الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفعُ دعوى المعارضات الفكريَّةِ المعارضةِ
عن حديثِ رَضاعِ الكبيرِ
أمَّا دعوى المعارضةِ الأولى من مجاوزة الحديث لتوقيتِ الرَّضاعِ المُحرِّم بالحَولين:
فقبل الشُّروعِ في تفاصيلِ جوابِه بما فيه دحضُ حُجَّتِه، لابدَّ مِن الإشارةِ ابتداءً إلى أنَّ الأمَّة متَّفقة على أنَّ الرَّضاع بالجملةِ يحرُم منه ما يحرُم مِن النَّسب، أعني أنَّ المُرضِعةَ تُنزَّل منزلةَ الأمِّ، فتحرُم على الرَّضيع وكلُّ ما يحرم على الابنِ مِن قِبَل أمِّ النَّسب، لقولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم:«يحرُم مِن الرَّضاع ما يحرُم مِن النَّسب»
(1)
.
واختلفوا فيما عدا ذلك مِن بعض التَّفاصيل، مِنها مسألة حديثِنا هذا رضاع الكبير.
فأمَّا الجمهور مِن الصَّحابة: منهم عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وابن عبَّاس رضي الله عنهم، ثمَّ عامَّة التَّابعين مِن بعدهم، وأئمَّة الفقه
(1)
أخرجه البخاري في (ك: الشهادات، باب الشهادة على الأنساب، والرضاع المستفيض، والموت القديم، رقم: 2645)، ومسلم في (ك: الرضاع، باب: تحريم الرضاعة من ماء الفحل، رقم: 1445).
والحديث في الأمصارِ
(1)
، كأبي حنيفة
(2)
، ومالك
(3)
، والشَّافعي
(4)
، وأحمد
(5)
: هؤلاء قالوا أنَّ الرَّضاع لا يُحرِّم إلَّا ما كان في مُدَّتِه مِن الحَولين.
وأسَّسوا مَذهبَهم هذا على أدلَّةٍ مِن الكِتاب والسُّنة؛ فمِن القرآن:
قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].
ففي هذه الآية أنَّ إتمامَ الرَّضاعة على الحَوْلين، ولازمه مِن جِهة المفهومِ نفيُ الزِّيادة وإلغاءُ أثرِها؛ كما يوضِّحه أبو العبَّاس القرطبي في قوله:«هذه أقصى مدَّة الرَّضاع المحتاجِ إليه عادةً، المُعتبرِ شرعًا، فما زادَ عليه بمدَّةٍ مؤثِّرةٍ غير مُحتاجٍ إليه عَادةً، فلا يُعتَبر شَرعًا، لأنَّه نادرٌ، والنَّادرُ لا يُحكَم له بحكمِ المُعتادِ»
(6)
.
وأمَّا مِن السُّنة: فخبر عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجلٌ قاعد، فاشتَدَّ ذلك عليه، ورأيتُ الغَضَب في وجهِه، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّه أخي مِن الرَّضاعة، فقال:«اُنظُرْنَ مَن إخوَتُكنَّ مِن الرَّضاعة، فإنَّما الرَّضاعة مِن المجَاعة»
(7)
.
ومعناه: أنْ يتأمَّلْنَ ما وَقَع مِن ذلك الرَّضاع: هل هو صحيحٌ بشرطِه مِن وقوعِه في زَمن الرَّضاعة، ومِقدار الارْتِضاعِ؟ فإنَّ الحكم الَّذي يَنشأ مِن الرَّضاع إنَّما يكون إذا وقع الرَّضاع المُشترَط، ومِن شرطِ ذلك: أن يكون في الَّذي إذا
(1)
انظر «الجامع» للترمذي (3/ 450)، و «الاستذكار» لابن عبد البر (6/ 256).
(2)
انظر «المبسوط» للسرخسي (5/ 136).
(3)
انظر «المدونة» (2/ 297)
(4)
انظر «الأم» (5/ 30).
(5)
انظر «مسائل الإمام أحمد» للكرماني (2/ 782).
(6)
«المفهم» (13/ 42).
