الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفع المُعارضات الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن حديثِ غارَتِه صلى الله عليه وسلم على بني المُصطلق
فقبل الشُّروعِ في تفاصيلِ الرَّد على هذا الطَّعْنِ في حديثِ نافعٍ، يحسُن بنا التَّمهيد من جهة التَّأصيل بأنَّ بَدْءَ قتالِ المسلمينَ للكُفَّارِ -بَسْطًا لحكمِ الإسلام عليهم، ولو مِن غيرِ اعتداءٍ سابقٍ منهم: لا يجوز تسميته عُدوانًا! ما دامت مَشروعيَّته قد نَطَق بها الشَّارع نفسُه؛ وذلك: أنَّ حَمَلة الشَّريعةِ مُتَّفِقون على أنَّ جِهادَ المُشركينَ إنَّما شُرِع في المدينةِ بعد الهجرة النَّبوية المُباركة
(1)
، وأنَّه تَدرَّج على مَراحِل ثلاث:
الأولى: الإذْنُ العامُّ في القِتال دون فَرْضِه، بعد أن كان مَمنوعًا في مكَّة:
وهذا الإذْن المُبيح للقتِال بعد منعِه أوَّل الدَّعوة، دَلَّ عليه قول الله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39 - 40].
قال غير واحدٍ مِن السَّلف: «هذه أوَّل آيةٍ نَزَلَت في الجهاد»
(2)
، فكانت بذا مُعلِمةً بضرورةِ الإعدادِ، مُهيِّئةٌ للأنفُسِ لما هي مُقبِلةٌ عليه مِن أحداث وأحكام تخصُّ المرحلةَ التَّالية:
(1)
«تحرير العقل من النقل» (ص/229)، وانظر أيضا «نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث» (ص/233 - 234).
(2)
انظر «تفسير القرآن العزيز» لابن أبي زمنين (3/ 183)، و «الوجيز» للواحدي (ص/735)، و «تفسير ابن كثير» (5/ 433).
وهي المرحلة الثَّانية: أمرُهم بقتالِ مَن قاتلَهم، والكفِّ عمَّن كفَّ عنهم:
وذلك حين رَمَتهم العَربُ عن قوسٍ واحدةٍ، وشَمَّروا لهم عن ساقِ العَداوةِ والمحاربةِ، وصاحوا بهم مِن كلِّ جانبٍ، فبعد أمرِه سبحانه للمؤمنين بالصَّبر والعفو والَّصفح: أَمَرهم أمرًا مباشرًا ألَّا يقاتلوا إلَّا مَن قاتلَهم مِن المشركين فقط، لأجل أن يتفرَّغوا لبناءِ دولتِهم الفتيَّة، بعيدًا عن وهجِ السُّيوفِ، وزلزلةِ الحروبِ.
ويدلُّ على هذه المرحلةِ قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190]، وقوله تعالى:{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء: 90]، والمعنى:«إن اعتزَلَكم هؤلاء المشركون الَّذين أمَرتُكم بالكفِّ عنهم، وألقوا إليكم الصُّلحَ والأمان، فإنَّ الله لم يجعل لكم على أنفسِهِم وأموالهِم وذَرارِيهم ونسائِهم طريقًا إلى قتلٍ أو سباءٍ أو غنيمةٍ، بإباحةٍ منه ذلك لكم ولا إذنٍ، فلا تعرِضوا لهم في ذلك، إلَّا سبيلَ خيرٍ»
(1)
.
فلذلك لمَّا قدِم النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ لم يبدأ أحدًا بقتالٍ، وإنَّما هي المُوادَعة والمُعاهدة والمُآلفة منه لأعدائِه، كاليهود
(2)
.
فلمَّا قَوِيت شَوكةُ الإسلام، واشتدَّ جناحُه، وكثُر جمعُه، وقويت نفوسُ حَمَلَتِه بما شاهَدوه مِن نصرِ الله: استحَقُّوا بعد ذلك أن يكونوا مِن أهلِ:
المرحلة الثَّالثة: حيث أُمروا بقتالِ أصحاب الشَّوكةِ من المشركين ابتداءً إذا منعوا دعوة الإسلام، ولو مِن غير عُدوانٍ سابقٍ منهم، حتَّى يُسْلِموا لله تعالى، أو يُعطوا الجِزيةَ عن يَدٍ وهم صاغرون، خاضعونَ لحكم الإسلام وذِمَّتِه.
وفي تقرير هذا التَّدريجِ المَرحليِّ للجهاد، يقول ابن القيِّم: «فُرض عليهم قتال المشركين كافَّةً، وكان مُحرَّمًا، ثمَّ مَأذونًا به، ثمَّ مَأمورًا به لمن بَدَأهم
(1)
«جامع البيان» للطبري (7/ 297) بتصرف يسير.
