الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفعُ المُعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن حديثِ: «إنَّ أبي وأباك في النَّار»
فإنَّ مسألة مآلِ وَالِدَي النَّبي صلى الله عليه وسلم مندرجة تحت بابِ عامٍّ مَيْسَمُه «حكم أهل الفترة»
(1)
، يتَّضح هذا مِن نفسِ ما استشهَدَ به المُعترضون مِن نصوصٍ على رَدِّ هذا الخبر؛ فالمنهجيَّة العلميَّة السَّليمة تقتضي التَّعريجَ أوَّلًا على هذا البابِ الأعمِّ، ليتَّضِحَ بتفصيلِ حكمِه الصَّوابُ في ما نحن فيه مِن فرعِه المُشكلِ على البعضِ؛ فنقول:
تَمدَّد خلافٌ عَريض بين العلماءِ في مَصير أهلِ الفترة، تَعدَّدت تفاصيله، وتنوَّعت فروعه، أصل الإشكال فيه راجعٌ إلى: أنَّ ظاهر الأحاديثِ المُثبتةِ لعذابِ بعضِ الجاهليِّين، مُعارِضٌ في الظَّاهرِ لأصلٍ قطعيٍّ في الشَّريعة، دَنْدَن عليه كلُّ مَن رَدَّ حديث مسلم هذا، وهو: أنَّ العقوبة الدُّنيويَّة والأخرويَّة لا تنزل بالعِباد إلَّا بعد بعث الرُّسُل إليهم، وقيام الحجَّة عليهم.
(1)
الفترة لغةً: فَعْلةٌ مِن قولِ القائلِ (فَتَر) هذا الأمر يفتر فتورًا: إذا هَدَأ، وسَكَن بعد حِدَّة، ولَانَ بعد شدَّة، تقول: فَتَر الرَّجل عن علمِه عمَّا كان عليه مِن الجدِّ فيه، انظر «لسان العرب» (مادة: ف ت ر، 5/ 43).
أمَّا اصطلاحًا: فيقول شهاب الدِّين الآلوسي في «روح المعاني» (6/ 103): «أجمع المفسِّرون بأنَّ الفترة هي انقطاع ما بين رَسُولين» ، وانظر «جامع البيان» للطبري (10/ 156)، و «جمع الجوامع» للسبكي (1/ 63).
فعلى ذا يكون تعريف أهل الفترة: هم القوم الَّذين لم يُدركوا النَّذارة قبلَهم، ولم تدركهم الرِّسالة الَّتي مَن بعدهم، انظر «الحاوي» للسيوطي (2/ 209).
فهذا الأصل قد تواردت نصوصُ الكتاب والسُّنة على تقريره وتأكيده، وذهبَ جماهير العلماء إلى تقديمِه والقضاءِ به على النُّصوص الجزئيَّة في بابِه، فتكون مَردودةً إليه؛ وهذا مَسلك جمهورِ الأشعريَّة مِن المُتكلِّمين، وكثيرٌ مِن أئِمَّة الحديث والفقه
(1)
.
ولا شكَّ أنَّ الأخذ بهذا الأصل القطعيِّ، ومحاكمةِ ظاهر النُّصوص الَّتي جاءت في إلحاقِ العقوبة ببعضِ أهل الجاهليَّة إليه: هو القول الصَّحيح الجاري على مُقتضى المنهجيَّة العلميَّة الصَّحيحة، فإنَّ الأحكام الشُّموليَّة القطعيَّة الَّتي قامت عليها الشَّريعة في تكليف العباد، واستفاضت النُّصوص في الدَّلالة عليها -كمثلِ أنْ لا عَمل شرعيَّ إلَّا بنيَّة، ولا تكليف إلَّا مع القدرة، وأنَّ المُكلَّف لا يُعاقب بجُرم غيره، ونحو ذلك من الأصول المُحكمة في الشَّريعة- إذا جاء في ظاهرِ بعض النُّصوص ما يُناقض ذلك: فإنَّه لا يَصحُّ لنا القدح في ذلك الأصلِ القَطعيِّ، أو تجاوزه وعدم اعتبارِه.
فهذا ممَّا لا ينبغي أن نختلف فيه على الحديث.
إنَّما الشَّأن في الفهمِ الصَّحيحِ لِما ادُّعِي نقضُه من تلك الأخبار لأصلٍ مِن تلك الأصول المَرعِيَّة! فإنَّ الخبرَ إذا ساغَ حملُه على معنًى لا يتناقض مع أصلِ منها، وجب المَصير إليه، دون الهرولةِ إلى الإنكارِ جُزافًا من غير تثبُّتٍ أو توقُّفٍ.
وكان العلماء قد سعوا حثيثًا في تطبيقِ هذا المَنهج على مسألتِنا هذه بِما تضمَّنته من أخبارٍ في تعذيبِ بعضِ أهلِ الفترةِ، فحيث استقرَّ لديهم أنْ لا عذابَ إلَّا بعد قيامِ الحُجَّة، قصدوا إلى تأويلِ تلك الأخبار النَّبويَّة على مَعانٍ توافق هذا الأصل، فاختلفوا في ما تُحمَل عليه، على أقوال عدَّة:
منهم مَن ذهب إلى نَفيِ العذابِ عن أهل الفترة بإطلاق، فيَراهم بذلك ناجين في الآخرة: وهؤلاء جمهور الأشاعرة
(2)
، وبعض فقهاءِ الشَّافعيَّة
(3)
، وكان مَوقفُهم مِن أخبارِ العذابِ مُتباينًا على فريقين:
(1)
وستأتي أقوال بعضهم عن قريب في ذكر أقوال العلماء في حكم أهل الفترة.
(2)
انظر حاشية ابن الأمير المالكي على «إتحاف المريد» (ص/58 - 59).