(7)
أخرجه البخاري في (ك: الشهادات، باب الشهادة على الأنساب، والرضاع المستفيض، والموت القديم، رقم: 2647)، ومسلم في (ك: الرضاع، باب: إنما الرضاعة من المجاعة، رقم: 1455) واللفظ له.
جاعَ كان طعامُه الَّذي يُشبِعه هو اللَّبَن مِن الرَّضاع، وليس حيث يكون الغِذاء بغيرِ الرَّضاع.
فكأنَّه صلى الله عليه وسلم قال: لا رَضاعةَ مُعتبرةٌ إلَّا المُغنية عن المَجَاعة، وذلك حيث يكون الرَّضيع طفلًا يَسدُّ اللَّبَنُ جوعَتَه، لا حين يكون الغِذاء بغيرِ الرَّضاع في حالِ الكِبَر، لأنَّ مَعِدَة ذاك ضعيفةٌ يكفيها اللَّبن، وبه يَنبتُ لحمُه، وبهذه التَّغذية من اللَّبن يَصير جُزءً مِن المُرضِعَة، فيشتركُ بهذا في الحُرمةِ مع أولادِها
(1)
.
ولا شكَّ في كونِ مُطلَقِ الأمرِ بالتَّحقُّقِ مِن وقوعِ الرَّضاعةِ في زَمن المَجاعةِ شاملًا لعائشةَ رضي الله عنها وغيرِها، وتأكَّدت دَلالةُ الأمرِ على الوجوبِ فيه برؤيةِ الغضبِ في وجهِه صلى الله عليه وسلم، واشتدادِ الأمرِ عليه؛ هذا مع كونِه صلى الله عليه وسلم لم يَستيقِن بَعدُ عَدمَ الأُخوَّة
(2)
.
ومِمَّا استَدلَّوا به أيضًا من الآثار: قول ابنِ مسعود رضي الله عنه: «لا رضاع إلَّا ما شَدَّ العظمَ، وأنبتَ اللَّحمَ»
(3)
.
وكذا حديث أمِّ سَلَمة رضي الله عنها مَرفوعًا: «لا رضاع إلَّا ما فَتَق الأمعاء في الثَّدي، فكان قبل الفِطام»
(4)
.
وما وَرَد عن ابن عبَّاس رضي الله عنه مَوقوفًا ومَرفوعًا: «لا رضاع إلَّا ما كان في الحَوْلين»
(5)
.
(1)
انظر «شرح البخاري» لابن بطَّال (7/ 197 - 198)، و «فتح الباري» لابن حجر (9/ 148).
(2)
انظر «الفتح الرَّباني من فتاوي الشَّوكاني» (7/ 3501).
(3)
أخرجه أبو داود في (ك: النكاح، باب: في رضاعة الكبير، رقم: 2059)، وبنحوه أحمد في «المسند» (رقم: 4114)، وصحَّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود ـ الأم» (رقم:1798).
(4)
أخرجه الترمذي في (ك: الرضاع، باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين، رقم: 1152)، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» ، وابن ماجه في (ك: النكاح، باب: لا رضاع بعد الفصال، رقم: 1946) دون الجملة الأخيرة.
(5)
أخرجه الدارقطني في «السُّنن» (ك: الرضاع، رقم: 4364) مرفوعا عن ابن عباس، وصحَّحه ابن القيم في «زاد المعاد» (5/ 493)، لكن البيهقي في «الكبرى» (7/ 761، رقم: 15668) جَعلَ الموقوف هو الصَّحيحَ، وهو ما رجَّحه ابن عبد الهادي في «المحرَّر» (رقم: 1096).
فكلُّ هذه الآثار واردةٌ بأداةِ القَصر، صريحةٌ في أنَّ الرَّضاع المُحرِّم إنمَّا يكون في الحَوْلين لا غير، واضحةُ الدَّلالة على أنَّ الرَّضاع المُعتَبر شرعًا إنَّما يثبت حكمه متى كان الرَّضيع يستغني باللَّبن عن غيره؛ وهذا ما لا يثبتُ في رَضاع الكَبير.
