بن قيس «1» :
وذي ضغن أبيت القول عنه
…
بحلم فاستمرّ على المقال
ومن يحلم وليس له سفيه
…
يلاق المعضلات من الرجال
وقال آخر:
فإن كنت محتاجا إلى الحلم إنّني
…
إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ولي فرس للخير بالخير ملجم
…
ولي فرس للشرّ بالشرّ مسرج
فمن رام تقويمي فإنّي مقوّم
…
ومن رام تعويجي فإنّي معوّج
وقال آخر:
فإن قيل حلم قلت للحلم موضع
…
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
اللهم إنا نعوذ بك أن نجهل أو يجهل علينا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب الثالث والثلاثون في الجود والسخاء والكرم ومكارم الأخلاق واصطناع المعروف وذكر الأمجاد وأحاديث الأجواد
اعلم أن الجود بذل المال، وأنفعه ما صرف في وجه استحقاقه، وقد ندب الله تعالى إليه في قوله تعالى: لَنْ
تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
«2» .
قيل: إن الجود والسخاء والإيثار بمعنى واحد. وقيل:
من أعطى البعض وأمسك البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر فهو صاحب جود، ومن آثر غيره بالحاضر، وبقي هو في مقاساة الضرر فهو صاحب إيثار.
وأصل السخاء هو السماحة، وقد يكون المعطي بخيلا إذا صعب عليه البذل، والممسك حيا إذا كان لا يستصعب العطاء.
فمن الإيثار ما حكي عن حذيفة العدوي أنه قال:
انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي في القتلى ومعي شيء من الماء، وأنا أقول، إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به بين القتلى، فقلت له: أسقيك، فأشار إليّ أن نعم، فإذا برجل يقول: آه، فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه واسقه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك، فأشار إليّ أن نعم. فسمع آخر يقول: آه، فأشار إليّ أن انطلق إليه، فجئته، فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
ومن عجائب ما ذكر في الإيثار:
ما حكاه أبو محمد الأزدي قال: لما احترق المسجد بمرو، ظن المسلمون أن النصارى أحرقوه، فأحرقوا خاناتهم، فقبض السلطان على جماعة من الذين أحرقوا الخانات، وكتب رقاعا فيها القطع والجلد والقتل ونثرها عليهم، فمن وقع عليه رقعة فعل به ما فيها. فوقعت رقعة فيها القتل بيد رجل، فقال: والله ما كنت أبالي لولا أمّ لي.
وكان بجنبه بعض الفتيان، فقال له: في رقعتي الجلد وليس لي أم، فخذ أنت رقعتي وأعطني رقعتك. ففعل، فقتل ذلك الفتى وتخلص هذا الرجل.
وقيل لقيس بن سعد: هل رأيت قط أسخى منك؟ قال:
نعم، نزلنا بالبادية على امرأة، فجاء زوجها، فقالت له: إنه نزل بنا ضيفان، فجاءنا بناقة فنحرها، وقال: شأنكم. فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها، وقال: شأنكم، فقلنا:
ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا القليل، فقال إني لا أطعم ضيفاني البائت. فبقينا عنده أياما، والسماء تمطر وهو يفعل كذلك، فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته، وقلنا للمرأة اعتذري لنا إليه ومضينا، فلما ارتفع النهار إذا برجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام،
أعطيتمونا ثمن قرانا «1» ، ثم إنه لحقنا، وقال: خذوها وإلا طعنتكم برمحي هذا، فأخذناها وانصرفنا.
وقال بعض الحكماء: أصل المحاسن كلها الكرم، وأصل الكرم نزاهة النفس عن الحرام وسخاؤها بما تملك على الخاص والعام، وجميع خصال الخير من فروعه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجاوزوا عن ذنب السخي فإن الله آخذ بيده كلما عثر وفاتح له كلما افتقر» .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط، فقال لا. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل» . وقال بعض السلف: منع الموجود سوء ظن بالمعبود. تلا قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
«2» . وقال الفضيل: ما كانوا يعدون القرض معروفا. وقال أكثم بن صيفي:
صاحب المعروف لا يقع وإن وقع وجد له متكأ. وقيل للحسن بن سهل: لا خير في السرف «3» ، فقال: لا سرف في الخير، فقلب اللفظ واستوفى المعنى.
ووجد مكتوبا على حجر: «انتهز الفرص عند إمكانها ولا تحمل نفسك هم ما لم يأتك، واعلم أن تقتيرك على نفسك توفير لخزانة غيرك، فكم من جامع لبعل حليلته» «4» .
وقال علي رضي الله تعالى عنه: ما جمعت من المال فوق قوتك فإنما أنت فيه خازن لغيرك. وقال النعمان بن المنذر يوما لجلسائه: من أفضل الناس عيشا وأنعمهم بالا وأكرمهم طباعا، وأجلهم في النفوس قدرا؟ فسكت القوم، فقام فتى فقال: أبيت اللعن، أفضل الناس من عاش الناس من فضله. فقال: صدقت.
وكان أسماء بن خارجة يقول: ما أحب أن أرد أحدا عن حاجة، لأنه إن كان كريما أصون عرضه أو لئيما أصون عنه عرضي. وكان مورق العجلي يتلطف في إدخال السرور والرفق على إخوانه، فيضع عند أحدهم البدرة، ويقول له أمسكها حتى أعود إليك، ثم يرسل يقول له أنت منها في حل.
وقال الحسن رضي الله عنه: باع طلحة بن عثمان رضي الله تعالى عنه أرضا بسبعمائة ألف درهم، فلما جاء المال قال: إن رجلا يبيت هذا عنده لا يدري ما يطرقه لغرير بالله تعالى ثم قسمه في المسلمين.
ولما دخل المنكدر على عائشة رضي الله عنها قال لها:
يا أم المؤمنين أصابتني فاقة «5» فقالت: ما عندي شيء، فلو كان عندي عشرة آلاف درهم لبعثت بها إليك. فلما خرج من عندها جاءتها عشرة آلاف درهم من عند خالد بن أسيد فأرسلت بها إليه في أثره، فأخذها ودخل بها السوق، فاشترى جارية بألف درهم، فولدت له ثلاثة أولاد، فكانوا عبّاد المدينة، وهم: محمد وأبو بكر، وعمر بنو المنكدر.