(3)
«الحاوي» للسيوطي (2/ 202)، وحاشية السندي على «سنن ابن ماجه» (1/ 477).
فريقٌ: يقصُر التَّعذيب على مَن ذُكِر في النُّصوصِ فقط، ويفوِّضون علمَ سبب تَعذيبِهم إلى الله تعالى
(1)
.
ولا يخفى أنَّ هذا المسلك في التَّفويض لا يُوفَّق بمثله بين المُتعارضات، وهذا الَّذي أنكرَه (محمَّد الغزاليُّ) على مُجادلِه، وله الحَقُّ في أن يُنكرَ عليه هذا المنطق في التَّفكير! فإنَّ القول بالتَّفويض مَشروع فيما تَقَصَّد الشَّرع إخفاءَ عِلْمِه عن المُكلَّف؛ ومسألتُنا خارجةٌ عن هذا النِّطاق، فهي استعلامٌ عن الحكمةِ مِن إخراجِ بعضِ الأفرادِ مِن عمومِ الخطابِ الإلهيِّ، قصدَ التَّوفيقِ بين كلماتِه -سبحانه- وبين أفعالِه، نفيًا للتَّخالف بينهما في الأذهانِ.
وليس ينزعُ إلى مثل هذا المسلكِ في الغالبِ إلَّا مَن يَنفي الحكمَةَ عن أفعالِه سبحانه، وقد أبانَ عن بطلانِ هذا العَقدِ أئمَّةُ السُّنةِ والجماعة، بما لا يسع بسطُه في هذا المَقام
(2)
.
وفريق آخر: رأى الأخبار الَّتي جاء فيها تَعذيبُ بعضِ أهل الفترة أخبارَ آحادٍ، لا يصحُّ الاعتماد عليها، خاصَّة وأنَّها عارضت الأصول القطعيَّة
(3)
.
وهذا أيضًا مسلكٌ علميٌّ غير سديد! فإنَّ الآحاد الصَّحيحة مُعتبرة في العقائد، فكيف إذا استفاضت وبلغت مبلغَ العِلم القطعيِّ بمجموعِها؟! كما الشَّأن في هذه الأحاديث المُثبتة لعذابِ بعضِ أهل الفترة؛ فلا مُسَوَّغ بعدُ لهذا المسلك في ردِّها
(4)
.
(1)
انظر «تحرير المقال في موازنة الأعمال» (ص/425).
(2)
انظر في استيفاء شُبه النَّافين للحكمة والتَّعليل الإلهيَّين، وذكر الأجوبة عنها: في «شفاء العليل» لابن القيم (ص/206).
(3)
انظر «حاشية المحلِّي على شرح العطَّار على جمع الجوامع» (1/ 88)، و «تحرير المقال» لعقيل بن عطية (ص/245).
(4)
من أشهر مِن تصدَّى لردِّ هذه الآحاد في تعذيب بعض أهل الجاهلية: السُّيوطي، في ست رسائل خصَّصها لإثبات نجاة أبَوي النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأفرط حين أثبت الحديثَ الموضوع في بعثَهما مِن موتهما ليُؤمنا به، وصحَّح حديثًا في ذلك عن طريق ما يدَّعيه من الكشف والمنام! مع محاولات واهية لتضعيف حديث مسلم:«إن أبي وأباك في النار» ، هذا كلُّه ممَّا عابه عليه المُحقِّقون من العلماء، انظر إحدى رسائله تلك في «الحاوي للفتاوي» (2/ 244):«مسالك الحُنفا في والدي المصطفى» .
وغير هؤلاء من أهل العلم مَن ذَهَب مذهبًا مختلفًا، حيث أثبتوا عذابًا لأهلِ الفترةِ، ويُوفِّقون بين نصوص العذاب والأصل السَّابقِ تقريره بسلوك ثلاثةِ مسالك في الجمع:
الأوَّل: أنَّ هؤلاء الَّذين جاء الَخبر بتعذيبِهم مِن أهل الجاهليَّة، كانوا على علمٍ بدعوة الرُّسل السَّابقين، فهم في الحقيقةِ مِمَّن قامت عليهم الحُجَّة بالرِّسالات السَّابقة.
هذا ما اختاره بعضُ أهل العلم على رأسهم النَّووي، وجعل حديث هذا الباب «إنَّ أبي وأباك في النَّار»: مِمَّا يُستنبط منه ذلك، فقال:«إنَّ مَن مات في الفترة على ما كانت عليه العَرَب مِن عبادةِ الأوثانِ فهو مِن أهلِ النَّار، وليس هذا مُؤاخذةً قبل بلوغ الدَّعوة، فإنَّ هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره مِن الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم»
(1)
.
ومِمَّن قال بهذا القول نَفرٌ من العلماء ذَهبوا إلى أنَّ قريشًا ليسوا مِن أهل الفترة مطلقًا! كابنِ عطيَّة الأندلسيِّ (ت 542 هـ) قال: « .. أمَّا صاحب الفترة فليس ككافر قريش قبل النَّبي صلى الله عليه وسلم، لأنَّ كُفَّار قريش وغيرهم ممَّن عَلِم وسَمِع عن نبوَّةٍ ورسالةٍ في أقطار الأرض فليس بصاحب فترةٍ، والنَّبي صلى الله عليه وسلم قد قال: أبي وأبوك في النَّار، ورأى عمرو بن لُحي في النَّار، إلى غير هذا ممَّا يطول ذكرُه، وأمَّا صاحب الفترةِ يُفرَض أنَّه آدميٌّ لم يَطرأ إليه أنَّ الله تعالى بعث رسولًا، ولا دعا إلى دين، وهذا قليل الوجود»
(2)
.
