الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفعُ المعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرة
عن حديثِ خلق المرأةِ مِن ضَلعٍ
تمهيد:
لعلَّك بعد أن قرأتَ تلك الشُّبهاتِ المُصلطةِ على هذا الحديث، قد وقع في نفسك أنَّ هذا الرَّشقَ لحديثنا بحجارةِ المُعارضاتِ ليس مجرَّد استنكارٍ بَريءٍ لمِا أفاده مِن أصلِ خِلقةِ حوَّاء ومادّتها! بل مَرامِي حربِهم تلك على الحديث وأضرابِه أبعدُ مِن ذلك بكثير.
إنَّه سَعيٌ لقطعِ جهيزةِ كلِّ نصٍّ شَرعيٍّ يُشتَمُّ منه تَبعيَّة المرأةِ للرَّجل، وتكليفه بالقيامِ على شؤونِها، في عصرٍ تحرَّرت فيه المرأة الرُّوميَّةُ مِن كلِّ حَقٍّ وواجب! وصَارت في وطنِها كالحَمَلِ السَّائب، مُنفلِتةً مِن كلِّ ما يُعكِّرُ حُرِّيَتها، مُعترضةً على كلِّ مَيْزٍ لها عن الرَّجلِ؛ فلو قدرت أن تُكلِّفه بالحَملِ في بطنِه والإرضاعِ مِن ثَديِه، لفَعلت! بدعوى لزوم المُساواة بين الجنسين.
إنَّ الَّذي يجعلُ بعضَ مَن يَستميتُ في إنكارِ تخلُّقِ أُمِّنا مِن زوجِها آدم عليه السلام، أزعمُ أنْ ليس ذلك منه بالضَّرورةِ عن دافعٍ عِلميٍّ مَنهجيٍّ مُتجرِّد، بل أكثره عن عاملٍ نَفسيٍّ بَحْت، بخلفيَّةٍ فكريَّةٍ سابقة، وتحت ضغطٍ ثقافيٍّ غربيٍّ رهيب.
إنَّها ثقافةٌ مُستوردة شَرِسة، تَقتنِص عقلَ المسلم للتنكُّرِ لسُنَّةِ نبيِّه؛ ونَزعةٌ نِسويَّة ناعمة، تجثم على صدرِ كلِّ مَن خفَّ دينُه وعقلُه، تُرهِبه بكلِّ ألقابِ
الرَّجعيَّةِ والتَّخلُّفِ والظَّلاميَّة، إنْ هو أبى الانصياعَ لإغواءِها، وتَشبَّث بوحيٍ إلهيٍّ يُخالف تَصوُّراتها للحياةِ، ويُناقضُ نظرتَها لوظيفةِ كِلا الجِنسين على وجهِ البَسيطة.
حتَّى صِرْنا نَرى لوائحَ هذه الحملةِ باديةً بلا مُواربةٍ، على ألسُنِ مَن يُزعَم فيهم النَّفحَ عن الدِّين، كحالِ (عدنان إبراهيم)! ذاك المُتحذلقُ الَّذي رأيتُه في إحدى خُطَبِه المرئيَّة السَّيارة جاهرًا بالإنكارِ صُراحًا على حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم بجُرأةٍ قلَّ مثيلُها، لا تُعهَد إلَّا مِن أساطينِ الحَداثة، يقول فيها:
وبعد؛ فهذا أوان الشُّروع في نَسفِ هذه الشُّبهات عن هذا الخَبَرِ النَّبويِّ الصَّحيح، أقول فيه مستعينًا بالله:
قد أجمعَ المسلمون قاطبةً على كونِ آدم عليه السلام مَخلوقًا مِن سلالةٍ من طينِ الأرض، بمستندِ ما أخبرَ الخالق عز وجل به في آياتٍ مِن مُحكمِ تنزيلِه.
وأمَّا زوجُه حوَّاء، ففي طبيعةِ المادَّة الَّتي خُلِقت منها قولانِ لأهلِ العِلم:
القول الأوَّل: أنَّها مَخلوقةٌ مِن أحدِ أضلاعِ آدم عليه السلام، وهذا مَذهب جماهيرِ المفسِّرين مِن السَّلف
(1)
، تراها فيما تُنوقِل عنهم مِن أقوالٍ عند تفسيرِهم لقولِه تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء: 1].