(2)
انظر «السيرة النبوية الصحيحة» لأكرم العمري (1/ 276).
بالقتال، ثمَّ مأمورًا به لجميع المشركين، إمَّا فرضَ عَينٍ على أحدِ القَولين، أو فرضَ كفايةٍ على المَشهور»
(1)
.
ومن الأدلَّة على ختمِ التَّشريع الجِهاديِّ بهذه المرحلةِ الثَّالثة:
قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال: 39]، فالمراد بالفتنةِ فيها: الشِّرك والكفر
(2)
، ومعنى الآية: أنَّهم إن انتهوا عن الشِّرك والكفر بالإسلام، أو أعطوا الجزيةَ خاضعينَ، فكفُّوا عنهم.
ومِن ذلك أيضًا قول الله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5].
(3)
.
وكذا قاله عبد الرَّحمن بن زيد بن أَسْلم، وزادَ على ذلك أن قال:«هذه مَنسوخةٌ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}»
(4)
.
(5)
.
(1)
«زاد المعاد» (3/ 64).
(2)
انظر «جامع البيان» (11/ 178)، و «جامع أحكام القرآن» (7/ 404).
(3)
«تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 325).
(4)
انظر «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (1/ 523).
(5)
«زاد المعاد» (3/ 144).
أمَّا دلائل ذلك مِن السُّنة الصَّحيحة:
فقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أُمِرت أن أقاتل النَّاس حتَّى يشهدوا أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله، ويقيموا الصَّلاة، ويؤتوا الزَّكاة، فإذا فعلوا ذلك عصَموا منِّي دماءَهم وأموالَهم إلَّا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله»
(1)
.
وعلى هذا مضى عَملُ الصَّحابة رضي الله عنهم مِن بعد نَبيِّهم صلى الله عليه وسلم، يُعلِنُها سُفراءُهم مُدويَةً في وجوهِ الملوكِ في مَواقف الدَّعوةِ والإنذار؛ من أشهر أمثلة ذلك خطابِ المغيرة رضي الله عنه لعاملِ كِسرى بقوله:« .. فأَمَرنا نبيُّنا رسولُ ربِّنا صلى الله عليه وسلم أن نُقاتِلَكم حتَّى تعبدوا الله وحدَه، أو تؤدُّوا الجِزيةَ، وأخبرنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم عن رسالةِ ربِّنا، أنَّه مَن قُتِل مِنَّا صارَ إلى الجنَّة، في نَعيمٍ لم يَرَ مثلها قطُّ، ومَن بقيَ مِنَّا مَلَكَ رِقابَكم»
(2)
.
وعلى هذا جرى فهمُ الفقهاءِ لهذا الباب في مُدوَّناتهم؛ أنَّ ابتداءَ قتالِ الكُفَّار وإن لم يبدؤونا هم بقتالٍ مَشروعٌ في دينِنا، نشرًا للدَّعوة، وتحكيمًا للشَّريعة؛ ما لم يُعطوا الجزيةَ فيدخلوا بذلك في ذِمَّة الإسلامِ وسلطانِه
(3)
.
وفي تقرير هذا الاتِّفاقِ يقول أبو بكر الجصَّاص: «لا نعلمُ خلافًا بين الفقهاء يحظُر قتالَ مَن اعتزل قتالَنا مِن المشركين»
(4)
.
بذلك نعلمُ أنَّ الغايةَ العُظمى مِن تشريعِ الجهاد: أن تكون كلمة الله العُليا، وأن يكون الدِّين كلُّه لله، وأن تُهيمِن شريعتُه في الأرض، لكن لمَّا قَضَت حكمةُ الله تعالى أن يكون مِن الكَفَرةِ طواغيتَ تَستنكِف مِن زُمرةِ المُوحِّدين، وتستعبِدُ رَعاياها لغيرِ ربِّ العالمين، فتحولُ بينهم وعَوْدتِهم إلى فِطَرِهم بيَقينٍ: لم
(1)
أخرجه البخاري في (ك: الإيمان، باب: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، رقم: 25)، ومسلم في (ك: الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، رقم: 36).
(2)
أخرجه البخاري في (ك: الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، رقم: 3159).
(3)
كما جرى مثله على نصارى نجرانَ، انظر الخبر في ذلك عند أبي داود في «ك: الخراج والإمارة والفيء، باب: في أخذ الجزية، رقم: 3041).
(4)
«أحكام القرآن» للجصاص (3/ 191)، وكذا نقل الاتفاق ابن تيمية في «مجموع الفتاوي» (28/ 354).
