الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفعُ المُعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن حديثِ: «لن يفلح قومٌ وَلَّوا أمرَهم امرأةً»
يجمُل بنا قبلَ مُناقشةِ المُعترضِ في إنكارِه لمتنِ الخبرِ، التَّمهيدُ بالكلامِ عمَّا أثارَه مِن غُبارِ الشُّبهةِ على صَحابيِّ الحديثِ، فـ (الأشقرُ) بذا قد اقتحمَ مَهلكةً أيَّ مَهلكةٍ، حيث رَتَع في حِمَى صَحابيٍّ هو مَولًى لرَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، بأمرٍ تَوهَّمَه مُوجِبًا لتَجريحِه.
فلقد رَضِيَ (الأشقرُ) أن يكونَ بهذا المَوقِف في ضِفَّة وأهلُ السُّنَةِ في الضِّفَّةِ المُقابِلة! شَعَر أمْ لَم يَشعُر، كيف لا، وقد ارتكب طريقًا لم يسلكها أئمَّةُ السُّنةِ والحديث، فإنَّا لا نَعلمُ أحدًا منهم حَشَرَ أبا بَكرة في زُمرةِ المَتروكين، وهم أهلُ زمانِه الَّذين عاصَروه، وعرَفوا أمرَه، بل وَثَّقوه، وعَرَفوا فضلَه، وحَملوا عنه، واحتجُّوا بأحاديثِه، وأخرجوها في الدَّواوين الصَّحيحة.
ففي تقريرِ الإجماع على قَبولِ روايتِه:
يقول أبو بكرٍ الإسماعيليُّ (ت 371 هـ): «لم يَمتنِع أَحَدٌ مِن التَّابعين فمَن بعدهم، مِن روايةِ حديثِ أبي بكرة رضي الله عنه والاحتجاجِ بها، ولم يَتَوقَّف أحدٌ مِن الرُّواةِ عنه، ولا طَعَن أحَدٌ على روايتِه مِن جهةِ شهادتِه على المُغيرة»
(1)
.
(1)
نقله عنه مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال «(12/ 77)
ويقول ابن قدامة (ت 620 هـ): «لا نعلمُ خلافًا في قبول روايةِ أبي بكرة، مع ردِّ عمر شهادته»
(1)
.
وقال ابن القيِّم (ت 751 هـ): «قد أجمعَ المسلمون على قَبولِ رواية أبي بكرة»
(2)
، ومثله قال ابن كثير
(3)
.
وقد بَلَغ مِن فضلِ هذا الصَّاحِبِ رضي الله عنه علمًا ودينًا، أن تجتمِعَ له شَهادَتَا التَّابعين الجليلين الحَسنِ البَصريِّ ومحمَّد بنِ سِيرين بـ «أنَّه لم يَنزِل عليهما البَصْرةَ مِن أصحابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم مثلُ أبي بَكرة، وعمران بنِ حُصين»
(4)
.
ولَإِن كان (جمال البَنَّا) لا يُبالي بنَقْضِ إجماعٍ أو وِفاقِه، ولا يَأْلُو جُهدًا في تَسفيهِ مَذاهبِ الأسلافِ الصَّالحين بحُمقِ هواه؛ فكيف لِمثلِ (الأشقرِ) في علمِه ودينِه أن يُشيح بوجِهه عن هذا الإجماع؟!
ألا ليتَه فَكَّر بطريقةٍ أخرى، فجَعَل الأصلَ سَلامَة الصَّحابيِّ -فهو الأصلُ عنده في الأصحابِ يَقينًا- ثمَّ يبني على هذا الأصلِ تأويلَ ما يَتبادرُ منه خلافُه!
لكنَّه داءُ العَجَلة حين يُصيب قَلَمَ العالِمِ على غِرَّة! فتأُزُّه نَفسٌ نَفَرَت مِن مَفادِ خَبَرٍ ما، يسلُك بها مَسالِكَ مُوحِشةً في التَّأويلِ، لم يسلُكها فقيهٌ قبله.
أمَّا ما زَعمُه مِن أنَّ آيةَ: {لَوْلا جَاءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] تدمَغُ أبا بكرةٍ رضي الله عنه بالفسقِ والكَذبِ، المُقتضي لرَدِّ ما رواه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:
فهذا منه باطلٌ بُنِي على باطلٍ! بيانُه: أنَّ الضَّمائر في هذه الآيةِ راجعةٌ إلى القَذَفَة، لا إلى الشُّهودِ! يظهرُ هذا في نفسِ قصَّةِ جلدِ عمرَ لأبي بكرة رضي الله عنهم، يَحكيها بعضُ التَّابعين، منهم قسامة بن زهير
(5)
، حيث يقول:
(1)
«المغني» (10/ 180).