منها: ما رَواه السُّدي في «تفسيره»
(2)
عن ابن عبَّاس وابن مسعود رضي الله عنهم، وأناسٍ آخرينَ مِن أصحابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قالوا: «أُخرِج إبليس مِن الجنَّة ولُعِن،
(1)
انظر في ذلك «غرائب التَّفسير» للكرماني (2/ 772)، و «البحر المحيط» لأبي حيان (1/ 253).
(2)
انظر «جامع البيان» للطَّبري (1/ 548)، و «التَّوحيد» لابن منده (1/ 213)، و «الأسماء والصِّفات» للبيهقي (2/ 259)، و «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (1/ 234)؛ ورواة هذا الأثر عند السُّدي ثقات، قال ابن منده في «التَّوحيد» (1/ 214):«هذا إسناد ثابت» .
وأُسكِن آدم عليه السلام حين قال له: {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، فكان يَمشي فيها وَحشِيًّا ليس له زوج يسكُن إليها، فنامَ نومةً فاستيقظ، وإذا عند رأسِه امرأةٌ قاعدة خلَقَها الله عز وجل مِن ضلِعِه .. »، إلى آخر حديثِهم.
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه في قولِه تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} قال: خُلِقت المرأة مِن الرَّجل، فجُعِل نَهمُتها في الرِّجال، وخُلِق الرَّجل مِن الأرض، فجُعِل نهمتُه في الأرض»
(1)
.
وعنه قال: «حوَّاء مِن قُصَيْرَى
(2)
آدم وهو نائم»، وعن:«حوَّاء خُلقت مِن آدم، مِن ضلع مِن أضلاعه» ، ورُوي نحوه عن مجاهد
(3)
، وقتادة
(4)
، والضَّحاك، ومقاتل بن حيَّان، ورواه السُدِّي عن أشياخِه
(5)
.
فهذا التَّفسير مِن هؤلاءِ الأعلامِ لا أعلَمُ لهم فيه مخالفًا مِن طَبقتِهم -فيما أحسبُ- حتَّى جَعَله ابن جَريرٍ قولَ أهلِ التَّأويل
(6)
؛ فكان الفرضُ أن يُصار إليه، وحَسمُ مادةِ الخلافِ به.
وكان مِمَّا احتجَّ به هؤلاء على تخلُّقِ حوَّاء مِن آدم تفسيرًا للآيةِ: حديثُنا هذا: «إنَّ المرأة خُلِقت مِن ضِلع» ، حيث أنَّ ظاهرَه مُرشدٌ إلى مَعنى خَلقِها مِن الضِّلع الحقيقيِّ، وإخراجِها منه عند أصلِ الخِلقة، واحتملَ هذا المعنى عامَّةُ شُرَّاحِ الحديثِ
(7)
.
القول الثَّاني: أنَّ حوَّاءَ خُلِقت مِن ترابٍ كما خُلِق آدم منه، ولم تُخلَق مِن ضلعِ ذاتِه؛ ولم يَرَوا هؤلاء أدلَّةَ القولِ الأوَّلِ صَريحةً فيما ذَهبوا إليه، وأنَّ المُرادَ
(1)
«تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 852)
(2)
القُصيري: آخر الأضلاع من كل شيء ذي ضِلَع وأقصرها، انظر «العين» للخليل (1/ 279).
(3)
«جامع البيان» لابن جرير (6/ 341)، و «تفسير ابن أبي حاتم» (3/ 853).
(4)
«جامع البيان» لابن جرير (6/ 341).
(5)
انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (5/ 1630)، و «كشف المشكل» لابن الجوزي (3/ 478).
(6)
«جامع البيان» (20/ 161).
(7)
انظر «شرح النووي على مسلم» (10/ 57)، و «الكواكب الدراري» للكرماني (19/ 130)، و «فتح الباري» لابن حجر (6/ 368).
عند أربابِ هذا القولِ مِن قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : أي مِن جِنسِها، نَظير قولِه تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل: 72]، وقولِه:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21].
ولذا قال (محمَّد عبدُه): «إنَّ المعنى هناك على أنَّه خَلق أزواجًا مِن جِنسنا، ولا يصِحُّ أن يُراد أنَّه خَلق كلَّ زوجةٍ مِن بَدنِ زوجِها!»
(1)
.
وكان الفخر الرَّازي (ت 606 هـ) قد عَزى هذا القول إلى اختيارِ أبي مسلمٍ الأصفهاني المُعتزِليِّ
(2)
!
