الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دَفعُ المعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن حديثِ سِنِّ عائشة عند زواجِها بالنَّبي صلى الله عليه وسلم
تمهيد:
أرى لِزامًا قبل الشُّروعِ في تفنيدِ هذه المُعارضاتِ الَّتي تخصُّ الحديثَ، أن أُنبِّه إلى أصلِ الشُّبهة الَّتي تَمخَّضت مِن رَحِمها تلك المُعارضات، والباعث الحقيقيِّ إلى هذه الاستشكالاتِ، وهو: عدمُ إدراك الفارق الكبير بين الأزمنةِ والبيئات والأعرافِ المختلفة المتعلِّقة بالزَّواج والبَاءة.
فإنَّ مِن التَّجَني في الأحكام، أن يُوزَن حَدَث ما مُنفصلًا عن زمانِه ومكانِه وظروفِ بيئتِه، فتُهدر فروق القُدراتِ الجِسميَّة والذِّهنيَّة عبر العصور؛ ولَإِن كانت العِبرة في تمامِ الزَّواجِ نُضج الزَّوجين والقدرةِ على الإنجاب، فإنَّ مِن العَيْبِ قياسُ زَواجِ عُقِدَ في مكَّةَ قبل أربعة عشر قرنًا، بما يَحدُث اليومَ عند ضِبَابِ الغربِ ومَن دَخَل جُحرَهم مِن مُستغربينا!
فالَّذي على المُعترِض أن يَفهمَه قبل اعتراضِه على مثل هذه الأحاديث: أنَّ قدرةَ النِّساءِ على النِّكاح ولوازمه -مِن جِماعٍ وولادةٍ وغير ذلك- ليست على وِزانٍ عُمْريٍّ واحد، بل تختلف مِن زَمنٍ إلى زَمن، ومِن بيئةٍ إلى بيئةٍ، بل مِن عِرْق إلى عِرْق، لاختلافِ عَوامل المُناخ، والتَّغذية، والثَّقافة؛ هذا ليس قولي أنا، بل ما تُؤكِّده دراسات الأطبِّاء في علمِ الخُصوبةِ ومُؤثِّراتها.
ففي تقرير هذه الحقيقةِ العِلميَّة، يقول (د. سْبِيرُوَا فاخوري):«يكون تَقَدُّم البلوغ في بعضِ الأحيانِ نتيجةَ أسبابٍ وِراثيَّة في الأسرة، أو المحيطِ الجغرافيِّ، كالبيئةِ، والمناخِ، وحرارةِ الجوِّ .. »
(1)
.
وتقول الطَّبيبة الأمريكيَّة (د. دُوشْنِي): «إنَّ الفتاةَ البيضاءَ في أمريكا، قد تبدأ في البلوغَ عند السَّابعةِ أو الثَّامنة، والفتاة ذات الأصل الإفريقيِّ عند السَّادسة! .. ومِن الثَّابتِ طِبيًّا أنَّ أوَّل حَيضةٍ تَقَع بين سنِّ التَّاسعة والخامسة عشرة» ؛ وهذا ما نَقَلته إحدى الدَّوْريات الطِّبيَّة للأطفالِ في أمريكا، حيث أكَّدوا أنَّ الفتيات الأمريكيَّات يبلُغن مُبكِّرًا، ما بين سِنِّ العاشرة إلى الحادية عشر، ومنهن حالات في الثَّامنة والتَّاسعة!
(2)
.
ولازِلْنا نسمعُ مِن جدَّاتِنا كيف كُنَّ في وقتهِنَّ قبل جِيلَيْن أو ثلاثة، تتزوَّجُ إحداهنَّ مُبكِّرًا في الثَّانيةِ عشر أو أقلَّ من ذلك، مُقتدراتٍ مُؤَهَّلات لذلك في العلمِ والجِسم! فكان الأمر مُعتادًا عندهنَّ، يحكينه عن وقتٍ قَريب مِنَّا؛ فكيف الظَّنُّ بالنِّساءِ قبل أربعةِ عشر قرنًا مِن الزَّمَن، وفي بيئةٍ حارَّةٍ كجزيرة العَرب؟!
لا شكَّ عندي أنَّهنَّ أولى ببُكورِ البلوغِ والنُّضج، فضلًا عن أنَّ مُجتمعاتهنَّ كانت «تختفي فيها مرحلةُ المراهقة، وينَتقِل الفَردُ وقتَها مِن الطُّفولةِ إلى الرُّشد مباشرة»
(3)
.
فلا يكاد ينقضي عَجَبي مِمَّن يَنتسِبُ إلى الإسلام، كيف له أن يُنكر زواجَ عائشة رضي الله عنها في التَّاسعة استبشاعًا منه لذلك؟ في الوقتِ الَّذي يُقِرُّ كُتَّاب الغَربِ بأنَّ زواج العَربيَّات في القديم مُبكِّرًا -في ما نعتبره اليوم سِنًّا للطُّفولة- أمر طَبيعيٌّ بحكمِ ظروف ذلك الزَّمان وعاداته؟!
(1)
«الموسوعة الطبية» (ص/25).
(2)
من الصفحة الرسمية لقناة (إن بي سي) الأمريكية، في تقرير لها حول الموضوع، أعدته القناة بتاريخ 8/ 9/2010 م، ورابط الصفحة:
nbcnews.com/id/38600414/ns/health-childrens_health/t/Growing-up-too-soon-Puberty-strikers-7 - year-old-girls.