(2)
«إعلام الموقعين» (2/ 243).
(3)
«مسند الفاروق» (2/ 559).
(4)
«العلل ومعرفة الرجال» لأحمد رواية ابنه عبد الله (2/ 461).
(5)
قسامة بن زهير المازنى التميمى: بصريٌّ تابعيٌّ ثقة، مات (بعد 80 هـ)، انظر «تهذيب الكمال» (23/ 602).
قال: فكَتَب إليه وإلى الشُّهودِ أن يُقبلوا إليه، فلمَّا انتهوا إليه، دعا الشُّهود فشَهِدوا، فشَهِد: أبو بَكرة، وشبل بن مَعبد، وأبو عبد الله نافع، فقال عمر حين شهِد هؤلاء الثَّلاثة:«أَوْدُ المغيرةِ أربعةٌ!» ، وشَقَّ على عمر شأنُه جدًّا، فلمَّا قام زِياد، قال:«لنْ تَشهدَ إن شاء الله إلَّا بحقٍّ» ، ثمَّ شهِد قال: أمَّا الزِّنا فلا أشهَدُ به، ولكنِّي رأيتُ أمرًا قبيحًا، فقال عمر: الله أكبر! حدُّوهم! .. فجَلَدوهم»
(1)
.
وعن أبي عثمان النَّهدي
(2)
قال: «شهِد أبو بكرة، ونافع، وشِبل بن مَعبد، على المغيرة بن شعبة رضي الله عنهم، أنَّهم نَظَروا إليه كما يَنظرون إلى المِرْوَد في المِكحَلَة، قال: فجاء زِياد -يعني رابعَ الشُّهداء- فقال عمر: «جاء رجلٌ لا يشهد إلَّا بالحقِّ!» ، قال زياد: رأيتُ مجلسًا قبيحًا وانبهارًا.
قال أبو عثمان: فجَلَدَهم عمر الحدَّ»
(3)
.
وعن سعيد بن المسيِّب
(4)
قال: «شهِدَ على المغيرة بنِ شعبة ثلاثةٌ بالزِّنا، ونَكَل زيادٌ، فحَدَّ عمر الثَّلاثة، وقال لهم: «تُوبوا تُقبَل شهادتكم» ، فتابَ رجلان، ولم يتُبْ أبو بَكرة! فكان لا يُقبَل شهادتُه؛ وأبو بكرة أخو زيادٍ لأمِّه، فلمَّا كان مِن أمرِ زيادٍ ما كان، حَلَف أبو بكرة أن لا يُكلِّمَ زِيادًا أبدًا!»
(5)
.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (ك: الحدود، في الشهادة على الزنا، كيف هي؟، رقم: 28824)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (ك: الحدود، باب شهود الزنا إذا لم يكملوا أربعة، رقم: 17042).
(2)
أبوعبد الرحمن النَّهدي: عبد الرحمن بن مل بن عمرو الكوفي، سكن البصرة، من كِبار التَّابعين مخضرم، توفي (95 هـ) وقيل قبلها، انظر «تهذيب الكمال» (17/ 425).
(3)
رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (7/ 384، رقم: 13566)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (رقم: 28822)، والطبراني في «المعجم الكبير» (7/ 311، رقم:7227).
(4)
سعيد بن المسيِّب: من الفقهاء السبعة، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، وقال ابن المدينى: لا أعلم فى التابعين أوسع علما منه، توفي بعد (90 هـ)، انظر «تهذيب الكمال» (11/ 66).
(5)
رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (ك: الحدود، باب قوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً}، رقم: 13564).
فكان أبو بكرة رضي الله عنه بعد هذا إذا أتاه الرَّجل يستشهِدُه، قال له:«أشْهِد غيري، فإنَّ المسلمين قد فَسَّقوني»
(1)
.
وفي روايةِ عبد الرَّحمن بنِ جَوْشَن
(2)
: «فقال أبو بكرة -يعني بعدما حَدَّه-: والله إنِّي لصَادِقٌ، وهو فَعَل ما شَهِد به»
(3)
.