وزادَ (عدنان إبراهيم) دعمًا لهذا الاختيارِ الاعتزاليِّ بعضَ الأدلَّةِ القرآنيَّةِ، حسِبها أقربَ للقطعِ بنَفْيِ خلقِ حَوَّاء مِن آدم، وأَدْعى لتصحيحِ هذا القولِ دون قولِ جماهيرِ المُفسِّرين.
مِن ذلك: استشهادُه بقولِه تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ} [السجدة: 7] على كونِ حوَّاء مخلوقةً مِن طينٍ كشأنِ آدم، بدعواه: دخولِها في النَّوعِ الإنسانيِّ الَّذي أفاده عمومُ اللَّفظِ في الآية، فتراه يقول:« .. حتمًا أنَّ الإنسان هنا -على ما جَرَت به عادةُ النَّظم الكريم، والذِّكر الحكيم- تَشملُ وتَضمُّ النَّوعين جميعًا، أي: بَدَأ خلقَ آدم وخلقَ حوَّاء من طين، .. هذا ما تُعطيه ظاهرُ هذه الآية، الَّتي تُوشك أن تكون نَصًّا في الموضوع»
(3)
!
وقد أبى (عدنانُ) إلَّا الشُّذوذَ كعادته عن علماءِ الأمَّة في تفسيرِهم لآية النِّساء: {الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، حيث قال هو:
«ستقولون: إنَّ ما في الآية: {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} هو آدم قطعًا وليست حوَّاء، وأنَّ {زَوْجَهَا} هي حوَّاء، وأنَّا سأصدِمُكم الآن! وسأصدم -تقريبًا- كلَّ المفسِّرين!
(1)
«تفسير المنار» (1/ 232).
(2)
انظر «التفسير الكبير» للرازي (9/ 477 - 448).
وأبو مسلم الأصفهاني (ت 322 هـ): هو محمد بن بحر، معتزلي المذهب، عالم بالتفسير وبعض صنوف العلم، وله شعر، وليَ أصفهان وبلاد فارس للمقتدر العبَّاسي، واستمر إلى أن دخل ابن بويه أصفهان سنة 321 هـ فعُزل، من كتبه «جامع التأويل» في التفسير، انظر «الأعلام» للزركلي (6/ 50).
(3)
من خطبته «حواء هل خلقت من ضلع آدم؟!» بتاريخ 25/ 1/2008، المنشورة تفريغًا على موقعه الرسمي بتاريخ 1/ 5/2015 م، وجميع كلامه الذي أنقله تباعًا من هذا المصدر نفسه.
لأقول: الَّذي استروِحُ إليه، وأستكينُ إليه: أنَّ النَّفسَ الواحدةَ هي حوَّاء! والزَّوج هو آدم! فلَم يَبْقَ مُتعلَّق لأحدٍ بهذه الآية، حتَّى يقول: نُصَحِّح حديثَ: «خُلِقَت مِن ضلع آدم» ..
تعلمون لماذا؟ لسَببَين اثنين:
قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} ، هل الزَّوج فيها الذَّكرُ أم الأنثى؟! ..
لِنَعُد إلى القرآن، فخيرُ ما يُفسَّر به القرآن هو القرآن، ولنقرأ في سورةِ الأعراف:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]؛ فالزَّوجُ هنا واضحٌ أنَّه الذَّكَر، وآية الأعراف هي آية النِّساء ذاتُها! ليس هناك فرقٌ بينهما، ولا نعرف كيف غَفَل المفسِّرون عن التقاطِ هذه الإشارةِ القرآنيَّة! .. فقطعًا النَّفسُ الواحدةُ في الأولى هي المُؤنَّث: وهي حوَّاء، والزَّوج المُذكَّر: وهو آدم ..
إذن؛ الأرجحُ في آيةِ النِّساءِ أن يُرادَ بالنَّفسِ الواحدةِ: حوَّاء، والزَّوج: هو آدم، فهل آدم خُلِق مِن حوَّاء وهو جزءٌ منها؟! غير صحيح طبعًا .. إنَّما {مِّن} بيانيَّة، أي: خُلِق مَن جنسِها ونوعِها زوجًا لها .. ». اهـ
فهذا مجمل أدلَّةِ القولين في أصلِ خِلقةِ حوَّاء، وعليهما انْبَنى مَوقف أصحابِها من معنى حديثِ البابِ، فحيث أنَّ الحديث يحتمل لفظُه المعنيَّين السَّالفين جميعًا
(1)
، حقيقةً ومَجازًا:
رَجَّح الفريقُ الأوَّل: القولَ بالحقيقةِ، استنادًا إلى أنَّ في الكلامِ الأصل الحقيقة، مع اعتضادِهم بظاهرِ آية النِّساء، وما سُقناه من بعضِ الآثارِ السَّلفيَّة المُصرِّحة بذلك.