(3)
كما تُقرِّره عالمة الاجتماع الأمريكيَّة (مارغريت ميد)، انظر «البلوغ والمراهقة لدى البنات» لـ د. فريال أستاذ (ص/35).
فاسمع لـ (وُل دْيُورَانْت) يقول في كتابِه الشَّهير «قصَّة الحضارة» : «إنَّ المُناخَ من العوامل الَّتي تؤثِّر في الأخلاق الفرديَّة، ولعلَّ حرارة الجوِّ في بلاد العرب كانت من أسباب تقوية الغريزة الجنسيَّة، والنُّضج المُبكِّر .. وكانت البَنات يُزوَّجْن في العادةِ قُبَيل سِنِّ الثَّانية عشرة، ويُصبحن أمَّهاتٍ في الثَّالثة عشرة أو الرَّابعة عشرة، ومُنهنَّ مَن كُنَّ يتزوَّجن في سِنِّ التَّاسعة أو العاشرة»
(1)
.
وتقول المُستشرقة البريطانيَّة (كارين أمْسترُونج):
(2)
.
فهذا ما أردتُ التَّنبيه عليه: أنَّ في إرجاءِ دخولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم بعائشة بعد عَقدِ زواجِهما بثلاثِ سنين كاملاتٍ، لخَيرُ دليلٍ على مُراعاتِهم لقدرةِ عائشة على تكاليفِ الزَّوجية، ولو كان الغَرَض تفريغُ شهوةٍ في طفلةٍ غَريرةٍ كما يزعُم الأفَّاكون، لأخَذَها وهي بنتُ سِتٍّ، فما الفرق إذن؟!
لقد كانت عائشة رضي الله عنها على صِغَر سِنِّها ناميةً ذلك النُّموَّ السَّريع الَّذي تنموه نساء العَرب، والعِبرة بالمرأةِ في قِطعتها وعقلِها، لا في عُمْرِها، وعائشةُ وإن كانت صَغيرة السِّن، لكنَّها اختُصَّت بعقلٍ فاقَ كثيرًا مِن الأشياخ، وفي بحرِ علومِها الَّتي بثَّته مِن بيتِ زوجِها لَخيرُ شاهدٍ.
يقول (محمَّد الغزالي)، ولَنِعْمَ ما قال:
«إنَّ عائشة يومَ بَنَى بها الرَّسول، كانت أهلًا للزَّواج يَقينًا، وما نَشُكُّ في أنَّ الدَّافع الأوَّلَ لهذا الزَّواجِ كان تَوثيقَ العلائقِ بين النَّبي الكريم وصاحبِه الأوَّل،
وهو الدَّافع لتزوُّجه مِن حفصة بنتِ عمر بن الخطاب لمَّا آمَت مِن زوجِها، ولم تكُن حفصة امرأةً ذاتَ جمالٍ، ولكن هذا العُنصر لم يكُن المانع مِن هذه، ولا الدَّافع إلى تلك»
(1)
.
نعم؛ لو كان غَرَض النَّبي صلى الله عليه وسلم تَتبُّعَ مَبارِدِ شَهوتِه، والتَّلهِي بغرائزِ صَبْوتِه، لاتَّخذَ لنفسِه بِكْرًا حسنةً في كلِّ مرَّةٍ يَتَزوَّج! وهو الَّذي لَبِث -بأبي هو وأمِّي- خمسًا وعشرين سنةً مع زوجِه الثَّيبِ الأولى وهي تكبره في السِّن رضي الله عنها، لم تُحدِّثه نفسُه أن يُدخِلَ عليها بِكْرًا!
فلمَّا ماتت رضي الله عنها، لم يَتزوَّج بعدها بِكرًا غير عائشة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يُراعي في زواجِه اعتبارات اجتماعيَّة وسياسيَّة توحي له بتعزيزِ الرَّوابط حينًا، وجبرِ الكسورِ حينًا آخر، ومَدِّ الجسور بين صاحبِ الدَّعوة، وأشتاتٍ مِن الأتباع والأُسَر الَّتي تَزحمُ جزيرة العرب، في أيَّامٍ كانت مَليئةً بالأزماتِ والمُحرجاتِ.
وهنا يُعجِبني أن أسوق كلامًا حَسَنًا لعائشة بنت الشَّاطئ (ت 1419 هـ)، فهو على طولِه قد سدَّ ثقوبَ الفِكر الَّتي تسَّلَلَت من خلالِها شبهاتُ هذا الباب، فاحكمته بأحسنِ ما يكون البَيان، تقول فيه:
«لم تُدهَش مكَّة حين أُعلِن نبأُ المصاهرةِ بين أعزِّ صاحِبين وأوفى صَديقين، بل استقبلته كما تستقبلُ أمرًا طبيعيًّا مَألوفًا ومُتوقَّعًا، ولم يجِد فيها أيُّ رَجلٍ مِن أعداء الرَّسول أنفسِهم مَوْضعًا لمَقال، بل لم يَدُر بخَلَدِ واحدٍ مِن خصومِه الألدَّاءِ أن يتَّخذ من زواجِ محمَّد صلى الله عليه وسلم بعائشة مَطعنًا أو مَنفذًا للتَّجريحِ والاتِّهامِ، وهم الَّذين لم يتركوا سبيلًا للطَّعن عليه إلَّا سَلكوه، ولو كان بهتانًا أو زورًا.