وأكرم العرب في الإسلام طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه، جاء إليه رجل، فسأله برحم بينه وبينه، فقال هذا حائطي بمكان كذا وكذا، وقد أعطيت فيه مائة ألف درهم، يراح إلي المال بالعشية، فإن شئت فالمال، وإن شئت فالحائط. وقال زياد بن جرير: رأيت طلحة بن عبيد الله فرّق مائة ألف في مجلس وإنه ليخيط إزاره بيده.
وذكر الإمام أبو علي القالي في كتاب الأمالي أن رجلا جاء إلى معاوية رضي الله تعالى عنه فقال له: سألتك بالرحم التي بيني وبينك إلّا ما قضيت حاجتي، فقال له معاوية: أمن قريش أنت؟ قال: لا، قال: فأي رحم بيني وبينك؟ قال: رحم آدم عليه السلام. قال: رحم مجفوة «6» والله لأكونن أول من وصلها، ثم قضى حاجته.
وروي أن الأشعث بن قيس أرسل إلى عدي بن حاتم يستعير منه قدورا كانت لأبيه حاتم، فملأها مالا وبعث بها إليه، وقال: إنا لا نعيرها فارغة. وكان الأستاذ أبو سهل الصعلوكي من الأجواد، ولم يناول أحدا شيئا وإنما كان يطرحه في الأرض، فيتناوله الآخذ من الأرض، وكان يقول: الدنيا أقل خطرا من أن ترى من أجلها يد فوق يد أخرى. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى» .
وسأل معاوية الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم، عن الكرم فقال: هو التبرع بالمعروف قبل السؤال، والرأفة
بالسائل مع البذل. وقدم رجل من قريش من سفر، فمر على رجل من الأعراب على قارعة الطريق قد أقعده الدهر وأضرّ به المرض، فقال له: يا هذا أعنا على الدهر، فقال لغلامه: ما بقي معك من النفقة، فادفعه إليه، فصب في حجره أربعة آلاف درهم فهمّ ليقوم، فلم يقدر من الضعف فبكى، فقال له الرجل: ما يبكيك لعلك استقللت ما دفعناه إليك؟ فقال: لا والله ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني.
وقال بعضهم: قصد رجل إلى صديق له فدق عليه الباب، فخرج إليه وسأله عن حاجته، فقال: علي دين كذا وكذا، فدخل الدار وأخرج إليه ما كان عليه، ثم دخل الدار باكيا، فقالت له زوجته: هلا تعللت حيث شقّت عليك الإجابة «1» ، فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إليّ أن سألني.
ويروى أن عبد الله بن أبي بكر، وكان من أجود الأجواد، عطش يوما في طريقه، فاستسقى من منزل امرأة، فأخرجت له كوزا، وقامت خلف الباب وقالت:
تنحوا عن الباب، وليأخذه بعض غلمانكم، فإنني امرأة عزب مات زوجي منذ أيام، فشرب عبد الله الماء وقال:
يا غلام احمل إليها عشرة آلاف درهم، فقالت: سبحان الله أتسخر مني؟ فقال: يا غلام احمل إليها عشرين ألفا، فقالت: أسأل الله العافية، فقال: يا غلام احمل إليها ثلاثين، فما أمست، حتى كثر خطابها. وكان رضي الله تعالى عنه ينفق على أربعين دارا من جيرانه عن يمينه، وأربعين عن يساره، وأربعين أمامه، وأربعين خلفه، ويبعث إليهم بالأضاحي والكسوة في الأعياد، ويعتق في كل عيد مائة مملوك رضي الله تعالى عنه.
ولما مرض قيس بن سعد بن عبادة استبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالا يمنع عني الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديا ينادي من كان لقيس عنده مال، فهو منه في حل. فكسرت عتبة بابه بالعشي لكثرة العواد.
وكان عبد الله بن جعفر من الجود بالمكان المشهود وله فيه أخبار يكاد سامعها ينكرها لبعدها عن المعهود، وكان معاوية يعطيه ألف ألف درهم في كل سنة، فيفرقها في الناس ولا يرى إلا وعليه دين.
وسمّن رجل بهيمة ثم خرج بها ليبيعها، فمر بعبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنه، فقال: يا صاحب البهيمة أتبيعها؟ قال: لا، ولكنها هي لك هبة، ثم تركها له، وانصرف إلى بيته، فلم يلبث إلا يسيرا، وإذا بالحمالين على بابه عشرين نفرا. عشرة منهم يحملون حنطة، وخمسة لحما وكسوة، وأربعة يحملون فاكهة ونقلا، وواحد يحمل مالا، فأعطاه جميع ذلك، واعتذر إليه رضي الله تعالى عنه.
ولما مات معاوية رضي الله تعالى عنه، وفد عبد الله بن جعفر على يزيد ابنه، فقال: كم كان أمير المؤمنين معاوية يعطيك، فقال: كان رحمه الله يعطيني ألف ألف، فقال يزيد قد زدناك لترحمك عليه ألف ألف. فقال: بأبي وأمي أنت، فقال، ولهذه ألف ألف، فقال: أما أني لا أقولها لأحد بعدك، فقيل ليزيد: أعطيت هذا المال كله من مال المسلمين لرجل واحد، فقال: والله ما أعطيته إلا لجميع أهل المدينة، ثم وكّل به يزيد من صحبه وهو لا يعلم لينظر ما يفعل، فلما وصل المدينة فرّق جميع المال حتى احتاج بعد شهر إلى الدين.
وخرج رضي الله تعالى عنه وهو والحسنان، وأبو دحية الأنصاري رضي الله تعالى عنهم من مكة إلى المدينة، فأصابتهم السماء بمطر، فلجئوا إلى خباء أعرابي، فأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى سكنت السماء «2» ، فذبح لهم الأعرابي شاة، فلما ارتحلوا قال عبد الله للأعرابي: إن قدمت المدينة، فسل عنا، فاحتاج الأعرابي بعد سنين، فقالت له امرأته: لو أتيت المدينة، فلقيت أولئك الفتيان، فقال: قد نسيت أسماءهم، فقالت: سل عن ابن الطيار، فأتى المدينة، فلقي سيدنا الحسن رضي الله تعالى عنه، فأمر له بمائة ناقة بفحولها ورعاتها، ثم أتى الحسين رضي الله تعالى عنه، فقال: كفانا أبو محمد مؤونة الإبل، فأمر له بألف شاة، ثم أتى عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنه، فقال: كفاني أخواني الإبل والشياه، فأمر له بمائة ألف درهم. ثم أتى أبا دحية رضي الله تعالى عنه، فقال: والله ما عندي مثل ما أعطوك، ولكن ائتني بابلك، فأوقرها لك تمرا. فلم يزل اليسار في عقب الأعرابي من ذلك اليوم.
