الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الأوَّل
المَسْلك الإسناديُّ لدعوى احتواءِ «الصَّحيحين» على إسرائيليَّات، ونقضُه
يَدَّعي من يجهل منهجَ المُحدِّثين في نقدِ الأخبار:
أنَّ بعضَ اليَهودِ لمَّا غُلِبوا وظهرَ أمرُ المسلمين عليهم، لم يجدوا بُدًّا مِن أن يَتظاهروا بالإسلام، ويخفوا كيدَهم به، ككعبِ الأحبارِ، ووَهبِ بنِ منبِّه، وعبد الله بنِ سلام رضي الله عنه، فخَدعوا النَّاسَ بما تظاهروا به.
فلمَّا رَأوا عناية المسلمين بالقرآنِ بالغةً، واستحالةَ الزِّيادة فيه أو النُّقصان، انصرفوا إلى السُّنةِ، «فافتروا ما شاؤوا أن يفتروا عليه أحاديث لم تَصدُر عنه صلى الله عليه وسلم، .. ويسَّر عليهم كيدَهم أنْ وَجَدوا الصَّحابةَ يَرجِعون إليهم في معرفةِ ما لا يَعلمون مِن أمورِ العَالمِ الماضية، مِن أجلِ ذلك كلِّه، أخذ أولئك الأحبارُ يَبثُّون في الدِّين الإسلاميِّ أكاذيبَ وتُرَّهات، يزعمون مرَّةً أنَّها مِن كتابِهم، أو مِن مَكنون علمِهم، ويَدَّعون أخرى أنَّها ممَّا سمِعوه مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وهي في الحقيقة مِن مُفترياتهم.
وأنَّى للصَّحابة أن يفطنوا لتميِيز الصِّدقِ مِن الكذبِ مِن أقوالهم؟ وهم مِن ناحيةٍ لا يعرفون العبرانيَّة الَّتي هي لغة كُتبهم، ومِن ناحية أخرى كانوا أقلَّ منهم
دهاءً وأضعف مَكرًا؟! وبذلك راجَت بينهم سوقُ هذه الأكاذيب، وتَلقَّى الصَّحابة ومِن تَبِعهم كلَّ ما يُلقيه هؤلاء الدُّهاة بغير نقدٍ أو تمحيصٍ»
(1)
.
كذا قال أبو ريَّة! وحاصِلُ شُبَهِه تَتركَّز في اثنتين:
الشُّبهة الأولى: دَسُّ مُسلِمة أهلِ الكتابِ الإسرائيليَّاتِ في الحديثِ عن مَكرٍ وخديعةٍ.
الشُّبهة الثَّانية: أنَّ بعضَ الصَّحابة ومَن بعدهم مِن الرُّواة خَلَطوا الإسرائيليَّات بالأحاديث.
نعالج كلَّ شبهةٍ منهما في مباحث مُستقلة، فنقول بتوفيق الله:
(1)
«أضواء على السنة المحمدية» لمحمود أبو رية (ص/118 - 120 ط 6).
الفرع الأوَّل
دفع دعوى دَسِّ مُسلِمة أهلِ الكتابِ الإسرائيليَّاتِ في الحديثِ
أمَّا دعوى المُعترضِ في شبهته الأولى، فجوابُها أن يُقال: أنَّه تزيِيفٌ منه مَشينٌ للتَّاريخ! وتَقوُّلٌ على الصَّحابة رضي الله عنهم ما لم يَفعلوه، وازدراءٌ لمكانتهم في الدِّين والعقل.
فإنَّ النَّاس حين دَخَلوا -بِشَتَّى أُمَمِهم واختلافِ مِلَلِهم- في دينِ الله أفواجًا، وكان كثيرٌ منهم مِن أهلِ الكتابِ، كنَصارى الشَّام، ويهودِ المدينةِ واليَمن؛ منهم مَن أدركَ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فحَسُن إسلامُه، وانخرَط في سِلكِ الصَّحابة رضي الله عنهم، منهم عبد الله بن سَلام، وتميمِ الدَّاري.
ومنهم مَن أدركَ الصَّحابةَ أو مَن دونهم: اشتغلوا بأخذِ علومِ الكتابِ والسُّنةِ عنهم، وأخَذَ بعضُ الصَّحابة عنهم تاريخَ الأوَّلين، وأخبارَهم ممَّا ورثوه مِن صحائِفِ أسلافِهم.
ولم يكُن إذَّاك إسلامُ هؤلاء ولا ما يُحدِّثون به مَثارَ رَيْبٍ وتَوَجُّسٍ عند مَن عاصَروهم مِن عمومِ المسلمين وعُلمائِهم، ولا عند مَن جاء بعدهم مِن أئمَّة العلمِ والدِّين، بل كانوا مُوَثَّقين في حديثِهم، عُدولًا في دينِهم، إلَّا مَن أبان منهم عن سُوءِ طَويَّته وجُرمِ فِعاله، كعبدِ الله بن سَبأ اليَهودي، لم يَلبثوا أن أمسكَ الصَّحابة مِن أقفائِهم يُحذِّرون النَّاس شرَّهم، ويشُرِّدون بقَمْعِهم مَن خلفَهم.
إلى أن جاءنا في هذه العقودِ النَّحِساتِ! مَن صارَ شُغله إثارةُ الشُّكوكِ في مُسلمةِ أهلِ الكتابِ مِن رُواة الحديثِ بخاصَّة، وزَرعِ بذورِ الشُّبَهِ في عقولِ النَّاشئةِ المُثقَّفة مِن المسلمين؛ فلقد اتَّهمَهم المُستشرقون بالكذبِ على ذقونِ العلماء! وتَبِعهم أذنابُهم مِن بعض كُتَّاب العصرِ، إذ حَمَّلوهم تُهمةَ الدَّسِ في الدِّين خُرافاتِ الأقدمين، وحَبك أكاذيب على سُنَّةِ الصَّادقِ الأمينِ.
وقد بَلغت القِحةُ ببعضهم مَبلغًا عظيمًا تجرَّؤوا بها على الطَّعنِ في اثنين مِن أهلِ الكتابِ مِمَّن أسلموا على يَدِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن سَلام رضي الله عنه، وتميم الدَّاري رضي الله عنه، فاتَّهمُوهما بالاحتيالِ على المُسلمين «بما أظهروه مِن كاذبِ الوَرعِ والتَّقوى .. وذلك بأن دَسُّوا إلى أصول الإسلام الَّتي قام عليها ما يريدون مِن أساطير وخرافاتٍ، وأوهامٍ وترَّهاتٍ، لكي تَهِي هذه الأصول وتضعُف»
(1)
.
فلَإن كان هذان الصَّحابيان قد احتالا على المُسلمين في دعوى إسلامِهما، لتَوهين الدِّين -زَعموا-، فهل انطَلَت حِيلَتُهما ونِفاقُهما على النَّبي صلى الله عليه وسلم طول تلك السِّنين؟ حتَّى أقرَّ بفضلِهما وتَصديقهِما بوَحيِ مِن رَبِّ العالمين؟! وانطلَى أمرُهم على الصَّحابةِ بعدَه أجمعين؟!
إنَّه -والله- لا يُسيء الظَّنَ بهذين «إلَّا جاهِلٌ أو مُكذِّب لله ورسولِه»
(2)
؛ فلا داعي للإطالةِ في الذَّبِ عنهما ذاك التَّشغيب، وقد ثبتت صُحبَتُهما واستقرَّ فضلُهما عند سائرِ المؤمنين.
ثمَّ لم تَنَل تلك التُّهَم العُضالُ أحدًا ممَّن أسلَم مِن أهلِ الكتاب مِن بعد هذين كما نالَتْ كعبَ الأحبار
(3)
. . . . . . . . . . . . . . . .
(1)
«أضواء على السنة المحمدية» لمحمود أبو رية (ص/118) بتصرف يسير، وانظر (ص/155) منه، وكذا «أضواء الصحيحين» لصادق النجمي (ص/227)، و «الحديث النبوي بين الرواية والدراية» لجعفر السبحاني الإمامي (ص/296).
(2)
«الأنوار الكاشفة» للمعلمي (ص/97).
(3)
هو أبو إسحاق كعب بن ماتع الحميري، المعروف بكعب الأحبار، وأصله من يهود اليمن، والمشهور أن إسلامه كان في خلافة عمر بن الخطاب، وبعد إسلامه انتقل إلى المدينة، ثم انتقل في خلافة عثمان إلى الشام فسكنها، إلى أن مات بحمص سنة (32 هـ)، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وعن عمر وصهيب وعائشة، وروى عنه معاوية، وابن عباس، وأبو هريرة، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم، انظر «تهذيب الكمال» (24/ 189).