قلت: وهذا قولٌ يَحتاج قائله إلى إثباتِ قيام الحجَّة على آحادِهم! وأنَّهم علِموا بصدقِ الأنبياءِ وبلغتهم الرِّسالة! وإلَّا فليس ذكرِ بعض الأعيان في بعض الأخبار بكافٍ لتعميم حالهم على باقي جنسِهم.
ولو كان حكمُ أهلِ الفترةِ على وِزانٍ واحد مِن الهَلاك في الآخرة، لمَا وُجِد داعٍ لِأَن يسأله صلى الله عليه وسلم بعض النَّاس عن مصير آبائهم!
المسلك الثَّاني: القول بأنَّ أخبارَ العذابِ مَحمولة على مَن بَدَّل وغَيَّر وأشركَ وشرَعَ لنفسِه دينًا جديدًا: وهذا قولٌ قرَّره الأبيُّ
(1)
.
ويردُّه: أن عددًا مِن النُّصوص جاءت بعذابِ أفرادٍ لم يثبُت عنهم تشريع ولا تَبديل قطعًا.
القول الثَّالث: أنَّ النُّصوص الَّتي فيها الإخبار بعذابِ بعضِ أهل الفترة، هي إخبار عن مآلِ امتحانِهم يوم القيامة، غاية ما فيها انكشاف علمِ الله فيهم بسابقِ السَّعادةِ أو الشَّقاوةِ.
وأجِدُني أنزعُ إلى هذا القولِ في الحكم على أهل الفترة في الجملة، لقوَّةِ أدلَّتِه وتماسكها، فقد صَحَّت عدَّة أخبار في امتحانِ أهلِ الفترةِ يوم القيامة، من ذلك:
حديث الأسود بن سريع رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أربعة يحتجُّون يومَ القيامة: رجل لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرِم، ورجل مات في الفترة .. » ، إلى أن قال:« .. وأمَّا الَّذي مات في الفترة فيقول: ربِّ، ما أتاني كتاب ولا رسول، فيأخذُ مواثيقَهم ليُطيعنَّه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النَّار، فوالَّذي نفس محمَّد بيدِه لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا»
(2)
.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: « .. فمَن اقتحمها كانت عليه بردًا وسلامًا، وَمن لا حقَّت عليه كلمة العذاب»
(3)
.
(1)
«إكمال الإكمال» (1/ 618)، وتبعَ عطيةَ بن عقيل في جعل أهل الفترة الناجين هم مَن لم يُوحِّد ولم يُشرك دون غيرهم.
(2)
أخرجه أحمد في «المسند» (رقم: 16301)، وقال مخرِّجوه:«حسن» ، وابن راهويه في «مسنده» (رقم:41)، وابن حبان في «صحيحه» (ك: التاريخ، باب: ذكر الإخبار عن وصف الأقوام الذين يحتجون على الله يوم القيامة، رقم: 7357).
(3)
أخرجه أحمد في «المسند» (رقم: 16302) وحسَّنه إسناده مُخرِّجوه، وابن أبي عاصم في «السنة» (رقم: 404) وقال الألباني في «ظلال الجنة» (1/ 176): «حديث صحيح، ورجاله ثقات غير علي بن زيد، وهو ابن جدعان ضعيف، لكنه قد توبع»
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: « .. فيرفع لهم النَّار فيُقال، رِدوها، أو قال: ادخُلوها، فيدخلها مَن كان في علم الله سعيدًا أن لو أدرك العمل، قال: ويمسك عنها مَن كان في علم الله شقيًّا أن لو أدرك العمل، فيقول الله تبارك وتعالى: إيَّاي عصيتم؟ فكيف برُسلي بالغيب؟!»
(1)
.
فهذه الأحاديث أخالها نصوصًا في محلِّ النِّزاع، وبموجِبها أخَذَ جمهور السَّلف، وحكاه أبو الحسن الأشعريُّ عن مذهب أهل السُّنة
(2)
، وهو ما نصره البيهقيُّ مِن مُعتقدهم
(3)
، واختاره ابن حزم
(4)
، وابن تيميَّة
(5)
، وابن القيِّم
(6)
، وابن كثير
(7)
، وابن حجر العسقلاني
(8)
.
فإن قيل: فقد أنكرَ ابن عبد البرِّ أحاديثَ الامتحانِ هذه، بكونِ ما وَرَد في بابِها ليس بقويٍّ، فلا تقوم بها حجَّة؛ والآخرةُ دار جَزاء، لا دار عمل وابتلاء، فكيف يُكلَّفون دخولَ النَّار وليس ذلك في وُسعِ المَخلوقين؟ والله لا يكلِّف نفسًا إلَّا وُسعها!
(9)
فيُردُّ عليه بما أجاب بِه ابنُ كثير قال:
«أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح، كما قد نصَّ على ذلك غير واحد من أئمَّة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يَقوى بالصَّحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدةً على هذا النَّمط، أفادت الحُجَّة عند النَّاظر فيها.
(1)
أخرجه ابن الجعد في «المسند» (رقم: 2038)، وابن عبد البر في «التمهيد» (18/ 127)، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (رقم:1076)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 216):«رواه البزار، وفيه عطية وهو ضعيف» .
(2)
انظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (4/ 281)، و «تفسير القرآن العظيم» (5/ 58).
(3)
انظر «الاعتقاد» له (ص/166).
(4)
«الفِصل» (3/ 74)(4/ 50 - 66).
(5)
«الجواب الصحيح» (2/ 298).
(6)
«طريق الهجرتين» (ص/392).
(7)
«تفسير القرآن العظيم» (5/ 53 - 56).
(8)
«فتح الباري» (3/ 445).
(9)
«الاستذكار» لابن عبد البر (3/ 114).
