الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفع المُعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن حديث: «يَقطعُ الصَّلاةَ المرأةُ والحمار والكلب»
أمَّا دَعوى المُعترض إِهانةَ الحديثِ للمرأةِ إذ عدلها بالكلابِ والحَمير، فيُقال في جوابِه:
إذا كان اقترانُ الأشياء في النَّظم اللَّفظيِ
(1)
غير مُوجبٍ لاقترانِها في الحُكم عند عامَّةِ أهلِ الأصول
(2)
: فإنَّ الاقتران في ذاتِ الحُكمِ لا يوجب الاقترانَ في القَدْرِ والمَكانةِ مِن بابِ أَوْلى عند عامَّة العقلاء!
كما إذا قال فقيهٌ -مثلًا-: إنَّ تَغيِيبَ الرَّجُل حَشَفتَه في فرجِ امرأتِه أو أجنبيَّةٍ يوجب الغُسلَ؛ فلا يَفهم منه راشدُ العقلِ أنَّهم يُسَوُّون بين الزَّوجةِ والمَزنيِّ بها في القَدْر!
أمَّا دعوى (الغزاليِّ) رفضَ جمهرةِ الفقهاءِ لهذا الحديث، لمِعارضتِه أحاديثَ أخرى تُفيد أنَّ الصَّلاة لا يقطعها شيء، فالرَّد عليه: أن يُنبَّه إلى أنَّ الفقهاء إنَّما اختَلفوا في فقهِ الحديث، ولم يرفضوه كما ادَّعى!
(1)
دلالة الاقتران في اللَّفظ: أن يُجمع بين شيئين فأكثرَ في الأمر والنَّهي، ثمَّ يُبيَّن حكم أحدِهما دون الآخر، فيُستدلَّ بالاقتِران على ثبوت ذلك الحكم نفسِه للآخر، انظر «تشنيف المسامع» للزركشي (2/ 579).
(2)
«ميزان الأصول» للعَلاء السَّمرقندي (1/ 415).
وجمهورُ الفقهاء حين جَنحَ إلى كونِ الصَّلاة لا يقطعها شيءٌ مِن تلك الثَّلاثة ولا مِن غيرها
(1)
مُستَدلِّين لذلك بنصوصٍ أخرى هي أقوى دلالةً عندهم في هذا الباب: لم يَتوجَّهوا إلى حديثِ أبي ذرٍّ رضي الله عنه ونحوه بالرَّفضِ؛ فلولا أنَّهم على الإقرار بصحَّة هذه الرِّوايات في قطعِ الصَّلاة، مَا اختلفوا إزاءَها على مَسلكين:
قِسم رآها مَنسوخةً: ومِمَّن سَلَك هذا المَسلك في النَّسخِ: الطَّحاويُّ، وبعض الفقهاء
(2)
.
والنَّاسِخُ عندهم: حديث ابن عبَّاس في مرورِ الأَتانِ بين يَدَيْ الصَّف، وكان في حَجَّة الوَداع آخرَ عُمر النَّبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: فإذا نُسِخ منها الحمار، دَلَّ على نَسْخِ الباقي
(3)
.
ونَسَخه أيضًا حديث عائشة في اعتراضِها بين يَدَيْ صلاةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، «فإنَّا نَعلمُ أزواجَه -خصوصًا عائشة- ما حَكينَه عنه مِمَّا يَتكرَّر في كلِّ ليلةٍ هو النَّاسخ، لأنَّه لو حَدَث شيءٌ عَلِمنَ به»
(4)
.
وقد تُعُقِّب هذا المَسلك بما قاله النَّووي: « .. مِنهم مَن يدَّعي نسخَه بالحديثِ الآخر: «لا يقطعُ صلاة المرءِ شيءٌ، وادرءوا ما استَطَعتم» ؛ وهذا غير مَرضيٍّ، لأنَّ النَّسخَ لا يُصَار إليه إلَّا إذا تَعَذَّر الجمع بين الأحاديث وتأويلُها، وعَلِمنا التَّاريخ، وليس هنا تاريخ، ولا تَعذَّر الجمع والتَّأويل، بل يُتَأوَّل على ما ذَكرناه، مع أنَّ حديث:«لا يَقطع صلاةَ المرءِ شيءٌ .. » ضَعيف»
(5)
.
