الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الخامس
موقف أهل الحديث من الإسرائيليَّات
لم يكن غائبًا عن المُحدِّثين رواية بعض الصَّحابة رضي الله عنهم عن أهل الكتابِ شيئًا من أخبار الأممِ الماضية، فساروا إزاءَ هذه الحقيقةِ على نهجٍ عِلميٍّ صارمٍ يُحيل اختلاطَ شيءٍ من تلك المرويَّاتِ بأخبارِ السُّنةِ، فهم أعلَمُ النَّاس بأنَّ الإسرائيليَّات -ولا سِيما المَكذوبِ والباطل منها- لو وُقِفَ بها عند قائِلها، لكان الأمرُ عندهم محتمِلًا.
لكن الشَّناعة وكِبرُ الإثمِ في أنَّ بعضَ الزَّنادقةِ والوَضَّاعين وضُعَفاءُ الإيمانِ أو الحفظِ قد رَفَعوا هذه الإسرائيليَّات إلى المَعصومِ، ونَسبوها إليه من حكايته! وهنا يكون الضَّرَر الفاحشُ والجناية الكُبرى على الإسلام والتَّجنِّي الآثم على النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ نسبةَ الغَلَط أو الخطأ أو الكذب إلى الرَّاوي -أيًّا كان- أهونُ بكثيرٍ مِن نسبةِ ذلك إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ولقد بَلَغ مِن تحوُّطِ أئمَّةِ الحديثِ في صَونِ سُنَّةِ نبيِّهم صلى الله عليه وسلم أنْ ضبطوا مبحثَ قولِ الصَّحابي الَّذي لا مجالَ للرَّأيِ فيه، فاشترطوا ليُقبَل في حكمِ الرَّفعِ: أن لا يكون قائِلُه مِمَّن عُرِف بالأخذِ عن أهلِ الكتاب؛ ذلك لأنَّ إخبارَه بما لا مجالَ للرَّأي فيه -كالمُغيَّبات ونحوها- يقتضي مُخبِرًا له، وما لا مجالَ للاجتهادِ فيه
(1)
«الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير» لمحمد أبو شهبة (ص/94).
يَقتضي مُوقِفًا للقائلِ به، ولا مُوقِف للصَّحابةِ إلَّا النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو بعضِ مَن يُخبِر عن الكُتبِ القديمة!
فلهذا وقَعَ الاحترازُ تفاديًا للقسمِ الثَّاني.
يقول ابن حجرٍ في معرضِ حديثِه عن تفسيرِ الصَّحابي الَّذي له حكم الرَّفع: « .. إلَّا أنَّه يُستثنَى مِن ذلك ما كان المُفسِّر له مِن الصَّحابة رضي الله عنهم مَن عُرف بالنَّظرِ في الإسرائيليَّات، كمُسلِمَةِ أهلِ الكتابِ، مثل عبد الله بن سلام وغيره، وكعبد الله بن عمرو بن العاص .. فمثلُ هذا لا يكون حكمُ ما يُخبر به -مِن الأمور الَّتي قَدَّمنا ذكرَها- الرَّفعُ، لقوَّة الاحتمال»
(1)
.
فإذا كان المُحدِّثون يحتاطون في روايةِ خَبرٍ عن صحابيٍّ فيه شُبهة الإسرائيليَّة، إذا لم يُسنده إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، ألَّا يَدخُلَ في المَرفوعِ مِن حديثِه ما ليس منه؛ فكيف يكون فَرزُهم وتشديدُهم على روايةٍ إسرائيليَّة صريحةٍ لا تحتمل، يَرويها مَن دونَهم في العلمِ والدِّين؟! لا شكَّ أنَّهم أحوطُ في ذلك وأشدُّ تحقيقًا في النَّقد.
وهم -على كلِّ حالٍ- مُقِلُّون مِن روايةِ الإسرائيليَّات عن مُسلمةِ أهلِ الكتابِ، فلم يُورِدوا لهم في مُصنَّفاتهم إلَاّ النَّزرَ اليسيرَ، مُقارنةً بما نراه -مثلًا- في كُتبِ التَّفسير أو التَّاريخ.
فهذا كعبُ الأحبار، وهو أشهرُ رَاوٍ للإسرائيليَّاتِ مِن التَّابعين مِمَّن أخَذَ عنه بعض الصَّحابةِ، لم يَذكُره البخاريُّ إلَّا عَرَضًا في مِوضعين مِن «صحيحِه» ! وثلاثةٍ في «صحيح مسلم» بالتَّضمين!
(1)
«النكت على كتاب ابن الصلاح» لابن حجر (2/ 532 - 533).
قلت: وشَرطُ ذلك أن يكون كلامُ الصَّحابيِّ فيه شُبهة الإسرائيليَّة، فلا يُرَدُّ لمُجرَّد أنَّ راوِيَه آخذٌ عن أهلِ الكتابِ فحَسْب، وإلَّا جازَ التَّوقفُ في كثيرٍ مِن الأخبارِ الغَيْبِيَّةِ الَّتي رَواها بعضُ الصَّحابةِ، لمجرَّد أنَّه رَوى بعض الإسرائيليات! وليس ذلك بحَقٍّ، وعَملُ العلماء جارٍ على خلافِ هذا.
ومَرويَّاته بمَجموعها لا تَتَجاوز تسعَ رواياتٍ في الكتب السِّتة جمعاء، وما صَحَّ عنه مِن الإسرائيليَّاتِ في التَّفسير لا يَتَجاوز عشرَ رواياتٍ فقط!
(1)
ويليه في الشُّهرةِ وهبُ بن مُنبِّه
(2)
، وقد أخرَجَ له أصحابُ الكُتبِ السِّتة مع مُسندِ أحمد، وسُنَن الدَّارمي في التَّفسيرِ وغيرِه، ما مجموعه: أربعون روايةً بالمُكرَّر، منها سبعٌ وعشرون مَرفوعة، وثلاث عشرة مَوقوفة، ليس فيها ما يُخالف أصولَ الدِّين بفضل الله، مع ما لها من مُتابعات وشَواهد
(3)
.
(1)
انظر «كعب الأحبار وأثره في التفسير» لخليل إلياس (ص/156).
(2)
وهب بن مُنبِّه الأبناوي الصنعاني الذماري، أبو عبد الله: كثير الإخبار عن الكتب القديمة، عالم بالإسرائيليات، ثقة من التَّابعين، أصله من أبناء الفُرس الَّذين بعَث بهم كسرى إلى اليَمن، وُلد ومات بصنعاء، ووَلَّاه عمر بن عبد العزيز قضاءَها، انظر «أعلام النبلاء» (4/ 544).
(3)
وهذا في عدِّ علوي بن حامد في بحثه للدكتوراه «مرويات وهب بن منبه في الكتب الخمسة ومسندي أحمد والدارمي» (ص/34، 111).