وماذا عساهم يقولون؟! هل يُنكرون أن تُخطَب صبيَّة كعائشة لم تَتجاوز (التَّاسعة) مِن عمرها؟ .. وأيُّ عَجَبٍ في مثل هذا؟ وما كانت أوَّلَ صبيَّةٍ تُزَفُّ في تلك البيئة إلى رجلٍ في سِنِّ أبيها، ولن تكون كذلك أُخراهنَّ.
(1)
«قضايا المرأة» لمحمد الغزالي (ص/67).
لقد تَزوَّج عبد المطلَّب الشَّيخُ مِن هالة الزُّهريَّة بنت عمِّ آمنة في اليوم الَّذي تَزوَّج فيه عبد الله أصغر أبنائِه مِن تِرْبِ هالة (آمنةِ بنت وهب)، وسيَتزوَّج عمر بن الخطَّاب مِن بنتِ علي بن أبي طالب وهو في سِنٍّ فوق سِنِّ أبيها، ويَعرِضُ عمر على أبي بكر أن يتزوَّج ابنته الشَّابة حفصة، وبينهما مِن فارقِ السِّن مثل الَّذي بين الرَّسول وعائشة ..
لكنَّ نَفرًا مِن المُستشرقين يَأتون بعد بضعةِ عشر قرنًا مِن ذلك الزَّواج، فيهدِرون فروقَ العصرِ والبيئة، ويَقيسون بعَيْنِ الهوى زواجًا عُقِد في مكَّة قبل الهجرة، بما يحدُث اليومَ في الغرب، حيث لا تَتَزوَّج الفتاة عادةً قبل سِنِّ الخامسة والعشرين، وهي سِنٌّ تُعتَبر حتَّى وقتِنا هذا جِدُّ متأخرةٍ في الجزيرة العَربيَّة، بل في الرِّيفِ والبوادي مِن المشرق والمغرب»
(1)
.
وبعد؛
فها قد أَذَبْنا جليدَ الوَهمِ القابعِ في أذهانِ بعضِ المُتأفِّفَةِ مِن زواجِ الصَّغيرات، ليحين الشُّروع في تفصيلِ الرَّدِ على أفرادِ الشُّبهات المُسلَّطةِ على سِنِّ زواجِ عائشة رضي الله عنها، فنقول:
أمَّا دعوى المُعترض في شُبهتِه الأولى: من أنَّ عُمْرَ عائشة رضي الله عنها مع البِعثة كان أربعَ سنوات، باعتبارها أصغرَ مِن أختها أسماء بعشرٍ، وكان عمر هذه مع البعثة أربعة عشر، ومُؤدَّى ذلك أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم حين عقد على عائشة في السَّنة العاشرة من البعثة، كانت بنتَ أربع عشرة سنة .. إلخ.
فجواب ذلك أن يُقال:
إنَّ حِسْبَته هذه قائمةٌ على أساسِ أنَّ الفرقَ العُمْرِيَّ بين عائشة وأختِها أسماء هو عشر سنين؛ وبعد تفحصِّنا لهذه المعلومة، وجدناها لا تَستند إلَّا إلى روايةٍ
(1)
«تراجم سيدات بيت النبوة» (ص/256 - 257).
تاريخيَّة واحدة! تَفرَّد بها عبد الرَّحمن بن أبي الزِّناد (ت 174 هـ) يقول فيها: «كانت أسماء بنت أبي بكر أكبر مِن عائشة بعشر سنين»
(1)
، وفي روايةِ ابن عبد البرِّ عنه:«بعشر سنين أو نحوها»
(2)
.
فأمَّا ابن أبي الزِّناد هذا، فيقول فيه أحمد:«ضعيفُ الحديث»
(3)
، و «مضطرب الحديث»
(4)
.
ويقول ابن معين: «ليس مِمَّن يَحتَجُّ به أصحاب الحديث»
(5)
.
ولم يَرتضِه معهما ابنُ مهدي، ويحيى القطَّان، وأبو زرعة الرَّازي، ولا أكثر المُحدِّثين في روايتِه
(6)
، غيرُ قلَّةٍ مَشَّت حالَه
(7)
، بِما لَا ينهضُ لمِدافعةِ تضعيفِ الأئِمَّة له.
ولَئِن سَلَّمنا قولَ هؤلاءِ القِلَّة فيه، فليس يتَّجِه الحكمُ بصحَّةِ ما يَنفرد به عن الحُفَّاظ الثِّقات
(8)
، ولذا نَقل الخَطيبُ اتِّفاقَ أهل النَّقلِ عل تضعيفِه، وقال:«أجمعَ الحُفَّاظ على تركِ الاحتجاجِ به فيما انفردَ به»
(9)
.
فعلى هذا يكون خبرُه في الفَرقِ بين عُمرَيْ عائشة وأسماء رضي الله عنهما مَردودًا عليه! فضلًا عن انفراده به دون أهلِ الحديثِ والتَّواريخِ، ومخالفته لما يُقرِّرونه تَواترًا من سِنِّ عائشة.
(1)
رواه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (69/ 10).
(2)
«الاستيعاب» لابن عبد البر (2/ 616).
(3)
«الضعفاء الكبير» للعقيلي (2/ 341).
(4)
«تهذيب التهذيب» (4/ 41).
(5)
«تهذيب التهذيب» (4/ 41).
(6)
انظر أقوال العلماء في تضعيفه في «تاريخ بغداد» (11/ 494).
(7)
كالترمذي في «الجامع» (ك: اللباس، باب ما جاء في الجمة واتخاذ الشعر، بعد حديث رقم: 1755)، والعجلي في «الثقات» (ص/292).