قلتُ: وهو كما قال، فإنَّ حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا «لا يَقطع الصَّلاة شيءٌ» مِن روايةِ مُجالد بن سعيد، قد ضعَّفه الجمهور وَرَمَوه بالاختلاطِ بأخرة،
(1)
رُوي ذلك عن عثمان، وعلى، وحذيفة، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، ومن التَّابعين جماعات، وهو قول مالك بن أنس، والثَّورى، وأبى حنيفة، والشَّافعى، وأبى ثور، وداود، والطَّبري، انظر «مَعالم السُّنن» (1/ 189)، و «الاستذكار» (2/ 141).
(2)
انظر «شرح معاني الآثار» للطحاوي (1/ 459)، و «التمهيد» لابن عبد البر (21/ 168).
(3)
انظر «فتح الباري» لابن رجب (4/ 131).
(4)
«طرح التثريب» للعراقي (2/ 390).
(5)
انظر «شرح النووي على مسلم» (4/ 227)، و «فتح الباري» لابن حجر (1/ 589).
وهذا مِن روايةِ حمَّاد بن أسامة عنه، وهو مِمَّن سَمِع منه بعد الاختلاط
(1)
، ولذا قال العُقيليُّ في مثل روايتِه هذه:«فيها لِين وضَعف»
(2)
.
وأمَّا ما نَقَله (محمَّد الغَزاليُّ) عن أحمد شاكر مِن استدلالٍ على نسخِ أحاديثِ القطعِ: بحديث صخر بن عبد الله بن حرملة، حين سمع عمر بن عبد العزيز يقول عن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى بالنَّاس، فمرَّ بين أيديهم حمار، فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله! .. وأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال آخرَه: «لا يقطعُ الصَّلاة شيء» :
فهذا الحديث لم يُصِب شاكرٌ في تصحيحِه! حيث انفردَ به صخر بن عبد الله المدلجي، لم يَروِ عنه إلَّا بكر بن مُضر، ولم يُوثَّق بتوثيقٍ مُعتَبر
(3)
، فمثلُه لا يُحتجُّ به إذا انفرد، فناسبَ أن يقول ابن حجرٍ فيه:«مَقبول»
(4)
: أي حيث تُوبِع، ولم يُتابع هو على روايتِه هذه.
فضلًا عن أنَّ حديثَ هذا الرَّاوي مضطَرِبٌ في إسنادِه، وقد صَوَّب الدَّارقطنيُّ
(5)
والإشبِيليُّ
(6)
إرسالَه عن عمر بن عبد العزيز.
ومُحصَّل القول في هذه الأخبار النَّافية لقطعِ الصَّلاة، قولُ ابن عبد الهادي:«إنَّها كلَّها ضِعاف»
(7)
، وقول ابن رجب بعده:«لا يثبتُ منها شيءٌ»
(8)
.
أمَّا القسم الثَّاني من العلماء -وهم الأغلَب-: فقد سَلكوا في أحاديث القطعِ مَسلكَ التَّأويل، مُستَنِدين إلى أنَّ «الأحاديثَ إذا تعارَضت، ووُجِدَ في
(1)
«طرح التَّثريب» (2/ 389).
(2)
«الضُّعفاء» للعقيلي (2/ 75).
(3)
لم يذكره إلَّا ابن حبَّان في كتابه «الثقات» (6/ 743).
(4)
«التقريب» (رقم: 2907).
(5)
«العِلل» له (12/ 116).
(6)
«الأحكام الوسطى» لعبد الحق الإشبيلي (1/ 348).
(7)
«تنقيح التَّحقيق» لابن عبد الهادي (2/ 319).
(8)
«فتح الباري» لابن رجب (4/ 114).