ووهب بنَ مُنبِّه
(1)
؛ كونهما أشهرَ مَن حَدَّث منهم عن الأقدمين، وأكثرَ مَن سِيقت أقوالهم في كُتبِ التَّفسير والحديث، فشمَلهما ذلك الحكمُ الاستشراقيُّ الظَّالم، وطَفَق المَفتونون بهم يكيلونهما قناطيرَ اللَّعنِ، ويَرمونهما بسهامِ الطَّعنِ، يُلزقون بهما كلَّ ما استقبحوه مِن الحديث، أو استنكروه مِن المَرويَّات، وهم لا يَفتؤون يُمثِّلون بهما في مَعرضِ التَّحذير مِن كَيدِ الأعادي بالإسلام، والتَّباكي على ما دَسَّوه في الرِّواية من مَعايب وأوهام.
فتناوَلَ الكُتَّاب النَّاقمون على كُتب الأخبارِ هذا التَّابعيَ بكثيرٍ مِن الإسهاب والتَّفصيل، حتَّى عَدُّوه زنديقًا قد حَقَن الدِّين بإبَرِ الخرافةِ والتَّضليلِ! مُتلاعبًا في ذلك بالصَّحابةِ ثمَّ تابعيهم بإحسان، إلى أن منَّ الله عليهم باكتشاف كذبِه في هذه الأعصُر المتأخرة!
وقد كان (رشيد رضا) -للأسفِ- أطولَ هؤلاء الكُتَّاب المُعاصرين نَفسًا في الطَّعنِ بكعبِ الأحبار، قد أسالَ في ظُلمِه الكثيرَ مِن المِدادِ، سَواء في «تفسيرِه»
(2)
أو في مجلَّتِه «المنار»
(3)
، ولو جُمِع كلامُه فيه لوحده مَا وسِعَه سِفرٌ واحد!
فلذا انكَبَّ الطَّاعِنون في كعبٍ بعده يَستشهدون بكلامِه فيه والإشادةِ به، قد جعلوا ذلك مطيَّةً لرَميِ أهلِ الحديثِ بالغَفلةِ وتَبخيسِ كلامِهم في الرُّواةِ؛ كما تراه
(1)
وقد وُلد في الإسلام على الصَّحيح هو وأخوه همَّام، ولم يذكر أحد من المترجمين له أنَّه أسلم بعد أن كان يهوديًّا، انظر «الأنوار الكاشفة» للمعلمي (ص/97).
وهذا على خلاف ما توهَّمه ابن خلدون في «مقدمته» (ص/412) وابن النديم في «الفهرست» (1/ 24) من أنه كان من مسلمة أهل الكتاب، وتبعهما على هذا الخطأ ثلَّة من الكتاب المعاصرين، كأحمد أمين في «فجر الإسلام» (ص/158).
(2)
من الكتب الَّتي تناولت موقف (رشيد رضا) من كعب في «تفسيره» بالتحليل والمناقشة: «التفسير والمفسرون» لمحمد حسين الذهبي (ص/138 - 141)، و «موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث النبوي» لـ د. شفيق شقير (ص/166 - 184)، و «منهج المدرسة العقلية في التفسير» لـ د. فهد الرومي (ص/320 - 325).
(3)
«مجلة المنار» (27/ 694، 782).
-مثلًا- في قول (أبو ريَّة): «لم نَجِد في هذا العصرِ، بل في العصورِ الأخيرة، مَن فَطِنَ لدهاءِ كعب ووَهبٍ وكيدهِما، مثلَ الفقيه المحدِّث محمَّد رشيد رضا .. »
(1)
.
ومع أنَّ الاتِّهام الَّذي وُجِه إلى كعبٍ بالزَّندقةِ تُهمة خطيرة، مُعرَّضٌ صاحبُها للعذابِ الشَّديدِ -والعياذ بالله-، فقد كان أغلبُ مَن رَماه بذلك البُهتان مُجرَّدَ مُنساقٍ وراء ما سَاقَه (رشيد رضا) مِن شُبَهٍ يَراها دلائلَ على ثبوتِ دعاوي المُستشرقِين عليه، ولم يَزيدوا على ما ذَكر رشيدٌ غيرَ تقميشِ رواياتٍ مُعضَلةٍ لا خِطام لها ولا أزِمَّة.
وكان حاصلُ احتجاجِ (رشيد رضا) علي كَعبِ الأحبارِ راجعًا إلى دليلين:
أوَّلهما: أثرٌ لمعاوية بنِ أبي سفيان رضي الله عنه، فَهِمَ منه تكذيبَه لكعبٍ.
والثَّاني: أنَّ ما جاء به مِن الإسرائيليَّات لا توجد في نُسَخِ التَّوراة الَّتي بين أيْدِينا.
فأمَّا دليله الأوَّل: فيعني به ما أخرجه البخاريُّ في «صحيحه» ، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، أنَّه كان يُحَدِّث رهْطًا مِن قريشٍ بالمدينة، وذُكِر كعبُ الأحبار، فقال:«إنْ كان مِن أصدقِ هؤلاء المُحدِّثين الَّذين يُحدِّثون عن أهلِ الكتاب، وإنْ كُنَّا مع ذلك لنَبلُو عليه الكذِبَ»
(2)
.
يقول (رشيد رضا): «إنَّ قولَ معاوية .. طعنٌ صريحٌ في عدالتِه، وفي عدالةِ جمهورِ رُواةِ الإسرائيليَّات، إذ ثَبَت كذبُ مَن يُعَدُّ مِن أصدقِهم»
(3)
.
والجوابُ عليه في هذا الاستدلال أن يُقال: إنَّ فهمَه مِن كلامِ معاوية رضي الله عنه تكذيبًا للهجةِ كعبٍ، وطعنَه في عدالته، فهمٌ بعيدٌ عن مُرادِ قائِله! يظهر وَهاؤُه إذا عَلِمنا أنَّ أحدًا مِن العلماءِ المتُقدِّمين قبلَه لم يَفهم هذا مِن كلامِه، وكانوا أعلمَ مِن رَشيدٍ باللِّسانِ، ومَعاني الكلام، وأجمعَ منه لمِا يحتَفُّ بالقَضايا العِلميَّة المَبحوثِ فيها مِن قرائن وأدلَّة.
(1)
«أضواء على السنة المحمدية» (ص/137)، وانظر «أضواء على الصَّحيحين» (ص/227).
(2)
أخرجه البخاري (ك: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء»، برقم: 7361).
(3)
«مجلة المنار» (26/ 73).
ومُحصَّل تَوجيهِهم المُعتبَرِ لكلامِ معاوية رضي الله عنه: أنَّه كان يَقَع من كعبٍ الكذبُ مِن غيرِ قَصدٍ، والكذبُ في اللُّغة قد يأتي بمعنى الخَطأ
(1)
، لأنَّه يُشبهه في كونِه ضدَّ الصَّواب، كما أنَّ الكذب ضدُّ الصِّدق، وإنْ افترقا مِن حيث النِّية والقَّصد
(2)
.
يقول ابن حبَّان: «أرادَ معاوية أنَّه يُخطئ أحيانًا فيما يُخبر به، ولم يُرد أنَّه كان كَذَّابًا»
(3)
.
فلِأنَّ كعبًا كان يُحدِّث عن صُحفٍ فيها أشياءُ مكذوبةٌ -إذ لم يَكُن في مِلَّتِهم حُفَّاظ مُتقنون يَذبُّون عنها كما في الأمَّةِ المحمَّدية- «كان يَقع بعضُ ما يُخبرنا عنه بخلافِ ما يُخبرنا به، .. وهذا نحو قولِ ابنِ عبَّاس في كعبٍ المَذكور: بَدَّلَ مَن قَبله، فوَقَع في الكذبِ»
(4)
.
ويقول ابن الجوزيِّ في شرحِ عبارةِ معاوية: «يعني أنَّ الكذبَ فيما يُخبر به عن أهل الكتاب لا منه، فالأخبارُ الَّتي يحكيها عن القومِ يكون بعضها كذبًا، فأمَّا كعب الأحبار فمِن كبارِ الأخيار»
(5)
.
فهذه أعدَلُ التَّأويلاتِ لكلامِ معاويةِ رضي الله عنهم في حقِّ كعبِ الأحبار.
ومهما يكُن؛ فإنَّ جميعَ العلماءِ يَشرحونه بما يُبعِد هذه الوصمةَ الشَّنيعةَ عنه، ولا أحدَ مِن أئمَّة الجرح والتَّعديل فهِم مِن كلام معاوية ما فهِمه (رشيد رضا)، «والكلامُ مِن معاوية له وزنُه، فهو رجلٌ داهيةٌ، لا تخفى عليه الرِّجال ولا دَسائسهم، ومعاويةُ لا يخشى كعبًا، ولا يُعقَل أن يَتمَلَّقه، ولو يعلمُ فيه أكثرَ مِن ذلك لقالَه»
(6)
.