لكن عائشة رضي الله عنها قد احتجَّت بما رَوَته في شأنِ سهلة بنت سهيل مع سالم، حيث فهِمت منه مُطلق تحريمِ الرَّضاعِ دون تقيِيدٍ بالحَوْلَين، فلذا كانت تأمرُ بناتِ إخوتِها وبناتِ أخواتها أن يُرضِعن مَن أحَبَّت أن يَراها ويدخلَ عليها -وإن كان كبيرًا- خمسَ رَضعات، ثمَّ يدخل عليها
(1)
.
لكن سائر أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم قد خالفنها في هذا الفهم، وأَبَيْنَ أن يَدخُلَ عليهنَّ بتلك الرَّضاعةِ أَحدٌ مِن النَّاس، إلَّا أن يَرضع في المَهد، وقُلنَ لها:«والله ما نَرى هذا إلَّا رُخصةً أرْخَصَها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالمٍ خاصَّة»
(2)
.
وقولُ عائشة رضي الله عنها هذا -على ما كسَاها الله به مِن جلالِ العلمِ وجميلِ الفَهمِ- اجتهادٌ منها خلافُ مجموعِ دلائلِ الكتابِ والسُّنة، وما جرى عليه فهمُ الأئمَّةِ لقضيَّةِ سَهْلة مع سالمٍ رضي الله عنهم.
فأمَّا دلائل الوحيِ: فقد مرَّ ذكر أشهرِها قريبًا.
وأمَّا عَملُ الأمَّة: فقد نَقلَ الباجيُّ (ت 474 هـ) انعقادَ الإجماعِ على عدمِ التَّحريم برضاعةِ الكَبير
(3)
.
وقال القاضي عياض: «الخِلافُ إنَّما كان أوَّلًا، ثمَّ انقطع»
(4)
.
وحَكى الخطابيُّ (ت 388 هـ) ذهابَ عامَّةِ أهلِ العلمِ إلى حديث أمِّ سَلَمة رضي الله عنها في إنكارِها لفهمِ عائشةَ رضي الله عنها، فلم يَروا العملَ بمذهبِها فيما رَوته، وحَمَلوه على أحد وَجهين:
(1)
«سنن أبي داود» (ك: النكاح، باب: فيمن حرم به، رقم: 2061).
(2)
أخرجه مسلم في (ك: الرضاع، باب: رضاعة الكبير، رقم: 1454).
(3)
«المنتقى» (4/ 155).
(4)
«إكمال المعلم» (4/ 642).
إمَّا على النَّسخ، أو الخصوصِيَّة لسالمٍ وامرأةِ أبي حذيفة
(1)
.
والأصل في القول بهذا الوجهِ الثَّاني من الخصوصيَّة: جَزمُ أمَّهاتِ المؤمنينَ بذلك
(2)
؛ وعليه ردَّ القرطبيُّ الوجهَ الأوَّلَ في النَّسخ فقال: «أطلقَ بعضُ الأئمَّة على حديثِ سالمٍ رضي الله عنه أنَّه مَنسوخ، وأظنُّه سَمَّى التَّخصيصَ نَسْخًا، وإلَّا فحقيقةُ النَّسخِ لم تَحصُل هنا على ما يُعرَف في الأصول»
(3)
.
والمُوجِب لقصرِهنَّ حديثَ عائشة رضي الله عنها على سَهلة وسالم رضي الله عنهما أمور:
الأوَّل: أنَّ مسلكَ التَّخصيصِ به تأتلفُ جميع الأدلَّةِ القرآنيَّة والسُّنيَّة في هذا الباب، فلا يُلغى منها شيءٌ
(4)
.
وهذا بخلافِ مَذهبِ مَن جوَّزَ رَضاعَ الكبيرِ وحَرَّمَ به مطلقًا، فإنَّه مخالفٌ لِما مَرَّ مِن قاعدة الرَّضاع في القرآنِ وتمامِه في الحَولين؛ ومخالف لحديث:«إنَّما الرَّضاعة مِن المجَاعة» ، وفي هذا الحديث تأسيسُ قاعدةٍ كليَّة، تعتبرُ التَّحريمَ فقط في مُدَّة ما تُغني فيه الرَّضاعةُ عن الطَّعام
(5)
؛ هذا من جِهة النُّصوص.