يكُن حينئذٍ للإسلامِ بُدٌّ أنْ ينطلقَ في الأرضِ بالبَيانِ وبالحَرَكةِ مُجتَمِعَين، ليحطِمَ هذه الأسوارَ المانعَةَ مِن بَسْطِ الدِّين لِمن وراءها مِن العالَمين، وليزيل الغِشاواتِ الحائلةَ بينهم وبين الذِّكرِ المُبينِ، يَتَغيَّا الإقناع به مِن غير إكراه، والانضمامَ إلى كيانِه المُزهرِ بأنوارِ الوحيِ السَّماويِّة، المُفعمِ بمكارِم الأخلاقِ الإنسانيَّة.
(1)
.
وبعد؛
فقد ارتأيتُ التَّمهيدَ بهذا التَّأصيلِ المُتقِّدم بين يَدَيْ جَوابي عن معارضةِ حديث البابِ، لأحجِزَ نفوذَ أيِّ شُبهةٍ في الذِّهنِ تبغي نفيَ جهادِ الطَّلَبِ مِن أساسِه! وقصرَ غايةِ القتالِ في الدَّفعِ فقط
(2)
، ليُفَرَّع عنها إبطالُ حديثِ نافعٍ هذا في الإغارةِ تَبَعًا.
وأحسبُ أنَّ القارئ الكريم قد انجلى له بمجموعِ ما قرَّرناه آنفًا:
أنَّ ما ابتدَرَه النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابُه مِن غَزْوِ بني المُصطلقِ، مندرجٌ تحت هذا الأصلِ مِن إعلاءِ كلمة الله في الأرضِ وجِهادِ الطَّلب، وأنَّ ما نَتجَ عن ذلك مِن اغتنامٍ وسَبْيٍ، إنَّما سببُه التَّعنُّت في الكُفرِ، والإصرارُ على مُحاربةِ الإسلام، كما سيأتي البَيان عليه.
(1)
«مجموع الفتاوى» (28/ 354).
(2)
وهو ما ذهب إليه بعض المعاصرين: كظافر القاسمي في كتابه «الجهاد والحقوق الدولية العامة» (ص/172)، وعمر الفرجاني في «أصول العلاقات الدولية في الإسلام» (ص/77)، ووهبة الزحيلي في «آثار الحرب» (ص/93).
بهذا نكون قد وصلنا إلى حَدٍّ السُّؤال المِحوَريِّ الَّذي ابتُنيت على أساسِه الشُّبهة في ردِّ كلامِ نافعٍ، من قولهم: هل يجوِّزُ الإسلامُ مُقاتلةَ المُشركين بَغتةً كما وَقَع لبني المُصطلِق، دونما دعوةٍ أو تبليغٍ سابق؟!
والجواب عليه أن يُقال: لا خلافَ بين الفقهاء في تحريمِ قِتالِ من لم تبلُغه دعوةُ الإسلامِ، حتَّى تصِله الحُجَّة، وتَستبينَ له المحَجَّة، وفي تقريرِ هذا الإجماع، يقول ابن رشدٍ الحَفيد:«أمَّا شَرطُ الحربِ: فهو بلوغُ الدَّعوةِ باتِّفاقٍ، أعني أنَّه لا يجوز حَرابَتهم، حتَّى يكونوا قد بلَغَتهم الدَّعوة، وذلك شَيءٌ مُجمَع عليه مِن المسلمين»
(1)
.
إنَّما مَحلُّ الخلاف هنا: في مَن عُلِم بلوغُ الدَّعوةِ إليهم، هل يجِبُ تَكرارُ دَعْوَتِهم قبل العَزْمِ على غَزْوِهم أم لا؟
والَّذي يُصحِّحه أغلبُ الفقهاء: أنَّ تَكرارَ الدَّعوة عند العَزمِ على الحَربِ ليس بشرطٍ، حيث استفَاضَت في المُحيطِ القريبِ مِن مَنبعِ الدَّعوة، فهي واقعة حُكمًا، بحيث يَعلم القومُ إلى ماذا يُدْعَون وعلى ماذا يُقاتَلون، فيُقام ظهورُها على هذا النَّحوِ مَقام تخصيصِها لكلِّ قومٍ على حِدَة؛ وهذا مَذهب الجمهورِ مِن أهل العلم
(2)
.
يقول الشَّافعي: «لا يُقاتَل العدوُّ حتَّى يُدعَوا، إلَّا أن يَعجلوا عن ذلك، فإن لم يُفعَل فقد بَلَغتهم الدَّعوة»
(3)
.
وإن كان لا يُشَكُّ أنَّ في بلادِ الله مَن لا شعورَ له بهذا الأمر، ومَن يُستراب في بلاغِه، فيجب أن يكون الأصل حينها: ظنُّ أنَّ هؤلاء لم تبلُغهم الدَّعوة، فيُبلَّغون أوَّلًا.