معاني بعضِها تَضادٌّ، فالسَّبيل أن تُأوَّلَ على وجه التَّوفيق بينها، ونفيِ التَّضاد والاختلاف عنها»
(1)
.
وقالوا: القطعُ في حديث أبي ذرٍّ وأبي هريرة ليس المَقصد به إبطالَ الصَّلاة مِن أصلِها، حتَّى يكون فيها وجوب الإعادة؛ يؤيِّده: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لمَّا سَأله الرَّاوي عن الحكمةِ في الأسودِ من الكلاب، قال: لأنَّه شيطان، «وقد عُلِم أنَّ الشَّيطان لو مَرَّ بين يَدَي المُصلِّي لم تَفسُد صَلاتُه»
(2)
.
فهذا ابن عبَّاس رضي الله عنه -وهو أحدُ رُواةِ قطعِ الصَّلاة بالأمورِ الثَّلاثة
(3)
- لم يحمِله على ظاهرِه مِن بُطلانِ الصَّلاةِ، ولكنْ على الكراهِية، فقد قيل له:«أيَقطَع الصَّلاةَ المرأةُ، والكلبُ، والحمارُ؟ قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، فما يقطعُ هذا؟! ولكن يُكْرَه»
(4)
.
فلأجل أصالة هذا المَسلك من التَّأويل وأَوْلَوِيَّتِه في الجمعِ بين النُّصوصِ، قال الجمهور: إنَّ في حديث عائشة وابن عبَّاس المُتَقَدِّمين نفيَ القطعِ الَّذي هو بمعنى إفسادِ الصَّلاة، والمنع مِن التَّمادي فيها، أمَّا حديث أبي ذرٍ وأبي هريرة: ففيهما إثباتٌ للقطعِ على معنى آخر غير إفسادِ الصَّلاة
(5)
.
واختلفت مآخذهم على أيِّ معنى يُحمَل هذا القطعِ:
فمنهم مَن حَمله على معنى المبالغةِ في الخوفِ على فسادِها بالشُّغلِ بتلك الأمور الثَّلاثة: كما تقول للمادِح: «قطعتَ عُنقَ أخيك» ، أي:«فعلتَ به فِعلًا يُخاف عليه هلاكُه منه، كمَن قَطع عُنقَه»
(6)
.
(1)
«المُيسَّر في شرح مصابيح السُّنة» للتوربشتي (1/ 228).
(2)
«فتح الباري» لابن حجر (1/ 589).
(3)
أخرجه أبو داود (ك: الصلاة، باب: ما يقطع الصلاة، رقم: 703)، وابن ماجه (ك: غقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما يقطع الصلاة، رقم: 949)، وصحَّحه النووي في «المجموع» (3/ 250).
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (ك: صلاة التطوع، باب: لا تقطع المرأة الصلاة، رقم: 8760)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 459)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (ك: الصلاة، باب: الدليل على أن مرور الكلب وغيره بين يديه لا يفسد الصلاة، رقم: 3514).
(5)
انظر «المنتقى» للباجي (1/ 277).
(6)
«إكمال المعلم» للقاضي عياض (2/ 424).
فتأويل الحديث على هذا: أنَّ المرأةَ تَفتِن، والحمار يَنهق بأنكرِ الأصوات، مع لَجاجتِه وقِلَّة تأتِّيه عند دفعِه ومخالفتِه، والكلبُ يُروِّع فيُشوِّش الفكرَ في ذلك، مع نفورِ النَّفس منه، لاسيما الأَسْود، وكراهةِ لونِه، وخوفِ عادِيَتِه، حتَّى تنقطعَ عليه الصَّلاة بهذه الأمور وتَفسد، فلمَّا كانت هذه الأمور آيلةً إلى القطعِ، جعَلَها قاطعةً بهذا الاعتبار
(1)
.
ومنهم من حَمَله على معنى نقصِ الصَّلاة لا نقضها: وهذا مذهب الشَّافعيِّ
(2)
، ورجَّحه الخطَّابي
(3)
، والبيهقيُّ
(4)
وغيرهما
(5)
، وحكاه النَّووي قولَ الجمهورِ
(6)
.