(1)
«معالم السُّنن» (3/ 187).
(2)
وعلى فرضِ الأخذِ بالرِّواية الأخرى عنهنَّ في ظنِّهنَّ الخصوصيَّة وعدم تيقُّنها، فيما أخرجه أحمد في «المسند» (رقم: 26331) من قولِهن: «والله ما ندري، لعلَّها كانت رخصة مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالمِ من دون النَّاس» : تكون قضيَّة سالمٍ واقعةَ عينٍ يطرقها احتمال الخصوصيَّة، وهذا كافٍ لوجوبِ الوقوف عن الاحتجاجِ بها، انظر «الفتح» لابن حجر (9/ 149).
(3)
«المفهم» (13/ 42).
(4)
الَّذين قالوا بالتَّخصيصِ عامَّتُهم على أنَّه تخصيص أعيانٍ، أي ما جرى به الحكم في حديث سهلةَ خاصٌّ بها وبسالمٍ، ثمَّ ظهر بعدُ مَن قال وسَّع دائرة الخصوصية قليلًا، فجعله تخصيصَ أحوالٍ لا أعيانٍ، أي أنَّ الأصل في الرضاع أن يُعتبر فيه الحَولين فقط، إلَّا فيما دَعت إليه الحاجة، كرضاع الكبير الَّذي لا يُستغنى عن دخولِه على المرأة، ويشقُّ احتجابها منه، وهذا قول ابن تيميَّة، وتبعه عليه غير واحدٍ من المتأخِّرين، انظر «مجموع الفتاوي» لابن تيمية (34/ 60)، و «إعلام الموقعين» (4/ 264)، و «نيل الأوطار» (6/ 373)، و «سبل السلام» (2/ 313).
(5)
انظر «المفهم» (13/ 42).
أمَّا موجب التَّخصيص من جِهة المعنى: فلأنَّ الشَّريعةَ إنَّما جَعلت للرَّضاعِ تلك الحُرمةَ لأجلِ ما أشبهَ به النَّسَب في استبقاءِ حياةِ الطِّفل، واختلاطِ لَبَنِ المُرضِع بلحمِه ودمِه حين لا يُغني عنه غيره
(1)
.
وأمَّا المُوجِب الثَّالث: فالظَّرف الاجتماعيُّ الاستثنائيُّ لورودِ الحديث، وهو مُقتضى تقريرِ الخصوصيَّة: حيث أبانت عائشة نفسُها «أنَّ أبا حذيفة رضي الله عنه تَبَنَّى سالمًا، .. كما تبنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا، وكان مَن تبنَّى رجلًا في الجاهلية دَعاه النَّاس إليه، وورِث مِن ميراثه، حتَّى أنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} .. » .
فأصلُ قصَّة سهلةَ وسالمٍ رضي الله عنهما إنَّما كان نتيجةَ إلغاءِ التَّبنِّي في المجتمعِ الإسلاميِّ، وهذه حالةٌ خاصَّة لا تقعُ إلَّا زَمن التَّشريع، فكان وقوعُ التَّرخيص مُترتِّبًا على إلغاء ذلك الَّذي أدَّى إلى خُلطةِ مثلِ سالمٍ بسَهْلة، وتنزيلِها إيَّاه منزلةَ الوَلد، مع عجزِ المُتَبنَّى عن استقلالِه ببَيتٍ، لقِلَّةِ ذات اليَدِ، وحاجتهم إليه.
وفي تقريرِ هذا المعنى الدَّقيق لموجب التَّخصيص، يقول الطَّاهر ابن عاشور:
«لا ينبغي أن يُشكَّ في أنَّ إذْنَ النَّبي صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل في أن يَدخل عليها سالمٌ مولى أبي حذيفة -مُتبنَّى أبي حذيفة زوجِها- إنَّما كان على وجهِ الرُّخصة لها، إذْ كان حكم إرجاعِ المُتَبنَّين إلى الحقيقةِ -في اعتبارِهم أجانبَ مِن جِهةِ النَّسَب- حُكمًا قد فاجَأَهم، في حين كان التَّبنِّي فاشيًا بينهم، وكانوا يجعلون للمُتبنَّين مثل ما للأبناء، فشَقَّ ذلك عليهم، وامتثلوا أمرَ الله في إبطاله.