(8)
كما قرره ابن حبان في «المجروحين» (2/ 56).
(9)
«المتفق والمفترق» (1/ 163) بتصرف يسير.
ومِمَّا يؤكِّد خِفَّةِ ضبطِ ابن أبي الزِّناد للفارق العُمريِّ بين الأُختين في روايتِه نفسِها، قوله في آخرها:« .. عشر سنين أو نحوها»
(1)
، وهذا الشَّكُ أو الظَّن منه لا يجوز أن يرُدَّ ما جَزَم به الثِّقات في أخبراهم، على التَّنزُّلِ في كونِه ثِقةً كما أسلفنا.
ومع كلِّ هذا نقول: إنَّه على افتراض صحَّةِ روايةِ ابن أبي الزِّناد هذه، فإنَّه لا يستحيلُ الجَمعُ بينها وبين باقي الرِّواياتِ في سِنِّ عائشة عند الزَّواج! وذلك بأن يُقال:
كان مَولِدُ أسماء قبل البِعثة بستِّ أو خمسِ سنوات، وعائشة بعد البِعثة بأربع أو خمس سنوات، ولمَّا تُوفِّيت أسماء عامَ (73 هـ)
(2)
، كان عمرُها إحدى أو اثنتين وتسعين سنةً، وهو الَّذي احتمَلَه الذَّهبي بعد نقلِه روايةَ ابن أبي الزِّناد في فارقِ العُمْرِ بينهما، كما في قوله:« .. فعلى هذا يكون عُمْرها إحدى وتسعين سنة، وأمَّا هشام بن عروة، فقال: عاشت مائة سنة، ولم يَسقُط لها سِنٌّ»
(3)
.
لكن قد علمتَ أنَّ رواية ابن أبي الزِّناد ضعيفةٌ أصلًا، وأنَّ الاتِّفاقَ مُنعقد بين أهل السِّيَر على أنَّ عائشة رضي الله عنها تَزوَّجت وعمرُها ستُّ سنين، كما اشتهرَ عندهم أنَّها ماتَتْ وعمرُها ثلاثٌ وستُّون سنة وأشهُر
(4)
، وذلك عام (57 هـ) أو (58 هـ)، فيكون بذا عمرُها قبل الهجرة: سِتُّ سنوات وأشهر، أو سبع سنوات، فإذا جَبَرنا الكسرَ يكون عمرُها عامَ الهجرةِ النَّبوية ثمانِ سنين، ويكون عمرُها عند دخولهِا على النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بثمانيةِ أشهر هو تسعُ سنين
(5)
.
(1)
وهي الَّتي رواها ابن عبد البَّر من طريق نصر بن علي عن الأصمعي عنه، ونصرٌ ثقة حافظ، وهذه الطريق أقوى من الطريق الأخرى التي عند ابن عساكر من غير هذه الزيادة، لأنها من طريق محمد بن أبي صفوان، وقد خلا من توثيق مُعتبر.
(2)
وهذا تاريخٌ متَّفق عليه بين المؤرِّخين، وانظر «حلية الأولياء» (2/ 56)، و «تهذيب الكمال» (35/ 125).
(3)
«سير أعلام النبلاء» (3/ 380).
(4)
انظر «تهذيب الأسماء واللغات» للنووي (2/ 13)، و «سير أعلام النبلاء» (2/ 193).
(5)
«السَّنا الوهَّاج» (ص/212).
فعلى هذا تكون دَعْوى (البِحيريِّ) في إجماعِ كُتُبِ التَّاريخ على كِبَرِ أسماءَ على عائشةَ بعشرٍ دعوى منه كاذبة! وليس مُجرَّدُ تَناقُلهم لروايةِ ابن أبي الزِّنادِ وسَوْقِها في كُتبهم دليلًا على صحَّتِها لَديهم! هذا أمرٌ مُسَلَّم به عند من يفهم مناهج المؤرِّخين.
فهذا الذَّهبي -مثلًا- وهو عُمدةٌ في السِّيَر والتَّواريخ -بشهادةِ (البِحيريِّ) نفسِه! - يَرى أنَّ «أسماءَ أسَنُّ مِن عائشة ببضعِ عشرة سنة»
(1)
لا بعشرٍ، والبضعُ مِن الثَّلاثةِ إلى التِّسعة؛ فلو قُلنا أنَّها تكبرُها بتسعةِ عشر عامًا -مَثلًا-، وكان عمرُها وقتَ الهجرة سبعةً وعشرين عامًا: فإنَّ عُمْرَ عائشة وقتَ الهجرة يكونُ ثماني سَنوات! وهو ما يُوافق ما جاء عنها في الرِّواياتِ الصَّحيحةِ المُتَّفق عليها
(2)
.
فهل مِن الإنصافِ الانكبابُ على أَثَرٍ فَرْدٍ وَاهٍ مِن حيث سندُه، ليُطعَنَ به في كلِّ تلك الرَّواياتِ الصَّحيحةِ، وما استفاض خَبَرُه في كُتِبِ السُّنةِ والسِّيَر؟!
لكن للأسف، قد تَكرَّر هذا المَزلَقُ المَنهجيُّ في مَواضع أُخَرَ مِن مَقالِ (البِحيريِّ) هذا، من ذلك:
دعواه أنَّ ابنِ حَجرٍ ذكرَ في «الإصابة»
(3)
: كونَ فاطمة رضي الله عنها وُلِدَت عامَ بناءِ الكعبة والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنُ خمسٍ وثلاثين سنة، وأنَّها كانت أسَنَّ مِن عائشة بخمس سنواتٍ، وعلى هذه الرِّواية خرَّجَ كوْن عائشة وُلِدت وللنَّبي صلى الله عليه وسلم أربعون سنة عند البِعثة، ما مُؤدَّاه عنده: أنَّ عائشة عند زواجِها بعد الهجرة قد جاوزت الأربعة عشرَ سنةً!
