الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفعُ المعارضاتِ الفكريَّةِ الُمعاصرةِ
عن حديث لطمِ موسى عليه السلام لملَكِ الموتِ
أمَّا الجواب عن المُعارِض الأوَّل: في أنَّ في فعلِ موسى عليه السلام بالملَك، وعدمِ نصرة الله لرسولِه الملَكيِّ، إخلالًا بما يليق بالله .. إلخ؛ فيُقال فيه:
إنَّ الإشكالَ بهذا عند التَّحقيق لا وُرود له بحالٍ، لأنَّه ما نَشَأ إلَّا بعد الإخلالِ بما تَجب مُراعاته من جهل موسى عليه السلام في المرَّة الأولى بأنَّ الدَّاخل عليه ملَك، وبيانُ ذلك:
أنَّ الأنبياء عليهم السلام قد يخفى عليهم حالُ المَلائكةِ أوَّل مَجيئهم، فلا يَعرفونهم، فمِن عَدَمِ مَعرفةِ إبراهيم الخليل عليه السلام بهم: مَجيئه إليهم {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 69 - 70].
وهذا نبيُّ الله لوط عليه السلام، لم يَتبَيَّن له بادئَ الأمر أنَّ أضايفَه ملائكة، حتَّى خاف عليهم مِن قومِه فخاطَبَهم:{يَاقَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78].
وهذا نبيُّ الله داود عليه السلام، يُصغي إلى الملائكةِ يظنُّ أنَّهم خصومٌ مِن البَشر، {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22].
ولذلك نقول: إِنَّما صَكَّ موسى المَلَكَ ولَطَمه لأنَّه رأى رجلًا «تَسَوَّر عليه منزِلَه ومَحلَّ أهلِه بغير إذنِه، وطلَب سلبَ روحِه! .. وقد ثَبَت في الشَّرعِ إباحةُ دفعِ الصَّائل بكلِّ مُمكنٍ، وإن آلَ إلى قتلِه»
(1)
؛ فلمَّا خَفِي عليه عليه السلام أَنَّه مَلَكُ الموت، مع ما قاله له:«أجِبْ رَبَّك» ! متجرِّدًا في هذا القولِ عمَّا يدلُّ على كونِه مِن عند الله: وَقعَ مِن موسى عليه السلام ما وَقع مِن الصَّك، «فصادفت تلك الدَّفعةُ عينَه المركبَّة في الصُّورة البَشريَّة، لا العينَ الملَكيَّة»
(2)
.
وإلى هذا التَّفسير للحديث ذَهب ابن خزيمة
(3)
، وأَبو بكرٍ الكَلاباذي
(4)
، وابن حبَّان
(5)
، والخطَّابي
(6)
، والمازَري
(7)
، والقاضي عياض
(8)
، وابن حجر العسقلاني
(9)
، ومِن المتأخِّرين: القاضي محمَّد العلوي الإسماعيليُّ
(10)
، وعبد الرَّحمن المُعلِّمي
(11)
، وغير هؤلاء مِن أَرباب التَّحقيق والرُّسوخ.
يقول ابن حبَّان البستيُّ:
«إنَّ الله -جلَّ وعلا- بعثَ رسولَ الله معلِّمًا لخلقهِ، فأنزل موضع الإبانة عن مُراده، فبلَّغ رسالته، وبيَّن عن آياتهِ بألفاظٍ مُجْمَلةٍ ومُفسَّرةٍ، عَقِلها عنه أَصحابُه
(1)
«توضيح طرق الرَّشاد» للقاضي محمَّد العلوي (ص/198 - 199).
(2)
«كشف المشكل» لابن الجوزي (3/ 444).
(3)
انظر «شرح صحيح مسلم» للنووي (15/ 129)، و «فتح الباري» لابن حجر (6/ 442).
(4)
«بحر الفوائد» (ص/359)، والكلاباذي (ت 380 هـ): هو محمَّد بن إبراهيم بن يعقوب، أبو بكر الكلاباذي البخاري، من حفاظ الحديث، من تصانيفه:«التعرف على مذهب أهل التصوُّف» ، انظر «الأعلام» للزركلي (5/ 295).
