الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفع دعاوي المعارضاتِ الفكريَّةِ المعاصرةِ
عن حديثِ «نحن أحقُّ بالشَّك مِن إبراهيم»
أمَّا الجواب عن المعارضة الأولى: في دعوى المعترضِ وقوعَ الشَّكِ من إبراهيم عليه السلام وإثباته لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم بالأولويَّة في قدرةِ الله في الحديثِ:
فإنَّ ما يُقرِّره هذا الحديث خلاف هذا التَّوهم بالكُليَّة! فإنَّ المُراد من هذا الخَبَر أصالةً نفيُ الشَّك عن إبراهيم عليه السلام في القدرةِ الإلهيَّة على الإحياءِ؛ وبيانُ ذلك:
في أنَّ طلبَ الخليل عليه السلام رؤيةَ كيفيةِ الإحياء بعَيْنيه هو مِن قبيل الاستزادةِ مِن العلمِ، والرَّغبة في استكناهِ الحقائقِ، والتَّشوفِ إلى الوقوفِ على أسرارِ الخليقةِ ممَّا فَطر الله عليه الإنسان، طَمعًا منه للرُّقي مِن علمِ اليقين، إلى عينِ اليقين، فهو طلبٌ للطُّمأنينةِ فيما تَنزِع إليه نفسُه الشَّريفة مِن معرفةِ خفايا أسرارِ الرُّبوبية، لا طلبًا في أصلِ عقدِ الإيمانِ بالبعثِ الَّذي عَرَفه بالوحيِ والبرهان، دون المشاهدةِ والعَيان
(1)
.
يقول ابن عطيَّة: «إذا تأمَّلتَ سؤالَه عليه السلام وسائرَ ألفاظِ الآية لم تُعطِ شكًّا، وذلك أن الاستفهامَ بـ (كيف)، إنَّما هو عن حالِ شيءٍ موجودٍ مُتقرَّر الوجود عند
(1)
انظر «تفسير المنار» (3/ 46).
السَّائل والمَسئول، نحو قولك: كيف علمُ زيد؟ وكيف نسجُ الثَّوب؟ ونحو هذا، ومتى قُلتَ: كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنَّما السُّؤال عن حالٍ من أحوالِه.
وقد تكون (كَيْفَ) خبرًا عن شيءٍ شأنُه أن يُستفهم عنه بـ (كَيْفَ)، نحو قولك: كيف شئتَ فكُن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدءُ الوحي.
و (كَيْفَ) في هذه الآية إنَّما هي استفهامٌ عن هيئةِ الإحياء، والإحياء مُتقرَّر، ولكنْ لماَّ وجدنا بعضَ المُنكِرين لوجودِ شيءٍ قد يُعَبِرُّ عن إنكارِه بالاستفهامِ عن حالَةٍ لذلك الشَّيء يَعلمُ أنَّها لا تَصِحُّ، فيلزَمُ مِن ذلك أنَّ الشَّيءَ في نفسِه لا يَصِحُّ، مثال ذلك: أن يقول مُدَّع: أنا أرفعُ هذا الجبل، فيقول له المكذِّب: أَرِني كيف ترفعُه! فهذه طريقةُ مَجازٍ في العبارة، ومعناها تسليم جَدَليٌّ، كأنَّه يقول: اِفرضْ أنَّك ترفعه، أرني كيف؟ فلمَّا كان في عبارة الخليل عليه السلام هذا الاشتراكُ المَجازيُّ، خَلَّص الله له ذلك، وحمله على أن يُبَيِّن الحقيقة، فقال له:{قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى} [البقرة: 260]، فكمَّل الأمر، وتخلَّصَ مِن كلِّ شكٍّ، ثمَّ علَّل عليه السلام سؤالَه بالطُّمأنينة»
(1)
.
فلمَّا كان الوَهم قد يَتلاعبُ ببعضِ الخواطرِ، فيطرِّقَ إلى إبراهيمَ عليه السلام شكًّا مِن هذه الآية، حتَّى قِيل أنَّها حينَ نَزَلَت قال بعضُ النَّاس:«شكَّ إبراهيم ولم يشكَّ نبيُّنا» !