ورجَّح الفريق الثَّاني: المجازَ في الحديث على الحقيقة، إذ لم يجدوا دليلًا صريحًا في تَعيِّين مادةِ حوَّاء، فبقي الأصلُ عندهم في خِلقتِها أنَّها مِن نفسِ مادَّةِ زوجِها آدم؛ ثمَّ إنَّهم رأوا الحديثَ لم يَنسِبْ الضِّلع لآدم! وعليه خَرَّجوه مخرجَ
(1)
«المحرر الوجيز» لابن عطية (2/ 4).
الاستعارة، ومُؤدَّاه عندهم: أنَّ النِّساء خُلِقن مِن شيءٍ كالضِّلع في اعوجاجِه، أي خُلِقن خلقًا فيه اعوجاجٌ وشذوذٌ تُخالف به الرَّجل، فهي مَطبوعة على العِوَج معه، وجعلوا نظيرَ هذه الاستعارة في قولِ الله تعالى:{خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]
(1)
؛ فيكون الحديث على ذلك قد حُذِف منه المُشبَّه ووجهُ الشَّبه والأداة جميعًا، واستُعِير لفظُ المُشبَّه به للمُشبَّه على سبيلِ الاستعارةِ التَّصريحيَّةِ الأصليَّةِ
(2)
.
والَّذي أكدَّ عندهم هذا المعنى مَجيءُ «الحديثِ بصيغةِ التَّشبيه في روايةٍ
(3)
عن أبي هريرة بلفظ: «إنَّ المرأةَ كالضِّلع
(4)
.. »
(5)
.
وبعد؛
فالَّذي أَراه أقربَ للحقِّ في هذه المسألةِ: مَذهبُ جمهورِ العلماءِ مِن أهل التَّفسير والحديثِ أربابِ القولِ الأوَّل، لمِا ذكرتُ مِن أدلَّتِهم على ذلك آنفًا، أُعَزِّز رسوخَها في المُراد بدفعِ مُعارضاتِ القول الثَّاني، فأقول:
أمَّا آية النِّساء: فهي وإن لم تُصرِّح بخلقِ حوَّاء مِن نفسِ آدم -هكذا باللَّفظ كما هي دعوى المُعترِض- إلَّا أنَّ الظَّاهر المَفهوم منها ابتداءُ خلقِ حوَّاء مِن نفسِ آدم
(6)
، وأنَّه أصلها الَّذي اختُرعِت وأُنشئِت منه، وهذا أمرٌ لا مَدفَع له.
يقول عبد الرَّحمن النَّتيفي (ت 1385 هـ)
(7)
: «الأصلُ في النَّفسِ أن تُطلَق
(1)
«البحر المحيط» لأبي حيان الأندلسي (3/ 494)، و «مرقاة المفاتيح» لعلي القاري (5/ 2117).
(2)
انظر «عارضة الأحوذي» لابن العربي (1/ 155)، و «فتح الملهم» لموسى شاهين (6/ 45).
(3)
الرواية عن سعيد بن المسيِّب والأعرج كما في «الصَّحيحين» .
(4)
أخرجها البخاري في (ك: النكاح، باب المداراة مع النساء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما المرأة كالضلع»، رقم: 5184)، ومسلم في (ك: الرضاع، باب الوصية بالنساء، رقم: 1468).
(5)
«سلسلة الأحاديث الضعيفة» للألباني (13/ 1140).
(6)
انظر «البحر المحيط» لأبي حيان (3/ 494).