وفي تقرير هذا التَّفصيل يقول مالك: «مَن قارَب الدُّروب، فالدَّعوة مَطروحة عنهم، لِعلمِهم بما يُدعَون إليه، وما هم عليه مِن البُغض والعداوةِ للدِّين وأهلِه،
(1)
«بداية المجتهد» (2/ 149).
(2)
انظر «شرح النووي على مسلم» (12/ 36)، و «الفتح» لابن حجر (6/ 108).
(3)
«جامع الترمذي» (4/ 119).
مِن طولِ مُعارضتِهم للجيوشِ، ومُحاربتِهم لهم، فلتُطلَب غِرَّتُهم، ولا يُحدَث لهم الدَّعوة .. وأمَّا مَن بَعُد، وخِيف أن لا تكون ناحيتُه ناحيةَ مَن أعلمتُك، فإنَّ الدَّعوة أقطعُ للشَّك، وأبرُّ للجهاد»
(1)
.
والجمهور وإن قالوا بعَدمِ الوجوبِ في مثل تلك الحالِ من شمول الدَّعوة، فقد استَحبُّوا مع ذلك تقديمَ الدَّعوة قبل القتالِ
(2)
، وبذا أمَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم أمراءَ الأجناد؛ من ذلك أمرُه صلى الله عليه وسلم عليًّا رضي الله عنه بدعوةِ أهلِ خَيْبرَ قبل القتالِ مع كونِهم مِمَّن بلَغَتهم دعوتُه
(3)
.
والتَّكرار قد يُجدي المقصودَ فينعدِمُ الضَّرر، فلربَّما إذا عَلِموا أنَّا نُقاتلهم على أسْرِهم، وأخذِ أموالِهم: أنْ يُجيبوا إلى المقصود مِن غير قِتالٍ
(4)
؛ فكما أنَّ إزالةَ الكفر، وإخراجَ العبادِ من جَوْرِ الأديانِ إلى عدلِ الإسلامِ مِن مَقاصد الدِّين العُظمى؛ فإنَّ حقنَ الدِّماء، والتَّضييقَ في ذلك: مِن مَقاصدِه الجليلةِ أيضًا؛ فإذا ما حصَلَ المَقصد الأوَّل مِن غيرِ احتياجٍ إلى قِتالٍ، لم يجُزْ البَدارُ إلى نَقضِ المقصدِ الثَّاني بحجَّة الأوَّلِ قطعًا.
وفي تقريرِ هذا التَّفصيل، يقول الشِّرْبيني (ت 977 هـ):«وُجوبُ الجهاد وجوبُ الوسائلِ لا المَقاصد، إذْ المقصود بالقتالِ إنمَّا هو الهداية، وما سواها مِن الشَّهادة؛ وأمَّا قَتلُ الكُفَّار فليس بمَقصودٍ، حتَّى لو أمكنَ الهداية بإقامةِ الدَّليل بغير جهادٍ، كان أوْلى مِن الجهاد»
(5)
.
(1)
«المدوَّنة» (1/ 496).
(2)
انظر «التمهيد» لابن عبد البر (2/ 218 - 219)، و «شرح النووي على مسلم» (12/ 36)، و «فتح الباري» لابن حجر (6/ 108).
(3)
أخرجه البخاري في (ك: الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، رقم: 2942)، ومسلم في (ك: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رقم: 2406).
(4)
انظر «فتح القدير» لابن الهمام (4/ 446)، و «مرقاة المفاتيح» لعلي القاري (6/ 2525).
(5)
«مغنى المحتاج» (6/ 9).
وقولُنا باستحبابِ تكرار الدَّعوة عمومًا مشروطٌ بأنْ لا يَتَضمَّن الإبلاغ ضَرَرًا على المسلمين: كأن يُعلَم بأنَّهم إذا جُدِّدت لهم الدَّعوةِ تَنبَّهوا، فاستعدُّوا، أو احتالوا، أو تحصَّنوا، أو استدعوا مَدَدًا، ونحو ذلك ممَّا لا يَقوى به المسلمون عليهم
(1)
.
ومِن الأمورِ المَطلوبةِ في الحروبِ سُرعة الحَسم، تقليلًا للخَسائر على اختلافِها، فلذلك اُستحِبَّ في مثلِ هذه الصُّوَر المُفترضةِ -الآنِف ذكرُها- عدمُ تجديدِ الدَّعوة؛ وغَلَبة الظنِّ في هذا تظهر مِن حالِهم، وهو أمرٌ مَوكولٌ إلى اجتهادِ الإمام، فإذا رأى في تركِ الدَّعوةِ صَلاحًا فَعَل، ويلزمُ الجُندَ طاعتُه فيما يَراه
(2)
.