(2)
كان أنْ قَطَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم دابِرَ هذا الوَهمِ بقوله: «نحن أحقُّ بالشَّكِ مِن إبراهيم» ، وهذا صادرٌ مِن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم على الفَرْضِ الذِّهني، والتَّقدير الشَّرْطي، فكأنَّه قال: لو شَكَّ إبراهيم في إحياءِ الموتى، لكُنَّا نحن أحقَّ بالشكِّ منه، ولم نشُكَّ نحن، فهو إذْن أَوْلى وأحقُّ بألَّا يشُكَّ
(3)
.
(1)
«المحرَّر الوجيز» (1/ 353).
(2)
انظر «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (ص/159)، و «شرح صحيح البخاري» لابن بطَّال (9/ 525).
(3)
إلى هذا المعنى ذهب جمهور أهل العلم، انظر إضافةً إلى مَن مضى: الطَّحاوي في «شرح مشكل الآثار» (1/ 297)، والخطَّابي في «أعلام الحديث» (3/ 1545)، والقاضي عياض في «الشِّفا» (2/ 48)، والنووي في «شرح صحيح مسلم» (2/ 183)، وابن حجر في «فتح الباري» (6/ 412).
هذا هو البرهان المُسمَّى عند أئمة الأصولِ بـ «البرهانِ الشَّرطي المتَّصِل»
(1)
، وهو -كما ترى- تلازمٌ بين قضيَّتين في حكمهما مِن باب الأولويَّة.
وإن كان هذا لا يعني أنَّ إبراهيم عليه السلام أرسخُ في اليقينِ مِن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم! كما قد يُفهم غلطًا مِن صيغةِ التَّفضيل في «أحقُّ» ، فإنَّ صيغة (أفعلُ) قد تأتي في اللُّغة: لنَفْيِ مَعنًى عن شَيْئَين، لا تفضيلَ أحدهما على الآخر حقيقةً، نحو قولك: الشَّيطان خيرٌ مِن زَيدٍ، وأنت تعني فقط: لا خيرَ فيهما، ونحو قوله تعالى:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37]، أي: لا خيرَ في الفَرِيقين كليهما
(2)
.
فكأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أرادَ بهذه العَبارة: ما جَرَت به العادةُ في المخاطبةِ لمِن أرادَ أن يَدفعَ عن آخرَ شيئًا، فيقول: مهما أردتَ أن تقوله لفلانٍ مِن مَكروهٍ، فقُلْه ليَ، ويكون مَقصوده: لا تقُل ذلك أصلًا!
(3)
ومَحصول هذا الكلام -كما قال ابن حبَّان- أنَّه لفظةُ إخبارٍ، مُرادُها التَّعليم للمُخاطَب
(4)
.
ولا يخفى على سَليمِ الذَّائقةِ ما أُفعِمت به العِبارة النَّبويَّة مِن حِسِّ التَّواضعِ الجميل، والأدبِ الجليلِ، مع أبِ الأنبياءِ الخليل، عليهما أفضل الصَّلاة والتَّسليم.
وأمَّا الجواب عن دعوى المخالِفِ في المعارضةِ الثَّانية: أنَّ الحديثَ يُندِّدُ بلوطٍ عليه السلام إذ لم يلتجِئ في غفلةٍ منه إلى الله تعالى، فاستُغفر له لأجل ذلك، فيُقال فيه:
إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم عَنى بالحديثِ قولَ الله تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي
(1)
انظر «معيار العلم» للغزالي (ص/151)، و «تقريب الوصول» لابن جزي (ص/153)، و «المفهم» لأبي العبَّاس القرطبي (23/ 141).
(2)
نقله عن «الأمثال السَّائرة» للصَّاحب بن عبَّاد: زكريا الأنصاري في «منحة الباري» (6/ 455 - 456)، والجرجاوي في «شرح التَّصريح» (2/ 103).