وأمَّا قوله (إنَّ الآخرة دار جزاء): فلا شكَّ أنَّها دار جزاء، ولا ينافي التَّكليف في عرصاتها قبل دخول الجنَّة أو النَّار، .. وقد قال الله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم: 42]، .. وفي الصَّحيحين في الرَّجل الَّذي يكون آخر أهل النَّار خروجًا منها: أنَّ الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألَّا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرَّر ذلك مرارًا ..
وأمَّا قوله: (كيف يكلِّفهم دخول النَّار، وليس ذلك في وسعهِم): فليس هذا بمانع مِن صحَّة الحديث، فإنَّ الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصِّراط، وهو جسر على جهنَّم أحدُّ مِن السَّيف وأدقُّ من الشَّعرة، .. وليس ما ورد في أولئك بأعظم مِن هذا، بل هذا أطمُّ وأعظم!
وأيضًا فقد ثبتت السُّنة بأنَّ الدَّجال يكون معه جنَّة ونار، وقد أمر الشَّارع المؤمنين الَّذين يدركونه أن يشرب أحدهم مِن الَّذي يرى أنَّه نار، فإنَّه يكون عليه بردًا وسلامًا، فهذا نظير ذلك، وأيضًا فإنَّ الله تعالى قد أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسَهم، .. وذلك عقوبةً لهم على عبادتهم العجل، وهذا أيضا شاقٌّ على النُّفوس جدًّا، لا يَتقاصر عمَّا ورد في الحديث المَذكور»
(1)
.
فهذه مذاهب العلماء في توجيه الأخبارِ الَّتي جاءت في تعذيبِ بعضِ أهلِ الجاهليَّة
(2)
؛ والقول الأخير منها بامتحانِ أهل الفترة مِمَّن جهلوا الحُجَّة أسعدُها بتآلف الأدلَّة، وأذهَبُ «للخصومات الَّتي كرِه الخوضَ فيه لأجلها مَن كرهه، فإنَّ مَن قطع لهم بالنَّار كلِّهم، جاءت نصوص تدفع قولَه، ومَن قطع لهم بالجنَّة كلِّهم، جاءت نصوص تدفع قولَه»
(3)
.
(1)
«تفسير القرآن العظيم» (5/ 58).
(2)
وثمَّة أقوال أخرى اجتهد بعض العلماء والباحثين في جمعها ممَّا يطول به المقام هنا، انظر «مسالك الحنفا» للسيوطي (ضمن الحاوي للفتاوي 1/ 245)، و «إشكالية الإعذار بالجهل» لـ د. سلطان العميري (271 - 278).
(3)
«درء تعارض العقل والنقل» (8/ 401).
ومع رجاحة هذا المذهب على باقي الأقوال في مسألة أهل الفترة، يُشكِل عليه بعض الأحاديث الَّتي ورَدَت بإثباتِ عذابِ القَبر لبعضِ مَن ماتِ في الجاهليَّة، منها:
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «دخل النَّبي صلى الله عليه وسلم يومًا نخلًا لبني النَّجار، فسمِع أصوات رجالٍ مِن بني النَّجار ماتوا في الجاهليَّة يُعذَّبون في قبورِهم، فخرج النَّبي صلى الله عليه وسلم فزِعًا، فأمَرَ أصحابَه أن يتعوَّذوا مِن عذاب القبر»
(1)
.
ووجه الإشكال: أنَّ الحديث أثبتَ تحقُّقَ العذابِ لبعضِ أهلِ الجاهليَّة في قبورِهم قبل حصولِ الامتحانِ لهم يوم القيامة
(2)
!
والجواب على هذا مِن وجهين:
الوجه الأوَّل: أنَّ الله لا يُعذِّب أهلَ الجاهليَّة على مُناقضةِ الأصولِ العَقديَّة فقط، فقد يُعذَّبون على مُنكراتٍ مِن الأفعالِ لا يجهلون قُبحَها فِطرةً وعُرفًا، كالظُّلمِ والاعتداءِ على حقوقِ الخَلْق.
شاهدُ ذلك: ما وَرَد في حديثِ جابر مِمَّا كُشِف للنَّبي صلى الله عليه وسلم فيه مِن عذابِ أهل النَّار مِن المَاضين، يقول: « .. حتَّى رأيتُ فيها صاحبَ المِحْجَن
(3)
يجرُّ قَصبَه في النَّار، كان يسرق الحاجَّ بمحجَنِه، فإن فُطن له قال: إنَّما تعلَّق بمِحجَني، وإن غفل عنه ذهب به! وحتَّى رأيتُ فيها صاحبةَ الِهرَّة الَّتي ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل مِن خشاش الأرض .. »
(4)
.
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (رقم:14152)، وإسناده صحيح على شرط مسلم كما قال مُخرِّجوه، وهو عند برقم (13447) وفي سنن أبي داود (ك: السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر، رقم: 4751) من حديث أنس.
ومنهم مَن يستدل بهذا على ما ذهب إلى النووي وغيره من مآخذة أهل الجاهلية وتعذيبهم على شركهم، كالألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/ 297).
(2)
«إشكالية الإعذار بالجهل» (ص/276).
(3)
المحجن: عصا مُعقفة الرَّأس كالصَّولجان، «النهاية في غريب الحديث» (1/ 347).
(4)
أخرجه مسلم في (ك: الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، رقم: 904).
(1)
.
فجائزٌ أن يكون ما سمِعه النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن عذابِ أهلِ الجاهليَّةِ في حائطِ بني النَّجار من هذا القَبيلِ.
والوجه الثَّاني: على فَرضِ القولِ بأنَّ التَّعذيب في القبرِ كان عِقابًا على الكفر، فإنَّ استشكالَ أحاديثِ الامتحان يوم القيامة إنَّما يَرِد على القولِ بأنَّ عامَّة أهل الفترةِ واقعون في الجهلِ في الدُّنيا، وأنَّهم يُعذَرون بجهلِهم هذا بإطلاقٍ.