يقول الذَّهبي عن إباءِ أبي بكرة استِتابةَ عمر له: « .. كأنَّه يقول: لم أقذِف المغيرة، وإنَّما أنا شاهدٌ، فجَنَح إلى الفرقِ بين القاذفِ والشَّاهدِ، إذْ نِصابُ الشَّهادةِ لو تَمَّ بالرَّابع، لتَعَيَّن الرَّجمُ، ولمَا سُمُّوا قاذفين»
(4)
.
فبيِّنٌ مِن مَاجْرَياتِ هذه القِصَّة أنَّ أبا بَكرة رضي الله عنه إنَّما جَلَده عمر رضي الله عنهم لنقصانِ النِّصاب، وإنَّما جاءَ شاهدًا هو إليه، لِظنِّه أنَّ مَعه ثلاثةً يَشهدون بما شَهِد، فعَدمُ توبتِه لا تأثيرَ له في قَبولِ روايتِه للحديث، لأنَّ كمالَ النِّصابِ ليس مِن فِعْلِه؛ والَّذي جَرَى أنَّ العَدد «لمَّا نَقُص، أجراهُم عمر رضي الله عنهم مَجرى القَذَفَة، وحَدُّه لأبي بكرة بالتَّأويل، ولا يُوجِب ذلك تَفسيقًا، لأنَّهم جَاؤوا مَجيءَ الشَّهادة، وليس بصَريحٍ في القذفِ، وقد اختلفوا في وُجوبِ الحدِّ فيه، وسُوِّغ فيه الاجتهاد»
(5)
.
(1)
رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (ك: الشهادات، باب: شهادة القاذف، رقم: 20548)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (62/ 216).
(2)
من الوسطى من التابعين، كان صهر أبي بكرة على ابنته، وثقه أبو زرعة، انظر «تهذيب الكمال» (17/ 34).
(3)
رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (ك: الحدود، باب شهود الزنا إذا لم يكملوا أربعة، رقم: 17044).
(4)
«سير أعلام النبلاء» (3/ 7).
(5)
«البحر المحيط» للزركشي (6/ 187).
فلذا قال أحمد بن حنبل: «لا يُرَدُّ خَبرُ أبي بكرةَ ولا مَن جُلِد معه، لأنَّهم جَاؤوا مَجيءَ الشَّهادة، ولمْ يأتوا بصريحِ القَذف، ويَسوغُ فيه الاجتهاد، ولا تُرَدُّ الشَّهادة بما يَسوغ فيه الاجتهاد»
(1)
.
وقد عَلَّق ابنُ عَقيلٍ الحنبليُّ (ت 513 هـ) على كلامِ أحمدَ بقولِه: «لمَّا نَصَّ على أنَّه لا تُرَدُّ الشَّهادة في ذلك، كان تنبيهًا على أنَّه لا يُرَدُّ الخبَر؛ لأنَّ الخبرَ دون الشَّهادة، ولأنَّ نُقصان العَدد معنًى في غيره، وليس بمعنًى مِن جهتِه»
(2)
.
ووافقَهما أبو إسحاق الشِّيرازي (ت 476 هـ) بقولِه: «أمَّا أبو بكرة ومَن جُلِد معه في القذف: فإنَّ أخبارَهم تُقبل، لأنَّهم لم يخرجوا مَخرجَ القذف، بل أخرجوه مَخْرجَ الشَّهادةِ وإنَّما جَلَدهم عمر رضي الله عنه باجتهادِه، فلم يَجُز أن يُقدَح بذلك في عدالتِهم، ولم يُرَدَّ خبرُهم»
(3)
.
وحاصلُ قولِ الفقهاءِ في هذا، أنَّ في إبطالِ خَبَرِ المَحدودِ في القَذْفِ تَفصيلًا:
فإنْ كان المَحْدودُ شاهدًا عند الحاكِم بأنَّ فلانًا زَنى، وحُدَّ لعدمِ كمالِ الأربعة: فهذا لا تُرَدُّ به روايتُه؛ لأنَّه إنَّما حُدَّ هنا لعدمِ كمالِ نصابِ الشَّهادةِ الَّذي ليس مِن فعلِه، إذْ لو كَمُلوا لحُدَّ المَشهودُ عليه دونه.
وإن كان القذفُ ليس بصيغةِ الشَّهادةِ، كقولِه لعَفيفٍ: يا زَانٍ .. يا عاهر، ونحو ذلك: فهنا تبطُل روايتُه للأخبارِ حتَّى يتوبَ وينصَلِح
(4)
.