(3)
ذكر هذا التأويلَ النَّووي في «شرحه على مسلم» (2/ 242) عن قوَّام السُّنة الأصبهاني.
(4)
«صحيح ابن حبَّان» (14/ 90).
إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، فأين في الآيةِ ما يَدلُّ صراحةً على أنَّ لوطًا عليه السلام قد نَسِي ربَّه، أو أنَّه سها عن الاستعانة به سبحانه في ذلك الموقف الحَريجِ
(1)
؟!
غاية ما في الآية أنَّ لوطًا عليه السلام تمنَّى لو كان ذا ذروةٍ من عشيرتِه ليَأوي إليها، لأنَّ «قومَه لم يكُن فيهم أحَدٌ يَجتمع معه في نَسَبِه، لأنَّهم مِن سَدوم
(2)
وهي مِن الشَّام، وكان أصلُ إبراهيم ولوط مِن العراق؛ فلمَّا هاجَر إبراهيم إلى الشَّام، هاجر معه لوط، فبعث الله لوطًا إلى أهل سَدوم، فقال: لو أنَّ لي مَنَعة وأقاربَ وعشيرة، لكنتُ أستنصرُ بهم عليكم، ليدفعوا عن ضِيفاني»
(3)
.
فهذا التَّمني نفسه منه عليه السلام لا حَرج فيه؛ إنَّما الَّذي أراده النَّبي صلى الله عليه وسلم رفع التَّثريبِ عن لوطٍ في قولِه ذاك، إذْ كان في نصرٍ مِن ملائكةِ ربِّه من غيرِ أن يشعُر بذلك؛ على الصَّحيح مِن أقوال أهل العلم.
(4)
.
وقد قرَّرَ ابن حزمٍ هذا المعنى أيضًا بأحسنِ تَقرير، في قولِه:
«إنَّ لوطًا عليه السلام إنَّما أراد مَنَعةً عاجلةً يمنع بها قومَه ممَّا هم عليه مِن الفواحش، مِن قرابةٍ أو عشيرةٍ أو أتباعٍ مؤمنين، وما جهِل قطُّ لوطٌ عليه السلام أنَّه يأوي
(1)
وإن قال بهذا المعنى بعض أهل العلم، كابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» (ص/160)، والقاضي عياض في «إكمال المعلم» (1/ 466)، وأبو محمد البغوي في «شرح السنة» (1/ 117)، وجوَّزه النووي في «شرح مسلم» (2/ 543)، ورَّجحه ابن حجر في «الفتح» (6/ 415)، وهؤلاء لا يعنون أن لوطًا كان يأوي إلى غير الله تعالى، ولكن الذي انتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتبره في النُّطق: أنَّه أحبَّ للوطٍ أن يأتي بنطقٍ لا يتناول هذا الاحتمال؛ لأنه كان يأوي إلى ركن شديد، وهو الله عز وجل، فليس للطَّاعنين في الحديث مستمسك ولو على هذا المعنى ولله الحمد.
(2)
سَدوم: هي سَرْمين، بلدة مِن أعمال حَلب، معروفة عامرة، ذكره الميداني في «مجمع الأمثال» (1/ 190)، وانظر «معجم البلدان» (3/ 200).
(3)
«فتح الباري» لابن حجر (6/ 415).
(4)
أخرجه بنحوه أبو حاتم في «التفسير» (6/ 2064)، وانظر «معالم التنزيل» للبغوي (4/ 192).
مِن ربِّه تعالى إلى أمنعِ قوَّةٍ وأشدِّ ركن، ولا جناح على لوط عليه السلام في طَلَب قوَّةٍ من النَّاس، فقد قال تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251].
فهذا الَّذي طَلَبه لوط عليه السلام؛ وقد طلَب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين مَنَعةً حتَّى يبلِّغ كلامَ ربِّه، فكيف ينكر على لوطٍ أمرًا هو فَعَله عليه السلام؟!