بينما الصَّحيح أنَّ أهل الفترة على قسمين:
القسم الأوَّل: مَن فترَتُهم مِن جهةِ انقطاعِ الرُّسل فقط:
بحيث لم يُدرِكوا أيَّ نبيٍّ، وهم مع ذلك على عِلْمٍ بنَذاراتِ الأنبياءِ وحُجَج التَّوحيد وقبح التَّشريك: فهؤلاء مَحجوجون بهذه النَّذارات، لا يُعذَرون بتجاهلِهم وإعراضِهم عنها.
ففي مثلِ هؤلاء وَرَد بعضُ ما سَبق مِن نصوصِ السُّنةِ في عذابِ أهلِ الفترة، كالَّذي وَرَد في عذابِ أحَدِ أجوادِ العَرَب: عبد الله بن جدعان، لأجلِ إعراضِه، حيث سُئل النَّبي صلى الله عليه وسلم عنه كونِه في الجاهليَّة واصلًا للرَّحم، مُطعمًا للمسكين، فهل ذاك نافعه؟ فقال:«لا ينفُعه، إنَّه لم يَقُل يومًا: رَبِّ اغفر لي خطيئتي يومَ الدِّين»
(2)
، أي كان الفَرضُ أن يقولَ ذلك لِعِلمه بأنَّه الحقُّ.
أو ما وَرد في عذابِ عمرو بن لُحَيٍّ
(3)
:لأجلِ تَبديلِه لدينِ إبراهيم عليه السلام
(1)
«إكمال الإكمال» (1/ 618).
(2)
أخرجه مسلم في (ك: الإيمان، باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل، رقم: 365).
(3)
عمرو بن لحيِّ: بن حارثة بن عمرو ابن عامر الأزدي، مِن قحطان، وفي العلماء مَن يجزم بأنَّه مضريٌّ مِن عدنان: أوَّل من غيَّر دين إسماعيل، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان، بعد أن افتُتن بها في الشَّام، انظر «الأعلام» (5/ 84).
وتَوْثينِه، كما في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم فيه:«إنَّ أوَّل مَن سَيَّب السَّوائب، وعَبَدَ الأصنام: أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإنِّي رأيته يجرُّ أمعاءَه في النَّار»
(1)
.
بل بعض آياتِ القرآن نفسِها تُثبِت عِلْمَ كثيرٍ من العَرب بدعوةِ التَّوحيد، منها قوله تعالى مخاطبًا أصحابَ النَّبي صلى الله عليه وسلم مُستذكرًا حالَهم قبل البعثة:{وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: 103].
يقول ابن جرير في تفسير الآية: «وكنتم على طَرَف جهنَّم بكفرِكم الَّذي كنتم عليه، قبل أن يُنعِم الله عليكم بالإسلام، فتصِيروا بائتلافِكم عليه إخوانًا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلَّا أن تموتوا على ذلك مِن كفركِم، فتكونوا مِن الخالدين فيها»
(2)
.
وجه الشَّاهد مِنها: أنَّ هؤلاء المُخاطَبين بهذا المَنِّ الإلهيِّ مِن المُهاجرين وأنصارِ الأوس والخزرج، لو مَاتوا في جاهليَّتهم على ما كانوا عليه مِن عبادةِ الأوثانِ: لكانوا مُعَذَّبين غير مَعذورين، وهذا بنصِّ الآية، وفي هذا أبْيَنُ دلالةٍ على أنَّ حُجَّة التَّوحيد قد قامت في أنفسِهم قبل البِعثة النَّبويَّة.
لقد كان أهل يَثْرب مُختلِطين بأهلِ الكتابِ، يَتَسامعون أخبارَ كُتبِهم، ورسالاتِ أنبيائهم، وكان في العَرب مَن لازم التَّوحيد، مُحتجًّا به على أهلِها، كقِسِّ بنِ ساعدة الإيَادِي
(3)
، ووَرقة بن نوفل
(4)
، وزيد بن عمرو بن
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (رقم: 4258، 7696)، وأصله في البخاري (ك: تفسير القرآن، باب:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} رقم: 4623)، ومسلم في (ك: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، رقم: 2856).
(2)
«جامع البيان» للطبري (5/ 657).
(3)
قسُّ بن ساعدة: بن عمرو بن مالك بن إياد، أحد حكماء العَرب وكبار خطبائهم، كان أسقُف نجران. ويُقال: إنَّه أوَّل عربيٍّ خطب على سيف أو عصًا، وأوَّل من قال في كلامه:«أما بعد» ، أدركه النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، توفي سنة 23 قبل الهجرة، انظر «البداية والنهاية» لابن كثير (3/ 299)، و «الأعلام» للزركلي (5/ 196).
(4)
ورقة بن نوفل: بن أسد بن عبد العزى القرشي، اعتزل الأوثان قبل الإسلام، وامتنع من أكل ذبائحها، وتبِع شرعة المسيح عليه السلام، وقرأ كتب الأديان، وكان يكتب بالحرف العبراني، أدرك أوائل عصر النبوة، ولم يدرك الدَّعوة، وإليه أحالت خديجة بنت خويلد نبينا عليه السلام بُعيد نزول جبريل عليه في حراء في قصَّة بدء الوحي المشهورة، لم يلبث أن توفِّي بعدها بقليل جدا، انظر «تاريخ دمشق» (63/ 3)، و «الأعلام» للزركلي (8/ 114).