ثمَّ قال (البحيريُّ) بعد هذه الحِسبة: « .. وقد أوْرَدتُ هذه الرِّواية فقط لبيانِ الاضطرابِ الشَّديدِ في روايةِ البخاريِّ» !
يقول هذا وهو الَّذي أقَرَّ في نفسِ مَقالِه -قُبَيْل هذا الكلامِ- أنَّ هذه الرِّواية في مَولدِ فاطمة وفارِق الخمسِ بينها وبين عائشة «ليست قويَّة» !
أَفَيَستقيم الحكمُ بالاضطرابِ على روايةٍ في البخاريِّ لأجل روايةٍ أخرى خارَجه ضَعيفةٍ؟! بل مُنكرةٍ بمنظارِ أهل الفنِّ؟! فإنَّها مِن روايةِ الوَاقديِّ وهو مَتروك، فضلًا عن انقطاعِ سَندِها بين أبي جعفر البَاقر والعَبَّاس رضي الله عنه.
إنَّ ما تَبَجَّح به المُعترضُ مِن تلك المَراجع التَّاريخيَّة الَّتي ساقَها أوَّلَ مقاله، يَزعمُ إسنادَها لِما خَرج به مِن شَواذِّ نتائجِه في عُمْرِ عائشة، لا يوافقه عليها أحدٌ مِن أربابِ تلك المَراجِع نفسِها الَّتي استشهَدَ بها، والَّتي وَصَفها بأنَّها (مؤصَّلة)! ولا خَطَرت -والله- بِبالِ أصحابها! وبِها نُدينُه!
فلا ابنُ الأثير
(1)
، ولا ابنُ عساكر
(2)
، ولا الذَّهبيُّ
(3)
، والطَّبري
(4)
، وابن كثير
(5)
، والخطيب
(6)
، وابن خلِّكان
(7)
: يختلفون في كونِ عائشة قد زُوِّجِت بالنَّبي صلى الله عليه وسلم وهي بنتُ ستٍّ، ودَخَل بها وهي بنتُ تسع.
وأمَّا دعواه في المعارضة الثَّانية من أنَّ أبناءَ الصِّديق وُلِدوا كلُّهم في الجاهليَّة، ونسبَ ذلك إلى الطَّبري .. إلخ:
فإنَّ سَوْق نصِّ الطَّبري كافٍ في بَيانِ كذبِ هذه النِّسبةِ إليه، ولعلَّ المُعترض أُوتِيَ مِن عَجَلتِه في فهمِ كلامِ العلماء بحسب ما يهواه ولو بتحريفِه، دون تَرَوٍّ في تأمُّلِه، أو استصحابِ مَذهَبِ قائلِه فيه.
فأمَّا ابن جرير؛ فالَّذي قاله على وَجهِ التَّفصيل:
«حَدَّث عليُّ بن محمد، عمَّن حدَّثه ومَن ذكرتُ مِن شيوخه، قال:
تزوَّج أبو بكر في الجاهليَّة قتيلة -ووافقه على ذلك الواقديُّ والكلبيُّ- .. فوَلَدت له عبد الله وأسماء.
(1)
«الكامل في التاريخ» (2/ 77)(2/ 151).
(2)
«تاريخ دمشق» (3/ 173، 180).
(3)
«سير أعلام النبلاء» (3/ 129).
(4)
«تاريخ الطبري» (2/ 398).
(5)
«البداية والنهاية» (4/ 326).
(6)
«تاريخ بغداد» (13/ 148).
(7)
«وفيات الأعيان» (3/ 16).
وتزوَّج أيضًا في الجاهليَّة أمَّ رومان بنت عامر .. فوَلدت له عبد الرَّحمن وعائشة.
فكلُّ هؤلاء الأربعة مِن أولادِه، وُلِدُوا مِن زَوْجَتيه اللَّتين سمَّيناهما في الجاهليَّة.
وتزوَّج في الإسلام أسماء بنت عُميس، وكانت قبله عند جعفر بن أبي طالب .. فوَلَدت له محمَّد بن أبي بكر .. وتزوَّج أيضًا في الإسلام حبيبة بنت خارجة .. فوَلَدت له بعد وفاتِه جارية سُمِّيت أمَّ كلثوم»
(1)
.
قلت: فبَيِّنٌ جدًّا مِن كلام ابن جريرٍ أنَّ الجارَ والمجرورَ في قولِه «في الجاهليَّة» مُتعلِّق بالأزواجِ
(2)
، لا بالأولاد! وذلك أنَّ كلامَ الطَّبري مَسوق أصلًا لتَمييزِ زوجاتِ أبي بكرٍ إلى مَنْ كُنَّ له في الجاهليَّة، ومَنْ كُنَّ له في الإسلام، لم يُرِد بكلامِه البتَّة تعريجًا على ميلادِ أبناءِه! ولو كان المُراد من كلامِ الطَّبريُّ تعلُّقَ الجار والمجرور «في الجاهليَّة» بأولادِ أبي بكر الأُوَل، لكان الأوْلَى له والأفصح -وهو الفصيح النَّصيح- أن يقول:« .. فكلُّ هؤلاء الأربعة مِن أولادِه وُلِدُوا في الجاهليَّة مِن زَوجتيه اللَّتين سمَّيناهما» .