وقال الحسن والحسين يوما لعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم: إنك قد أسرفت في بذل المال، فقال: بأبي أنتما.
إن الله عز وجل عوّدني أن يتفضّل عليّ، وعودته أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عني المادة.
وامتدحه نصيب، فأمر له بخيل، وأثاث، ودنانير ودراهم. فقال له رجل: مثل هذا الأسود تعطي له هذا المال؟ فقال: إن كان أسود فإن ثناه أبيض، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ثيابا تبلى ومالا يفنى، وأعطانا مدحا يروى وثناء يبقى؟
وخرج عبد الله رضي الله تعالى عنه يوما إلى ضيعة له، فنزل على حائط به نخيل لقوم، وفيه غلام أسود يقوم عليه، فأتي بقوته ثلاثة أقراص، فدخل كلب، فدنا من الغلام، فرمى إليه بقرص، فأكله، ثم رمى إليه بالثاني والثالث، فأكلهما. وعبد الله ينظر إليه، فقال: يا غلام.
كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت؟ قال: فلم آثرت هذا الكلب؟ قال: أرضنا ما هي بأرض كلاب، وأنه جاء من مسافة بعيدة جائعا، فكرهت أن أرده، قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا، فقال عبد الله بن جعفر:
ألام على السخاء، وإن هذا لأسخى مني، فاشترى الحائط، وما فيه من النخيل والآلات واشترى الغلام، ثم أعتقه، ووهبه الحائط بما فيه من النخيل، والآلات. فقال الغلام: إن كان ذلك لي فهو في سبيل الله تعالى، فاستعظم عبد الله ذلك منه، فقال: يجود هذا وأبخل أنا؟ لا كان ذلك أبدا.
وكان عبيد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما من الأجواد، أتاه رجل وهو بفناء داره، فقام بين يديه، قال: يا ابن عباس إن لي عندك يدا وقد احتجت إليها، فصعد فيه بصره، فلم يعرفه، فقال: ما يدك؟ قال: رأيتك واقفا بفناء زمزم وغلامك يمتح لك من مائها «1» ، والشمس قد صهرتك، فظللتك بفضل كسائي حتى شربت، فقال:
أجل إني لأذكر ذلك، ثم قال لغلامه: ما عندك؟ قال:
مائتا دينار، وعشرة آلاف درهم. فقال: إدفعها إليه، وما أراها تفي بحق يده.
وقدم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما على معاوية مرة، فأهدى إليه من هدايا النوروز حللا كثيرة ومسكا، وآنية من ذهب وفضة، ووجهها إليه مع حاجبه، فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب، وهو ينظر إليها، فقال له: هل في نفسك منها شيء؟ قال: نعم، والله إن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما الصلاة والسلام، فضحك عبد الله، وقال: خذها، فهي لك، قال: جعلت فداءك أخاف أن يبلغ ذلك معاوية، فيحقد عليّ، قال: فاختمها بخاتمك، وسلمها إلى الخازن، فإذا كان وقت خروجنا حملناها إليك ليلا، فقال الحاجب: والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم.
وحبس معاوية عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما صلاته «2» ، فقيل: لو وجهت إلى ابن عمك عبد الله بن عباس، فإنه قدم بنحو ألف ألف، فقال الحسين وأنى تقع ألف ألف من عبد الله، فو الله لهو أجود من الريح إذا عصفت، وأسخى من البحر إذا زخر، ثم وجه إليه مع رسوله بكتاب يذكر فيه حبس معاوية صلاته عنه، وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم، فلما قرأ عبد الله كتابه انهملت عيناه، وقال: ويلك يا معاوية أصبحت لين المهاد، رفيع العماد، والحسين يشكو ضيق الحال، وكثرة العيال؟ ثم قال لوكيله: أحمل إلى الحسين نصف ما أملكه من ذهب وفضة ودواب، وأخبره أني شاطرته «3» ، فإن كفاه وإلا أحمل إليه النصف الثاني، فلما أتاه الرسول قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثقلت والله على ابن عمي، وما حسبت أنه يسمح لنا بهذا كله. رضوان الله عليهم أجمعين.
وجاء رجل من الأنصار إلى عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال له: يا ابن عم محمد صلى الله عليه وسلم إنه ولد لي في هذه الليلة مولود، وإني سميته باسمك تبركا بك، وإن أمه ماتت، فقال له: بارك الله لك في الهبة، وآجرك على المصيبة، ثم دعا بوكيله، وقال له: انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه، وادفع لأبيه مائتي دينار لينفقها على تربيته، ثم قال للأنصاري: عد إلينا بعد أيام، فإنك جئتنا، وفي العيش يبس وفي المال قلة، فقال الأنصاري: جعلت فداءك لو سبقت حاتما بيوم ما ذكرته العرب.
وقال أبو جهم بن حذيفة يوما لمعاوية: أنت عندنا يا أمير المؤمنين كما قال ابن عبد كلال:
يقينا ما نخاف وإن ظننّا
…
به خيرا أراناه يقينا
نميل على جوانبه كأنّا
…
إذا ملنا نميل على أبينا
نقلّبه لنخبر حالتيه
…
فنخبر منهما كرما ولينا
فأمر له بمائة ألف درهم، وأنشده عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما:
بلوت الناس قرنا بعد قرن
…
فلم أر غير ختّال وقال «1»
ولم أر في الخطوب أشدّ وقعا
…
وأمضى من معاداة الرجال «2»
وذقت مرارة الأشياء طرّا
…
فما شيء أمرّ من السؤال «3»
فأعطاه مائة ألف درهم.
