الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفع المُعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن حديث طلاقِه صلى الله عليه وسلم الجونيَّة
أمَّا ما توهَّمه المُعترِضُ مِن كونِ الجونيَّة أجنبيَّةً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وقتَ وقوعِ القصَّة:
فمُتحقِّقٌ عند المؤرِّخين والمُحَدِّثين نَقيضُ ذلك، فقد ثَبَت عَقْدُ النَّبي صلى الله عليه وسلم عليها وإمْهَارُها كسائر نسائِه، وعلى هذا نقلَ ابن الأثير (ت 630 هـ) الإجماع
(1)
؛ ومن مُستنداته: ما في روايةِ ابنِ سَعدٍ أنَّه اتَّفَق مع أبيها على مِقدارِ صداقِها، وأنَّ أباها قال له:«إنَّها رَغِبت فيك، وخَطبت إليك .. »
(2)
.
ولو تمهَّل المُعترض حتَّى ينظر في الرِّواية الَّتي أعقَبَت هذا الحديثَ في «صحيح البخاريِّ» ، لانزاحَتْ عنه غِشاوة الفَهم المُنحرِف ذاك! أعني بها ما جاء عن سهل بن سعدٍ وأبي أُسيدٍ نفسِه رضي الله عنهم أنَّهما قالَا:«تَزوَّج النَّبي صلى الله عليه وسلم أُميمةَ بنت شَراحيل، فلمَّا أُدخلِت عليه، بَسَط يده إليها .. » فذكرا الحديث
(3)
.
(1)
«أسد الغابة» (6/ 18).
(2)
أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (8/ 113)، والحاكم في «المستدرك» (رقم: 6816)، وفي سنده محمد بن عمر الواقدي، مُتفق على ضعفه مع سعة علمه، انظر «تهذيب الكمال» (26/ 180).
(3)
أخرجه البخاري في (ك: الطلاق، باب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، رقم: 5256).
لكن المُعترض لم يُبال بهذا الحديث، ولا أثار انتباهَه تبويبُ البخاريِّ عليه:«باب: مَن طَلَّق، وهل يواجه الرَّجل امرأتَه بالطَّلاقِ»
(1)
!
ويَظهرُ أنَّه قد الْتَبَسَ عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «هَبِي نفسَك لي .. » ، فحملَه على معنى الاسِتوْهابِ الَّذي يكون مِن الرَّجلِ لأجنبيَّةٍ يريد نِكاحَها، مع ما غُبِّي عليه مِن عدم جريانِ ذكرِ صورةِ العَقد في الحديث!
وقد تبيَّنَ لك قبلُ أنَّ الجونيَّة لم تكُن أجنبيَّةً وقتَ القصَّة بل زوجةً، والعَقْدُ بها لم يُذكَر في الرِّوايةِ اختصارًا واكتفاءً بعلمِ السَّامع به، وأنَّه إنَّما قال لها «هَبِي نفسَك لي»: لِما رأى مِن تمنُّعها وانحِيادِها عنه، فقال ذلك «تطيِيبًا لقلبِها، واستمالةً لها»
(2)
.
أمَّا جوابها له صلى الله عليه وسلم بقولهِا: «وهل تَهَب المَلِكَة نفسَها للسُّوقَة؟!» :
فإنَّ الوصفَ بالسُّوقةَ ليس مِن بابِ الشَّتِيمة -كما هو دارجٌ عند عَوامِّ النَّاس، نِسبةً إلى أهل السُّوق- هذا جهلٌ بوَضعِ العربيَّةِ عند أهلِها وقتَ التَّنزيل؛ «إنَّما السُّوقة عند العَرب: مَن ليس بمَلِكٍ، تاجرًا كان أو غير تاجرٍ، بمنزلةِ الرَّعيَّة الَّتي تَسُوسها الملُوك، وسُمُّوا سُوقةً لأنَّ المَلِك يسُوقُهم فينساقون له، ويصْرِفهم على مُرادِه»
(3)
.
فكأنَّها استبعَدَت أن تَتزوَّج المَلِكَة مَن ليس بمَلِكٍ! بعد أن ظنَّت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مِن ذَوِي القصورِ والخُدَّامِ ونحوِ ذلك ممَّا يَتَحلَّى به المُلوكِ في سُلطانِهم؛ لكنَّه صلى الله عليه وسلم لكريمِ شِيَمِه «لم يؤاخِذها بكلامِها، مَعذرةً لها لقُربِ عَهدِها بجاهِليَّتها»
(4)
، بل أهْوَى بيدِه عليها يَتَلطَّفُها لتسكُن.
(1)
حيث إنَّ في قوله: «اِلحقي بأهلك» محلَّ الشَّاهد للتَّرجمة عند البخاريِّ، وهو كناية عن طلاقها.
(2)
«فتح الباري» لابن حجر (9/ 360).
(3)
«كشف المشكل» لابن الجوزي (2/ 133).
(4)
«فتح الباري» لابن حجر (9/ 358).
لكن لمَّا رآها أصرَّت على حماقتِها حتَّى استعاذت منه صلى الله عليه وسلم، مع ما عُلم من قولِه صلى الله عليه وسلم:«مَن استعاذَكم بالله فأعيذوه»
(1)
: تَرَكَها ولم يَعُد إليها
(2)
؛ وكان من كرمه أن مَتَّعها بعدَ فِصالِها بثَوبَيْن ثَمِينَينِ، مع أنَّها زوجةٌ مُفوضَّة، لم يُفوِّض لها النَّبي صلى الله عليه وسلم شَيءٌ
(3)
؛ ولكنَّها المُتعة الَّتي أَمَرَ الله بها للمُطلَّقة غيرِ المَدخولِ بها
(4)
.
(1)
أخرجه أبو داود في (ك: الأدب، باب في الرجل يستعيذ من الرجل، رقم: 5109)، وصحَّح أحمد شاكر إسناده في تعليقه على «المسند» (5/ 224)، وكذا الألباني في «الصحيحة» (رقم: 254).
(2)
انظر «التوضيح» لابن الملقن (25/ 207)، و «فيض القدير» للمناوي (6/ 55).
(3)
«منحة الباري» لزكريا الأنصاري (8/ 446).
(4)
كما قال المهلب في «شرح صحيح البخارى» لابن بطال (7/ 387).