ولِم نذهب بعيدًا؟! ألا يعلَمُ (البِحيريُّ) كونَ ابن جريرٍ مِمَّن يقرِّر زواجَ عائشة بالنَّبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ستِّ سنين -كما أشرنا إليه مِن قبلُ-، ولازم ذلك عند الطَّبري: أنَّها وُلِدت بعد البعثة النَّبوية بأربع سنوات، لا في الجاهليَّة كما يدَّعيه هذا المُعترض المُستدِلُّ بالطَّبري!
هذا لتعلمَ جُرْمَ مَن يستدِلُّ بكلام إمامٍ مُحتمِلِ الدَّلالةِ على مسألةٍ يُريد تقريرَها، معرضًا عن نَصٍّ آخر له قطعيِّ الدَّلالة في المسألةِ نفسِها.
(1)
«تاريخ الطبري» (3/ 425).
(2)
والأصل في اللُّغة ثبوت التَّعلُّق لأقربِ مَذكور، رفعًا لأيِّ اِلْتباسِ.
وأمَّا دعوى المعترضِ في شُبهتِه الثَّالثة: أنَّ عائشة رضي الله عنها ذكرت أنَّها لم تعقِل أبويها إلَّا وهما يَدينان الدِّين قبل هجرة الحبشة، وأنَّها عقلت وقتها زيارات النَّبي صلى الله عليه وسلم لبيتهم، والهجرة إلى الحبشة كانت في العام الخامس مِن البِعثة .. إلخ
فجواب ذلك أن يُقال:
نَصُّ كلام عائشة رضي الله عنها تقول فيه:
(1)
.
هذا نصُّ كلامها، تُخبِرُ فيه بخروجٍ مَخصوصٍ إلى الحبشة، وهو خروجُ أبيها الصِّديق رضي الله عنه وحدَه؛ ولم تَعنِ مُطلقَ خروجِ المسلمين إلى الحبشة؛ وذلك أنَّ الهجرة إلى الحبشة وَقعت مرَّتين:
أولاها: في السَّنة الخامسة للبِعثة.
وثانيها: ما بين العامِ السَّادسِ والتَّاسع للبِعثة
(2)
.
والَّذي يَعنينا هنا في أيِّهما كان خروجِ أبي بكر رضي الله عنه، فيُقال في جوابه:
لقد ذَكَرَ ابن إسحاق أنَّ نقضَ الصَّحيفة، ووفاةِ أبي طالب وخديجة: كان عَقِب خروجِ أبي بكر رضي الله عنه، ومَعلوم أنَّ هذه الأحداث لم تكُن في زَمنِ الهجرةِ الأولى إلى الحبشة سنةَ خمسٍ للبِعثةِ قطعًا، وإنَّما وَقَعَت هذه الأحداث ما بين الثَّامنةِ والعاشرةِ للبِعثة!
ترى تقرير هذا التَّاريخ عند ابن كثير في قولِه: « .. كلُّ هذه القَصَص ذكَرَها ابنُ إسحاقٍ مُعترضًا بها بين تَعاقد قريشٍ على بني هاشم وبني المطَّلب، وكتابتِهم
(1)
أخرجه البخاري في (ك: المناقب، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، رقم: 3905).
(2)
«سيرة ابن إسحاق» (ص/213 - 222)، و «السيرة النبوية الصحيحة» لأكرم العمري (1/ 169).
عليهم الصَّحيفة الظَّالمة، وحصرِهم إيَّاهم في الشِّعب، وبين نقضِ الصَّحيفة، وما كان مِن أمرها، وهي أمور مناسبة لهذا الوقت»
(1)
.
وبهذا يُعلَم: أنَّ خروجَ أبي بكر رضي الله عنه إلى الحبشة كان أواخرَ زَمَنِ حِصارِ قريشٍ لبني هاشم، ليكون عمر عائشةَ وقتَها في الخامسةِ أو قريبًا منها؛ وهو المُلائِم لقولهِا:«لم أعْقِل أبَوَيَّ قطُّ إلَّا وهما يَدِينَان الدِّين .. » .
وأمَّا دعوى المعترضِ في المعارضة الرَّابعة: أنَّ خولةَ بنت حكيم رضي الله عنها ما كانت لتعرضَ عائشةَ على النَّبي صلى الله عليه وسلم إلَّا على سَبيل جاهزيَّتِها للزَّواج، لا على سَبيل أن ينتظرها سنواتٍ لتكبُر:
فالعَجَب مِن (العَقَّاد) ومَن تقلَّد شُبهته! كيف سوَّغَ لنفسِه استنباطَ أمرٍ خفِيٍّ من النَّص، وفي النَّص نفسِه ما يناقِضُه؟! حيث ذكرت خولةُ رضي الله عنها أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تزوَّجَ عائشة رضي الله عنها وهي في السَّادسةِ.
فعن أبي سلمة بن عبد الرَّحمن، ويحيى بن عبد الرَّحمن بن حاطب، ينقُلان الحديثَ عن عائشة رضي الله عنها قالا:«لمَّا هَلكَت خديجة رضي الله عنها، جاءت خولة بنت حكيم رضي الله عنها امرأة عثمان بن مظعون، قالت: يا رسول الله ألا تزوَّج؟ قال: «مَن؟» قالت: إن شئتَ بِكرًا، وإن شئت ثيِّبًا؟ قال:«فمَن البكر؟» قالت: ابنة أحبِّ خلقِ الله عز وجل إليك: عائشة بنت أبي بكر، قال:«ومَن الثيَّب؟» قالت: سَودة بنت زمعة، .. قال:«فاذْهبِي فاذكريهما عَليَّ» .