ودخل عليه الحسن يوما وهو مضطجع على سريره، فسلم عليه، وأقعده عند رجليه وقال: ألا تعجب من قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تزعم أني لست للخلافة أهلا، ولا لها موضعا؟ فقال الحسن: أو عجبا مما قالت؟
قال: كل العجب. قال الحسن: وأعجب من هذا كله جلوسي عند رجليك، فاستحيا معاوية، واستوى جالسا، ثم قال: أقسمت عليك يا أبا محمد إلا ما أخبرتني كم عليك دينا؟ قال: مائة ألف درهم، فقال يا غلام: أعط أبا محمد ثلاثمائة ألف يقضي بها دينه، ومائة ألف يفرقها على مواليه، ومائة ألف يستعين بها على نوائبه، وسوّغها إليه الساعة «4» .
وكان معن بن زائدة من الأجواد وكان عاملا على العراق بالبصرة، قيل: إنه أتى إليه بعض الشعراء، فأقام ببابه مدة يريد الدخول عليه، فلم يتهيأ له ذلك، فقال يوما لبعض الخدم: إذا دخل الأمير البستان، فعرّفني، فلما دخل أعلمه بذلك، فكتب الشاعر بيتا ونقشه على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان، وكان معن جالسا على القناة، فلما رأى الخشبة أخذها، وقرأها فإذا فيها بيت مفرد:
أيا جود معن ناج معنا بحاجتي
…
فليس إلى معن سواك شفيع «5»
فقال: من الرجل صاحب هذه؟ فأتي به إليه، فقال:
كيف قلت؟ فأنشده البيت، فأمر له بعشر بدر، فأخذها وانصرف. ووضع معن الخشبة تحت بساطه، فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط ونظر فيها، وقال:
عليّ بالرجل صاحب هذه، فأتي به، فقال له: كيف قلت؟
فأنشده البيت، فأمر له بعشر بدر، فأخذها وانصرف.
ووضع معن الخشبة تحت بساطه، فلما كان في اليوم الثالث أخرجها، ونظر فيها، وقال: عليّ بالرجل صاحب هذه، فاتي به إليه، فقال له: كيف قلت؟ فأنشده البيت، فأمر له بعشر بدر، فأخذها وتفكر في نفسه وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه، فخرج من البلد بما معه، فلما كان في اليوم الرابع طلب الرجل فلم يجده، فقال معن: لقد ساء والله ظنه، ولقد هممت أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي درهم، ولا دينار. وفيه يقول القائل:
يقولون معن لا زكاة لماله
…
وكيف يزكّي المال من هو باذله
إذا حال حول لم تجد في دياره
…
من المال إلا ذكره وجمائله
تراه إذا ما جئته متهللا
…
كأنّك تعطيه الذي أنت نائله
تعوّد بسط الكف حتى لو أنه
…
أراد انقباضا لم تطعه أنامله
فلو لم يكن في كفّه غير نفسه
…
لجاد بها فليتق الله سائله
ومن قول معن:
دعيني أنهب الأموال حتى
…
أعفّ الأكرمين عن اللئام
وكان يزيد بن المهلب من الأجواد الأسخياء، وله أخبار في الجود عجيبة. من ذلك ما حكاه عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: لما أراد يزيد بن المهلب الخروج إلى واسط أتيته، فقلت: أيها الأمير إن رأيت أن تأذن لي، فأصحبك، قال: إذا قدمت واسط، فائتنا إن شاء الله تعالى، فسافر، وأقمت، فقال لي بعض إخواني إذهب إليه، فقلت: كان جوابه فيه ضعف، قالوا: أتريد من يزيد جوابا أكثر مما قال؟ قال: فسرت حتى قدمت عليه، فلما كان في الليل دعيت إلى السمر، فتحدث القوم حتى ذكروا الجواري، فالتفت إلى يزيد، وقال: إيه يا عقيل، فقلت:
أفاض القوم في ذكر الجواري
…
فأما الأعزبون فلن يقولوا
قال: إنك لم تبق عزبا. فلما رجعت إلى منزلي إذا أنا بخادم قد أتاني ومعه جارية وفرش بيت وبدرة عشرة آلاف درهم، وفي الليلة الثانية كذلك، فمكثت عشر ليالي، وأنا على هذه الحالة، فلما رأيت ذلك دخلت عليه في اليوم العاشر، فقلت أيها الأمير: قد والله أغنيت وأقنيت، فإن رأيت أن تأذن لي في الرجوع، فأكبت عدوي وأسر صديقي، فقال: إنما أخيرك بين خلتين إما أن تقيم فنولّيك، أو ترحل فنغنيك. فقلت: أو لم تغنني أيها الأمير؟ قال: إنما هذا أثاث المنزل، ومصلحة القدوم، فنالني من فضله ما لا أقدر على وصفه.
وحدث أبو اليقظان عن أبيه قال: حج يزيد بن المهلب، فطلب حلاقا يحلق رأسه، فجاءه بحلاق، فحلق رأسه، فأمر له بخمسة آلاف درهم، فتحير الحلاق ودهش، وقال: آخذ هذه الخمسة الآلاف وأمضي إلى أم فلان أخبرها أني قد استغنيت؟ فقال: أعطوه خمسة آلاف أخرى، فقال: امرأته طالق إن حلقت رأس أحد بعدك.
وقيل: إن الحجاج حبسه على خراج وجب عليه، مقداره مائة ألف درهم، فجمعت له، وهو في السجن، فجاءه الفرزدق يزوره، فقال للحاجب: استأذن لي عليه، فقال: إنه في مكان لا يمكن الدخول عليه فيه، فقال الفرزدق: إنما أتيت متوجعا لما فيه، ولم آت ممتدحا، فأذن له، فلما أبصره قال:
أبا خالد ضاقت خراسان بعدكم
…
وقال ذوو الحاجات أين يزيد
فما قطرت بالشرق بعدك قطرة
…
ولا أخضرّ بالمروين بعدك عود «1»
وما لسرور بعد عزّك بهجة
…
وما لجواد بعد جودك جود
فقال يزيد للحاجب: إدفع إليه المائة ألف درهم التي جمعت لنا ودع الحجاج ولحمي يفعل فيه ما يشاء، فقال الحاجب للفرزدق: هذا الذي خفت منه لما منعتك من دخولك عليه، ثم دفعها إليه، فأخذها وانصرف.
ومر يزيد بن المهلب عند خروجه من سجن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، بعجوز أعرابية، فذبحت له عنزا، فقال لابنه: ما معك من النفقة؟ قال: مائة دينار.