وفي تقرير هذا التَّقسيمِ في حكم المَحدودِ في قذفٍ، يقول أبو الخطَّاب الكلوذاني:
«إذا كان الرَّاوي مَحدُودًا في قذفٍ، فلا يخلو أن يكونَ قَذَف بلفظِ الشَّهادة، أو بغير لفظِها.
فإن كان بلفظِ الشَّهادة: لم يُرَدَّ خبرُه، لأنَّ نقصان عددِ الشَّهادةِ ليس مِن فعله، فلَم يُرَدَّ به خبره، ولأنَّ النَّاس اختلفوا: هل يلزمُه الحدُّ أم لا؟
(5)
(1)
«الواضح في أصول الفقه» (5/ 27)
(2)
«الواضح في أصول الفقه» (5/ 27).
(3)
«اللُّمع» للشيرازي (ص/77).
(4)
انظر «روضة الناظر» (1/ 348 - بحاشية ابن بدران)، و «مذكرة أصول الفقه» للشنقيطي (ص/151).
(5)
قال أبو ثور والظَّاهريَّة: لا يُحدُّ الشَّاهد بالزِّنا أصلًا، كان معه غيره أو لم يكُن؛ انظر «المحلى» لابن حزم (12/ 210).
وإن كان بغير لفظِ الشَّهادة: رُدَّ خبرُه، لأنَّه أتى بكبيرةٍ، إلَّا أن يتوب»
(1)
.
ومع ما تقدَّم تقريرُه مِن اتَّفاقِ الأمَّةِ على قَبول أخبارِ أبي بكرة رضي الله عنه، مع كونِه محدودًا في شهادتِه على المغيرة: يَستنبِطُ الحصيفُ أنَّ الشَّهادةَ في هذا البابِ ليست كالرِّواية، فالمَحدود في الشَّهادةِ لعدمِ كمالِ النِّصاب إنَّما تُقبَل روايتُه دون شَهادتِه.
أمَّا القاذف بالشَّتمِ: فتُرَدُّ شهادته وروايته معًا، وبلا خِلافٍ، حتَّى يتوب
(2)
.
وقد مَرَّ معنا شاهدٌ لهذا التَّفصيلِ الفارقِ مِن كلامِ أبي بَكرة نفسِه، حيث كانَ يمْتَنِع عن الشَّهادةِ لأحدٍ
(3)
، لكنَّه لم يَرد أنَّه امتنَع مِن تَحديثِ أحدٍ بما سَمِعه مِن مَولاه صلى الله عليه وسلم! ويكفي بهذا الفعل منه حُجَّةً على ما قرَّرناه.
ولنَأْتِ الآن إلى دَعوى المُعترضِ مُخالفةَ حديثِ أبي بَكرةَ للواقِع المُشاهَد مِن نَجاحاتِ بعضِ النِّسوةِ في تَدبيرِ الدُّوَل، فنقول:
مَن نَظَر إلى ما تَقتضيه أعباءُ السُّلطةِ مِن قَدْرٍ كبيرٍ من جزالةِ الرَّأيِ، وصَرامةِ العَزم، وهَيبةِ مَقامٍ في النُّفوس: عَرَفَ -لو صَدَق نفسَه- أنَّ المرأةَ لم تُخلَق لِأنْ تَتَولَّى الوِلايةَ المُطلقَة؛ لأنَّه يَعلمُ ما يغلِبُ عليها مِن رِقَّةِ العاطفةِ، وهَشاشةِ الطَّبعِ، وسرعةِ التَّأثُّر، وليس مِن شأنِ الرِّجال أصلًا أن يَهابوا مَكانَها الهَيْبةَ الَّتي تَلزَمُ السُّلطانَ تَدبيرًا وتنفيذًا.
فلأجلِ هذه النُّعوت عَلَّل العلماءُ «نهيَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أمَّتَه عن مُجاراةِ الفُرسِ في إسنادِ شيءٍ مِن الأمورِ العامَّةِ إلى المرأةِ، وقد ساقَ ذلك في حديثِه بأسلوبٍ مِن شأنِه أن يَبعثَ القومَ الحَريصين على فلاحِهم وانتظامِ شملِهم على الامتثالِ: وهو أسلوبُ القطعِ، بأنَّ عَدَم الفلاحِ مُلازمٌ لتوليةِ المرأة أمرًا مِن سياساتِهم العامَّة»
(4)
.
(1)
«التمهيد» للكلوذاني (3/ 127).
(2)
انظر «المجموع» للنووي (20/ 237).
(3)
كما عند البيهقي في «السنن الكبرى» (ك: الشهادات، باب: شهادة القاذف، رقم: 20548).