(1)
انظر «لسان العرب» (1/ 709)، و «تاج العروس» (4/ 129).
(2)
انظر «النهاية في غريب الحديث» لابن الأثير (4/ 159).
(3)
نقلها عنه ابن حجر في «الفتح» (13/ 334).
(4)
«فتح الباري» لابن حجر (13/ 334).
(5)
«كشف المشكل من حديث الصحيحين» لابن الجوزي (4/ 95).
(6)
«دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين» لمحمد أبو شهبة (ص/70).
في مُقابل ذلك، وجدنا بعض المُعاصرين مِن أهلِ السُّنةِ يقدمون على التَّدليلِ لهذا التَّوجيه لكلامِ معاوية ببعض الآثارِ الضَّعيفة يمدح فيها معاوية عِلمِ كعبٍ! إمعانًا في صرفِ تأويلِ رشيدٍ لكلامِ معاويةَ! وهذا ممَّا لا ينبغي الوقوع فيه
(1)
.
وأمَّا الاستدلال الثَّاني لرشيد رضا:
فدعواه بأنَّ ما جاء عن كعبٍ مِن الإسرائيليَّات لا يوجَد في نُسَخ التَّوراةِ الَّتي بين أيدينا، فيقول في ذلك: « .. مَن كان مُتقنًا للكذبِ في ذلك -أي عن أهلِ الكتابِ- يتَعذَّر أو يتَعسَّر العثور على كذبِه في ذلك العصرِ، إذْ لم تكُن كتبُ أهلِ الكتابِ مُنتشِرَةً في زمانِهم بين المسلمين كزمانِنا هذا، فإنَّ توراة اليهودِ بين الأيدي، ونحن نَرى فيما رواه كعب ووَهبٌ عنها ما لا وجود له فيها البتَّة على كثرتِه! وهي التَّوراة الَّتي كانت عندهم في عصرهما، فإنَّ ما وَقَع مِن التَّحريفِ والنُّقصانِ منها قد كان قبل الإسلام، وأمَّا بعده فجُلُّ ما وَقع من التَّحريف هو المَعنويُّ، بحملِ اللَّفظِ على غير ما وُضِع له، واختلاف التَّرجمة.
ولا يُعقَل أن تكون هذه القَصص الطَّويلة الَّتي نراها في التَّفسيرِ والتَّاريخِ مَرويَّةً عن التَّوراةِ، قد حُذفت منها بعد موتِ كعبٍ ووهبٍ وغيرهما مِن رُواتها، فهي مِن الأكاذيب الَّتي لم يَكُن يَتيسَّر للصَّحابة والتَّابعين ولرجالِ الجرح والتَّعديل الأوَّلين العثور عليها، وكذا علماءُ القرونِ الوسطى مِن المُحدِّثين وغيرهم، إلَّا مَن عُني عناية خاصَّة بالاطِّلاعِ على كُتبِ العهدِ العتيقِ والعهدِ الجديدِ عند أهلِ الكتابِ، وعلى التَّواريخ المُفصِّلة لأخبارهم، وقليلٌ ما هم»
(2)
.
(1)
كما تراه عند حمود التويجري في «الرد القويم على المجرم الأثيم» (ص/226)، ومحمد رمضاني في «آراء محمد رشيد رضا في قضايا السنة النبوية» (ص/358 - 359) وغيرهم عند إيرادهم لأثر عن معاوية يقول فيه:«ألا إنَّ كعب الأحبار أحد العلماء، إنْ كان عنده لعلم كالبحار، وإن كنَّا فيه لمفرِّطين» ، فهذا أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (2/ 358)، بإسناد منقطع.
(2)
«مجلة المنار» (26/ 73).
وإمعانًا منه في ترسيخ هذه التُّهمة، يقول:«روايةُ كعبٍ عن التَّوراة مِن وَصفِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، كذبٌ على التَّوراة أيضًا، وبمثلِها كان يخدعُ المسلمين» !
(1)
.
ثمَّ قرَّرَ أنَّ خفاءَ أمر كعبٍ على علماءِ الأمَّةِ ينبغي ألَّا يكون مانِعًا لأصحابِ الفكرِ المُستقلِّ في هذا العصرِ المتأخِّر، مِن الحكم عليه بما يظهر لهم ممَّا خَفِي على المُتقدِّمين، فيقول:« .. مِن هذا القبيل حكايةُ بعض الرُّواةِ -ككعبٍ ووهب- عن كُتب بني إسرائيل، لم يكُن يحيى بن معين وأحمد وأبو حاتم وابنه وأمثالهم يعرفون ما يَصحُّ من ذلك وما لا يصحُّ، لعدمِ اطِّلاعهم على تلك الكُتب، وعدم ظهورِ دليلٍ على كذب الرُّواة المُتقنين للكذبِ فيما يَعزونه إليها، فإذا ظَهَر لمن بعدَهم في العصرِ، أو فيما قبله، أو فيما بعده ما لم يظهر لهم مِن كذبِ اثنين أو أكثر مِن هؤلاء الرُّواة، فهل يُكابر حِسَّه ويُكذب نفسَه، ويُصدِّقهم بلسانِه كذبًا ونِفاقًا؟! أو يكتم الحقَّ عن المسلمين، لئلَّا يكون مخالفًا لمن قبله فيما ظَهَر له ولم يظهر لهم؟!»
(2)
.
والرَّد على هذا الاستدلال الثَّاني يتبيَّن من وجوه:
فأمَّا اتِّهامه لكعبٍ بالتَّقوُّل على التَّوراة، وأنَّ ما نَسَبه إليها إنَّما هو مِن كِيسه:
فأوَّلًا: لا بُدَّ أن يُعلَم أنْ ليسَ كلُّ ما يُنسَب لكعبٍ أو وهبِ بن منبِّه أو غيرهما مِن مُسلِمة أهلِ الكتابِ هو الثَّابت النَّقل عنهم، فإنَّ الوَضَّاعين استَغلُّوا شُهرتَهم، فكذَبوا عليهم لأغراضِهم، وكان الكذبُ عليهم أيسرَ مِن الكذبِ على النَّبي صلى الله عليه وسلم
(3)
.
وفي تقريرِ هذه الحقيقةِ الَّتي غَفَل عنها رشيد رضا، يقول حسين الذَّهبي: «أمَّا كعبُ الأحبار، فقد رُوي عنه ونُسِب إليه الكثير مِن الإسرائيليَّات، وبعضُ ما نُسب إليه حقٌّ واضح، وبعضه كذبٌ فاضح، الأمر الَّذي جعل بعضَ النُّقاد يعتقد
(1)
«مجلة المنار» (27/ 539).
(2)
«مجلة المنار» (27/ 610).
(3)
انظر «الأنوار الكاشفة» للمعلمي (ص/137)، و «الحديث والمحدثون» لمحمد أبو زهو (ص/191).
صحَّةَ روايته لكلِّ ما نُسِب إليه، فيكِيلُ له التُّهَم جزافًا، ولا يَرى كلَّ مرويَّاته الإسرائيليَّة إلَّا أكاذيب وأباطيل»
(1)
.
وثانيًا: لَإنْ ثَبَت عن كعبٍ وغيرِه تحديثُه بروايةٍ إسرائيليَّةٍ، فإنَّه ما كان يُحدِّث عن التَّوراة وحدَها حتَّى يُلزمَ باختراعِ الكلام! -كما يُفهم مِن كلام (رشيد رضا) - بل كان كعبٌ حَبرًا عالمًا بتراثِ اليهود، يُحدِّث مِن صُحفٍ أخرى وَرِثَها مِن أسلافِه الإسرائيليِّين؛ فإنَّ لفظَ (الكتاب)«يشمَلُ التَّوراة، والإنجيل، والصُّحف»
(2)
.
ولا شكَّ أنَّ كثيرًا من تلك الصُّحف قد ضاعَ فلم يَعُد لها أثر، بل مَن يجزم لنا أنَّ التَّوراة الَّتي بين أيدينا اليومَ لم يَطُلها شيءٌ مِن التَّحريف زيادةً على ما كانت عليه مِن تحريفٍ زمنَ الصَّحابة! خاصَّةً أنَّها غير مُتواترةٍ التَّواترَ «الَّذي يُشترَط فيه نقلُ الجمِّ الغفيرِ، الَّذين يُؤمَن تواطؤهم على التَّبديلِ والتَّغييرِ في كلِّ طبقةٍ مِن الطَّبقات»
(3)
، وهذا بإقرارِ (رشيد رضا) نفسِه.
(4)
.