قلت: فحديث إغارةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلقِ يَتَنزَّلُ على هذا التَّفصيلِ بالتَّمام! وبيانُ ذلك: ظاهرٌ أمثلتُها من سِيرته صلى الله عليه وسلم مع مَن لم يُسلِم مِن قبائل العَربِ:
فإنَّه -بأبي هو وأمِّي- لم يُقدِم على الإغارةِ على أيٍّ مِن أولئكَ دون سابقِ دَعوةٍ خاصَّة أو إنذارٍ؛ فهذا الأصل عنده، إلَّا أن يجتمِعَ في القَومِ منهم خِصلتان:
أوَّلهُما: أن يكونوا ممَّن سَبَقت إليهم الدَّعوة، فلا يجب تكرارها.
وثانيهما: أن يكونوا مِن الحَرْبيِّين المُعادِين للإسلامِ وأهلِه، فتكون الإغارة عليهم تَنكيلًا بهم، ودفعًا لأيِّ مَفسدةٍ محتملةٍ مِن إنذارهم.
(1)
انظر «المبسوط» للسرخسي (10/ 31).
(2)
لذا كان الأَوْلى في نظري عدم قصرِ حكم تكرار الدَّعوة على الاستحباب فقط، بل تُسحب المسألة على مختلفِ الأحكامِ الفقهيَّة، لاختلافِ مناطاتِ الحكم باختلافِ أحوالِ جيشِ المسلمين وعدوِّهم.
ثمَّ وقفت -بحمد الله- على كلامٍ للقرافيِّ يوافق في جملتِه ما ارتأيته، حيث قال في «الذخيرة» (3/ 403): «لا خلاف في وجوبِ الدَّعوة قبل القتال لمِن لم يبلغه أمرُ الإسلام، ومَن بَلغه فأربعةُ أقسام:
واجبة: مِن الجيشِ العظيم إذا غَلب على الظنِّ الإجابةُ على الجِزية، لأنَّهم قد لا يعلمون قبولَ ذلك منهم.
ومستحب: إذا كانوا عالمِين ولا يغلُب على الظَّن إجابتهم.
ومباحةٌ: إذا لم يُرجَ قبولهم.
وممنوعة: إن خُشيَ (أخْذُهم) لحَذَرِهِم بسَبِبِها» ا. هـ
فعلى هذا، فإنَّ ما استدلَّ به مَن أجاز الإغارةَ على المشركينَ مِن الفقهاءِ -حسب ما وقفتُ عليه مِن كلامهم- أمثلةٌ مَحصورة، أشهرُها:
بعثُ النَّبي صلى الله عليه وسلم في قتلِ ابنِ أبي الحَقيق
(1)
وكعبِ بن الأشرفِ غِرَّةً
(2)
، وهذا استشهد به الشَّافعي
(3)
.
وغيره مِن الفقهاءِ استشهدوا بإغارتِه صلى الله عليه وسلم على خَيْبرَ صَباحًا
(4)
، وبأمرهِ صلى الله عليه وسلم بشنِّ الغارةِ على بني المُلَوِّح بالكَدِيد
(5)
،
وببَعثِه صلى الله عليه وسلم أسامةَ بن زيدٍ رضي الله عنه للإغارةِ على قريةِ أُبْنَى بالشَّام
(6)
.
فهذا أشهرُ ما اسُتدِّل به على جوازِ قتالِ المشركين مِن غير إنذارٍ، إضافةً إلى حديث نافعٍ في بني المصطلق.
ومَن يتفَحَّص هذه الشَّواهد العمليَّة مِن سيرَتِه صلى الله عليه وسلم، يجِد أنَّ الجامعَ بينها ما قرَّرناه مِن الوَصفين الَّذين أشَرتُ إليهما آنفًا، وذلك أنَّ:
سَلام بنَ أبي الحَقيق: كان مِمَّن خانَ عهدَ المسلمين مِن ساداتِ بني النَّضير، وحينَ نَزَلَ خَيْبرًا بعد إجلاءِ قومِه، ألَّبَ أهلَها على حربِ النَّبي صلى الله عليه وسلم،
(1)
خبر قتله في البخاري (ك: المغازي، باب قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق، رقم: 4039).
(2)
خبر مقتله في البخاري (ك: الرهن، باب: رهن السلاح، رقم: 2510)، ومسلم في (ك: الجهاد والسير، باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود، رقم: 1801).
(3)
انظر «الأم» للشافعي (4/ 253).
(4)
أخرجه البخاري في (ك: الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، رقم: 610)، ومسلم في (ك: الجهاد والسير، باب: غزوة خيبر، رقم: 1365).