ووَجه النَّقصِ عند بعضِهم فيها: أنَّ القلب ينشَغِلُ بهذه الأشياء عن الإقبالِ على صلاتِه، والبُعدِ عن الاشتغالِ عنها، وقطعِها المُصلِّي عن مُواطأةِ القلبِ واللِّسان في الذِّكر، فذلك معنى قطعِها للصلَّاة.
ومثل هذا التَّعبير بهذا المعنى في كلامِهم شائعٌ مُستفيض، «فيقول القائل إذا تَكلَّم بين يَديه مُتكلِّم وهو مُقبل على صلاتِه: قطعتَ عليَّ صلاتي، أي: شَغلتَ قلبي عنها»
(7)
.
وقد تُعُقَّبَ هذا التَّوجيه لمعنى النَّقصِ في القطع: بأنَّ المُصلِّي قد يكون أعمَى! وقد يكون ذلك ليلًا في ظلمةٍ! بحيث لا يَشعُر به الَمارُّ ولا مَن مَرَّ عليه! مع أنَّ الحديثَ يَعمُّ هذه الأحوال كلَّها؛ وأيضًا: قد يكون غيرُ هذه الثَّلاثة أكثرُ إشغالًا للمُصلِّي، كالوحوش والخَيل المُسوَّمَة! ولا يقطع الصَّلاة مرورُ شيءٍ من ذلك.
(1)
انظر «الإفصاح» لابن هبيرة (2/ 190)، و «طرح التَّثريب» للعراقي (2/ 391).
(2)
«معرفة السُّنن والآثار» للبيهقي (3/ 200).
(3)
«معالم السُّنن» (1/ 191).
(4)
«معرفة السُّنن والآثار» (3/ 200).
(5)
انظر «المنتقى» للباجي (1/ 277)، و «إكمال المعلم» للقاضي عياض (2/ 424)، و «المَسالك» لابن العربي (3/ 106)، و «الفتح» لابن حجر (1/ 589).
(6)
«شرح النَّووي على مسلم» (4/ 227).
(7)
«الميسَّر في شرح المصابيح» للتوربشتي (1/ 228).
ولذا كان الأقربَ عندي مِن هذا التَّوجيه للنَّقص، ما أحسنَ ابنُ رَجبٍ صَوْغَه في بيانِ العِلَّة الَّتي لأجلِها خُصَّت هذه الثَّلاثة بالاحترازِ منها، في قولِه:
«لمَّا كان المُصلِّي مُشتغلًا بمناجاةِ الله، وهو في غايةِ القُربِ منه، والخُلوةِ به، أَمَر المُصلِّي بالاحترازِ مِن دخولِ الشَّيطانِ في هذه الخُلوة الخاصَّة، والقُربِ الخاصِّ؛ ولذلك شُرِعَت السُّترة في الصَّلاة، خشيةً مِن دخول الشَّيطان، وكونه وَليجةً في هذه الحال، فيقطع بذلك مَوادَّ الأُنسِ والقربِ؛ فإنَّ الشَّيطان رَجيم مَطرود مُبعَد عن الحضرة الإلهيَّة، فإذا تَخلَّل في محَلِّ القُربِ الخاصِّ للمُصلِّي، أوجَبَ تَخلُّلُه بُعْدًا وقطعًا لموادِّ الرَّحمة والقُربِ والأُنس.
فلهذا المعنى -والله أعلم- خُصَّت هذه الثَّلاث بالاحتراز منها، وهي:
المرأة: فإنَّ النِّساءَ حَبائلُ الشَّيطان، وإذا خَرَجت المرأة مِن بيْتِها استشرفَها الشَّيطان ..
والكلب الأسود: شَيطان، كما نصَّ عليه الحديث.
وكذلك الحمار: ولهذا يُستعاذ بالله عند سماع صوتِه باللَّيل، لأنَّه يَرى الشَّيطان.