ثمَّ إنَّ لفظَ التَّوراة نفسِه -كما فَصَّلَ ابن تيميَّة القولَ فيه وأحسنَ- «قد يُراد به جميع الكتب الَّتي نزَلت قبل الإنجيل؛ فيُقال: التَّوراة، والإنجيل، ويُراد بالتَّوراة: الكتاب الَّذي جاء به موسى عليه السلام وما بعده مِن نُبوَّة الأنبياء المتَّبِعين لكتابِ موسى، قد يُسَمَّى هذا كلُّه توراة؛ فإن التَّوراة تُفسِّر الشَّريعة؛ فكلُّ مَن دان بشريعةِ التَّوراةِ، قيل لنُبوَّتِه: إنَّها مِن التَّوراة.
(1)
«التفسير والمفسرون» (ص/74).
(2)
«عمدة القاري» للعيني (25/ 74).
(3)
«تفسير المنار» لرشيد رضا (6/ 234).
(4)
«الأنوار الكاشفة» للمعلمي (ص/99).
وكثيرٌ ممَّا يَعزوه كعبُ الأحبار ونحوُه إلى التَّوراةِ، هو من هذا الباب، لا يختَصُّ ذلك بالكتابِ المُنزَّل على موسى عليه السلام؛ كلفظِ الشَّريعةِ عند المسلمين: يَتَناول القرآن، والأحاديث النَّبوية، وما استُخرِج مِن ذلك»
(1)
.
وأمَّا عن مُخالفِتِه لأهلِ العلمِ بالجرحِ والتَّعديلِ في تزكيتِهم لكعبٍ، بدعواه عدمَ اطِّلاعِهم على التَّوراِة ومُقارنتها بما يُحدِّث به كعب:
فمُجازفة في القولِ، وغَفلةٌ من رشيدٍ عن أصلِ الإجماعِ الَّذي لا يجوز مخالفةُ حُكمِه باجتهادٍ شَخصيٍّ مُحتملٍ، فقد قال النَّووي عن كعبٍ:«واتَّفقوا على كثرة علمه وتوثيقِه»
(2)
.
ثمَّ الذَّهبي -وناهيك به إمامًا في معرفةِ الرِّجال- لم يذكرُه في كتابِ «ميزان الاعتدال» ، مع أنَّه يذكُر فيه مَن تكُلِّم فيه -مع ثقتِه وجلالتِه- ولو بأدنى لِينٍ وأقلِّ تجريحٍ!
(3)
ولَئِن كان (رشيد رضا) قد استثنَى ممَّن انْطَلى عليهم كذبُ كعبٍ مِن علماء الحديث «مَن عُني عنايةً خاصَّةً بالاطِّلاع على كُتبِ العهد العتيق، والعهد الجديد عند أهل الكتاب، وعلى التَّواريخ المفصِّلة لأخبارهم، وقليل ما هم»
(4)
؛ فإنَّ ابنَ كثيرٍ الدِّمشقي -بإقرارِ رشيدٍ نفسِه- «يعلمُ مِن حالِ كُتبِ أهلِ الكتابِ ما لم يكُن يَعلمُ أئمَّة الجرح والتَّعديل ممَّن فوقَه، كأحمد، وابن معين، والبخاريِّ، ومسلم، الَّذين لم يروا هذه الكتب كما رآها، ولم يَطَّلعوا على ما بَيَّنه المطَّلِعون عليها قبله، مِن تحريفها، وأغلاطها، ومُخالفتها لما انقطع به مِن أصولِ الإيمان بالله ورسوله .. إلخ، كابنِ حزمٍ وابن تيميَّة أستاذه»
(5)
.
(1)
«النبوات» لابن تيمية (2/ 1052).
(2)
«تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 68).
(3)
انظر مقدمة «ميزان الاعتدال» (1/ 2).
(4)
«مجلة المنار» (26/ 73).
(5)
«مجلة المنار» (26/ 716).
ومع ذلك، فإنَّ هؤلاء الثَّلاثة لم ينبزوا كعبًا ولا وَهبًا بشيءٍ كما فعل رشيدٌ! بل زكَّوه بما يُعضِّد تعديلَ جماهيرِ النُّقادِ له؛ فبعيدٌ جدًّا أن يخفى حالهما على جميعِهم، عالمِهم بما عند أهلِ الكتاب وجاهلِهم، ثمَّ يظهرَ في آخر الأزمان لـ (رشيد رضا) كذبَه لوحده، بل زندقتَه!
وبهذا تسقُط تلك الدَّعاوي العَريضة الَّتي تحامل بها (رشيد رضا) على كعب الأحبار، دون أن يُقدِّم بين يَدَيْها حُجَجًا مُقنعةً كافية، لتبقى مكانةُ كعبٍ في عدالتِهِ ووَثاقتِه كما اتَّفَق عليها المُتقدِّمون والمُتأخِّرون.
وأمَّا عن مَوقف بعضِ الكُتَّاب المُعاصرين مِن (وهبِ بنِ مُنبِّه)
(1)
:
فأغلب الشُّبَه الَّتي أثارَها بعضُ المعاصرين حول وهب بن منبِّه هي نفسها الَّتي أثارها (رشيد رضا) حول كعبٍ الأحبار؛ فإنَّه لم يكُن يذكر كعبًا بسوءٍ إلَّا وأتبعه ذكر وهب!
مِن ذلك قولُه: «إنَّ عُمدتنا في جرحِ روايةِ وهبٍ ما جاء به من الإسرائيليَّات الَّتي نقطع ببُطلانها، وهو آفتها، كرواياتِ كعبٍ فيها»
(2)
(3)
.
وقد استدلَّ (رشيد رضا) في تكذيبِه وتغليطِه للأئمَّة في توثيقه بنفسِ الدَّعاوي الواهيةِ الَّتي ساقَها في تكذيبِ كعبٍ، إلَّا أنَّه زاد قولَه فيه: «قد ضَعَّفه عمر بن الفلَّاس، واغترَّ به الجمهور؛ لأنَّ جُلَّ روايتِه للإسرائيليَّات، ولم يكونوا يُدقِّقون النَّظر في نقدِها تدقيقَهم في نقدِ رواياتِ أصولِ الدِّين وفروعِه، وقَلَّما كان أحدٌ مِن
(1)
هو أبو عبد الله وهب بن منبه بن سيج الصنعاني، أصله فارسي، من علماء التابعين، وثقه أحمد وأبو زرعة النسائي وغيرهم، ولد سنة 34 هـ في خلافة عثمان، قال جماعة من المؤرِّخين: مات سنة 110 هـ، انظر ترجمته في «سير أعلام النبلاء» (4/ 544).
(2)
«مجلة المنار» (26/ 716).
(3)
«مجلة المنار» (33/ 507).
رجالِ الجرحِ والتَّعديلِ يعرف شيئًا مِن كُتبِ أهلِ الكتابِ ليَصِحَّ حكمُه على الرُّواة عنها»
(1)
.
وقد سَبَق الجواب عن شبهةِ الكذبِ في النَّقل عن صُحفِ أهلِ الكتاب.
وأمَّا وَهب: فمَحلُّ توثيق كثيرٍ مِن أئمَّة الحديث
(2)
، لا أعلمُ أحدًا تَكلَّم فيه غير عمرو بن عليِّ الفلَّاس (ت 249 هـ) وحده، وعلى كلامِه عَضَّ (رشيد رضا) بالنَّواجذ!
متجاهلًا لردِّ ثُلَّة من المُحقِّقين على الفلَّاس كلامَه في وهبٍ، كابن حجرٍ في قوله:«وهب بن منِّبه الصَّنعاني، مِن التَّابعين، وثَّقَه الجمهور، وشَذَّ الفلَّاس فقال: كان ضعيفًا، وكان شُبهته في ذلك، أنَّه كان يُتَّهم بالقولِ بالقَدرِ، وصَنَّف فيه كتابًا، ثمَّ صَحَّ أنَّه رَجَع عنه»
(3)
.
ففضلًا عن غَلطِ الفلَّاس في حكمِه على وهبٍ، فإنَّ (رشيد رضا) قد رَجَّح تضعيفَ الفلَّاس بغيرِ المناطِ الَّذي عَلَّق عليه هذا الأخير حُكمَه من بدعة القَدر! بل رَماه رشيدٌ بنقيضِ ذلك مِمَّأ لم يُسبق إليه، وهي بدعة الجبريَّة!
(4)
وبِغضِّ النَّظرِ عن شذوذِ الفلَّاس بهذا التَّضعيفِ لوهبٍ -كما قرَّرناه-، فليس في كلامِه -ولا غيره مِن الأئَّمة- رَميٌ لوهبٍ بالزَّندقةِ! أو الكذب عن أهل الكتاب! كما نراه في مُجازفاتِ رشيدٍ.