نُفيل
(1)
وهو يصدح في مَسامع قريش، مُسندًا ظهره إلى الكعبة قائلًا:«يا مَعاشر قريش، والله ما مِنكم على دين إبراهيم غيري .. »
(2)
،
ويحتجُّ عليهم بأنَّ «الشَّاة خَلَقها الله، وأنزل لها مِن السَّماء الماء، وأنبتَ لها مِن الأرض، ثمَّ تذبحونها على غير اسم الله؟!» إنكارًا لذلك وإعظامًا له
(3)
.
وقد مرَّ قولُ مَن جعلَ أهلَ الجاهليَّة مُآخَذين، وليسوا مِن أهل الفترة المَعذورين، منهم النَّوَوي؛ وأفرط القَرافيُّ في دعوى الإجماع عليه
(4)
!
ومَبنى قول هؤلاء كان مُؤسَّسًا على هذا الاعتبار: أنَّ العِبرة في المُؤاخذة بلوغُ النَّذارةِ نفسِها، وإن لم تكن على لسانِ النَّبي نفسِه
(5)
، والله يقول:{لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقالوا: إنَّما الآيات نَفَت إرسالَ نَذيرٍ يختصُّ بهؤلاء العَرب ويُشافِههم، وكون الزَّمانِ زمانَ فترةٍ، لا يمنع وجود بَقيَّةٍ مِن دعوةِ الرُّسلِ في بعضِ أنحاءِ الأرض.
والقسم الثَّاني: مَن فترتُهم مِن جِهةِ انقطاعِ نذاراتِ الرُّسل.
فهؤلاء فضلًا عن كونِهم لم يُدرِكوا نَبِيًّا، لم تبلغهم دعوة أيِّ منهم، أو بلغَت على وجهٍ من الشُّبهة واللَّبسِ يُحتَاج معه إلى مَزيد بيانٍ، فهؤلاء هم مَن
(1)
زيد بن عمرو بن نفيل: بن عبد العزى، القرشي العدوي: أحد حكماء قريش، وهو ابن عم عمر بن الخطاب، لم يدرك الإسلام، وكان يكره عبادة الأوثان، ولا يأكل مما ذبح عليها، رحل إلى الشام باحثا عن عبادات أهلها، فلم تستمله أديانهم، فعاد يلتمس دين إبراهيم عليه السلام، وجاهر بعداء الأوثان، توفي قبل البعثة النبوية بخمس سنين، انظر «تاريخ دمسق» (19/ 493).
(2)
أخرجه البخاري في (ك: المناقب، باب: باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، رقم: 3828) ..
(3)
أخرجه البخاري في (ك: المناقب، باب: باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، رقم: 3826).
(4)
«شرح تنقيح الفصول» (2/ 29)، وليس يُوافق القرافي على دعوى الإجماع هذه، وأعجب له كيف ينقل الإجماع بهذا وأصحابه الأشاعرة هم أول المخالفين فيه! وللقرافي غيرها من المسائل التي غلط في نقل الإجماع فيها، ذكر عددا من أمثلتها د. حمزة الفعر في مقدمة أطروحته الدكتوراه في تحقيق «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (1/ 162).
(5)
وإنْ كان في تعميمِ حكمهم هذا على جميعِ أهلِ الجاهليَّة نَظَر، كما أسلفنا الإشارة إليه.
يُعذَر بجهلهم في الدُّنيا، ويُمتحنون في عَرصات يوم القيامة، كما وَرَدت بذا سالف الأخبار.
يقول ابن القيِّم: «إنَّ العذاب يُستحَق بسَبَبين:
أحدهما: الإعراض عن الحجَّة، وعدم إرادة العلمِ بها وبمُوجبِها.
الثَّاني: العِناد لها بعد قيامها، وترك إرادةِ موجبها.
فالأوَّل: كفر إعراض، والثَّاني: كفر عناد.
وأمَّا كفر الجهل، مع عدم قيام الحُجَّة، وعدم التَّمكُّن مِن معرفتها: فهذا الَّذي نفى الله التَّعذيب عنه حتَّى تقوم حجَّة الرُّسل»
(1)
.
فبهذا التَّقسيم نتحقَّق بأنَّ الخوضَ في تَعْيِينِ أفرادٍ بكونِهم مِن مَعذوري أهلِ الفترةِ: هو مِن الغَيبِ الَّذي لا يَنبغي الإقدامُ عليه إلَّا بنصٍّ مُبينٍ، وهذا أوَّل مَزْلقٍ مَنهجيٍّ زَلَّ فيه مَن أثبتَ النَّجاةَ لأبِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، بصرفِ النَّظر عن مُصادمتِه للنَّقلِ النَّافي لدعواه!
وبه نعلم أيضًا: أنَّ أهل الفترة مِن العَرب ليسوا على وِزانٍ واحد، فإنَّ منهم مَن عذرُه قائم عند الله بجهلِه، ومنهم المُآخَذ على شركِه، لإبائِه بعد عِلمِه؛ وليس مِن غَرضِي هنا مُقارنةُ كلُّ فريقٍ من هذينِ بالآخر من حيث الكثرة والقِلَّة، ولا حجم كلٍّ منهما في جزيرةِ العَرب وقتَ البِعثة، بقَدْرِ ما يَنصبُّ اهتمامِي إلى تحديدِ تلك المَعالم المنهجيَّة في حكمِ كلٍّ فَريق منهما، وأصولِ الاستدلالِ على ذلك.
وبعد هذا التَّأصيل لحكم المسألةِ في عمومها، ندلفُ الآن إلى مَوضوعِنا الفَرعيِّ المُتعلِّق بحال والدِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: إذا تقرَّر ما سَبَق مِن تفصيل لأحكامِ أهلِ الفَترةِ؛ فإنَّ ما وَرَد في حَقِّ والِدِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم مِن نصٍّ نَبويٍّ لا يخلو مِن أحَدِ حالَين:
الأولى: أن يكون أبُ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد بَلَغَته النَّذارة والحُجَّة.