تالله ما أنكرَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما أخبرَ أنَّ لوطًا كان يأوي إلى ركنٍ شديدٍ، يعني: مِن نصرِ الله له بالملائكة، ولم يكن لوطٌ علِم بذلك، ومَن اعتقدَ أنَّ لوطًا كان يعتقد أنَّه ليس له مِن الله ركنٌ شديد فقد كفَر، إذ نسَب إلى نبيٍّ من الأنبياء هذا الكفر»
(1)
.
فتبيَّن أنَّ لوطًا عليه السلام لم يترُك التَّوكُّل على الله، وإنَّما تمنَّى بعدُ سببًا مِن الأسباب المشروعة، مع ما يجوز في جَهرِه بقولِه ذلك مِن إبداءِ العُذرِ لأَضيافِه
(2)
؛ فلمَّا كان ظاهر الكلامِ مِن ذكِره للسَّبب وحدِه قد يتَخايلُ منه السَّامع نسيانَه الالتجاءَ إلى الله تعالى، أرادَ النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع هذا التَّخايل بإثباتِ إيواءِ لوطٍ إلى هذا الرُّكن الحقِّ في توكُّله.
ومما يدلُّ على هذا المعنى: روايةٌ للحديث أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول فيها النَّبي صلى الله عليه وسلم:«قال لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، قال: قد كان يَأْوي إلى رُكنٍ شديدٍ، ولكنَّه عَنَى عَشيرَتَه، فما بَعَثَ الله عز وجل بعدَه نَبِيًّا إلَّا بَعَثه في ذروةِ قومِه»
(3)
.
يقول ابنُ بطَّال: «لا يُخرِج هذا لوطًا عليه السلام مِن صفاتِ المتوكِّلين على الله، الواثقين بتأييده ونصرِه، لكنَّ لوطًا عليه السلام أثارَ منه الغضبُ في ذاتِ الله ما يثير مِن
(1)
«الفِصل في المِلل والأهواء والنِّحل» (4/ 7).
(2)
انظر «شرح النووي على مسلم» (2/ 185).
(3)
أخرجه أحمد في «المسند» (16/ 524، رقم: 10902) بإسناد حسن من أجل محمَّد بن عمرو بن علقمة اللَّيثي، وكذا فيه أبو عمر الضَّرير حَسن الحديث، روى له أبو داود، ومتابعه هنا أميَّة بن خالد، ثقة مِن رجال مسلم.
البَشر، فكان ظاهرُ قولِ لوطٍ عليه السلام كأنَّه خارجٌ عن التَّوكل، وإن كان مقصدُه مقصدَ المتوكِّلين، فنبَّه النَّبي صلى الله عليه وسلم على ظاهرِ قولِ لوطٍ تنبيهه على ظاهرِ قولِ إبراهيم عليه السلام، أن كان مقصده غير الشَّك، لأنَّهم كانوا صفوةَ الله المخصوصين بغاية الكرامة»
(1)
.
ثمَّ عبَّر الأُبِيُّ عن هذا المعنى بعبارةٍ أحسنَ، وزاد عليها بأن قال: «السِّياق إنَّما يدلُّ على أنَّ المقصود إظهار كمالِ هؤلاء السَّادة، ورزانة عقولهم؛ فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: لقد كان يأوي إلى رُكنٍ شديد: أنَّ لوطًا عليه السلام كان مطمئنَّ القلبِ بالاستنادِ إلى الله تعالى، غير ملتفتٍ عنه أصلًا، وإنَّما قال ما قال بلسانِه إظهارًا للعذر عند أضيافِه.
وقد وكَّد النَّبي صلى الله عليه وسلم ثبوتَ لجْأِ لوطٍ إلى الله تعالى باللَّام المُؤذنة بالقَسم، وبـ (قد) المؤذنة بالتَّحقيق، وعبَّر بالمضارع وهو (يأوي): للتَّنبيه على استقرار ذلك منه، وعدم مفارقته إيَّاه.