بل هذا ابن كثير -وقد وَصَفه رشيدٌ بسعةِ اطِّلاعِه على ما في كُتبِ أهل الكتاب- قد زكَّاه صراحةً، ولم ينبزه بشيءٍ
(5)
.
(1)
«مجلة المنار» (26/ 716).
(2)
انظر توثيق بعض أئمة الجرح والتعديل له في «تهذيب الكمال» (31/ 142).
(3)
«فتح الباري» (1/ 450).
(4)
انظر معتمد (رشيد رضا) في هذا التهمة والرد عليها في كتاب «آراء محمد رشيد رضا في قضايا السنة» (ص/374 - 377).
(5)
كما في كتابه «البداية والنهاية» (13/ 58).
الفرع الثَّاني
دفع دعوى أنَّ بعضَ الصَّحابةِ والرُّواة
خَلَطوا الإسرائيليَّاتِ بالسُّنةِ
فأمَّا عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنه:
فقد اتُّهم ابنُ عمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هذا زورًا على لسانِ (جولدزيهر) ومُقلِّديه
(1)
بتصديقِ أهلِ الكتابِ مُطلقًا، واعتمادِ أقوالهم في التَّفسيرِ.
والمَعروفُ عن ابن عبَّاس رضي الله عنه أنَّه إذا رَجَع إلى أهلِ الكتاب، ففي بعضِ الأخبارِ الَّتي أُجمِلت في القرآن وفي كُتبِهم شيءٌ مِن تفصيلها لا غير، وفي حدودٍ ضيِّقةٍ، ويَتَّفق ذلك مع القرآن وإلَّا رَفَضه، على التَّفصيل الَّذي مرَّ سلفًا في موقف الصَّحابة من الإسرائيليَّات عمومًا.
ولذلك نراه لمَّا بلغه أن نَوفًا البكَّالي -وهو مِن أصحابِ كعبٍ- يَزعمُ أنَّ موسى صاحبَ الخضر، غير موسى بن عمران عليه السلام، قال:«كَذَب عدوُّ الله! .. »
(2)
.
فلقد اشتُهِر عن ابن عبَّاس رضي الله عنه إنكاره على مَن يهتدي بما عند أهلِ الكتاب، ممَّا لَعلَّه قد رآه مِن كثرةِ مَن يرجِع إليهم مِن العَوامٍّ، سَدًّا منه لهذا البابِ
(1)
انظر «مذاهب التفسير الإسلامي» لجولدزيهر (ص/66).
(2)
كما في البخاري (ك: العلم، باب: ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله، برقم: 122)
(1)
.
يقول المُعلِّمي: «هذا مِن قولِ ابن عبَّاس، وقد علِمنا أنَّه كان يسمعُ ممَّن أسلمَ مِن أهلِ الكتاب، وقد رُوي أنَّه سَأَل بعضَهم، وأبو ريَّة يُسرِفُ في هذا، حتَّى يَرمي ابن عبَّاسٍ بأنَّه تلميذٌ لكعبٍ! وبالتَّدبير يظهر مَقصودُه، ففي بقيَّةِ عبارتِه: « .. لا والله ما رأينا رجلًا منهم يسألكم عن الَّذي أنزل إليكم» ، دَلَّ هذا أنَّ كلامَه في أهلِ الكتاب الَّذين لم يُسلِموا، فأمَّا الَّذين أسلموا، فعملُ ابن عبَّاس يقتضي أنَّه لا بأسَ للعالِم المُحقِّق مثلِه أن يَسأل أحدَهم»
(2)
.
نعم؛ يجوز أن يُروى عن ابن عبَّاس رضي الله عنه أو غيرِه مِن الصَّحابة، شيءٌ سمِعَه مِن أهلِ الكتابِ فيه نَكارة بَيَّنة، وليس في الرِّوايةِ تصريحُه باستنكارِه له.
كالقصَّةِ الَّتي تُروى عنه في فتنة سليمان عليه السلام وأنَّ الشَّيطان تَمثَّل به، وأتى نساءَه في صُورَته وهُنَّ حُيَّض .. إلى آخر الخبرِ الطَّويل
(3)
؛ فليس في هذا أمارةٌ على إقرارِ ابنِ عبَّاسٍ لهذا الخبرِ المُنكر، لاحتمالِ أن يريدَ بهذه الرِّواية التَّشنيعَ عليهم، بسببِ هذه الأخبار الَّتي تُزري بالأنبياء ونحو ذلك، لكنَّ بعض الرُّواة اقتصَرَ على سَردِ القصَّة مُجرَّدةً عن سِياقِها الَّذي ذَكَرها فيه ابن عبَّاس.
(1)
أخرجه البخاري (ك: التوحيد، باب قول الله تعالى: (كل يوم هو في شأن)، برقم: 7523).
(2)
«الأنوار الكاشفة» (ص/123).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في «تفسيره» نقلًا عن ابن كثير في «تفسيره» (7/ 69) وقال: «إسناده إلى ابن عبَّاس قوي، ولكن الظَّاهر أنَّه إنَّما تلقَّاه ابن عباس ـ إن صحَّ عنه ـ من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوَّة سليمان عليه السلام فالظَّاهر أنَّهم يكذبون عليه» .
ثمَّ لا بُدَّ مِن مُراعاة كثرةِ الوَضعِ على ابن عبَّاس، وما وَهِيَ إسناده إليه، فما صَحَّ عنه في التَّفسيِر قليلٌ بجنبِ رُكامِ المرويَّاتِ الَّتي أُلصِقَت به، وقد أُطلِق على بعضِ أسانيدِها بـ «سلسلةِ الكذِب» !
(1)
وأمَّا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:
فقد سبَقَ أن ذكرنا اتِّهامَ بشرِ المرِّيسي لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه بروايةِ ما نالَه مِن صُحفِ أهلِ الكتاب في زامِلتين يومَ اليرموك، على أنَّها مِن حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّه مِن أوائل من تفوَّه بهذه الكبيرةِ مِن دعوى خَلطِ بعضِ الصَّحابةِ للإسرائيليَّات بالسُّنةِ.
وقد سارَ على دربِ هذا الجَهميِّ في الافتراءِ فئامٌ مِن أعداءِ السُّنَن وحَملَتِها في هذا العصر، فأحيوا منهجَه المُشكِّك في حُجيَّة الحديثِ، بإعادةِ نفسِ الشُّبهِ القديمةِ المُتعلِّقة بروايةِ بعضِ الصَّحابةِ لمِا أخذوه مِن أخبارِ أهلِ لكتابِ سَماعًا، أو بواسطةِ كُتبِهم.
فهذا (أبو ريَّة) يكذِبُ نفسَ كِذبة المرِّيسي في نسبةِ تحديثِ ابن عمرو رضي الله عنه بما في الزَّامِلتين إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم! وهو مِن عَجيب المُوافقات المُنبئةِ عن تَشابُه القلوب! فإنَّه قال عنه رضي الله عنه: «كان قد أصابَ زامِلتين مِن كُتبِ أهل الكتاب، وكان يرَويها للنَّاس (عن النَّبي)! فتَجَنَّب الأخذَ عنه كثيرٌ مِن أئمَّة التَّابعين، وكان يُقال له: لا تُحدِّثنا عن الزَّامِلتين»
(2)
.
(1)
نبه عليه السيوطي في «الإتقان» (4/ 239).
(2)
كذا في الطبعة الأولى لكتابه «أضواء على السنة المحمدية» (ص/162، هامش 3)، طبع دار التأليف بمصر، سنة 1377 هـ-1958 م، وعلى هذه العبارة في هذه الطبعة كان رد مصطفى السِّباعي في كتابه «السنة ومكانتها في التشريع» (ص/363).
لكن النسخة التي عندي من الكتاب ـ وهي طبعته السَّادسة في دار المعارف ـ قد حذفت منها عبارة «عن النبي» ! وأبُدلت فيه صياغة الكلام إلى قوله (ص/137): « .. وقد جاءت الأخبار بأنَّ الثَّاني -وهو عبد الله بن عمرو بن العاص- أصاب يوم اليرموك زاملتين من علوم أهل الكتاب، فكان يحدِّث منهما .. » .
فالظَّاهر أنَّ هذه الكذبة حُذفت في الطَّبعات اللَّاحقة للكتاب بعد أن افتُضح أمر (أبو ريَّة) فيها، والله أعلم.