فدخلتُ بيتَ أبي بكر، .. فقال لخولةَ: ادْعِي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدَعَتْه، فزوَّجها إيَّاه وعائشة يومئذ بنت ستِّ سنين .. »
(2)
.
فإن قبلوا هذه الرِّواية للاستشهاد، فليقبلوها بِما فيها جملةً!
(1)
«البداية والنهاية» (4/ 235).
(2)
رواه أحمد في «المسند» (رقم: 25769)، قال مُخرِّجوه:«إسناده حسن» ، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (5/ 389)، والطبراني في «المعجم الكبير» (23/ 23، رقم: 57).
وخولة إنَّما عرضتْ على النَّبي صلى الله عليه وسلم ما عَرَضت حين رأته أعزبًا، فلمَّا قبل عرضها وتزوَّج بالمَعروضةِ عليه، فشأنُه حينئذٍ بأهلِه! إنْ شاءَ دَخل بها، وإنْ شاء أرجى ذاك حسْبَ ما يَراه مصلحةً.
وأمَّا قول المُعترِض في شُبهتِه الخامسة: أنَّ المطعم بن عدي قد سَبَق إلى خطبةِ عائشةَ لابنه جُبَير، ولن تكون هذه الخطبة بينهما إلَّا قبل البِعثة، إذ يبعُد انعقادها مع افتراق الدِّينين، ويبعُد أن تكون عائشة مخطوبةً قبل سنِّ السَّادسة لشابٍ كبير، فضلًا أن تُخطب للمشركين وهم يحاربون المسلمين.
فجواب ذلك أن يُقال:
لقد أُوتي أربابُ هذه الشُّبهة مِن جَهْلِهم بأحكامِ القرآن ناسخه ومَنسوخه، حيث رَفعوا بُنيانَ اعتراضهم على أساسِ حُرمةِ المُصاهرةِ بين المسلمين والمشركين في جميعِ سنواتِ الدَّعوة الإسلاميَّة.
وأيُّ طُوَيلب عِلمٍ عارفٌ بأنَّ تزويجَ المُسلمين للمشركين لم يُحرَّم إلى بعد الهجرةِ إلى المدينة، عند نزولِ قولِه تعالى في سورة البقرة:{وَلَا تُنكِحُوا الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]، فلم تُحرَّم المُصاهرة بينهما مطلقًا إلَّا بعد الحديبيَّة، بعد نزولِ قوله تعالى في سورة الممتحنة:{لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].
فعلى ذلك، يكون تواعد الصِّديق رضي الله عنه والمُطعم بن عديٍّ على تزويجِ عائشةَ لابنِه لم يَزَل وقتَها على البراءةِ الأصليَّة في الإباحة، «ولهذا كان أبو العاص بن الرَّبيع زوجَ ابنة النَّبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مُسلمةً وهو على دين قومه، .. إلى أن أسلمَ زوجها العاص بن الرَّبيع سنة ثمانٍ، فردَّها عليه بالنِّكاح الأوَّل، ولم يُحدث لها صَداقًا»
(1)
.
ثمَّ أقول: ما المانع أصلًا في أن تكون عائشةُ مَخطوبةً مِن جبيرٍ طفلةً صغيرةً بل رضيعةً «كما يَتَّفِقُ أحيانًا بين الأُسَر المتآلفة»
(2)
-وهذه عبارةُ (العَقَّاد) نفسِها- وحينئذٍ يكون أبو بكر مسلمًا عند ذلك، باعترافِه؟!
ومِن جَهالاتِ (البِحيريِّ) بالسِّيرةِ في عهدِها المَكِّي أيضًا:
جَعْلُه خِطْبةَ المُطعم بن العديِّ ابنة أبي بكرٍ رضي الله عنه لوَلدِه غير جائزةِ الوقوع، لكونِه مِمَّن آذوا المسلمينَ في مكَّةَ! والمسكينُ لا يدري أنَّ المُطْعِمَ وإن ماتَ مُشركًا، إلَّا أنَّ الله قد سَلَّمَه هو تحديدًا مِن وِزْرِ أَذِيَّةِ المسلمين، حيث أبقى فيه بَقيَّةً مِن نَخوةِ العَرَب ومُروؤَتها.
فمطعمٌ هو مَن سَعَى في قِلَّةٍ من أصحابِه إلى نَقْضِ صَحيفة قَطيعةِ بني هاشم
(1)
!
وهو مَن أجارَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حين عودتِه مِن الطَّائفِ إلى مكَّة، حتَّى طافَ بعُمرةٍ
(2)
، في جملةٍ من إحسانِاتِه الَّتي لم يَنْسَه له نبيُّنا صلى الله عليه وسلم ولو بعدَها بسِنِين، حتَّى قالَ في أُسارَى بَدْرٍ:«لو كان المُطعم بن عَديِّ حيًّا، ثمَّ كلَّمَني في هؤلاء النَّتْنَى، لَتركتُهم له!»
(3)
.
وأمَّا دعوى المُعترضِ في شُبهتِه الخامسةِ: تعارضَ حديثِ زواجِ عائشةَ مع قولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُنكَح البِكر حتَّى تُستَأذن» .