(1)
«طريق الهجرتين» (ص/414).
والثَّانية: أن لا تكون النَّذارة وحُجَّة التَّوحيدِ بَلَغته.
فإذا كانت الحالة الأولى: فإنَّ كُفرَه حينئذٍ يكون كفر إباءٍ وإعراض، حيث أبَى الانقيادَ للتَّوحيد في جملةِ مَن أبى مِن العَرب ممَّن بلَغَته دعوته، واستمرَّ على ما هو فيه مِن عبادةِ الأوثانِ، واستمرَأَ ما عليه قومُه، وهذا الإعراضُ والإباءُ كان مُتفَشِيًا في كثيرٍ من العَرَب.
فبناءً على تقديرِ هذا الاحتمال: تكون الحُجَّة قد قامت على والِدِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، والَّذي دلَّنا على بلوغِها إيَّاه هذا الحديث الصَّحيح في مسلمٍ، حيث قرَّرنا أنَّ دخوله لا يكون إلَّا بعد بلاغ الحجَّة، فلولا هذا الحديث لتَوقَّفنا في حاله.
وأمَّا إن كانت الحالة الثَّانية: فإنَّ الحديثَ يكون إخبارًا منه صلى الله عليه وسلم عن مآلِ أبيه بعد الامتحانِ يوم القيامة، وأنَّه لن يُجيب داعيَ الله وقتَها!
وفي تقريرِ هذا الجوابِ، يقول ابنُ كثير:«إخبارُه صلى الله عليه وسلم عن أَبَويه وجدِّه عبد المطَّلِب بأنَّهم مِن أهل النَّار، لا ينافي الحديثَ الوارد عنه مِن طُرق متعدِّدة: أنَّ أهل الفترة، والأطفال، والمجانين، والصُّم، يُمتحنون في العَرصات يوم القيامة، .. فيكون مِنهم مَن يجيب، ومنهم مَن لا يجيب، فيكون هؤلاء مِن جملة مَن لا يجيب، فلا منافاة ولله الحمد والمنَّة»
(1)
.
وأمَّا دعوى المُعترض الإِمَامِيِّ مِن أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يَزَل تُنقَل روحه مِن ساجد إلى ساجد، واحتجَّ بآيةِ:{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} ، فيكون أبو النَّبي مؤمنًا بظاهر هذه الآية، فجوابه:
أن لا وجه للاستدلال على إيمانِ كلِّ آباءِ النَّبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، ولا أحَدَ مِن المُعتَبرين المُتقدِّمين قال بهذا التَّأويل فيما اطَّلعتُ عليه مِن كُتبِ التَّفاسير المُتقدِّمة، إنَّما هو قولٌ مُبتدعٌ مُتأخِّر.
(1)
«البداية والنهاية» (3/ 429).
أقصى ما قِيل مُقاربًا لهذا المعنى المُدَّعى: ما رُوي عن عكرمة وعطاء، عن ابن عبَّاس في تفسيرِ هذه الآية، قال:«ما زالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يتقلَّب في أصلابِ الأنبياء، حتَّى أخرجه نَبيًّا»
(1)
، وواضحٌ أنَّ المُراد بالأنبياء هنا: آدم، ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل عليهم السلام، هؤلاء فقط، وليس كلُّ آبائه صلى الله عليه وسلم أنبياء؛ وهو مع هذا المُرادِ مَرجوحٌ أيضًا! ففي الآيةِ نفسِها قرينةٌ ترُدُّه، وهو ما بيَّنه الأمين الشَّنقيطيُّ بقولِه:
«اِعلم أنَّ قوله هنا: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} : قال فيه بعض أهل العلم: المعنى: وتقلُّبك في أصلابِ آبائك السَّاجدين، أي: المؤمنين بالله كآدم ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل؛ واستَدلَّ بعضهم لهذا القول فيمَن بعد إبراهيم عليه السلام مِن آبائه بقوله تعالى عن إبراهيم:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] ..
وفي الآية قرينة تدلُّ على عدم صحَّة هذا القول؛ أعني قوله تعالى قبله مقترنًا به: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، فإنَّه لم يقصد به أن يقوم في أصلابِ الآباء إجماعًا، وأوَّل الآية مرتبطٌ بآخرها، أي: الَّذي يراك حين تقوم إلى صلاتِك، وحين تقوم من فراشِك ومجلسِك، ويرى وتقلبك في السَّاجدين، أي: المصلِّين، على أظهر الأقوال؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم يتقلَّب في المُصلِّين قائمًا، وساجدًا وراكعًا .. »
(2)
.
هذا وجه من أوجِه تأويلِ هذه الآية الكريمة، وقد علِمت أنَّ المُراد بها الأنبياء خاصَّة، ومع ذلك فهو وجه مَرجوح
(3)
.
وأمَّا الوجه الثَّاني في معنى الآيةِ: وتَصرُّفك في ذهابِك ومَجيئِك في أصحابِك المؤمنين؛ وهذا قاله الحسن البصريُّ.
(1)
انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (9/ 2828، رقم: 16028 - 16029).
(2)
«أضواء البيان» (6/ 103).
(3)
فإذا كان هذا القول بأنَّ المعنى تقلُّبه في أصلاب الأنبياء ضعيفًا، وفي الآية نفسِها ما يستبعده، فإنَّ القول الآخر بكونِ المعنى تقلُّبَه في أصلاب آبائه وأنَّهم موحِّدون كلُّهم: لا شكَّ أنَّه أضعف وأبعد من الآخر عن مفهوم الآية بظاهرِ التِّلاوة، وأظهر في مُخالفتِه لسِياق الآيات ومَضمونها.