ثمَّ لم يكتِف هو بهذا البهتان، حتَّى نَسَبه إلى ابن حجرٍ في «فتح الباري» ! وابن حجرٍ بَريء مِن هذا الإفك، وكتابُه خالٍ مِن عبارة:«عن النَّبي» ، إنَّما زادَها (أبو ريَّة) مِن كيسِ هَواه! وقد تبِعه فيها مُكبًّا على وجهِه (صالح أبو بكر)، دون تَبصُّر أو تَثبُّت مِن المَراجِع، فانتسخ هذه الرِّواية المُحرَّفة عن (أبو ريَّة)، مُؤكِّدًا أنَّها حقيقةٌ تاريخيَّة تُثبت تلبيسَ عبد الله بن عمرو رضي الله عنه على النَّاس
(1)
؛ ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله!
وقصَّة إصابةِ ابن عمرو رضي الله عنه للزَّاملتين مِن كُتب أهلِ الكتابِ لها أصلٌ صحيحٌ، بخلاف من استبعد وقوعها من بعضِ مشايخنا من أهل التفسير
(2)
،
فقد أثبت ذلك له رضي الله عنه بعضُ المُحقِّقين من المتَّأخرين
(3)
، ولعلَّ أمثلَ ما وَرَد في ذلك:
(1)
«الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية» (ص/58).
(2)
استبعد أستاذنا مساعد الطَّيار في شرحه لـ «مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير» (ص/167) القول بإصابة عبد الله بن عمرو للزَّاملتين باحتمالين:
الأوَّل: أنه كان يعرف الرَّسم الَّذي كُتِبت به هذه الكتب، وقد استبعد هذا الاحتمال جدًّا، معتمدًا على تضعيفِ الذَّهبي لما جاء في «مسند أحمد»: من رؤيا رآها ابن عمرو فسَّرها له النَّبي صلى الله عليه وسلم بأنَّه سيقرأ الكتابين: التوراة والفرقان، لضعفِ ابن لهيعة، وكذا لنكارة متنها، حيث لا يشرع لأحد قراءة التوراة بعد نزول القرآن، انظر «سير أعلام النبلاء» (3/ 86).
الثَّاني: أنها إن كانت تُترجم له، فمن ذا الذي كان يُترجم له؟!
لكن قد أخرج ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (4/ 266) بإسناد قويٍّ لا ينزل عن مرتبة الحسن، عن شريك بن خليفة قال:«رأيت عبد الله بن عمرو يقرأ بالسِّريانيَّة» .
وقد بيَّن د. رمزي نعناعة في كتابه «الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير» (ص/146) الظُّروف الزَّمانية والمكانيَّة والمحفِّزات المعرفيَّة الَّتي أعانت عبد الله بنَ عمرو رضي الله عنه على تعلُّم هذه اللُّغة.
أمَّا عن تضعيف الذَّهبي لحديث «المسند» لضعف ابن لهيعة: فالَّذي روى عن ابن لهيعة هذا الحديث هو قتيبة بن سعيد، وأحاديثه عن ابن لهيعة صِحاح كما ذكر أحمد بن حنبل، انظر «تهذيب الكمال» (15/ 494).
أمَّا نكارة متنِه: فإن النَّظر في التَّوراة ونحوها للاعتبار ومُناظرة اليهود لا بأس بها للرَّجل العالم قليلًا، كما أقرَّ به الذَّهبي نفسه في نفس مَوطن تضعيفه للحديث، وعبد الله بن عمرو من أولئك، والإذن النَّبوي في التَّحديث عن بني إسرائيل سابق عند عبد الله بن عمرو بروايته، على التَّفصيل الَّذي مرَّ.
(3)
منهم ابن تيمية في «مقدمته في أصول التفسير» (ص/42)، وابن كثير في عدة مواضع من «تفسيره» منها مقدمته (1/ 8)، وابن حجر في «فتح الباري» (1/ 207)، وهو الظَّاهر من كلام الذَّهبي في «تذكرة الحفاظ» (ص/35)،
ما أخرجه الخليليُّ بإسنادٍ صحيحٍ، رجاله ثقاتٌ إلى عامر الشَّعبي، أنَّه قال: «لقيتُ عبدَ الله بن عمرو بن العاص بمكَّة، فقلتُ: حَدِّثني ما سمعتَ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تحدِّثني عن السَّفَطين
(1)
.. »
(2)
.
على أنَّ هذا لا يعني لزامًا كثرةَ تحديثِ عبد الله بن عمرو رضي الله عنه منها! فهذه الأخبار الإسرائيليَّة الَّتي رواها بين أيدينا، قليلة جدًّا؛ ولَإن حَدَّث بها فقد مَيَّزها عمَّا يَرويه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا بُدَّ.
يقول الدَّارمي في مَعرضِ رَدِّه على المرِّيسي: «ويحَك أيَّها المُعارض! إن كان عبد الله بن عمرو أصاب الزَّاملتين مِن حديث أهلِ الكتاب يومَ اليرموك، فقد كان مع ذلك أمينًا عند الأمَّةِ على حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم، أن لا يجعل ما وَجَد في الزَّامِلتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان يَحكي عن الزَّاملتين ما وَجَد فيهما، وعن النَّبي صلى الله عليه وسلم ما سمِع منه، لا يُحيل ذاك على هذا، ولا هذا على ذاك، كما تَأوَّلتَ عليه بجهلِك، والله سائلُك عنه»
(3)
.
وأمَّا ما ذكره ابن حَجرٍ في مَعرضِ سَردِه لأسبابِ قِلَّة مرويَّات عبد الله بن عمرو مقارنة بأبي هريرة رضي الله عنهم، مع إقرارِ الأخيرِ أنَّ الأوَّل أكثرُ حديثًا منه، قائلًا:«إنَّ عبد الله كان قد ظَفَر في الشَّام بحَملِ جَملٍ مِن كُتبِ أهلِ الكتاب، فكان ينظُر فيها ويُحدِّث منها، فتَجنَّب الأخذَ عنه لذلك كثيرٌ مِن أئمَّةِ التَّابعين، والله أعلم»
(4)
.
فإنَّ هذه الجملة الأخيرة له ممَّا قد عَوَّل عليها بعض المُغرضين المُعاصرين كـ (أبو ريَّة) لإثباتِ شَناعةِ ما وَقَع فيه بعض الصَّحابة الكِرام من التَّحديثِ عن أهلِ الكتاب، وأنَّ مَرويَّات مَن فَعَل ذلك منهم مَدعاة للتَّرك، مُوقِعة في الخلطِ.
(1)
السَّفط: كالقُفَّة يُعبَّى فيه الطِّيب وما أشبهه من أدوات النِّساء، انظر «تاج العروس» (19/ 350).
(2)
أخرجه في كتابه «الإرشاد» (2/ 533 برقم: 166).
(3)
«نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد» (ص/367 - 368).
(4)
«فتح الباري» (1/ 207).
والجواب عليهم في ذلك: أنَّ مقالة ابن حجر لا أُراها إلَّا مُجرَّد تخمينٍ، لم أعثُر لها على دليلٍ تاريخيٍّ يُسنده ويُقوِّيه! ولو كان صحيحًا ما نَسَبه لأولئك التَّابعين، لتَركوا الأخذَ عن أبي هريرة رضي الله عنهم أيضًا كونه معروفًا بالرِّوايةِ عن بعضِ أهل الكتابِ مثل ابن عمروٍ!
بل مِن التَّابعين الآخذين عنه مَن كان يخلِط بين حديثِه المرفوعِ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وبين حديثِه عن كعبِ الأحبار! وهي مَفسدة لا يُعلَم وقوعها عن الآخذين عن عبد الله بن عمرو! فكان أبو هريرة على هذا المنطقِ أوْلى بالاجتنابِ مِن عبد الله بن عمرو!
ثمَّ إنَّ ابنَ حَجرٍ نفسَه قد ذَكَر في ترجمةِ عبد الله بن عمرو في «التَّهذيب» أربعين راويًا ممَّن أخذوا عنه، فيهم جمهرةٌ مِن كبارِ التَّابعين، بل فيهم صحابة! كأنسِ بن مالك، وعبد الله بن عمر، وأبو أمامة بن سهل، وغيرهم
(1)
؛ فلم نسمع أنَّ أحدًا منهم زهِد في السَّماعِ منه، لأنَّه يروي شيئًا مِن الإسرائيليَّات.
بل على خلافِ ذلك، كان أحدُهم -مِن حرصِه على السَّماع مِن ابن عمرو رضي الله عنه إذا أتاه ولم يَشأ أن يسمَعَ ما عنده مِن علوم أهلِ الكتاب، طَلَب الاقتصارَ على تَسميعِه إيَّاه مَرويَّاتِه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قصدَ التَّعجُّل في أخذِ ما أمكنَه مِن السُّنة بحكمِ سَفره وقصرِ إقامتِه ونحو ذلك مِن الأعذار؛ ومثاله ما مَرَّ قريبًا مِن قصَّةِ لقاءِ الشَّعبي به، والله تعالى أعلم.