فلِهذا أَمَر صلى الله عليه وسلم بالدُّنوِّ مِن السُّترة، خشيةَ أن يقطع الشَّيطان عليه صلاتَه، وليس ذلك مُوجِبًا لإبطالِ الصَّلاة وإعادتِها -والله أعلم- وإنَّما هو: مُنقِصٌ لها، كما نصَّ عليه الصَّحابة، .. كما سبق ذكرُه في مرورِ الرَّجل بين يَدَي المُصلِّي، وقد أَمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بدفعِه وبمقاتلتِه، وقال:«إنَّما هو شيطان»
(1)
، وفي رواية:«إنَّ معه القرين»
(2)
، لكنَّ النَّقصَ الدَّاخلَ بمرورِ هذه الحيوانات -الَّتي هي بالشَّيطان أخصُّ- أكثرُ وأكثر؛ فهذا هو المُراد بالقطعِ، دون الإبطال والإلزام بالإعادة»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري في (ك: الصلاة، باب: يرد المصلي من مر بين يديه، رقم: 509)، ومسلم في (ك: الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي، رقم: 505).
(2)
أخرجه مسلم في (ك: الصلاة، باب منع المار بين يدي المصلي، رقم: 506).
(3)
«فتح الباري» لابن رجب (4/ 134).
وقريبٌ جدًّا مِن هذا التَّعليلِ النَّفيسِ لمعنى القطعِ: ما التَفت له بعضُ المتأخِّرين في شرحِ الحديث، حين أجرى القطعَ على حقيقتِه؛ لا بمعنى الفسادِ للصَّلاة، ولا بمعنى قطعِ الخشوع، ولكن بمعنى قَطعِ الوَصلةِ الَّتي بين المُصلِّي وربِّه حين يُناجي وهو بينه وبين القِبلة، والرَّحمة الَّتي تُواجهه كلُّها عبارةٌ عن تلك الوَصلة، فإذا مرَّ بين يَديَه تلك الأشياء الثَّلاثة، فقد قطعتْ تِلك الوَصلة حقيقةً.
وفي تقرير هذا المعنى اللَّطيف لقطعِ الصَّلاة في الحديث، يقول الكَشميريُّ:
«إنَّ المُصلِّي يُناجي ربَّه ويواجهه، كما أخرج أبو داود عن سهل رضي الله عنه في باب الدُّنو من السُّترة: «إذا صلَّى أحدُكم إلى سُترة، فليَدنُ منها، لا يقطع الشَّيطان عليه صلاته» ؛ فتِلك المناجاة والمواجهة قائمة بينه وبين القِبلة ما دام يُصلِّي، فإنَّ ربَّه بينه وبين القبلة.
ولذا حَكَم الشَّرع على المارِّ أنَّه شيطان، لأنَّه مرَّ بين العبد ومَولاه، فأراد أن يحصُرَ تلك المواجهة، لِئلَّا يضيق الطَّريق على المارِّين، .. فأَمَر المارَّ أن لا يمُرَّ بين يَدي سُترة، ولكن يمرُّ وراءها، وهدَّده وحذَّره ووعَده، فلو مَرَّ بعد هذه التَّمهيدات
(1)
أيضًا، لم يكُن إلَّا شيطانًا مقصودُه الحيلولة بينه وبين ربِّه، وقطعُ تلك الوَصلة الَّتي قامت في الصَّلاة، وهو عند أبي داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا قال:«مَن استطاع منكم أن لا يَحول بينه وبين قبلتِه أحدٌ فليفعلْ» .
وعلى هذا لا أتأوَّل في أحاديثِ القطع، وأحملُها على ظاهِرها.