قال: ادفعها إليها، فقال: هذه يرضيها اليسير وهي لا تعرفك. قال: إن كان يرضيها اليسير، فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي.
وقال مروان بن أبي الحبوب الشاعر: أمر لي المتوكل بمائة وعشرين ألفا وخمسين ثوبا، ورواحل كثيرة، فقلت أبياتا في شكره، فلما بلغت قولي:
فأمسك ندى كفيّك عني ولا تزد
…
فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا
فقال: والله لا أمسك حتى أغرقك بجودي، وأمر له بضياع تقوّم بألف ألف.
وقال أبو العيناء: تذاكروا السخاء، فاتفقوا على آل المهلب في الدولة المروانية، وعلى البرامكة في الدولة العباسية، ثم اتفقوا على أن أحمد بن أبي داود أسخى منهم جميعا وأفضل.
وسئل إسحاق الموصلي عن سخاء أولاد يحيى بن خالد، فقال: أما الفضل فيرضيك فعله، وأما جعفر، فيرضيك قوله، وأما محمد فيفعل بحسب ما يجد، وفي يحيى يقول القائل:
سألت الندى هل أنت حرّ فقال لا
…
ولكنّني عبد ليحيى بن خالد
فقلت شراء قال لا بل وراثة
…
توارثني من والد بعد والد
وفي الفضل يقول القائل:
إذا نزل الفضل بن يحيى ببلدة
…
رأيت بها غيث السماحة ينبت
فليس بسعّال إذا سيل حاجة
…
ولا بمكبّ في ثرى الأرض ينكت
وفي محمد يقول القائل:
سألت الندى والجود مالي أراكما
…
تبدّلتما عزّا بذل مؤبّد
وما بال ركن المجد أمسى مهدّما
…
فقال أصبنا بابن يحيى محمد
فقلت فهلا متمّا بعد موته
…
وقد كنتما عبديه في كل مشهد
فقالا أقمنا كي نعزّي بفقده
…
مسافة يوم ثم نتلوه في غد «2»
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه: من كانت له حاجة فليرفعها إليّ في كتاب لأصون وجهه عن المسألة. وجاءه رضي الله تعالى عنه أعرابي، فقال يا أمير المؤمنين: إن لي إليك حاجة، الحياء يمنعني أن أذكرها، فقال: خطها في الأرض، فكتب إني فقير فقال: يا قنبر اكسه حلتي، فقال الأعرابي:
كسوتني حلّة تبلى محاسنها
…
فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
إن نلت حسن الثنا قد نلت مكرمة
…
وليس تبغي بما قدمته بدلا
إن الثناء ليحي ذكر صاحبه
…
كالغيث يحي نداه السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في عرف بدأت به
…
كلّ امرىء سوف يجزى بالذي فعلا
فقال: يا قنبر زده مائة دينار، فقال يا أمير المؤمنين: لو فرقتها في المسلمين لأصلحت بها من شأنهم. فقال رضي الله تعالى عنه: صه يا قنبر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أشكروا لمن أثنى عليكم وإذا أتاكم كريم قوم، فأكرموه.
ولعبد الله بن جدعان:
إني وإن لم ينل مالي مداخلتي
…
وهّاب ما ملكت كفّي من المال
لا أحبس المال إلا حيث أنفقه
…
ولا يغيّرني حال إلى حال «1»
وقال بعض العرب لولده: يا بني لا تزهدن في معروف فإن الدهر ذو صروف فكم راغب كان مرغوبا إليه، وطالب كان مطلوبا ما لديه، وكن كما قال القائل:
وعدّ من الرحمن فضلا ونعمة
…
عليك إذا ما جاء للخير طالب
ولا تمنعن ذا حاجة جاء راغبا
…
فإنّك لا تدري متى أنت راغب
وقال بعضهم:
أبيت خميص البطن عريان طاويا
…
وأوثر بالزاد الرفيق على نفسي
وأمنحه فرشي وأفترش الثرى
…
وأجعل ستر الليل من دونه لبسي «2»
حذار أحاديث المحافل في غد
…
إذا ضمّني يوما إلى صدره رمسي «3»
وقال يحيى البرمكي: أعط من الدنيا وهي مقبلة، فإن ذلك لا ينقصك منها شيئا، واعط منها وهي مدبرة فإن منعك لا يبقى عليك منها شيئا، فكان الحسن بن سهل يتعجب من ذلك، ويقول: لله دره ما أطبعه على الكرم، وأعلمه بالدنيا، وقد أمر يحيى من نظمه فقال:
لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة
…
فليس ينقصها التبذير والسرف
فإن تولت فأحرى أن تجود بها
…
فليس تبقى ولكن شكرها خلف
وقال يحيى لولده جعفر: يا بني ما دام قلمك يرعد فأمطره معروفا وقال بعضهم:
لا تكثري في الجود لائمتي
…
وإذا بخلت فأكثري لومي
كفّى فلست بحامل أبدا
…
ما عشت همّ غد إلى يومي
وقال عليّ رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه: لا تستح من عطاء القليل، فالحرمان أقل منه. وسئل إسحاق الموصلي عن المخلوع «4» ، فقال: كان أمره كله عجبا، كان لا يبالي أين يقعد مع جلسائه، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر. كان عنده سليمان بن أبي جعفر يوما، فأراد الرجوع إلى أهله، فقال له: سفر البر أحب إليك أم سفر البحر؟ قال: البحر ألين عليّ. فقال: أوقروا له زورقه ذهبا وأمر له بألف ألف درهم.
وشكا سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، موسى شهوات إلى سليمان بن عبد الملك، وقال: قد هجاني يا أمير المؤمنين، فاستحضره سليمان، وقال: لا أم لك أتهجو سعيدا؟ قال يا أمير المؤمنين: أخبرك الخبر عشقت جارية مدنية، وأتيت سعيدا، فقلت إني أحب هذه الجارية وإن مولاتها أعطيت فيها مائتي دينار وقد أتيتك، فقال لي:
بورك فيك، فقال سليمان: ليس هذا موضع بورك فيك.