وأمَّا أبو هريرة الدَّوسيُّ رضي الله عنه:
فلأنَّه حافظَ الإسلام، وأكثر مَن روى الحديثَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن الصَّحابة، لم ينَل أحدٌ مِن الصَّحابة ما ناله مِن الطَّعنِ والتَّشكيكِ في رِوايتِه للحديث، بل لم يُؤلَّف في غيره ما أُلِّف فيه كثرةً في الحَطِّ من قدرِه في حفظِ السُّنة والتُّهمة باختلاقِ الأخبار.
(1)
انظر «تهذيب التهذيب» (5/ 337).
ترى شواهدَ هذه الغارةِ عليه في ما سَوَّده فيه بعض المُعاصرين بشَتَّى تَوجُّهاتهم الفكريَّةِ والعقديَّةِ، أشهرُها كتاب «أبو هريرة» لعبد الحسين شرف الموسوي، و «شيخ المضيرة أبو هريرة» لمحمود أبو ريةَّ، وأكثر مَن جاء بعدهما إنَّما هو مُستقٍ مِن عَفِنهما، كمصطفى بوهندي في كتابِه «أكثر أبو هريرة» .
فكان مِن أخطرِ ما اتُّهم به مِن قِبَل أعدائِه: وصْمُه بأنَّه أُذْنٌ لكعبِ الأحبار، تلميذٌ ساذَجٌ له! و «أنَّ هذا الحَبرَ الدَّاهيةَ قد طَوَى أبا هريرة تحت جناحِه، حتَّى جَعَله يُردِّد كلامَ هذا الكاهنِ بالنَّصِ، ويجعله حديثًا مَرفوعًا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم» !
(1)
والرَّدُ على هذا الافتراءِ أن يُقال:
لو وَقَع شيءٌ من هذا المُنكر مِن أبي هريرة -كما ادَّعاه (أبو ريَّة) - لما سَكَت عنه الصَّحابة، ولَأنكروا عليه جريمَتَه بحَقِّ الدِّين والسُّنة؛ هذا ابتداءً.
وأبو هريرة رضي الله عنه هو كغيرِه مِن الصَّحابة مِمَّن سَمِع مِن كعبٍ، «لم يكونوا تلامذةً له، بل رَووا عنه أشياء مُحتملةً حَكوها عنه، وسألوه سُؤالَ خبيرٍ ناقدٍ»
(2)
-وهذا الفعلُ على هذا الوجهِ مَأذونٌ به على لسانِ السُّنة، كما أسلفنا تقريرَه- لا سؤالَ المُصدِّق مُطلقًا، فضلًا عن أن يَعرِضوا عليه كلامَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ليُصدِّقه! كما يدَّعيه (بوهندي) على أبي هريرة رضي الله عنه افتراءً
(3)
.
وفي دفعِ هذه الفِرَى عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول المعلِّمي:
«هذه مَكيدةٌ مهولةٌ، يُكاد بها الإسلام والسُّنة، اخترعها بعض المُستشرقين فيما أرى، ومَشَت على بعضِ الأكابر، وتبنَّاها أبو ريَّة، وارتكَبَ لترويجِها ما ارتكَبَ كما ستعلمُه؛ وهذا الَّذي قاله هنا رجمٌ بالغيب، وتَظنِّ للباطل، وحَطٌّ لقومٍ فَتَحوا العالمَ ودَبَّروا الدُّنيا أحكمَ تدبيرٍ: إلى أسفلِ درجاتِ التَّغفيل.
كأنَّهم رضي الله عنهم لم يعرفوا النَّبي صلى الله عليه وسلم ودينَه وسُنَّته وهديَه، فقبِلوا ما يَفترِيه عليه وعلى دينِه إنسانٌ لم يعرفه، وقد ذَكَر أبو ريَّة في مَواضعٍ حالَ الصَّحابة في تَوقُّفِ
(1)
«أضواء على السنة المحمدية» (ص/180).
(2)
«أبو هريرة راوية الإسلام» لعبد الستار الشيخ (ص/624).
(3)
«أكثر أبو هريرة» (ص/67).
بعضهم عمَّا يُخبره أخوه الَّذي يَتيقَّن صدقَه، وإيمانَه، وطولَ صُحبته للنَّبي صلى الله عليه وسلم، فهل تَراهم مع هذا يَتَهالكون على رجلٍ كان يَهوديًا فأسلمَ بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم بسِنين، فيقبلون منه ما يُخبرهم عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ممَّا يُفسد دينه؟!»
(1)
.
فالَّذي على (أبو ريَّة) ومَن تبعه أن يُثبتوا أنَّ أبا هريرة رضي الله عنهم جَعَل قولًا سمِعَه مِن كعبٍ حديثًا مَرفوعًا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُميِّز بينهما، وأمَّا التَّشنيع بغير حُجَّة، فلا يعجَزُ عنه أحدٌ، وهو مِن الإرجافِ الَّذي لا يسمح به منهج ناقدٌ، ولا عقل حصيف.
وما نراه مِن طعنِ (ابنِ قرناس)
(2)
و (مصطفى بوهندي)
(3)
في ما أخرجه مسلم وغيره، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنهم مرفوعًا:«خيرُ يومٍ طَلَعت فيه الشَّمس يومُ الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه أدخل الجنَّة .. »
(4)
إلى آخرِ الحديث، حيث جَعَلاه مِن الإسرائيليَّات، اعتمادًا مِن (بوهندي) على روايةٍ في «مسند أحمد» (برقم: 23791)، تَوهَّم أنَّها كَشَفت أنَّ قولَه:«فيه خُلِق آدم .. » إلى آخره، هو مِن قولِ كعبٍ وليس حديثا مرفوعًا، وأنَّ أبا هريرة إنَّما خَلَط قولًا لكعبٍ بحديثٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجوابُ ذلك في: أنَّ الَّذي يجهلُه (بوهندي) كون هذه الرِّواية الَّتي احتجَّ بها في «المُسند» لا يَسوغ الاحتجاجُ بها أصلًا! حيث جاءت مِن روايةِ حمَّاد بن سلمة، فقد تكلَّم يحيى بن سعيد القطَّان في روايته عن قيسِ بن سعدٍ بخاصَّة
(5)
وضُعِّف فيه، وعنه رَوى حمَّاد هذا الحديثَ الَّذي في «المُسند» ! فضلًا عنٍ أنَّه قد خالَف فيها غيره مِن الثِّقات الأثبات في رفعهم لهذه الخصالِ للجمعة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم لا إلى كعبٍ.
(1)
«الأنوار الكاشفة» (ص/105).
(2)
«الحديث والقرآن» لابن قرناس (ص/449).
(3)
«أكثر أبو هريرة» (ص/75 - 79).
(4)
أخرجه مسلم (ك: الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة، برقم: 854).
(5)
انظر «تهذيب التهذيب» لابن حجر (3/ 14).
والَّذي أراه يُشكِل حقيقةً على حديثِ أبي هريرة المرفوعِ، روايةٌ أخرى غير تلك الَّتي اغتَرَّ بها (بوهندي)، وأنا أُفيدُه بها! وهي:
ما رَواه الأوزاعيُّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سَلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«خيرُ يومٍ طَلَعت فيه الشَّمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُسكن الجنَّة، وفيه أُخرج منها، وفيه تَقوم السَّاعة، قال: قُلت له: أشيءٌ سمِعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل شيءٌ حَدَّثناه كعبٌ»
(1)
.
ففي هذه الرِّواية ينسِبُ أبو هريرة رضي الله عنه الحديثَ إلى كعبٍ، بخلافِ ما في «صحيح مسلم» وغيرِه في نِسبتِه إيَّاه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكِلتاهما مِن طريق أبي سَلَمة عنه!
غير أنَّ روايةَ ابنَ خزيمة هذه خَالف فيها يحيى بن أبي كثير ثِقتان
(2)
:
محمَّد بن إبراهيم التَّيمي
(3)
، ومحمَّد بن عمرو
(4)
، حيث رَوَياه عن أبي سَلمة بالرَّفعِ، يعضُد هذا مُتابعة الأعرجِ لأبي سَلمة نفسِه في رفعِه إيَّاه عن أبي هريرة
(5)
؛
فهذا الأصوبُ من حيث الصَّنعة الحديثيَّة.
(1)
أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» (ك: الجمعة، باب: ذكر الخبر المتقصى للفظة المختصرة التي ذكرتها .. إلخ، برقم: 1729).