وكانت سهلة زوجُ أبي حذيفة بحالِ احتياجٍ إلى خدمة سالمٍ واختلاطِه بهم، إذ لم يكن إلَّا بيتٌ واحد، فعَذَرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورَخَّص لها أن يَدخُل سالمٌ عليها وهي فُضُل
(2)
، وجَعل تلك الرُّخصة مُعضدةً بعمَلٍ يُشبه ما يُبِيح الدُّخولَ
(1)
«كشف المُغطَّى» لابن عاشور (ص/269).
(2)
فُضُل: أي مبتذلة في ثياب مهنتي، يقال: تفضَّلت المرأة: إذا تبذَّلت في ثيابِ مِهنتها، انظر «طرح التثريب» (7/ 134).
أصالةً، محافظةً على حكمِ إبطالِ التَّبنِّي بقدرِ ما تمكن المحافظة في مَقامِ الرُّخصة ومَقامِ ابتداءِ التَّشريع، فإنَّ للتَّدريج في أوائلِ التَّشريع أحوالًا مختلفة»
(1)
.
وحاصل القولِ: أنَّه لا يَصِحُّ أن يُثبَتَ للتَّبَنِّي بعد النَّهي مثلُ حُكمِه قبل النَّهي، لأنَّ التَّبنِّي أُبطِل مِن الأساس، فلا ينبغي أن يَتعلَّق به حكم؛ وبه يُفهَم أنَّ «الخطابَ في سالمٍ قضيَّةٌ في عينٍ لم يأتِ في غيره، وسَبق له تَبَنٍّ وصِفَةٌ لا توجد بعدُ في غيره، فلا يُقاس عليه»
(2)
.
وأمَّا إن جاء أحدٌ بالتَّبنِّي بعد ذلك جهلًا منه، فهو الجاني على نفسِه بفعلِ ما قد حُرِّم، فلا تُثبَت له الرُّخصة الَّتي ثَبَتَت لسَهلة
(3)
.
فإن قيل: فلِم لمْ تثبُت الرُّخصة لغير سهلة رضي الله عنها مِمَّن يشركها في المشقَّة والاحتياج بها مِن المُتَبنِّين في المَدينة؟
(4)
فجوابه: بمطالبةِ السَّائلِ أوَّلًا أن يُثبت في ذاك الوقت وجودَ مَن كان كحال سهلة وسالمٍ مُتلبِّسًا بأثرِ التَّبنِّي قبل تحريمِه، وواقعٌ جرَّاءه في المشقَّة والحَرج! هذا أمرٌ لا يُتكلَّم فيه إلَّا بنقل ثابت.
وإن كُنَّا مع ذلك نقول:
قد يتَّفِق التَّحريم للتَّبني آنذاك وبعضَ الأولادِ المُتَبنَّين صِغار، فيُدرَك حالُهم بإرضاعِهم.
أو يكون بعضهم قد كان كبيرًا وقت إلغاء التَّبنِّي، لكن لم تكُن عليه مَشقَّة مِن دخولِه على مَن كانت أمَّه بالتَّبني، لكونِها -مثلًا- مِن قواعدِ النِّساء، ومعها مَن يلازِمها في البيتِ مِن أهلٍ ونحوهم، فينتفي معه حَرج الخَلوة.
أو يكون الوَلد المُتبنَّى غَنيًّا مُستقلًّا ببيتٍ لوحده، لا حاجةَ له في السُّكنى معهم، ولا حاجة لهم في خُلطتِه؛ إلى غير ذلك من الحالاتِ الَّتي لا يُحتاج معها إلى رُخصة.
(1)
«كشف المُغطَّى» للطاهر ابن عاشور (ص/269).
(2)
«إكمال المعلم» (4/ 642)، وانظر «شرح صحيح البخاري» لابن بطَّال (7/ 197).