(5)
انظر «صحيح ابن حِبَّان» (14/ 112 - 116، بترتيب ابن بلبان).
(6)
انظر «فتح الباري» لابن حجر (6/ 442).
(7)
«المعلم بفوائد مسلم» للمازري (3/ 230 - 231).
(8)
«إكمال المعلم» للقاضي عياض (7/ 352).
(9)
انظر «فتح الباري» لابن حجر (6/ 442).
(10)
«توضيح طرق الرشاد» للعلوي (ص/197، وما بعدها)، ومحمَّد العلوي (ت 1367 هـ): هو محمد بن أحمد بن إدريس بن الشَّريف العلوي الإسماعيلي، من فقهاء المالكيَّة، تولَّى القضاء عدة مرات بمكناس وفاس وغيرهما من حواضر المغرب، من تصانيفه:«إتحاف النُّبهاء الأكياس بتحرير فائدة مناقشة الأوصياء» ، و «تقييد على أوائل شرح البخاري» ، انظر ترجمته في «سلُّ النِّصال» لابن سودة (ص/130).
(11)
«الأنوار الكاشفة» (ص/219).
أو بعضهم، وهذا الخبر مِن الأَخبار الَّتي يُدرِك معناه مَن لم يُحرَم التَّوفيقَ لإصابةِ الحقِّ، وذاك أنَّ الله -جلَّ وعلا- أَرسلَ ملكَ الموت إلى موسى رسالةَ ابتلاءٍ واختبارٍ، وأَمَرَهُ أن يقول له: أَجِب ربَّك أمرَ اختبارٍ وابتلاءٍ، لا أمرًا يريد الله -جلَّ وعلا- إمضاءَهُ، كما أمَرَ خليلَه -صلَّى الله على نبيَّنا وعليه- بذبحِ ابنِه أَمرَ اختبارٍ وابتلاءٍ، دون الأمر الَّذي أراد الله -جلَّ وعلا- إمضاءَه، فلمَّا عَزَم على ذبحِ ابنِه، وتَلَّه للجبين، فداه بالذِّبح العظيم.
وقد بعث الله -جلَّ وعلا- الملائكةَ إلى رُسلِه في صُوَرٍ لا يعرفونها .. فكان مَجيء ملَك الموت إلى موسى عليه السلام على غير الصُّورة التي كان يعرفه موسى عليها، وكان موسى غَيورًا، فرأى في داره رجلًا لم يعرفْهُ، فَشَال يدهُ فلطَمَهُ، فَأتَتْ لطمتُهُ على فقءِ عينِه الَّتي في الصُّورة الَّتي يتصوَّر بها، لا الصُّورة الَّتي خلقه الله عليها.
ولمَّا كان مِن شريعتنا أنَّ مَن فَقأ عين الدَّاخلِ دارَه بغير إذْنهِ، أو النَّاظرِ إلى بيتهِ بغير جُناحٍ على فاعله، ولا حَرَجَ على مرتكبه؛ للأخبار الجمَّةِ الواردة فيه .. كان جائزًا اتِّفاقُ هذه الشَّريعة بشريعةِ موسى عليه السلام بإسقاطِ الحرجِ عمَّن فَقأ عينَ الدَّاخل دارًا بغير إذنه، فكان استعمالُ موسى هذا الفعل مباحًا له، ولا حَرج عليه في فعله.
فلمَّا رَجع مَلَك الموت إلى ربِّه وأخبرَه بما كان مِن موسى فيه، أمَرَه ثانيًا بأمرٍ آخر، أمرِ اختبارٍ وابتلاءٍ -كما ذكرنا قبل- إذ قال الله له: قل له: إن شئتَ فضع يدَكَ على متن ثورٍ، فَلَكَ بكلِّ ماغَطَّت يدُكَ بكلِّ شعرةٍ سَنة، فلمَّا عَلِم موسى كليمُ الله أنَّه مَلَك الموت، وأنَّه جاءَه بالرِّسالة مِن عند الله: طابَت نفسُهُ بالموت، ولم يسْتمهل، وقال: فالآن.