(2)
على أن ابن أبي كثير هذا قد جاءت رواية الحسين المعلم عنه في «السنن الكبرى» للبيهقي (برقم 6003) بوقفِ الحديث على أبي هريرة، دون ذكر لسؤال أبي سلمة في آخره كما في رواية الأوزاعي، فلا تشكل حينئذ على الرواية المرفوعة، بحيث يقال أن أبا هريرة كان يذكر المتن أحيانًا دون رفعه اختصارًا.
غير أنَّ الحسين أقلُّ درجة من الأوزاعي في الضَّبط والتَّثبُّت، فربَّما وهم كما في «التَّقريب» ، فتُقدُّم رواية الأخير عن يحيى عليه من حيث التَّرجيح الإسنادي، وإن كانت رواية الحسين أوفق مع الروايات المرفوعة الأخرى.
(3)
عند مالك في «الموطأ» (ك: الجمعة، باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة، برقم: 16)، وعنه رواه أبو داود (ك: الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، برقم: 1046)، والترمذي (ك: الجمعة، باب في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة، برقم: 491)، وأحمد في «مسنده» (برقم: 10303).
(4)
عند أحمد في «مسنده» (برقم: 10545)، وأبو داود الطيالسي في «مسنده» (برقم: 2843) وغيرهما.
(5)
كما في مسلم (ك: الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة، برقم: 854) وغيره.
ولم أعتبر متابعة عبد الله بن فرُّوخ لأبي سلمة في رفعه متابعة ثانيةً، وهي في «مسند» أحمد (برقم: 10970) وابن خزيمة في «صحيحه» (برقم: 1729)، لضعف السند إلى ابن فرُّوخ، آفته محمد بن مصعب القرقساني، وهو كثير الغلط كما في «التقريب» .
ولم أعلَّه في المقابل بكون يحيى بن أبي كثير مدلس قد عنعنه في رواية ابن خزيمة، كما نحى إليه الألباني في تعليقه على «صحيح ابن خزيمة ـ ط: الأعظمي» (3/ 115)، حيث صرح يحيى بالتَّحديث عند أبي زرعة الدمشقي في «الفوائد المعلَّلة» (ص/265)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (برقم: 6003).
أما من رأى أن رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في كونه من مقول كعب هي صحيحة أيضا، وجمع بينها وبين كونه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن أبا هريرة سمعه أولا من كعب، ثم سمعه بعد ذلك من أحد الصَّحابة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فصار يرفعه بعدُ دون ذكر الصَّحابي، وهو ما ذهب إليه الباحث (مناف مريان) في أطروحته للماجستير «دعوى اشتمال الصحيحين على إسرائيليات» (ص/77 - 78): فأُراه جمعًا متكلفا! وليس في حديث زيارة أبي هريرة لكعب الأحبار وتحديثه إياه بهذا الحديث -كما في «الموطأ (ك: الجمعة، باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة، برقم: 16) - ما يشعر بكونه قد سمعه من كعب قبل زيارته تلك، وأنه في زيارته الثانية نبه كعبا على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ما كان قد سمعه منه بنفس حروفه! هذا بعيد جدا، والله أعلم.
فيَتَبيَّن بما تقدَّم:
أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه كان يُميِّز بين ما سمِعه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وبين مَرويَّات كعبٍ
(1)
؛ وإنَّما كان يحصُل أحيانًا الخلطُ مِن بعض الرُّواة عنه، لا منه هو رضي الله عنه، فيجعلون ما رَواه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن قول كعب، وما رواه عن كعب مِن قولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
.
فها هو ذا أبو هريرة يُبيِّنُ ويُميِّز لهم بين حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبار كعبٍ! إنَّما يَقع مِن بعضِ السَّامعين -لا كلِّهم- أن يخلِطَ بينهما، «فلا ذنبَ
(1)
قد سرد ابن حجر لذلك أمثلة كثيرة في كتابه «نزهة السامعين في رواية الصحابة عن التابعين» (ص/86).
(2)
«التمييز» لمسلم (ص/175).
لأبي هريرة في هذا، ولم يَزَل أهلُ العلم يذكر أحدُهم في مجلسِه شيئًا مِن الحديث، ويذكر عنه مَفصولًا عنه ما هو مِن كلامِ بعضِ أهل العلمِ أو غيِرهم، وما هو مِن كلامِ نفسِه»
(1)
؛ لكنَّ أصحابَه الحُفَّاظَ المتيقِّظين يُميِّزون بينَها، كما هو شأنُ تلميذِه بسر بن سعيد صاحبِ الحكاية.
(1)
«الأنوار الكاشفة» للمعلمي (ص/163).
الفرع الثَّالث
التُّصورُ الخاطئُ لكيفيَّةِ الرِّوايةِ
مَنشأُ الأحكامِ المَغلوطة في هذا البابِ
يَرجع السَّببُ في مثلِ هذه الأحكامِ المُتعسِّفة في حقِّ رُواةِ الحديث مِن قِبَل بعض النَّاقدين المُعاصرين: إلى عَدمِ تَصوُّرهم لأصولِ الرِّوايةِ على حقيقتِها وكيفيَّتها عند المُحدِّثين؛ فإنَّ النُّقادَ لا يَقبلون الحديثَ ممَّن رواه أيًّا كان لمُجرَّدِ عدالتِه عندهم، بل يَشترطون مع ذلك باقي شروط الحديثِ الصَّحيح، مِن لقاء الرَّاوي لمن رَوى عنه، واعتبارِ الانقطاعِ بينهما ناقضًا مِن نواقضِ صِحَّة الرِّواية، مع ضبطِ الرَّاوي، وتميِيزِه لمِا رَواه عن شيوخِه بعضهِم عن بعضٍ؛ فليس الأمر مُشْرَعًا لكلِّ مَن أراد أن ينَسِبَ حديثًا إلى أحدٍ، فيُصَدَّق في نسبتِه تلك، إلَّا بإعمالِ جميعِ الشُّروطِ الخمسةِ الَّتي أشبعَها المُحدِّثون بحثًا وتقريرًا في مُصنَّفاتِ «علوم الحديث» .
لِتعلمَ مَدى الجهلِ الوَخيمِ الَّذي يَقَع فيه بعض الفُضوليِّين مِن كُتَّاب العصرِ حين يَدَّعون أنَّ الإسرائيليَّات إنَّما اكتسبت صِفةَ النُّبوة عند المُسلمين بمُجرَّد إسنادِها مِن بعض الرُّواة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم!
ترى هذا الخبل -مثلًا- في قول (سُليمان حريتاني): «تَسرَّبت إلى الحديثِ بوساطةِ هؤلاء وسِواهم مِن اليهود الَّذين أسلموا طائفةٌ مِن المرويَّاتِ وأقاصيص التَّلمود الإسرائيليَّات، الَّتي ما لبِثت أن أصبحت جزءًا مِن الأخبار الدِّينية
والتَّاريخية، ولولا أنَّهم أسندوا تلك المَرويَّات إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أحدٍ من الصَّحابة، لأحُبطت الغايةُ مِن إدخالها، ولم يَقبل بها أحدٌ»
(1)
.
فهو يَرى أنَّ إدخالَ تلك الإسرائيليَّات إلى الدِّين تَمَّ لأصحابها بمُجرَّد اختلاقِ إسنادٍ لها! في حين أنَّ ذلك الإسناد الَّذي نَعى عليه هذا الدَّس هو الَّذي ساهَم في افتضاحِ تلك المُحاولاتِ الَّتي يَتَحدَّث عنها، ومَنعِها مِن دخولها حيِّزَ الشَّرعيَّاتِ!
ومثله (أبو القاسم حاج حمَد) يقول في مَعرضِ طعنِه بأحاديث الحدود: «مصدرُ كلِّ هذه الأحاديث يهودٌ أظهروا إسلامهم، ككعبِ الأحبار، ولا علاقة له بالرَّسول صلى الله عليه وسلم، إذْ أسلَمَ في زمنِ أبي بكر، وقدم المدينة في زمن عمر، ووَهب بن منبِّه، وغيرهما .. »
(2)
.
فقوله بإمكانِ دَسِّ هؤلاءِ الخِيار من الرُّواة في السُّنةِ، هو نتاج خللٍ في تَصوِّره لطبيعةِ الرِّواية، فإنَّ كعبًا ووَهبًا لم يَلْقَيا النَّبي صلى الله عليه وسلم كما يعلمُ هو نفسُه، فهما -إذن- تابعيان، ومعناه أنَّ رِوايتهما المباشرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن قَبِيل الحديثِ المُرسِل، والمُرسَل مِن أنواعِ المُنقطِعات!
ومِن الجهل ما قتل!
(1)
«توظيف المحرم» لسليمان حريتاني (ص/88).
(2)
«إبستمولوجيا المعرفة الكونية» لمحمد أبو القاسم حاج حمد (ص/95).