فيُقال تمهيدًا لجوابه:
لا يَسوغُ مِن جهةِ الأصول نَصبُ خِلافٍ بين نَصَّين بما يَقتضي اعتمادَ أحدِهما دون الآخر إلَّا بتعذُّر الجَمعِ بينهما، فإنْ أمكنَ ذلك جمعًا تَأتلِف به أدلَّةُ الشَّريعة، ويَجري على مِنْوالِ الفقهاءِ في قواعدِهم: فإعمالُ الدَّليلين حينئذٍ -ولو مِن وَجهٍ- أَوْلى مِن إهمالِ أحدِهِما
(4)
.
وإنَّ لنا في بابِ قواعد استنباطِ للأحكامِ ما يكفي المُجتهِدَ الحصيفَ على هذا الجَمعِ بيُسْرٍ مِن غير تكَلُّف، ومِن أهمِّ تلكم القَواعدِ: بناءُ العَامِّ على
(1)
انظر «سيرة ابن إسحاق» (ص/162)، و «دلائل النبوة» لأبي نعيم (1/ 272).
(2)
انظر «سيرة ابن هشام» (1/ 381).
(3)
أخرجه البخاري (ك: فرض الخمس، باب ما من النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس، رقم: 3139).
(4)
انظر «الإحكام» لابن حزم (1/ 161)، و «التمهيد» للإسنوي (ص/409).
الخاصِّ، والمُطلَقِ على المُقَيَّد، وعليه حَمَلَ الفقهاءُ لكثيرٍ مِن السُّنَن القوليَّة العامَّة على سُنَنٍ فِعليَّة تُخصِّصُها أو تُقيِّدُها
(1)
.
يقول صاحبُ نظمِ «المَراقي»
(2)
:
في حقِّه القَولُ بفعلٍ خُصَّا *** إنْ يَكُ فيه القَولُ ليس نَصًّا
ففي هذه القاعدة يندرج الحَديثان اللَّذان ادَّعَى (البِحيريُّ) تَعارضَهما! وذلك:
أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُنكَح البِكرُ حتَّى تُستَأذَن» مِن القولِ العامِّ الَّذي خصَّصُه فعلُه صلى الله عليه وسلم، وفعلُ صَحابتِه من بعده، فقد «زَوَّج غيرُ واحدٍ مِن أصحابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم ابنتَه صغيرة»
(3)
.
لِتعلمَ أنَّ عمومَ حديثِ الأمرِ بالاستئذانِ إنَّما هو في كلِّ بِكْرٍ إلَّا في الصَّغيرة ذات الأبِ، إذْ جائزٌ لأبيها أن يُزَوِّجها ولو بغير استِئذانِها، فإنَّ الصَّغيرةَ لا عَبارةَ لها ولا إذْنَ لمثلِها
(4)
، والاستئذانُ لا يكون إلَّا للعاقلِ البالغِ، وأُنيطَ اختيارُ الكُفْؤِ لها بأبِيها لمزيدِ عقلِه وشَفَقتِه عليها.
وهذا حكمٌ مُستنبطٌ عند الفقهاء من نفسِ قِصَّة زواجِ عائشة رضي الله عنها مع دلائل أخرى.
يقول الخَطَّابي بعد سَوْقِه لحديثها في ذلك: «في هذا دَلالةٌ على أنَّ البِكر الَّتي أُمِر باستئذانِها في النِّكاح، إنَّما هي البَالغُ دون الَّصغيرةِ الَّتي لم تَبلُغ، لأنَّه لا مَعنى لإذْنِ مَن لم تكُن بالغًا، ولا اعتبارَ برِضاها ولا بسخطِها»
(5)
.
(1)
انظر «المهذب في أصول الفقه المقارن» (4/ 1596).
(2)
انظر «نشر البنود في شرح مراقي السعود» (2/ 21)، و «مراقي السعود» منظومة ألفيَّة في أصول الفقه، لصاحبها عبد الله بن إبراهيم العلوي الشنقيطي (ت 1235 هـ)، انظر ترجمته في «الأعلام» للزركلي (4/ 65).
(3)
«الأمَّ» للشافعي (9/ 118).
(4)
«فتح الباري» لابن حجر (9/ 191).
(5)
«معالم السنن» (3/ 213).
فهذا ما نُقِل عليه الإجماع، وجُعِل مِن مُستَنَداتِه حديثُ عائشة رضي الله عنها هذا؛ كما قال ابنِ المُنذر:«دَلَّ هذا الحديث على أنَّ البِكْرَ الَّذي أُمِرنا باستئذانِها: البَالغُ، إذْ لا مَعنى لاستئذانِ مَن لا إذْنَ لها مِن الصِّغار، إذ سكوتُها وسخطُها سواء .. وأجمعَ أهلُ العِلمِ: على أنَّ نكاحَ الأبِ ابنتَه البكرَ الصَّغيرة جائزٌ إذا زَوَّجها مِن كُفؤٍ، .. وحُجَّتهم في ذلك حديثُ عائشة»
(1)
.
وبهذا نكون -بتوفيق من الله تعالى- قد أخْمَدنا نيرَانَ مَن حاوَل إحراقَ هذه الحقيقة التَّاريخيَّة بشُبهاتِ تمَعقُلِه، وكشفنا زَيْفَ دعاوي حِرْصِه على صورةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم كيف تَؤُول إلى إسقاطِ الثِّقة في أخبارِ شَريعتِه؛ والحمد لله.
(1)
«الإشراف» لابن المنذر (5/ 16، 19).