(4)
«موسوعة الأعمال الكاملة» للخضر حسين (4/ 1/285).
هذا النَّهي منه لا شكَّ أنَّه يشملُ كلَّ امرأةٍ في أيِّ عَصرٍ مِن العصور أنْ تَتولَّى أيَّ شيءٍ مِن الولاياتِ العامَّة، وهو عُموم مُستفادٌ مِن صيغةِ الحديثِ وأسلوبِه؛ فلا قيمة بعدُ لتأويلٍ يحصُر النَّهيَ في حالِ الفُرسِ فقط، أو في مَنصبِ الخلافةِ العُظمى فقط.
ذلك كلُّه تَحجيرٌ لإطلاقِ الحديثِ بلا دليلٍ، وهو خِلافُ ما فهِمَه الصَّحابة رضي الله عنهم وأئمَّة السَّلف مِن الحديث نفسِه، أوُّلهم راويه أبو بكرة رضي الله عنه، وهو أعلَمُ بما رَوَى، حيث لم يَستَثْني هؤلاءِ مِن عمومِ خَبرِه هذا امرأةَ، ولا قومًا، ولا شأنًا مِن الشُّؤون العامَّةِ، فهم جميعًا يَستدلُّون به على حُرمةِ تَولِّي المرأةِ للإمامةِ، والقَضاء، وقيادةِ الجيوشِ، وما إليها مِن سائرِ الولاياتِ العامَّة.
يقول أبو بَكر ابن العَربيِّ بعد سَوقِه حديثَ أبي بَكرة رضي الله عنه هذا: «هذا نَصٌّ في أنَّ المرأة لا تكون خليفةً، ولا خِلافَ فيه»
(1)
.
فهذا إذن إجماعُ العلماءِ في كلِّ عَصر
(2)
، يَشهَد له تاريخ الإسلام، منذ عهدِ النُّبوةِ إلى سقوطِ الخلافة: أنَّ امرأةً لم تُوَلَّ الإمامةَ أو الإمارةَ أو القضاء، ولو كانت هي مِن أصلح النَّاس وأعلمِهم؛ وفي تقريرِ هذه الدَّلالة مِن فعلِ المسلمين، يقول ابنُ قدامة:«لا تصلُح للإمامةِ العظمى، ولا لتوليةِ البلدان، ولهذا لم يُوَلِّ النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ مِن خلفائه، ولا مَن بعدهم، امرأةً قضاءً، ولا ولايةَ بلدٍ فيما بَلغَنا، ولو جازَ ذلك لم يَخلُ منه جميعُ الزَّمان غالبًا»
(3)
.
أمَّا ما ينسِبُه البعضُ إلى ابن جرير الطَّبري مِن القولِ بصحَّةِ ولايتِها القضاءَ: فليس يَصحُّ النَّقل عنه بذلك.
(1)
«أحكام القرآن» لابن العربي (3/ 482).
(2)
انظر نقل الإجماع في «الفِصل» لابن حزم (4/ 89)، و «شرح السنة» للبغوي (10/ 77)، و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (1/ 270).
(3)
«المغني» لابن قدامة (10/ 36).
ثمَّ نقلُهم عن أبي حنيفة أنَّها تَقضي فيما يَصِحُّ أن تشهدَ فيه: قد حُمِلَ على معنى صِحَّةِ حكمِها في القضيَّة الواحدة ونحوِها على سبيلِ التَّحكيم والاستنابةِ فقط
(1)
.
لكن لا بدَّ أن نعلمَ: أنَّ هذا الحكمَ المُستفادَ من الخَبَرِ في منعِ المرأة مِن إمامةِ العامَّة، ليس حُكمًا تَعبُّديًّا يُقصَد مجرَّدُ امتثالِه دون التماس حكمتِه، بل هو مِن الأحكامِ المُعلَّلة بمَعانٍ واعتباراتٍ لا يجهلها الواقفون على الفروقِ الطَّبيعيَّة بين جِنسَي الرَّجل والمرأة، وقد تقدَّم لَفْتُ الفِكرِ إلى بعضِها.
وصَدَق أحدُ الكُتَّاب الغَرْبيِّينِ إذْ يقول: «إنَّ الحياة هيِّنةٌ وطيِّبة، إذا عَلِم كلٌّ مِن الرَّجل والمرأة المحلَّ الَّذي خصَّصه الله لكلٍّ منهما!»
(2)
.