(3)
انظر «الفتح الرَّباني من فتاوي الشَّوكاني» (7/ 3506).
(4)
انظر هذا الإشكال «الفتح» لابن حجر (10/ 186).
وأمَّا المُوجِب الرَّابع لتخصيصِ الحديث: فإنَّ مِن حَموِ
(1)
المرأةِ زمنَ النُّبوة مَن كان في حاجةٍ لتردادِ دخول بيتِ زوجِها، ومعلوم حالُ فقرِ الصَّحابة وقتَها وصِغر بيوتِهم، ومعرفتُهم بنهيِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لهم عن الدُّخولِ على النِّساء
(2)
.
فلو كان رضاع الكبير مُحرِّمًا بإطلاقٍ، لأقبلوا على الرَّضاعِ مِن زوجاتِ إخوانِهم ليتنفيَ الحَرَج بينهم بالمرَّة! فلمَّا لم يَقع ذلك منهم، مع الحاجة إليه، ولم يُؤثَر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم رخَّص لأحدٍ غير سهلة مع توفُّرِ الدَّواعي: دَلَّ ذلك على أنَّ مُطلقَ الحاجةِ لا تُبيح رَضاع الكبير، فضلًا عن أن تكون لغيرِ حاجة
(3)
كما شَنَّع به بعضُ المُغفَّلينَ على الحديث
(4)
.
وجريُ عَملِ الصَّحابةِ على منعِ الرُّخصة في ذلك للكبيرِ إن دَلَّ على شيءٍ، فعلى أنَّ حكم واقعة سهلة لو كان عامًّا، لكانَ انتشارُه في الأمَّةِ أظهرَ وأوسعَ مِن أن يُحصَر في امرأةٍ واحدةٍ! لحاجةِ النَّاسِ الشَّديدةِ إلى معرفتِه والأخذِ به
(5)
، فدَلَّ «على أنَّه حديثٌ تُرِك قديمًا ولم يُعمَل به، ولا تَلقَّاه الجمهور بالقَبول على عمومِه، بل تَلقَّوه بالخصوص» ، كما يقول ابن عبد البرِّ
(6)
.
(1)
الحَمْو: فسَّره اللَّيث بأنه أخو الزَّوج، وما أشبهه من أقارب الزَّوج، كالعمِّ وابن العمِّ ونحوهم، انظر «مطالع الأنوار» (2/ 298).
(2)
أخرجه البخاري في (ك: النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة، رقم: 5232)، ومسلم في (ك: الآداب، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، رقم: 2172).
(3)
انظر «الشَّرح الممتِع» (13/ 436).
(4)
منهم (نيازي عزِّ الدِّين) في كتابه «دين السلطان» (ص/829) قال: « .. هل هذا معقول يا أصحاب العقول؟! كلَّما أراد زوجٌ أن تكشف زوجته على رجلٍ من أصدقائه، قال لزوجته: أدخِلي هذا الرَّجل إلى غرفتك، وأرضعيه ثلاث رَضَعاتٍ مُشبعاتٍ، حتَّى يدخل عليك الرَّجل مِن غيرِ حَرجٍ أو إحراج» !
وبمثله هَرَف (جواد خليل) في «كشف المتواري» (ص/655).
(5)
حتَّى إنك لَتجِدُ تابعيًّا فقيهًا في مقامِ ابن أبي مُليكة، يمكثُ نحوَ سنةٍ كاملةٍ لا يُحدِّث بحديث عائشة في شأنِ سهلة وسالمٍ رهبةً له! إلى أن لقيَ شيخَه الَّذي حدَّثه به، وهو القاسم بن محمَّد، فقال له:«لقد حدَّثْتني حديثًا ما حدَّثتُه بعدُ، قال: وما هو؟ قال: فأخبرته، فقال: فحدِّثه عنِّي أنَّ عائشة أخبرتنيه» ، أخرجه مسلم في (ك: الرضاع، باب: رضاع الكبير، رقم: 1453).
(6)
«الاستذكار» (6/ 255).