وأقول: إنَّ المرأة والكلب والحمار كلُّها تقطع الصَّلاة، أي: تلك الوَصلة، وهذا كما إذا جَرى بينك وبين أحدٍ مُحادثة، فلو قَعد رجلٌ في الوَسط، تراه أنَّه قَطَع كلامَك ومحادثَتك، فهو أيضًا نوعٌ مِن القطعِ أيضًا بدون تأويل، ولا بُعد فيه، فإنَّ الشَّريعة قد تُخبر عن الغائباتِ بما تراه ولا نَراه، فأخبَرَت بإقامةِ
(1)
كذا في الأصل المطبوع، وتحتمل عندي أن تكون:«التَّهديدات» .
الوَصلة، وكذلك أخبرت بقطعِها عند المرور، فما لنا أن نُنكِرَه أو نؤوِّلَ فيه؟!» ا. هـ
(1)
.
قلتُ: ومَع كلِّ هذه التَّأويلات للحديث، فما ضَرَّ الحديثَ إن جَهلِنا نحن حِكمتَه!
فإنَّ تَعليلَ الأحكامِ الشَّرعيَّة يكون مَعلومًا لنا تارة، ومجهولًا لنا أخرى، وقد يكون مَعلومًا لكلِّ أحدٍ بأدنى نَظَر، وقد يكون مَعلومًا لأناسٍ دون غيرهم.
والعلماء سمَّوا ما لا تُعقَلُ عِلَّتُه بـ «الحكمِ التَّعبُّدي»
(2)
، وهو ما تَمحَّضَ للتَّعبُّد بامتِثالِه كما جاء، دون معرفةٍ لحقيقةِ معناه، وإن كان لا بُدَّ له مِن معنى في نفسِه، لاستحالةِ العَبث على الله تعالى، لكنَّه قد لا يُدرَك لدِقَّتِه
(3)
.
فلا ريبَ أنَّ حديث القطعِ هذا، سواء كان مَعلومَ العِلَّة أو تَعبُّديًّا، فإنَّا نَتلقَّاه على الرَّأس والعَين كما تلقَّته العلماء، وإن اختلفوا بين مُتأوِّلٍ له -وهم الجمهور- وقائلٍ بالنَّسخ.
أمَّا عَدى هؤلاءِ مِمَّن رَأى لفظَ القطعِ في الحديث على معنى إفساد الثَّلاثة المذكورة في أحاديث القطعِ للصَّلاة حقيقةً
(4)
، أو ببعضِها دون الآخر
(5)
، فقد أجابوا هم أيضًا عمَّا ظاهرُه المعارضة لذلك، وجمعوا بين النُّصوص في هذا الباب، أن منعوا تنزُّلَ حكمِ حديث أبي ذرٍ وأبي هريرة على حَدِيثي عائشة وابن عبَّاس، ما لا يتَّسِع له المقامُ لبسطِ أقوالِهم فيه.
(1)
«فيض الباري» (2/ 106).
(2)
انظر «شرح مختصر الرَّوضة» للطوفي (3/ 387 - 388)
(3)
انظر «حاشية العطَّار على شرح المحلِّي على جمع الجوامع» (2/ 244).
(4)
رُوي ذلك عن أنس بن مالك، وأبي الأحوص، والحسن البصري، كما في «مَعالم السُّنن» (1/ 189)، و «الاستذكار» (2/ 84)، ورواية عن أحمد كما في «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (5/ 339)، و «فتح الباري» لابن رجب (4/ 126)، وهو قول ابن حزم في «المحلى» (2/ 320)، وابن تيمية كما في «القواعد النورانية» (ص/32).
(5)
وهي الروايةٍ الأخرى عن أحمدَ في «مسائل الكوسَج» (2/ 641) قال: «ما أعلمُه يقطعُها إلَّا الكلب الأسود الَّذي لا أشكُّ فيه، وفي قلبي مِن الحمار والمرأة شيء» ، وهذا المَشهور مِن مذهب الحنابلة، كما في «المغني» لابن قدامة (2/ 183).
والشَّاهد من سَوقِي لأقوالِهم تلك:
أنَّ أحدًا منهم ما رَدَّ حديثًا بحديث! بل مُعتَصمُهم الجمعُ بين أحاديث هذا الباب، كلٌّ حَسَبَ ما أتاه الله من آلةِ فهمٍ وإدراك، والله يجزيهم عنَّا وعن الإسلام خير الجزاء.