إنَّا لا نستنكِفُ أن نقولَ للعالَم أنَّ المرأة بمُقتضى الخَلقِ والتَّكوينِ مَطبوعةٌ على غرائز تُناسب إحدى أسمى المهمَّاتِ الَّتي خُلِقت لأجلِها: إنَّها مهمَّةَ الأمومة، وحضانةِ النَّاشئةِ، وتَربيتِهم وتَعليمِهم، وإقامةِ صَرْحِ الأمَّةِ على رِعايتِهم؛ فهذه المَهامُّ جَعَلتها ذاتَ تأثُّرٍ خاصٍّ بدَواعي العاطفة.
ثمَّ هي مع ذلك كلِّه تَعرِض لها عوارضُ طَبيعيَّة تَتكرَّر عليها في الأشهرِ والأعوام، مِن شأنِها أن تُضعِفَ قوَّتها المَعنويَّة والَجسديَّة، وتوهِنَ مِن عَزيمتِها في تكوين الرَّأي والتَّمسكِ به، والقدرةِ على الكفاحِ والمقاومةِ في سبيلِه.
والحقُّ أنَّ الإمامةَ والسِّياسةَ تستدعيان في أغلبِ أوقاتها عَزمًا وإقدامًا وجَلادة، وبعدًا في التَّفكير، وسدادًا في المنطق، وحسابًا دقيقًا للعواقب، وصبرًا مُضنِيًا، وضبطًا للعواطف، ففيهما مِن المزالق الخفيَّة، والأخطار الكامنة، ما الله به عليم؛ وللمرأةِ لِينٌ في القلب، ورِقَّة في المِزاج، وإحجامٌ عن المواقفِ الخَطِرة، وهو حَالٌ لا تُنكره النِّساء مِن أنفسِهنَّ.
(1)
وفي نَفيِ هذا القول عن أبي حنيفة والطَّبري، انظر «أحكام القرآن» لابن العربي (3/ 482).
(2)
«من هنا نعلم» للغزالي (ص/159).
فإنَّها فوارق بين الجِنسينِ أزليَّةٌ أبديَّة، وخصائص قاهرةٌ لا يَدَ لإنسانٍ في تحويرِها، إلَّا حين يَستطيع تحويرًا في تركيبِ الدِّماغ وبنيةِ خلاياه -مثلًا-، أو حين يُبدِّل وظائفَ الأعضاء وفِطرة العواطف.
إنَّها فطرةٌ اقتضتها الحِكمة الإلهيَّة في التَّمييز بين الجِنسين بما تتطلَّبه عمارةُ هذا الكون، قائمةً على تقسيم الأعمال والوظائف، لتيسير كلُّ الكائناتِ إلى ما يُلائِمها وخُلق لها
(1)
.
يقول محمَّد الغزاليُّ: «ستظلُّ المرأة هي اليد اليُسرى للإنسانيَّة، وسيظلُّ عملُها في البيتِ أكثرَ مِن عَملِها في الشَّارع، وسيظلُّ الرِّجالُ حمَّالي الأعباء الثِّقال في الشُّئون الخاصَّة والعامَّة، لأنَّ طاقةَ كلٍّ مِن الجنسين هكذا؛ ولأمرٍ ما لم يُرسل الله نبيَّةً مِن النِّساء، ولم يحكِ التَّاريخ إلَّا شواذًّا مِن الجنس النَّاعم قُمْن بأعمالٍ ضخمةٍ، على حين شُحِنت صفحاتُه بأسماءِ الرِّجال.
وإذا كانت المرأة لم تُختَر رسولًا، فقد استطاعت أن تكون زوجةً عظيمةً لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأن تُعينه إعانةً رائعةً على تبليغ الوحيِ وجهودِ النَّاس»
(2)
.
سَيثقُل هذا الحكمُ على نفوسِ النِّساء ونفوسِ الرِّجال الَّذين يُجاملونَهُنَّ، ولكن ماذا أعمل، وبين يَدَيَّ برهانٌ قاطعٌ ليس في استطاعتهنَّ أن يُنازعْنَني فيه، مع شدَّة ذكائهنَّ! ولا في استطاعِة أنصارهنَّ مِن الرِّجال أن ينَقضوه، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا!
لولا أن الرَّجل أقدر على التَّدبير والحكمِ مِن المرأة، «ما كان له عليها هذا السُّلطان وذلك الغَلَب، ولا استطاعَ أن يقودها وراءه كما يقاد الجَنيب، ولا أن يملكَ عليها أمْرَ فقرِها، وغِناها، وحبسها، وإطلاقها، وحجابها، وسُفورها، ويستأثر مِن دونها بوضعِ القوانين والشَّرائع الخاصَّة بها، مِن حيث لا ترى في نفسِها قوَّةً لدفعِها والخروج عليها»
(3)
.