(5)
أخرجه أبو داود في (ك: الجهاد، باب: في الأسير يوثق، رقم: 2678)، والحديث وإن كان في إسناده جهالةُ مسلم بن عبد الله، فإنَّ الخبر بذلك مشهور عند المُحدِّثين وأهل السِّير والمغازي، لا يُستراب في ثبوته عندهم، وقد صححه الحاكم في «المستدرك» (2751) ووافقه عليه الذهبي.
والكَديد: موضع بين مكة والمدينة، على اثنين وأربعين ميلًا من مكة، انظر «معجم البلدان» (4/ 442).
(6)
أخرجه أبو داود في (ك: الجهاد، باب: الحرق في بلاد العدو، رقم: 2616)، وابن ماجه في (ك: الجهاد، باب: التحريق بأرض العدو، رقم: 2843)، قال البزار في مسنده (7/ 20):«هذا الحديث رواه غير صالح، عن الزهري، عن عروة مرسلا، وأسنده صالح، ولا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلا عن أسامة» ، وصححه مخرجو «المسند» (36/ 119) بشواهده.
وقد كان لخيبرٍ بتحريضِ بني النَّضيرِ الأثرُ البَليغ في حَشْدِ قريشٍ وبني قُريظةَ على المسلمينَ في المدينة
(1)
.
وأمَّا كعبُ بن الأشرف: فشُهرةُ عَداوتِه الإسلامِ وإيذاءِه النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وتحريضِه كفَّارَ قريشٍ عليهم
(2)
: تُغني عن بسطِ القولِ في تعليلِ ما وقع له.
وأمَّا (أُبنَى): فقد شارَكَت الرُّومَ قتالَ المسلمينَ في مُؤتة، وفيها قُتِل زيد بن حارثةَ رضي الله عنه، فلذا بَعَثَ النَّبي صلى الله عليه وسلم ابنَه أسامةَ إليهم يحرِّضُه على الانتقامِ لأبيهِ
(3)
.
وأمَّا بنو المُلَوِّح: فمِن الأعرابِ الَّذين ظاهروا على قتالِ المسلمين، حتَّى غَدروا ببَشير بن سُويدٍ رضي الله عنه وقتلوه
(4)
.
وأمَّا خَيْبر: فقد عُلِم نَبَؤُها عند الكلامِ في ابنِ أبي الحقيق.
إذا تَقرَّر ما ذكرناه في هذه الشَّواهد التَّاريخيَّة؛ فإنَّ ذينك الشَّرطينِ المُبيحينِ للإغارةِ قد وُجِدا بكمالِهما في بني المُصطلق!
فأمَّا الشَّرط الأوَّل: فإنَّه لا يَشُكّ أحَدٌ في بلوغِ دعوة الإسلام إلى بني المُصطلق، وعلمِهم بما يُطلَب منهم، وامتناعِهم عن إجابةِ ذلك، فإنَّهم مِن بطونِ خُزاعة
(5)
بين المدينة ومكَّة، على سِتِّ مراحل مِن المدينة، ولأجل هذا
(1)
انظر «سيرة ابن هشام» (2/ 195)، و «الفتح» لابن حجر (7/ 349)، و «السيرة النبوية الصحيحة» لأكرم العمري (1/ 318).
(2)
كما في أبي داود (ك: الخراج والإمارة والفيء، باب: كيف كان إخراج اليهود من المدينة؟ رقم: 3000)، وانظر «سيرة ابن هشام» (2/ 51).
(3)
جاء في «مغازي الواقدي» (3/ 117)، و «طبقات» ابن سعد (2/ 190) قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة:«يا أسامة، سِر على اسم الله وبركته، حتى تنتهي إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل .. » ، وانظر «الروض الأُنف» (4/ 216 - 217).
(4)
انظر «الاستيعاب» لابن عبد البر (4/ 1252)، و «السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة» لبريك العمري (1/ 261).
(5)
انظر «الاشتقاق» للأزدي (ص/476).
البلاغِ أسلمَ من قومِهم خُزاعة أُناس، كأمينة بنت خلف
(1)
، وعاتكة أمُّ معبد
(2)
، ومعتب بن عوف بن عامر
(3)
، وغيرهم
(4)
.
وأمَّا الوصفُ الثَّاني: فإنَّ بني المُصطلق أعلنوا الحربَ على دولةِ الإسلامِ في حِلفِها مع قريشٍ (حِلفَ الأحابيش)
(5)
! فكان أوَّل مَوقفٍ عَدائيٍّ منهم تُجَاه الإسلامِ أنْ أسهَمُوا ضمنَ هذا الحِلفِ في غزوةِ أُحُد
(6)
؛ وفي هذا لكفايةُ عُذرٍ لغزوِهم.