فإن قال قائل: فقد أنكَرَت عائشة رضي الله عنها حديثَ القطع بالثَّلاثة بأن قالتِ غاضبةً: «قد شبَّهتُمونا بالحمير والكِلاب» !
قُلنا: الَّذي أنكرته عائشة: ما سمعته مِن فَتوىً بقطعِ المرأة للصَّلاة، ولم يُنقَل لها حديثٌ في هذا البابِ لتُنكِرَه أصلًا!
بيانُ ذلك: في ما جاء عن عروة بن الزُّبير، قال: قالت عائشة: ما يَقطعُ الصَّلاة؟ قال: فقُلنا المرأة والحمار، فقالت:«إنَّ المرأة لدابَّة سوء .. »
(1)
.
وعن الأسود، عن عائشة، (بَلَغها أنَّ ناسًا يقولون): إنَّ الصَّلاة يقطعها الكلب والحمار والمرأة، قالت: ألا أُراهم قد عَدَلونا بالكلاب والحمر .. »
(2)
.
وعن القاسم قال: بلَغ عائشة رضي الله عنها أنَّ (أبا هريرة رضي الله عنه يقول): إنَّ المرأة تقطع الصَّلاة، فقالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي فتقعُ رجلي بين يديه .. »
(3)
.
فكما يظهر مِن هذه الرِّوايات جَليًّا: أنَّ عائشة رضي الله عنها لم تُذكَر لها روايةٌ واحدة لحديثٍ مُسندٍ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم حتَّى ترُدَّه، إنَّما أجابت عمَّا سمعته مِن حكمِ بعض النَّاسِ بإفسادِ المرأة لصلاة الرَّجلِ، فشَنَّعت على قائلِ ذلك، ورَدَّت قوله بما فهِمته من فعلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم معها والمُقتضي لعدم قطعِها للصَّلاة، بِغضِّ النَّظر عن صحَّةِ فهمِها لِما رأته، فهي مجتهدةٌ تَدور في ذلك بين الأجر والأجرين، وقد «استَدلَّت بحديثِها هذا على أنَّ المرأة لا تقطع الصَّلاة، وأنكرت التَّسويةَ بين المرأةِ والحمارِ والكلبِ في ذلك، وهذا يُشعِر بمُوافقتِها على الحمارِ والكلبِ»
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم في (ك: الصلاة، باب: الاعتراض بين يدي المصلي، رقم: 512).
(2)
أخرجه أحمد في «المسند» (رقم: 24153)، وقال مخرِّجوه (40/ 184): إسناده صحيح.
(3)
أخرجه ابن عبد البر في «التَّمهيد» (21/ 166).
(4)
«فتح الباري» لابن رجب (4/ 112).
وختامًا أقول:
إنَّ الطَّعن في خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون إلَّا: بالطَّعنِ في دينِ الرَّاوي وعدالتِه، أو تَضعيفِه في ضبطِه وحفظِه؛ وهذان قد أعاذَ الله منهما حديثَ القطعِ هذا يَقينًا، لأنَّه من روايةِ أربعة من الصَّحابة: أبي ذرٍ الغفاريّ، وأبي هريرة، وابن عبَّاس -وقد مَرَّت روايَتهم-، ثمَّ أنس بن مالك
(1)
، وعن هؤلاء حمَل الحديث عشرات مِن الرُّواة الثِّقات.
فمِن أين سيأتي الخَلل في ضبطِ هذا الحديثِ، وقد اتَّفق على لفظِه كلُّ هؤلاء الجهابذة؟! وحسبك بهؤلاء الأربعةِ دينًا ووَرعًا وحفظًا.
(1)
أخرج حديثَه الحارث في «المسند ـ بغية الباحث» (رقم/163)، والبزَّار في «مسنده» (رقم: 7461)، وحسَّنه الضِّياء في «المختارة» (6/ 251)، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (12/ 370).