الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّاني
سَوْق دعاوى الُمعارضات الفكريَّة المعاصرة
لحديث «لم يكذب إبراهيم إلَّا ثلاث كذبات»
مِمَّا ساقه المُعترضون على هذا الخَبر مِن شُبهاتٍ لإبطاله مُرتكِزٌ في مُعَارضَتين أساسَتين:
المعارضة الأولى: أنَّ مِن صفاتِ الرَّسولِ أن يكون مَعصومًا مِن الكَذِب، وصدورُ الكذِب منه ولو مَرَّة مانعٌ مِن الوثوقِ بما يُخبِر به، وسَببٌ لتطرُّقِ التُّهمةِ إلى الشَّرائعِ كلِّها، فيُبطِل الاحتجاجَ بها.
كذا ادَّعى الفخر الرَّازي
(1)
، وفي فُلكِ شُبهته هذه سَبَح غيرُ واحدٍ مِن الكُتَّابِ المُعاصرين، لنقضِ ما تَضمَّنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا
(2)
.
المعارضة الثَّانية: أنَّ ما وَرَد من أمثلةٍ عن إبراهيم عليه السلام لا يدخلُ في حقيقةِ الكَذب، ولا يُطلَق الكذبُ على أَقوالِهِ تلك؛ فضلًا أن يُنسَبَ هذا القول إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث الذي يَقول إنَّها كذِبٌ لا يكون صحيحًا، لمخالفتِه اللُّغةَ والواقعَ.
وفي تقرير هذين الاعتراضين، يقول (أبو الأعلى المَوْدوديُّ):
«لسُوءِ الحظِّ، وَرَد في روايةٍ مِن الرِّواياتِ: أنَّ إبراهيم عليه السلام كَذَب في حياتِه ثلاثَ كذبات .. ففرقةٌ تغلو في عبوديَّة الرِّواية، إلى أن يعزَّ عليها صدقُ عِدَّة رُواةٍ من «الصَّحيحين» للبخاريِّ ومسلم، ولا تُبالي بأنْ تُثبتَ بذلك تهمةَ الكذبِ في حَقِّ نبيٍّ من الأنبياء، وفِرقةٌ تَهجُم على ذَخيرةِ السُّنَّة كلِّها، بسبِبِ هذه الرِّواية، وتقول برَفضِ جميعِ الأحاديث، لوجود مثلِ هذه الرِّوايات ..
وهذا الحديث الَّذي ذُكِرت فيه الكَذِبات الثَّلاث لإبراهيم عليه السلام، ليس محلَّ الاعتراض لأجلِ أنَّه يُثبت الكذبَ في حقِّ نبيٍّ من الأنبياء فحسب، بل هذه الأمور الثَّلاثة نفسُها أيضًا مَحلُّ النَّظرِ والدِّراسةِ، ولقد رأيتَ -حقيقةً- كذبةً من هذه الكذبات آنفًا
(1)
، ولا يُطلِق الكذبَ على قوله هذا [إلَّا] رجلٌ قليل العَقلِ والفهمِ في هذا السِّياق! فضلًا أن تتوقَّع -معاذَ الله- عدمَ فهم النَّبي صلى الله عليه وسلم إيَّاه!
وأمَّا قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} : فلا يثبُت كونُه كذِبًا، إلى أن لا يَثْبُت أنَّ إبراهيم عليه السلام كان صحيحًا مُعَافىً حينئذٍ حَقًّا! ولم يكُن يَشتكي بأدنى شيءٍ مِن المَرض، وهذا لم يُذكَر في القرآن، ولا في أيِّ روايةٍ مُعتبرةٍ، غير هذه الرِّواية الَّتي نحن بصدَدِ البحثِ فيها
(2)
.
وأمَّا قوله في زوجتِه سارَة «إنَّها أختي» : فهو بنفسِه أمرٌ مُهمَل، يحكم عليه الإنسان بمُجرَّد سماعِه أنَّه لا يكون الواقعُ أبَدًا»
(3)
.
ويفصِّل هذا (السُّبحاني) قائلًا: «لا دليلَ على أنَّه كَذَب في المَوارد الثَّلاثة المعروفة، .. وقوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، فليس بكذبٍ قطعًا، فإنَّ الصِّدقَ
(1)
يعني قولَ إبراهيم عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، فقد ذكر المودودي في «تفسيره» بأنه لم يُرد بذلك الكذب، بل قاله إقامة للحُجَّة عليهم.
(2)
نقل السُّبحانيُّ هذه الشُّبهة عينَها في كتابه «الحديث النبوي بين الدِّراية والرواية» (ص/536) دون عزوٍ إلى المودوديِّ.
(3)
«تفهيم القرآن» للمودودي (3/ 167 - 168) نقلًا عن «زوابع في وجه السُّنة» (ص/129 - 131).
والكذبَ مِن صفاتِ الكلام الصَّادر عن جَدٍّ، وأمَّا الكلام الصَّادر لغايةٍ أخرى، كالهزلِ والاستهزاء الحقِّ، فلا يُوصَف بالكذب.
وممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ إبراهيم تَكَلَّم بما تَكَلَّم، ونَسَب كسْرَ الأصنام إلى كبيرِهم، بُغيةَ الاستخفاف بعقول القَومِ، حتَّى يُهيِّئ الأرضيَّة اللَاّزمة لأنْ يقولوا له:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 65]، فتتهيَّأ عندئذٍ أرضيَّة مناسبة لإفحامِهم، وتفنيدِ مَزاعمهم بألوهيَّة تلك التَّماثيل .. فالكلام المُلقَى لتسكيتِ الخصمِ وإفحامِه لا يُوصَف بالكذب، إذا كان هناك قرينةٌ واضحةٌ على أنَّه لم يصدر لغايةِ الجدِّ ..
ونفترض أنَّه كذَبَ في هذه المَواضع الثَّلاثة، ولكنَّه ما كَذَب إلَاّ تقيَّةً وصيانةً لنفسِه عن تعرُّض العَدُوِّ الماكر، فقد امتثل واجبَه! فإنَّه إذا دافَع بهذه الكلماتِ عن دين الله، فقد امتثلَ المَعروف، فلِمَ لا تُقبَل شفاعَتَه؟! مع أنَّ مثل هذا الكذب أفضلُ مِن صدقٍ يَترتَّب عليه مَفسدة كبيرة»
(1)
.
(1)
«الحديث النبوي بين الدراية والرواية» (ص/536 - 537)، ونفسُ هذا الكلام بصياغةٍ مختلفة في «عفوًا صحيح البخاري» لعبد الأمير الغول (ص/355).