وعلى هذا تُوقَف قضيَّة سهلةَ في مَحلِّها، وتُستَصحَبُ عموماتُ الأدلَّة في عدمِ تحريمِ رضاعِ الكبير، ويُثبَتُ لعائشةَ الأجرُ الواحد لاجتهادِها، والله راضٍ عنها.
أمَّا دعوى المُعترضِ إذنَ الحديثِ لمكاشفةِ عوراتِ النِّساء .. إلخ؛ فجواب ذلك أن يُقال له:
لا يلزم من إرضاعِ سهلة رضي الله عنها سالمًا أن يكون بإلقامِ الثَّديِ -كما وَلَه إليه فهمُ المُعترِض- وذلك لأنَّ الرَّضاع عندهم يحصُل التَّحريمُ به بأيِّ وَسيلةٍ يصِلُ فيها لَبَن المُرضِعةِ إلى جَوفِ المُرتضِع، «سواء كانَ بشُربٍ، أو أكلٍ بأيِّ صفةٍ كان، حتَّى الوَجور
(1)
، والسَّعوط
(2)
، والثَّرد
(3)
، والطَّبخ، وغير ذلك، إذا وَقع ذلك بالشَّرطِ المذكورِ مِن العَدد، لأنَّ ذلك يطردُ الجوعَ»
(4)
، وبذا أناطَ النَّبي صلى الله عليه وسلم حكمَ التَّحريمِ، كما ما مرَّ في حديثِ أمِّ سلمة:«لا رضاع إلَّا ما فَتَق الأمعاء» ، وحديث عائشة:«إنَّما الرَّضاعة مِن المَجاعة» .
يقول القاضي عياض في هذين الحديثين:
(5)
.
(1)
الوَجور: ما يُصبُّ في الحلق صبًّا،» انظر «الفتح» (8/ 147).
(2)
السَّعوط: ما يُجعل في الأنفِ مِن الأدوية ونحوها، انظر «هُدى السَّاري» (1/ 132).
(3)
الثَّرد: الهَشْم، ومنه قيل لما يُهشم مِن الخبز ويُبَلُّ بماء القِدرِ ونحوِه: ثَريدة، انظر «لسان العرب» (3/ 102).
(4)
«فتح الباري» لابن حجر (9/ 148).
(5)
«إكمال المعلم» (4/ 641).
فطالما أنْ لا ضرورةَ تقصُر سالمًا على اِلتقامِ الثَّديِ، والحالُ أنَّ بلوغَ لبَنِها إلى جوفِه كافٍ لتحقيقِ التَّحريم، فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم «لم يُرِد منها: ضَعِي ثديَكِ في فِيه، كما يُفعل بالأطفال، ولكن أرادَ: اِحْلِبي له مِن لبنِك شيئًا، ثمَّ ادفعيه إليه ليشربه؛ ليس يجوز غير هذا»
(1)
.
وفي التَّأويل لهذا الحديثِ اعتبارٌ لـ «قاعدةِ تحريمِ الاطِّلاعِ على العَورة؛ فإنَّه لا يُختلف في أنَّ ثَدي الحُرَّة عورة، وأنَّه لا يجوز الاطِّلاع عليه، لا يُقال: يُمكِن أن يَرتضع ولا يطَّلِعَ؛ لأنَّا نقول أنَّ نفسَ التقامِ حَلَمَةَ الثَّدي بالفَمِ اطِّلاع، فلا يجوز»
(2)
.
فإلى هذا مَذهبُ جمهورِ الأئمَّة
(3)
، بل نقلَ ابن عبد البرِّ الإجماعَ عليه
(4)
.
وبه تنمحي الإشكالات عن واقعةِ سهلة وسالم، بتَسْهيلٍ مِن الله وتسليمٍ.
(1)
«تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (ص/435).
(2)
«المُفهم» (13/ 42)، وانظر «الاستذكار» (6/ 255).
(3)
ولم يخالف إلَّا اللَّيث وأهل الظَّاهر، فقالوا: إنَّ الرضاعة المُحرِّمة إنَّما تكون بالتِقام الثَّدي ومصِّ اللَّبن منهِ، انظر «المحلَّى» (10/ 185 - 186).
(4)
في «الاستذكار» (6/ 255).