(1)
انظر مقال «المرأة والسياسة» لسعيد الأفغاني في «مجلة الرِّسالة» (العدد: 647، ص/33).
(2)
«من هنا نعلم» لمحمد الغزالي (ص/156).
(3)
«النَّظرات» لمصطفى لطفي المنفلوطي (1/ 339).
وإنَّا لنأسفُ حين نُقرِّر هذا الكلام إذا كانت المرأةُ ستفهمُ مِنه أنَّها في نظرِ الإسلام مُهانة، أو أنَّها محرومةٌ عنده مِن وضعٍ تَستحقُّه؛ هذا غَلَط! فالنِّساء شقائقُ الرِّجال، ولهُنَّ مِن الحُرمة والمكانةِ والحقوقِ الفطريِّة ما يكفلُ لهنَّ السَّعادة والاستقرار، وتكليفُ الإسلام أنْ يُعَينَهُنَّ قاضياتٍ أو حاكماتٍ ظلمٌ للطَّبيعةِ، وافتياتٌ على المصلحة! وإنَّ مُجرَّد توليَةِ أهلِ الحلِّ والعَقدِ لامرأةٍ عليهم، لتملِكَهم وتُدَبِّرَ دولَتَهم، مع علمِهم بما يعتري النِّساء مِن تلك النَّواقص السَّالفة، هو في حدِّ ذاتِه مِن عَدمِ فلاحِهم!
فأمَّا أن يُعترَضَ على هذا ببَلْقيسَ ملِكة سَبأ، وكيف أنَّ القرآن امتَدَح مُلكَها:
فهو على ما فيه اعتراضٌ بمثالٍ واحدٍ لا يَرُدُّ ما قرَّرناه سابقًا؛ فإنَّ القرآن لم يمدَح فيها مُطلق حُكمِها، بل إيمانَها وتسليمَها لحكمِ ربِّها ونبيِّه سليمان عليه السلام.
وأمَّا إنقاذُها لقومِها مِن وَيْلاتِ الحربِ، وسَوقِهم بعدُ إلى الإسلام:
فإنَّا لا ندَّعي على المرأة أنَّها إذا تَوَلَّت فمصير أحكامِها الغَيُّ والخطأُ كلَّ مرَّة! ولا في الحديث ما يُفهِم ذلك؛ إنَّما دَلَّ خبر الحديث على نفيِ الفَلاحِ في حكمِها في الجملة، لا اطِّرادًا في كلِّ أحكامِها.
هذا بعد التَّسليم بأنَّ منعَ بَلْقيس للحربِ كان مِن باب الحكم الرَّشيد، فإنَّ ما فعلته قد كان -بمفهومِ العلاقاتِ الدَّولية- استسلامًا لقوَّةِ دولةٍ غازية!
ثمَّ أيُّ دولةٍ بَقِيَت لبلقيس لتُحكَمَها أصلًا؟! وقد انمَحت وصارت رقعةً مِن دولةِ سليمان عليه السلام؟!
وبغضِّ النَّظر عمَّا كان من مَآلِ تصرُّفِها مِن خيرٍ لها ولقومِها، فلا يُقال أنَّها فعلته رغبةً في دينِ سليمان عليه السلام وإلحاقِ قومِها به، بل كان منها فِعْلَ المَهزومِ بلا حربٍ، فـ «إنَّ المرأةَ لم تأتِ سليمانَ عليه السلام إذْ أتَته مُسلِمةً، وإنمَّا أسلَمتْ بعد مَقْدَمِها عليه، وبعد مُحاورةٍ جَرَت بينهما ومُساءلة»
(1)
.
(1)
«جامع البيان» للطبري (19/ 464).
وما يدَّعيه المُعترضُ مِن أنَّ بعض حكوماتِ النِّساءِ في بعضِ مَماليك أوروبا كانت أرقى مِن حكوماتِ الرِّجال:
فعلى التَّسليمِ بأنَّ تلك النَّماذج المَذكورةِ ناجحات فعلًا بالمِقياس الدُّنيويِّ، فإنَّه لا تَنافي بينها وبين الحديث، إذ هي خارجةٌ عن عمومِ مَدلولِه أصلًا! بيانُ ذلك:
أنَّ الحكمَ في الدُّوَل الغَربيَّةِ الدِّيموقراطيَّةِ حكمُ مُؤَسَّساتٍ لا فرد، والنَّبي صلى الله عليه وسلم يقول:«لا يُفلِحُ قومٌ تملِكُهم امرأة»
(1)
؛ فمَن تَرأَّسْنَ حكوماتِ تلك البُلدان، هل يقول عاقلٌ: أنَّهنَّ يَملِكنَ قومَهنَّ؟!