والوجه الثَّالث: تقلُّبك في صَلاتِك مِن خلفِك، كما تَرَى بعينِك مِن قُدَّامك، وهذا قول مجاهد.
والرَّابع: أنَّ معنى الآية: أنَّ الله يرى تقلُّبَك في الرُّكوعِ والسُّجودِ، والقيامِ مع المُصلِّين في الجماعة، فهو يَراكَ وحدَك، ويَراكَ في الجماعة
(1)
.
وهذا أوْجَهُ الوجوهِ في تأويلِ الآية، وهو الظَّاهرُ مِن مَعناها
(2)
، وعليه أكثر المفسِّرين مِن السَّلَف والخَلف
(3)
؛ والتَّعبير فيها عن المُصَلِّين بالسَّاجِدين لكونِ السُّجودَ حالةُ مَزيد قُربِ العَبدِ مِن ربِّه عز وجل، وهو أفضلُ الأركانِ على ما نَصَّ عليه جمعٌ مِن الأئِمَّة
(4)
(5)
.
والقصدُ: أنَّ الآية لا دَلالة فيها صَريحة على ما ادَّعاه المُعترض، وغَايةُ ما قد يفهمه منها ظنِّيٌّ على التَّسليمِ بصحَّتِه، لاحتمالِها عِدَّة أوجه مِن التَّأويل، والدَّليلُ إذا تَطرَّق إليه الاحتمال، سَقَط به الاستدلال!
وبعد: فإنِّي ما رأيت للمتقدِّمين في مسألة مَصيرِ أَبِ النَّبي صلى الله عليه وسلم كلامًا كالَّذي خاضَ فيه المتأخِّرون مِمَّن أثارها وخاض غَمراتها
(6)
، فتنازعوا فيها.
(1)
انظر الأقوال في «جامع البيان» للطبري (17/ 666)، و «زاد المسير» لابن الجوزي (3/ 350).
وزاد الماوردي على هذه الأربعةِ ثلاثةَ أوجهٍ أخرى في تأويل الآية، انظر كتابه «النُّكت والعيون» (4/ 189).
(2)
«جامع البيان» (17/ 699).
(3)
كما قرَّره البغوي في «معالم التنزيل» (6/ 134)، والقرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (13/ 144)، وانظر «جامع البيان» (17/ 699).
(4)
«روح المعاني» للآلوسي (10/ 134).
(5)
«التحرير والتنوير» لابن عاشور (19/ 204) بتصرف يسير.
(6)
مِن أمثال السُّيوطي.
فما وسِع الأوَّلين مِن السُّكوت وترك التَّنازع في مثل هذه المسائل هو الأسلَمُ لِمن كان حريصًا على دينِه، والسَّلامة في الوقوف عند النَّص الشَّرعي من غيرِ لَيٍّ للمَعنى أو طعنٍ في المبنى، اقتفاءَ هوىً في النَّفسِ يتوهَّم به نُصرةً للنَّبي صلى الله عليه وسلم في نَسَبه؛ وما أبعد ألأمر أن يكون كما اشتهى.
فأيُّ إذايةٍ له إذا ما نحن اتَّبعناه صلى الله عليه وسلم في قولِه؟! أَفَنكون أشفقَ منه على آبائه؟! وأيُّ نقصٍ يَلحقُ سيِّد الخلائق صلى الله عليه وسلم بكفرِ أبِيه؟! وهذا جَدُّه إبراهيم عليه السلام يَقصُّ الله علينا كُفرَ أبيه، وأبو إبراهيم عليه السلام أبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّسَبِ البعيد.
يقول البيهقي في مَعرض سَردِه لبعضِ الرِّواياتِ في شركِ بعضِ آباءِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: « .. وأمرُهم لا يَقدحُ في نَسَبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنَّ أنكحة الكُفَّار صحيحة، أَلَا تراهم يُسلِمون مع زوجاتِهم، فلا يلزمهم تجديد العَقد، ولا مُفارقتهنَّ إذا كان مثله يجوز في الإسلام»
(1)
.
ولولا أنَّ المَقام هنا عِلميٌّ بَحت يَستدعي تحقيقَ القولِ في ما نُسِب إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن حُكمٍ قَوليٍّ، ودفعَ شُبَه المُبطلين عن منهجِ شيوخِ الإسلامِ في النَّقد، لمَا أجَزتُ لنفسي الكلامَ في مثل هذه المسألة أصالةً، وربِّي أعلمُ بحالِ قلبي وأنا أقرِّر في هذا المَبحث ما قرَّره الحديث، ولَودِدتُ لو وَجدتُ أنا أيضًا فُرجةً عِلميَّةً مُعتبرةً أتنصَّل مِن خلالِها مِن دلالةِ حديثِه، حُبًّا في ما يحبُّه النَّبي صلى الله عليه وسلم وتَقرُّ به عينُه، ولكنَّها الأمانة العلميَّة، والتَّجرُّد البَحثي، ولزومِ الغَرز النَّبويِّ.
وأنا في هذا كلِّه، عالمٌ بأنَّ التَّعظيمَ الحقيقيَّ لمحمَّدٍ -بأبي هو وأمِّي- هو في متابعة طريقتِه صلى الله عليه وسلم، والاهتداءِ بهَديِه، وتجنُّبِ نَهيِه، وإيثارِ سُنَّتِه على كلِّ أهواءِ الخَلْق، فمحبَّتُه أعظمُ مِن كلِّ مَحبوب منها، ولَن أكون أحبَّ له من أولياءِ الله الصَّالحين مِن سَلَف هذه الأمَّة، وقد قبِلوا الحديثَ وخَضَعوا لحُكمِه.
والله يَغفر لي تقصيري في حَقِّه.
(1)
«دلائل النبوة» للبيهقي (1/ 192).