فالكلام مَسوقٌ لدفع توهُّم إيواء لوطٍ عليه السلام لغير الله تعالى، كما أنَّ قوله قبله: نحن أحقُّ بالشَّك من إبراهيم: مَسوقٌ لتنزيه ساحة إبراهيم عليه السلام من الشُّكوك، وأنَّ ما صدر منه من سؤاله تعالى فالمقصود به شيءٌ آخر» ا. هـ
(2)
فأمَّا دعاؤه صلى الله عليه وسلم للوطٍ عليه السلام بالرَّحمة:
فلا يلزم من الدُّعاءِ بالرَّحمةِ وقوع المُترحَّم عليه في مَزلَّة، لأنَّ الدُّعاء بذلك يتأتَّى على سبيلِ التَّمدُّح أيضًا، وقد جَرَى مثله في كلامِ النَّبي صلى الله عليه وسلم حين اتُّهِم بقسمةٍ للمغنمِ ضِيزَى، حيث قال:«يرحمُ الله موسى، قد أُوذي بأكثر مِن هذا فصَبر»
(3)
.
(1)
«شرح صحيح البخاري» لابن بطال (9/ 526).
(2)
«إكمال الإكمال» للأُبِّي (1/ 437).
(3)
أخرجه البخاري في (ك: فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، رقم: 3150)، ومسلم في (ك: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، رقم: 1062).
ولا يُخالف هذا ما جاء في الرِّواية الأخرى لهذا الحديث بلفظ: «يغفِرُ الله للُوطٍ .. »
(1)
-وعليها مُعوَّل مَن قال أنَّ لوطًا أَتَى بخلافِ الأوْلى
(2)
- فإنَّ هذه الرِّواية بالمغفرةِ له -مع كونِ رُواةِ التَّرحُّم أكثر مِن رُواتِها، فتكون أرجح- هي هنا بمعنَى: رفعِ المَلامة عنه عليه السلام، وهذا سائغٌ في عُرف العرب، أو تكون مجرَّد دعاءٍ مِن المتكلِّم لا مفهومَ له
(3)
.
وأمَّا جواب المخالفِ في المعارضة الثَّالثة: دعواه تفضيلَ الحديثِ ليوسف عليه السلام على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم في الصَّبر والحكمة:
فإنَّما أثنى النَّبي صلى الله عليه وسلم على يوسف عليه السلام بحُسنِ الصَّبرِ وقوَّة العَزم، وهذا منه صلى الله عليه وسلم غايةٌ في الأدبِ، وإحسان في إظهارِ منزلةِ يوسف عليه السلام في التَّثبت والصَّبر؛ وما أخبرَ به صلى الله عليه وسلم عن نفسِه هو منه على طريقِ التَّواضع لأخيه يوسف
(4)
، والتَّواضع لا يُصغِّر الأكبرَ ولا يضع الأرفعَ! ولا يُبطل لذي حقٍّ حقًّا! ولكنَّه يوجب لصاحبِه فضلًا، ويكسبه جَلالًا وقدرًا
(5)
.
وفي ما قاله النَّبي صلى الله عليه وسلم في حقِّ يوسف عليه السلام إشعارٌ بأنَّه قد خُصَّ في تلك النَّازلة تحديدًا بمزيَّةِ صَبرٍ، ومَزيَّةِ جزالةٍ، ومَرتبةِ تثبيتٍ
(6)
، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه لو كان امتُحِن هو بهذا أو غيره مِن طولِ السِّجن، لكان الطَّبيعيُّ والأحبُّ إليه أن يَتَخلَّص مِن ذلك لأوَّلِ داعٍ، للنَّجاةِ مِن عذابِه وحبسِه، ولكان منه هذا أَخذًا بالحزمِ في الأمرِ؛ مخافةَ حوادث تَطوي، وانشغالِ الملِك بضرورةٍ، فينساه كما نسيَه مِن قبلُ ويشتغل عنه، فيبقى في سجنِه كما كان حاله معه!