فلو كانت المرَّةُ الأولى عرَفَه موسى عليه السلام أنَّه ملَك الموت، لاستعملَ ما استعمل في المرَّة الأخرى عند تيقُّنِهِ وعلمِه به، ضدَّ قولِ مَن زَعم أنَّ أصحاب الحديث حمَّالةُ الحَطَب ورُعاةُ اللَّيل، يجمعون ما لاينتفعون به، ويروُون ما
لا يُؤجرون عليه، ويقولون بما يُبطله الإسلامُ، جهلًا منه لمعاني الأخبار، وترك التفقُّهِ في الآثار، معتمدًا منه على رأيِه المنكوسِ، وقياسه المعكوس»
(1)
.
فهذا القولُ أوجهُ الأقوالِ في نظري في تفسيرِ الخبر، وأمْشاه مع المُحْكَمِ المَعلومِ مِن سُموِّ أَخلاقِ الأَنبياء، وصَلَابةِ ديانتهم، وتحاميهم عمَّا يقبحُ، ولم أَرَ -بحسب اطِّلاعي- مَن اعترضَ على هذا التَّوجيه، خِلافًا لبعضِ توجيهاتٍ أُخرى، كلُّها فُوِّقت لها سِهام النَّقد والاعتراض.
وأمَّا جواب الجهةِ الأولى مِن المعارض الثَّاني: من دعواهم أَنَّ في فِعْلِه عليه السلام مراغمةً منه، حيث اعتدى على رسولٍ لله، وكون ذلك لو فعَلَه أحد مِن الناس، لعُدَّ باغيًا فاسقًا .. إلخ؛ فيُقال في جوابه:
إنَّ ذلك -كما قلنا- قد يَصحُّ لو عَلِمَ موسى عليه السلام بأنَّ ذلك الدَّاخل عليه هو مَلَك الموت، وقد استبانَ خفاءُ ذلك على موسى عليه السلام، وأنَّ هذا هو اللَّائق الَّذي ينبغي حَمْلُ فعله عليه.
ثمَّ إنَّ صنيعَ موسى عليه السلام مع الملَك ليس بأقلَّ مِن صنيعِه بنبيِّ الله هارون عليه السلام، حين أخذ بلحيته وبرأسه يجرُّه إليه! «وكأنَّ الوحشةَ لمِا تضمَّنه حديثُ لطمِ ملَك الموت إِنَّما وقعت للمُنكرين دون أخذِه بلحيةِ أخيه هارون عليه السلام: لورودِ الأوَّل عن طريقِ الحديث لا القرآن! وإلَّا فكِلتا الحادثتين بينهما قدرٌ مُشترك»
(2)
.
وفي تقرير هذا التَّشابه، يقول الكلاباذيُّ: «ليس الجرُّ، والخشونة، والغِلظة، والدَّفعُ، بأقلَّ من الدَّفعِ عنك بالخُشُونةِ والغِلظة، وهو الصَّكُّ واللَّطم، دفعٌ عنك بِغِلْظةٍ وخشونة فما سواه، وليس هارون بأَدْوَن منزلةً مِن مَلَك الموت -صلوات الله عليهما-، بل هو أَجلُّ قدرًا منه وأعلى مرتبة، وأَبينُ فَضْلًا .. ؛
لأنَّه عليه السلام نبيٌّ مُرسل .. ، وهو مع جليل قدرِه في نُبُوَّته، وعلوِّ دَرَجته في رسالتِه أخو موسى لأبيه وأمِّه، وأكبرُ سِنًّا»
(1)
.