لا يُقالُ عنهنَّ ذلك، ولا هنَّ أُسنِد إليهنَّ أمرُ شُعوبهنَّ، فإنَّ الأمرَ ليس بيدِهنَّ كلَّه، ولا جُمَعَت لهنَّ السُّلطات الثَّلاثة كما كان حالُ سابقِ الملوكِ قبل قرونٍ؛ إنَّما حَدُّ إحداهنَّ أن تكون مُنفِّذة لبرنامجِ أحزابِ أغلبيَّة، مُقيَّدة في اقتراحاتها بموافقةِ مُمثِّلين عن الرَّعية.
فرُبَّ قَرارٍ سَعَت في تنفيذِه، رَجَعَت عنه مُكرَهةً، لامتناعِ مجلس الشَّعب عن إقراره! ورُبَّ مَشروعٍ سَعت في نجاحِه، قد أدارَه الرِّجال مِن وراء حِجاب! ورُبَّ بَرلمانيٍّ عن بلدةٍ صَغيرة، يَستدعيها إلى مجلسِ مُسائلةٍ، لينتِفَ ريشَها على المَلَأِ! بل لعلَّه كان سَببًا في عزلِها بالمرَّة، إذا تَدَاعى له جمهورُ مَن معه تحت قُبَّةِ البرلمان!
هذا إن لم تكُن دولتُها نفسُها مُسَيَرَّة مِن دولةٍ هي أعظمُ منها تَرغيبًا وتَرهيبًا!
ثمَّ إنَّا نَقول: إنَّ مُدَّعِي شَرَف الفلاحِ لتلك العِلْجاتِ لا يَستحِضرُ مِن الفَلاح إلَّا ما كان مَاديًّا دنيويًّا، وكأنِّي به قد أغفَل «الفَلاح في لسانِ الشَّرع، وهو تحصيلُ خيرِ الدُّنيا والآخرة، ولا يَلزم مِن ازدهارِ المُلْكِ أن يكون القوم في
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (رقم: 20438)، وصحَّحه ابن حبان في (ك: الخلافة والإمارة، باب: ذكر الإخبار عن نفي الفلاح عن أقوام تكون أمورهم منوطة بالنساء، رقم: 4516) والحاكم في «المستدرك» (رقم: 7790) وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشَّيخين ولم يخرجاه» .
مَرضاةِ الله، ومَن لم يكُن في طاعةِ الله فليس مِن المُفلِحين، ولو كان في أحسنِ حالٍ فيما يبدو مِن أمرِ دنياه»
(1)
.
فأيُّ نجاحٍ لمثلِ تلك الدُّوَل ونحن نرى فيها مِن الآفاتِ الاجتماعيَّة، والانحرافاتِ الأخلاقيَّة، والتُّفَكُّك الأُسَريِّ، والتَّسلُّطِ السِّياسيِّ، والجَشَعِ الرَّأسماليِّ، ما طَفَح به الكَيْل، حتَّى ضَجَّ به عقلائُهم تحذيرًا ليلَ نهار؟!
إنَّ مَن زيَّنت له نفسُه الانقباضَ عن مثل هذه الأخبار النَّبويَّة الصَّحيحة لا أقلَّ له مِن أن يأتِي بمثالِ امرأةٍ مُستَبِدَّة بالحكمِ، وُلِيَّت تدبيرَ أمرَ دولتِها، فتفوَّقت في سياستِها، وتمكَّنَت بسُلُطاتها مِن سَوْقِ شعبِها إلى العَدلِ والرَّفاه والمَنَعة!
وحين أقول هذا، لستُ أرمي في المقابلِ إلى إطلاقِ الفَلاحِ لكلِّ سلطانٍ ذكَرٍ! فكمْ جَرَّ كثيرُهم مِن وَيلاتٍ على البَرِيَّة، وكمْ نَشَرت أطماعُهم في الأمَّةِ مِن رَزِيَّة!
والله يُصلِحُ أحوالَ الرَّاعي والرَّعِيَّة، آمين.
(1)
«مجالس التذكير» لابن باديس (ص/274).