قال: فأتيت يا أمير المؤمنين سعيد بن خالد، فذكرت له حالي، فقال: يا جارية هاتي مطرفا، فأتته بمطرف خز، فصر لي في كل زاوية مائتي دينار، فخرجت وأنا أقول:
أبا خالد أعني سعيد بن خالد
…
أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد
ولكنني أعني ابن عائشة الذي
…
أبو أبويه خالد بن أسيد
عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى
…
فإن مات لم يرض الندى بعقيد
ذروه ذروه إنكم قد رقدتموا
…
وما هو عن إحسانكم برقود
فقال سليمان: قل ما شئت. وكتب كلثوم بن عمر إلى بعض الكرماء رقعة فيها:
إذا تكرّهت أن تعطي القليل ولم
…
تقدر على سعة لم يظهر الجود
بثّ النّوال ولا تمنعك قلته
…
فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود
فشاطره ماله حتى بعث إليه بنصف خاتمه وفردة نعله.
وباع عبد الله بن عتبة بن مسعود أرضا بثمانين ألفا، فقيل له: لو اتخذت لولدك من هذا المال ذخرا؟ فقال: بل اجعله ذخرا لي، وأجعل الله ذخرا لولدي، وقسمه بين ذوي الحاجات.
وكان ابن مالك القشيري من الأجواد، قيل أنه أنهب الناس ماله بعكاظ ثلاث مرات، فعاتبه خاله، فقال:
يا خال ذرني وما لي ما فعلت به
…
وخذ نصيبك منه إنني مودي «1»
فلن أطيعك إلّا أن تخلّدني
…
فانظر بكيدك هل تستطيع تخليدي «2»
الحمد لا يشترى إلا بمكرمة
…
ولن أعيش بمال غير محمود
وقال المهلب: عجبت لمن يشتري الممالك بماله كيف لا يشتري الأحرار بفعاله. ونزل بأبي البحتري وهب بن وهب القرشي ضيفا، فسارع عبيده إلى إنزاله وخدموه أحسن خدمة، وفعلوا به كل جميل، فلما همّ بالرحيل لم يقربه أحد منهم وتجنبوه، فأنكر ذلك عليهم، فقالوا: نحن إنما نعين النازل على الإقامة ولا نعينه على الرحيل.
ووفدت ليلى الأخيلية «3» على الحجاج، فقالت فيه:
إذا ورد الحجاج أرضا مريضة
…
تتبّع أقصى دائها فشفاها «4»
شفاها من الداء العضال الذي بها
…
غلام إذا هزّ القناة سقاها
فقال: لا تقولي غلام، ولكن قولي همام. يا غلام:
أعطها خمسمائة فقالت: أيها الأمير اجعلها نعما، فجعلها إبلا إناثا، وقال أبو الفياض الطبري:
والعزّ ضيف لا يراه بربعه
…
من لا يرى بذل التلاد تلادا «5»
والجود أعلى كعب كعب قبلنا
…
فمضى جوادا يوم مات جوادا
وقال آخر:
أيقنت أن من السماح شجاعة
…
وعلمت أنّ من السماحة جودا
وقال أحمد بن حمدون النديم: عملت أم المستعين بساطا على صورة كل حيوان من جميع الأجناس، وصورة كل طائر من ذهب، وأعينهم يواقيت وجواهر، أنفقت عليه مائة ألف ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وسألته أن يقف عليه، وينظر إليه، فكسل ذلك اليوم عن رؤيته. قال أحمد بن حمدون: فقال لي، ولأترجة الهاشمي: اذهبا، فانظرا إليه، وكان معنا الحاجب، فمضينا ورأيناه، فو الله ما رأينا في الدنيا شيئا أحسن منه، ولا شيئا حسنا إلا وقد عمل فيه، فمددت أنا يدي إلى غزال من ذهب عيناه ياقوتتان، فوضعته في كمي، ثم جئناه، فوصفنا له حسن ما رأيناه، فقال أترجة: يا أمير المؤمنين: إنه قد سرق منه شيئا، وغمزه على كمي، فأريته الغزال، فقال: بحياتي عليكما ارجعا، فخذا ما أحببتما، فمضينا، فملأنا أكمامنا
وأقبيتنا وأقبلنا نمشي كالحبالى، فلما رآنا ضحك، فقال بقية الجلساء: ونحن فما ذنبنا يا أمير المؤمنين؟ فقال:
قوموا، فخذوا ما شئتم، ثم قام، فوقف على الطريق ينظر كيف يحملون ويضحك.
ونظر يزيد المهلبي سطلا من ذهب مملوءا مسكا، فأخذه بيده وخرج، فقال له المستعين: إلى أين؟ فقال:
إلى الحمام يا أمير المؤمنين. فضحك من قوله، وأمر الفراشين والخدم أن ينتهبوا الباقي، فانتهبوه، فوجهت إليه أمه تقول: سرّ الله أمير المؤمنين لقد كنت أحب أن يراه قبل أن يفرقه، فإنني أنفقت عليه مائة ألف ألف وثلاثين ألف دينار، فقال: يحمل إليها مثل ذلك حتى تعيد مثله، ففعلت، ومضى حتى رآه، وفعل به كفعله بالأول.
ودخل طلحة بن عبد الله بن عوف السوق يوما، فوافق فيه الفرزدق، فقال يا أبا فراس: اختر عشرا من الإبل، ففعل، فقال ضم إليها مثلها، فلم يزل يقول مثل ذلك حتى بلغت مائة، فقال: هي لك، فقال:
يا طلح أنت أخو الندى وعقيده
…
إن الندى ما مات طلحة ماتا
إن الندى ألقى إليك رحاله
…
فبحيث بتّ من المنازل باتا
وقدم زياد الأعجم على عبد الله بن الحشرج بنيسابور، فأكرمه، وأنعم عليه، وبعث إليه بألف دينار، فقال:
إن السماحة والمروءة والندى
…
في قبّة ضربت على ابن الحشرج
فقال: زدني، فقال: كل شيء وثمنه. ووفد أبو عطاء السدي على نصر بن سيار بخراسان مع رفيقين له، فأنزله، وأحسن إليه، وقال: ما عندك يا أبا عطاء؟ فقال: وما عسى أن أقول، وأنت أشعر العرب غير أني قلت بيتين.