(7)
(1)
أخرجه البخاري في (ك: أحاديث الأنبياء، باب: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}، رقم: 3375)، ومسلم في (ك: الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، رقم: 153).
(2)
انظر «المُفهم» للقرطبي (23/ 142)، و «الكوثر الجاري» للكوراني (6/ 270).
(3)
انظر مثالًا لكِلا التَّأويليَن في «فتح الباري» لابن حجر (7/ 39).
(4)
انظر «إكمال المعلم» (7/ 343).
(5)
«أعلام الحديث» للخطَّابي (3/ 1547).
(6)
«عارضة الأحوذي» (1/ 358).
(7)
«إكمال المعلم» (7/ 343).
فإن قيل: إذا كان النَّبي صلى الله عليه وسلم ذَكر هذا الكلام على جِهة المدحِ ليوسف، فما باله هو صلى الله عليه وسلم يذهب بنفسِه عن حالةٍ قد مَدَح بها غيره؟
(1)
قُلنا: هذه شُبهة قد كفانا ابن عطيَّةٍ كشفها بأحسن ما يكون الكشفُ والبيان، فقال: «الوجهُ في ذلك: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما أخَذ لنفسِه وجهًا آخرَ مِن الرَّأي له جهةٌ أيضًا مِن الجودة، أي: لو كنتُ أنا لبادرتُ بالخروجِ، ثمَّ حاولتُ بيانَ عذري بعد ذلك، وذلك أنَّ هذه القَصص والنَّوازل إنَّما هي مُعرضة ليقتدي النَّاس بها يوم القيامة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حملَ النَّاس على الأحزمِ مِن الأمور.
وذلك أنَّ المتعمِّق في مثل هذه النَّازلة، التَّاركُ فرصةَ الخروجِ من مثل ذلك السِّجن، ربمَّا تنتج له مِن ذلك البقاءُ في سجِنه، وانصرفت نفسُ مخرجِه عنه، وإن كان يوسف عليه السلام أَمِن مِن ذلك بعلمِه مِن الله، فغيره مِن النَّاس لا يأمن ذلك، فالحالة الَّتي ذَهب النَّبي صلى الله عليه وسلم بنفسِه إليها حالةُ حزمٍ ومدحٍ، وما فَعَله يوسف عليه السلام صبرٌ عظيمٌ وجَلَد»
(2)
.
فإن قيل أيضًا: إذا تقرَّر أنَّ الحديث سيقَ بيانًا لفضلِ هؤلاء الأنبياءِ، والدَّفع عنهم ما قد يُتوَّهم فيهم مِن الباطِل، فما وجهُ تناسب هذا المدحِ منه صلى الله عليه وسلم ليوسف مع هذا المقصد الكليِّ للحديث؟
والجواب: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم مدَحَه على الأناةِ والتَّصبُّر على وجهِ الخصوص، «وكان في طيِّ هذه المدحةِ بالأناةِ والتثبُّت: تنزيهُه وتبرئتُه ممَّا لعلَّه يسبِق إلى الوهم مِن أنَّه هَمَّ بزُلِيخا -امرأةِ العزيزِ- هَمًّا يُؤاخَذ به، لأنَّه إذا صَبر وتثبَّت فيما له أن لا يصبِرَ فيه -وهو الخروج مِن السِّجن- مع أنَّ الدَّواعي متوافرةٌ على الخروج منه، فلَأن يصبِرَ فيما عليه أن يصبِر فيه مِن الهمِّ أَوْلى وأجدر! والله أعلم»
(3)
.
(1)
قاله الموسوي في كتابه «أبو هريرة» (ص/98 - 99)، وتبعه السُّبحاني في «الحديث النبوي بين الدراية والرواية» (ص/350).
(2)
«المحرَّر الوجيز» لابن عطية (3/ 252)، وأقرَّه القرطبي في «تفسيره» (9/ 207).
(3)
«الانتصاف فيما تضمَّنه الكشَّاف» لابن المنيِّر الإسكندري (2/ 477، حاشية الكشَّاف).