ثمَّ هم لم يكتفوا بما فَعلوه في أُحدٍ، حتَّى سارَ الحارث بن ضرار سيِّدُ بني المُصطلقِ في قومِه ومَن قدِر عليه مِن العرب لحربِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة! وقد أتاهُ بخبرِهم بُريدة بن الحصيب رضي الله عنه
(7)
.
على هذا نقول: إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يَستجِز الإغارةَ على بني المصطلقِ لمُجرَّدِ بلوغِ الدَّعوةِ مَسامِعَهم، وإنَّما استحَثَّه على ابتدارِهم بالقتالِ أيضًا ما قد عَلِمه صلى الله عليه وسلم
(1)
ويُقال: هَمينة، وهي زوجة خالد بن سَعِيد بن العاص رضي الله عنه، هاجرت مع زوجها إلى أرض الحبشة، وولدت بأرض الحبشة سعيدًا وأمَة، انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (4/ 97)، و «المؤتلف والمختلف» للدارقطني (4/ 2049).
(2)
واسمها عاتكة بنت خالد بن خليف، وكان منزلها بقديد، وهي التي نزل عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة، انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (8/ 228).
(3)
ويُقال له: معتب بن الحمراء، يُكنى أبا عَوْف، من مهاجرة الحبشة الثانية، شهِد بَدرًا وأُحُدًا، وما بعدها، ومات سنة (57 هـ)، انظر «الطبقات الكبرى» (3/ 264).
(4)
انظر «مرويات غزوة بني المصطلق» لـ د. إبراهيم قريبي (ص/65).
(5)
نسبةً إلى وادٍ أسفل مكَّة يُدعى الأحبش، تحالفت عنده قريشٌ وبعض القبائلِ القريبةِ على أنهم يد على من سواهم، انظر «سيرة ابن هشام» (1/ 373)، و «فتح الباري» لابن حجر (5/ 334).
(6)
انظر «مغازي الواقدي» (1/ 200)، و «سيرة ابن هشام» (2/ 61).
(7)
انظر «مغازي الواقدي» (1/ 405)، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 64)، يقول د. أكرم العمري:«وقد جمَعَ ـ أي ابن سعد ـ الأسانيد في أول الكتاب في أول هذه المجلدة، وأحال عليها في هذه الصفحة بلفظ (قالوا)، وهي من طريق الواقدي، وأبي معشر السندي، وموسى بن عقبة، دخل حديث بعضهم في حديث بعض، ومثل هذا الجمع للأسانيد معيب، لاختلاط كلام الضعفاء والثقات ببعضه، وصعوبه تخليصه» انظر «السيرة النبوية الصحيحة» له (2/ 405).
مِن عَداوتِهم وسابقِ قتالِهم للمسلمين، مع ما انضافَ إلى ذلك مِن عَزمِهم على حربِه في المدينةِ، وتأليبِ حُلفائِهم على ذلك.
فاقتضتِ الحكمة حينئذٍ مُباغَتَة مَن تَعَدَّى على المسلمين بالقَتلِ في ما مضى، ورَدْعَ من تهيَّأ لحربِهم في ما يُستقبَل، في صورةٍ مَشروعةٍ مِن صُوَر الدِّفاعِ الهجوميِّ، أو ما يُسمَّى في علم العسكريَّة: بالحربِ الوِقائيَّة
(1)
.
إنَّه لحَقيقٌ على المسلمين أن لا يَنزِلوا بأَحَدٍ مِن العدُوِّ في الحصونِ مِمَّن يَطمعون به ويَرجون أن يستجيب لهم إلَّا دَعَوه -كما قال مالك- فأمَّا مَن إن جَلَسنا بأرضِنا أَتَونا وألَّبُوا علينا، وإنْ سِرْنا إليهم قاتلونا، كشأنِ بني المُصطلِق: فإنَّ هؤلاء لا يُنذَر مثلُهم بالدَّعوةِ ولا كرامة
(2)
.
ولو كان النَّبي صلى الله عليه وسلم طَمِع في إذعانِهم لكان دَعَاهم، وهو مع ذلك لم يقتُل منهم إلَّا مَن أصرَّ على القتالِ، كما جاء به نصُّ الحديث
(3)
! وأحسنَ معاملةَ مَن أَسَرَ منهم، حتَّى أذعنوا بعدُ للإسلامِ عن بَكرةِ أبيهم، وكانوا يُؤَدُّون الزَّكاة له
(4)
.