قال: هات ما قلت فقال:
يا طالب الجود إمّا كنت تطلبه
…
فاطلب على بابه نصر بن سيّار
الواهب الخيل تغدو في أعنّتها
…
مع القيان وفيها ألف دينار
فأعطاه ألف دينار، ووصائف، وكساه كسوة جميلة، فقسم ذلك بين رفيقيه، ولم يأخذ منه شيئا، فبلغ ذلك نصرا، فقال: يا له، قاتله الله من سيد، ما أضخم قدره، ثم أمر له بمثله. وقال العتبي: أشرف عمرو بن هبيرة يوما من قصره، فإذا هو بأعرابي يرقل قلوصه، فقال عمرو لحاجبه: إن أرادني هذا الأعرابي، فأوصله إليّ، فلما وصل الأعرابي سأله الحاجب، فقال: أردت الأمير، فدخل به إليه، فلما مثل بين يديه قال له: ما حاجتك؟ فأنشد الأعرابي يقول:
أصلحك الله قلّ ما بيدي
…
ولا أطيق العيال إذ كثروا
أناخ دهري عليّ كلكله
…
فأرسلوني إليك وانتظروا
فأخذت عمر الأريحية، فجعل يهتز في مجلسه ثم قال:
أرسلوك إليّ وانتظروا إذن والله لا تجلس حتى ترجع إليهم، ثم أمر له بألف دينار. وقيل: أراد ابن عامر أن يكتب لرجل بخمسين ألف درهم، فجرى القلم بخمسمائة ألف، فراجعه الخازن في ذلك، فقال: انفذه، فما بقي إلا نفاذه، وإن خروج المال أحب إليّ من الاعتذار. فاستشرفه الخازن فقال: إذا أراد الله بعبد خيرا صرف القلم عن مجرى إرادة كاتبه إلى إرادته، وأنا أردت شيئا وأراد الجواد الكريم أن يعطي عبده عشرة أضعافه، فكانت إرادة الله الغالبة، وأمره النافذ.
ووقف أعرابي على ابن عامر، فقال: يا قمر البصرة، وشمس الحجاز، ويا ابن ذروة العرب، وابن بطحاء مكة، برحت بي الحاجة، وأكدّت بي الآمال إلا بفنائك، فامنحني بقدر الطاقة لا بقدر المجد والشرف والهمة، فأمر له بمائتي ألف درهم. وسمع المأمون قول عمارة بن عقيل:
أأترك إن قلّت دراهم خالد
…
زيارته إنّي إذا للئيم
فقال: أو قلت دراهم خالد إحملوا إليه مائة ألف درهم، فبعثها خالد بن يحيى إلى عمارة بن عقيل، وقال: هذه قطرة من سحابك. ولما عزل عبد الرحمن بن الضحاك عن المدينة بكى، ثم قال: والله ما بكائي جزعا من العزل، ولا أسفا على الولاية، ولكن أخاف على هذه الوجوه أن يلي أمرها من لا يعرف لها حقا.
وأراد الرشيد أن يخرج إلى بعض المتفرجات، فقال يحيى بن خالد لرجاء بن عبد العزيز وكان على نفقاته: ما عند وكلائنا من الأموال؟ قال: سبعمائة ألف درهم. قال:
فاقبضها إليك يا رجاء. فلما كان من الغد دخل عليه رجاء، فقبل يده وعنده منصور بن زياد، فلما خرج رجاء
قال يحيى لمنصور: قد ظننت أن رجاء توهم أنا قد وهبناه المال، وإنما أمرناه بقبضه من الوكلاء ليحفظه علينا لحاجتنا إليه في وجهنا هذا، فقال منصور: أنا استخبر لك هذا. فقال يحيى: إذن يقول لك: قل له يقبل يدي كما قبلت يده، فلا تقل له شيئا، فقد تركتها له.
وقيل: إن الرشيد وصل في يوم واحد بألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسين ألفا. ووصل المنصور في يوم واحد لبني هاشم، ووجوه قواده بعشرة آلاف ألف دينار على ما ذكر.
وعن الأخفش الصغير قال: كان أسيد بن عنقاء الفزاري من أكبر أهل زمانه قدرا وأكثرهم أدبا، وأفصحهم لسانا، وأثبتهم جنانا، فطال عمره ونكبه دهره «1» ، فخرج عشية ينتفل لأهله «2» ، فمر به عميلة الفزاري، فسلم عليه، وقال: ما أصارك يا عم إلى ما أرى؟ فقال: بخل مثلك بماله وصون وجهي عن مسألة الناس، قال: والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أرى من حالك، فرجع ابن عنقاء إلى أهله، فأخبرها بما قال له عميلة، فقالت له: لقد غرك كلام غلام في جنح الليل. قال: فكأنما ألقمت فاه حجرا وبات متململا بين رجاء ويأس، فلما كان وقت السحر سمع رغاء الإبل وصهيل الخيل تحت الأموال، فقال: ما هذا؟ قالوا: عميلة قد قسم ماله شطرين، وبعث إليك بشطره، فأنشأ يقول:
رآني على ما بي عميلة فاشتكى
…
إلى ماله حالي فواسى وما هجر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه
…
تردّى رداء سابغ الذيل واتزر «3»
غلام حباه الله بالحسن يافعا
…
له سيمياء لا تشقّ على البصر
كأنّ الثريا علّقت في جبينه
…
وفي أنفه الشعرى وفي جيده القمر «4»
وكان عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي من الأجواد.
قيل: إنه كان لرجل جارية يهواها، فاحتاج إلى بيعها، فابتاعها منه ابن معمر بمال جزيل، فلما قبض ثمنها أنشأت تقول:
هنيئا لك المال الذي قد قبضته
…
ولم يبق في كفّيّ غير التّحسّر
أبوء بحزن من فراقك موجع
…
أناجي به صدرا طويل التّفكّر
فأجابها بقوله:
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن
…
يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
عليك سلام لا زيارة بيننا
…
ولا وصل إلّا أن يشاء ابن معمر
فقال ابن معمر: قد شئت وقد وهبتك الجارية وثمنها، فخذها وانصرف.