أمَّا الجواب عن الجِهة الثَّانية مِن المعارضة الثَّانية: وهي دعواهم أنَّ ذلك مُنافٍ لمِا ينبغي أن يكون عليه عباد الله الصَّالحون -عن أولي العزم من الرُّسل- مِن عظيم الشَّوق للقاء الله، وقد دلَّ الحديث على انتفاءِهِ في حقِّ موسى عليه السلام في قولِ الملَك:«أرسلتنِي إلى عبدٍ لا يريد الموت» ؛ فيُقال فيه:
أوَّلًا: ما ذكره مَلَك الموت عليه السلام لربِّه هو مَبلغ علمِه مِن ظاهرِ حاله عليه السلام، وقد وَقَع نظير هذا الظَّن مِن الملائكةِ حين خَفِي عليهم حكمةُ الله تعالى في استخلافِه لأَصلِ البَشر آدمَ عليه السلام في الأرض، حيث قالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
يقول محمَّد العلويُّ المكناسيُّ (ت 1367 هـ): «فهذا الَّذي ظنَّه الملائكة بآدم عليه السلام هو نَظير ما ظنَّه مَلَك الموتِ هنا بموسى عليه السلام، وهذا الَّذي أجابَ الله تعالى الملائكةَ به في هذه الآية، هو عينُ الجواب لملَك الموت هنا، المستفاد ممَّا اختاره موسى أخيرًا»
(2)
.
ثانيًا: حين تحقَّقَ موسى عليه السلام في المرَّة الثَّانية كونَ الَّذي جاءه المرَّة الأولى ملَك الموت عليه السلام لم يدفعه، بل حينما خيَّره بين البقاء في هذه الدُّنيا مُددًا طويلة بقدر ما تقع يده عليه مِن شعر الثَّور، وبين الموتِ: اختار عليه السلام الموتَ! وفي هذا برهانٌ على زُهدِه عن البقاءِ في هذه الدُّنيا بعد إخبارِ الله تعالى له ببقائِه إن أراد آمادًا طويلة، وإيثارِه لقاءَ الله تعالى على الخلودِ فيها.
وأمَّا الجواب عن المعارضة الثَّالثة: في دعوى أنَّ في رجوعِ ملَك الموتِ المأمورِ مِن الله تعالى بقبضِ روح موسى عليه السلام دون تحقيقِ ما أُمر به مِن ذلك مخالفةٌ لأمرِ الله.
فيُقال فيه: لا برهان للمُعترض على أنَّ ما أُمِر به مَلَك المَوت مِن قَبضِ روحِ موسى عليه السلام كان على سبيل الإيجاب والإلزام الفوريِّ! بل المعلوم مِن سُنَّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم أنَّ أمْرَ الله بقبضِ روحِ الأنبياءِ هو في حقِّهم على سبيل التَّخيير.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: «إنَّه لم يُقبَض نبيٌّ حتَّى يَرى مقعدَه مِن الجنَّة، ثمَّ يُخَيَّر»
(1)
.
فرجوع ملَك الموت دون تحقُّق ما أُمِر به، هو بسببِ ما ظنُّه مِمَّا فعله به موسى عليه السلام أنَّه لا يريد الموت، وهو ما صَرَّح به لربِّه عز وجل -كما جاء في الحديث-:«أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت! .. » .
هذا مع ما أُمِر به المَلَك عليه السلام مِن التَّلطُّف في قبضِ روحِ كليمِ الله
(2)
، فلأجلِ ذلك لم يُدافع موسَى حينَ لَطَمَه؛ فضلًا عن أنَّ اللَّطمة وما فوقها لا تضرُّ المَلَك في شيءٍ ولا تُؤذيه! اللَّهم إلَّا ما قد لحِق الصُّورة الظَّاهرة مِن تشوُّهٍ في تركيبة العينِ، أعادها الله كما كانت عند إرسالِ المُتصوِّر بها إلى موسى أوَّل مرَّة.
وفي هذا جواب المعارضة الرَّابعة أيضًا.
والحمد لله الَّذي تتِّم بنعمتِه الصَّالحات.
(1)
أخرجه البخاري في (ك: المغازي، باب: باب آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 4463)، ومسلم في (ك: فضائل الصحابة، باب: فضل عائشة، رقم: 2444).
(2)
«كشف المشكل» لابن الجوزي (3/ 445).