وبهذا يَتبيَّن لنا مَقصود نافعٍ بحديثِه الأوَّل:
أنَّه لبَيانِ جَوازِ مُباغتةِ العَدُوِّ، بما يعني بلوغ الدَّعوة قبلُ فرفضوها؛ ولم يعنِ نافعٌ أنَّ المُغارَ عليهم لم تَبلغهم قطُّ! ولا خَطَر ببالِه أنَّ التَّبليغ مَنسوخٌ وُجوبُها بالمرَّة ولو لم تبلغهم!
فمَن ذا يجرُؤ على قولِ مثل هذا إلَّا جاهل بأصولِ الدِّين، فضلًا عن فروعِه؟!
إنَّ استشهادَ نافعٍ على جوابِه بما جَرَى لبني المُصطلقِ لكونهم أوضحَ شاهدٍ استحضَرَه في جوابه لتلك المسألة، إذ كانوا قَرِيبي ديارٍ مِن المدينةِ، وكان قتالهم
(1)
انظر «المدرسة العسكرية الإسلامية» لمحمد فرج (ص/176)، و «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية» (1/ 491).
(2)
انظر «المدوَّنة» (1/ 496).
(3)
انظر «إرشاد الساري» للقسطلاني (4/ 318).
(4)
كما في «مسند أحمد» (رقم: 18459) وقال مخرِّجوه: «حسن بشواهده» .
في شعبانَ سنة خمسٍ للهجرةِ
(1)
، أي بعد أن بَلَغَتهم الدَّعوة؛ فلأنَّهم تَحقَّقوا بما يُدعَون إليه ناصَبوا المسلمينَ العَداوةَ حتَّى حارَبوهم، فاستحقُّوا بهذا القِتالَ
(2)
، مِن غير لزومِ تكرارِ دعوةٍ خاصَّة.
هذا حاصل جوابِ نافعٍ لِمن سَأَله عن لزومِ الدَّعوةِ قبل كلِّ مُواجهةٍ مطلقًا، أي أنَّ استدلاله بما حدَّثه به ابن عمر رضي الله عنه هو على عدمِ اطِّرادِ ذلك في كلِّ زَمَنٍ وحالٍ مع كلِّ قومٍ كما كان أوَّل الإسلام.
فكان التَّمَهُّل في فهْمِ الحديثِ على وجِهِه لنعمةً تُغنِينا عن تخطئةِ عَلَمٍ ثِقةٍ فقيهٍ، كمثلِ نافعٍ في رُتبتِه وفضلِه، ناهيك عن نَبْزِ (الغزاليِّ) لروايتِه بالاهتزازِ! فضلًا عن تشنيعِه على المُحدِّثين قِلَّة فَهمِهم حين قَبِلوا روايتَه! مع أنَّ مَن يُفضِّلُهم مِن الفقهاءَ مجمعون على قَبولِها والاحتجاجِ بها في أحكامِهم!
إنَّما اشتبَهَ الفهمُ على (الغزاليِّ) لما في ظاهرِ كلامِ نافعٍ مِن بَدءِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لقتالِ بني المُصطلقِ دون دعوةٍ، فظنَّ أنَّ نافعًا يَستدلُّ بهذا المُجمَلِ على تَرْكِ الدَّعوة مطلقًا! وقد علمتَ أنَّ نافعًا مِن هذا الفَهمِ بَراء، ومثله لا يجهلُ ما كان بين الفَرِيقَينِ مِن حَربٍ وعَدواةٍ.
فلأنَّ العِلمَ بهذه الحالِ كان شائعًا في السَّائلِ وغيره مِن حملَةِ العلمِ زمَنَ نافعٍ: اختصرَ نافعٌ تفاصيلَ هذه الغَزوةِ وأسبابَها، واكتفَى مِن ذلك بما يصلُح شاهدًا على جوابِه للسَّائل، المُفيدِ لعَدمِ لزومِ تكرارِ دعوةِ مَن قد بلغته الدَّعوةُ فرَفضَها، فضلًا عمَّن جاهَرَ بحربِها كبَني المُصطلق، وأنَّ الدَّعوة إنَّما كانت لازمةً لكلِّ قبيلةٍ أوَّل الإسلام في المدينةِ، حيث كان صوتُ الدَّعوةِ الخارجيِّ خافتًا، لا تكادُ تسمعه قبائلُ العرب، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر «الفتح» لابن حجر (7/ 430).
(2)
وهذا ما يقرُّ به الغزالي كما في «فقه السيرة» (ص/12) حيث قال: «وقعت الخصومةِ بينهم وبين المسلمين، حتَّى أمسى كِلا الفريقين يُبيِّت للآخر، ويستعدُّ للنَّيلِ منه، فانتهزَ المسلمونَ فرصةً مِن عدوِّهم ـ والحرب خدعة ـ وأمكنَهم الغَلَب عليهم وهم غَارُّون» .