ووفد أبو الشمقمق إلى مدينة سابور يريد محمد بن عبد السلام فلما دخلها توجه إلى منزله، فوجده في دار الخراج يطالب، فدخل عليه يتوجع له، فلما رآه محمد قال:
وقد قدمت على رجال طالما
…
قدم الرجال عليهم فتموّلوا
أخنى الزمان عليهم فكأنّما
…
كانوا بأرض أقفرت فتحوّلوا
فقال أبو الشمقمق:
الجود أفلسهم وأذهب مالهم
…
فاليوم إن راموا السماحة يبخلوا
قال: فخلع محمد ثوبه وخاتمه ودفعهما إليه، فكتب بذلك مستوفي الخراج إلى الخليفة، فوقع إلى عامله بإسقاط الخراج عن محمد بن عبد السلام في تلك السنة، وإسقاط ما عليه من البقايا، وأمر له بمائة ألف درهم معونة على مروءته.
وقال أبو العيناء: حصلت لي ضيقة شديدة، فكتمتها عن أصدقائي، فدخلت يوما على يحيى بن أكثم القاضي، فقال إن أمير المؤمنين جلس للمظالم، وأخذ القصص، فهل لك في الحضور؟ قلت: نعم، فمضيت معه إلى دار أمير المؤمنين، فلما دخلنا عليه أجلسه وأجلسني، ثم قال: يا أبا العيناء، بالألفة والمحبة ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ فأنشدته:
لقد رجوتك دون النّاس كلّهم
…
وللرجاء حقوق كلّها تجب
إن لم يكن لي أسباب أعيش بها
…
ففي العلا لك أخلاق هي السبب
فقال: يا سلامة أنظر أي شيء في بيت مالنا دون مال المسلمين، فقال: بقية من مال. قال: فادفع له منها مائة ألف درهم، وابعث له بمثلها في كل شهر. فلما كان بعد أحد عشر شهرا مات المأمون، فبكى عليه أبو العيناء، حتى تقرّحت أجفانه، فدخل عليه بعض أولاده، فقال:
يا أبتاه بعد ذهاب العين ماذا ينفع البكاء، فأنشأ أبو العيناء يقول:
شيئان لو بكت الدماء عليهما
…
عيناي حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغا المعشار من حقيهما
…
فقد الشباب وفرقة الأحباب
وكان أحمد بن طولون كثير الصدقة، وكان راتبه منها في الشهر ألف دينار سوى ما يطرأ عليه من نذر أو صلة، وسوى ما يطبخ في دار الصدقة. وكان الموكل بصدقته سليم الخادم، فقال له سليم يوما: أيها الأمير إني أطوف القبائل، وأدق الأبواب لصدقاتك، وإن اليد تمد إليّ، وفيها الحناء، وربما كان فيها الخاتم الذهب والسوار الذهب، أفأعطي أم أرد؟ قال: فأطرق طويلا، ثم قال:
كل يد امتدت إليك فلا تردها.
وقال سلمة بن عياش في جعفر بن سليمان:
وما شمّ أنفي ريح كف شممتها
…
من الناس إلّا ريح كفّك أطيب
فأمر له بألف دينار ومائة مثقال مسك ومائة مثقال عنبر.
وكان عبد العزيز بن عبد الله جوادا. مضيافا، فتعذى عنده أعرابي يوما، فلما كان من الغد مر على بابه، فرأى الناس في الدخول على هيئتهم بالأمس، فقال: أو كل يوم يطعم الأمير الناس؟ قالوا: نعم، فأنشأ يقول:
أكلّ يوم كأنّه عيد أضحى
…
عند عبد العزيز أو عيد فطر
وله ألف جفنة مترعات
…
كل قدر يمدها ألف قدر «1»
وتعشّى الناس ليلة عند سعيد بن العاص، فلما خرجوا بقي فتى من الشام قاعدا، فقال له سعيد: ألك حاجة؟
وأطفأ الشمعة كراهة أن يخجل الفتى، فذكر أن أباه مات، وخلف دينا وعيالا، وسأله أن يكتب له كتابا إلى أهل دمشق ليقوموا ببعض إصلاح حاله، فدفع له عشرة آلاف دينار وقال له: لا أدعك تقاسي الذل على أبوابهم.
ودخل رجل على علي بن سليمان الوزير، فقال له:
سألتك بالله العظيم ونبيه الكريم إلا ما أجرتني من خصمي، فقال: ومن خصمك حتى أجيرك منه؟، فقال:
الفقر، فأطرق الوزير ساعة، وقال: قد أمرت لك بمائة ألف درهم، فأخذها وانصرف. فبينما هو في الطريق إذ أمر الوزير برده إليه، فلما رجع قال له: سألتك بالله العظيم ونبيه الكريم متى أتاك خصمك معنّفا، فارجع إلينا متظلما.
وقال الأعمش: كانت عندي شاة، فمرضت، وفقدت الصبيان لبنها، فكان خيثمة بن عبد الرحمن يعودها بالغداة والعشي ويسألني. هل أسوفت علفها؟ وكيف صبر الصبيان منذ فقدوا لبنها، وكانت تحتي لبد أجلس عليه، فكان إذا خرج يقول: خذ ما تحت اللبد حتى وصل من علة الشاة أكثر من ثلاثمائة دينار من بره حتى تمنيت أن الشاة لم تبرأ.
وحكى أبو قدامة القشيري قال: كنا مع يزيد بن مزيد يوما، فسمع صائحا يقول: يا يزيد بن مزيد، فطلبه فأتي به إليه، فقال: ما حملك على هذا الصياح؟ قال: فقدت دابتي ونفدت نفقتي، وسمعت قول الشاعر:
إذا قيل من للجود والمجد والندى
…
فنادي بصوت يا يزيد بن مزيد
فأمر له بفرس أبلق كان معجبا به، وبمائة دينار، وخلعة سنية فأخذها وانصرف.
وحكي: أن قوما من العرب جاءوا إلى قبر بعض أسخيائهم يزورونه فباتوا عند قبره، فرأى رجل منهم صاحب القبر في المنام وهو يقول له: هل لك أن تبيعني بعيرك بنجيبي «2» ؟ وكان الميت قد خلف نجيبا، وكان للرائي بعير سمين، فقال: نعم، وباعه في النوم بعيره بنجيبه، فلما وقع بينهما عقد البيع عمد صاحب القبر إلى البعير، فنحره في النوم، فانتبه الرائي من نومه، فوجد الدم يسيح من نحر بعيره، فقام وأتم نحره وقطع لحمه وطبخوه وأكلوا، ثم رحلوا وساروا، فلما كان اليوم الثاني وهم في