(7)
عبد الرحمن بن محمد النتيفي: فقيه نظَّار، نسبة إلى قبيلة (انتيفة) قبيلة أطلسيَّة من القبائل المطلة على سهل تادلا وسطَ المغرب، ينتهي نسبه الشَّريف إلى جعفر بن أبي طالب، وَصَفه حافظ المغرب وقتها بو شعيب الدُّكالي بأنَّه «علَّامة ألمعي، وذكي حافظ لوذعي» ، ألَّف أزيد من سبعين مؤلفًا، مُعظمها في نصرة ما يراه حقًّا في السُّنة، منها «نظر الأكياس في الردِّ على جهمية البيضاء وفاس» ، و «الإرشاد والتبيين في البحث مع شُراح المرشد المعين» ، توفِّي سنة (1385 هـ 1966 م) بالدار البيضاء، انظر ترجمته في مقدمة تحقيق كتابه «حكم السنة والكتاب» (ص/9) دار الجيل، ط 2، 1431 هـ
على روحِ الشَّخص، أو على روحِه وجَسدِه، أو على الشَّخص، فإطلاقُها على الجنسِ والماهيَّة لا قرينةَ عليه في الآية؛ وإذا دارَ الأمرُ بين الحذفِ وعَدمِه، فالأصلُ عَدمُ الحذفِ، ولا ضرورةَ تُلجِئ إلى الحذفِ هنا، ومِن أبعدِ البعيدِ أنْ يذكُر الله تعالى هذه الآيةَ ثلاثَ مرَّات، ولا يذكُر فيها ذلك المَحذوف الَّذي لا يتِمُّ المعنى إلَّا به»
(1)
.
فلأنَّه هو الظَّاهر مِن الآية، قال به أمثالُ ابن عبَّاس، ومجاهد، والسُّدي، وقتادة، وغيرهم مِن أعلمِ النَّاسِ بمعاني الوَحي، ولا أحسب المُعترضَ يَخالُ نفسَه بإزاِء هؤلاءِ شيئًا!
وأمَّا ما يَدَّعيه أربابُ القولِ الثَّاني في تفسيرِ الآيةِ هو في حقيقتِه مُجرَّد احتمال، و «الأصل الظَّاهر لا يُترَك للاحتمالِ»
(2)
.
وفوق هذا نقول: إنَّه لا بُدِّ مِن التَّشبُّثِ بهذا الظَّاهر مِن الآية «كيْ يصِحَّ قولُه تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}، إذ لو كانت حوَّاء مُستقلَّة في خلقِها عن نفسِ آدم، لكان النَّاسُ مَخلوقِين مِن نَفْسَين، لا مِن نفسٍ واحدةٍ!»
(3)
.
وهذا إلزام واضح؛ وبه تَعلَمُ إفراطَ (رشيد رضا) في دَعواه أنَّه لولا التَّوراة والآثار الواردة في خلقِ حوَّاء مِن آدم، لم يكُن ليخطر على بالِ قارئِ القرآنِ هذا المعنى مِن آية النِّساء
(4)
!
ولا مَجال لأمثالِ (عدنان إبراهيم) أنْ يزعمَ بأنَّ آية النِّساءِ مِن قَبِيلِ قولِه تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل: 72] ونحوِها مِن الآيات، لكي يتوسَّل بذلك إلى أنَّ المُرادَ بآيةِ النِّساءِ: الجنسَ والنَّوعَ، أي كما الحالُ في هذه الآيات.
(1)
«الأيادي البَيضا، مع الشيخين عبدُه ورشيد رضا» (ق 128/ب).
(2)
«الإحكام» للآمدي (1/ 116)، و «البحر المحيط» للزركشي (6/ 291).
(3)
«التفسير الكبير» للرازي (9/ 477 - 448).
(4)
«تفسير المنار» (4/ 270).
فهذا قِياسٌ منه فاسدٌ مِن عِدَّة أوجُه:
أوَّلها: أنَّ ظاهرَ كلِّ نَصٍّ بحسبِه، فلا يَلزم مِن اتِّفاقِ نصَّينِ في العبارةِ أو بعض الألفاظِ، أن يتَّفِقا في ظاهرِ المَعنى المُرادِ.
وشاهدُنا على ذلك: الآية نفسُها الَّتي استدلَّ بها المُعترض مِن سورة الرُّوم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ، فهي «لا تُنافي الآيات الدَّالة على خلقِ حوَّاء مِن آدم؛ لأنَّه لا يَتَوَهَّم أحدٌ أنَّ خلْق أزواجِنا مِن أضلاعنا! ولا خلق أزواج نبيِّنا من ذلك؛ بل واضحٌ أنَّ الأنفس هنا مُطلقة بإزاء الأجناس، والقرينة: عَدمُ صِحَّة الحقيقة»
(1)
.
فلا يصحُّ إذن أن يُقال في الآية: ظاهرُها أنَّ زوجاتِنا خُلِقْنَ مِن ذَواتِنا مَعاشرَ الرِّجال؛ فليس الظَّاهر منها ذلك أصلًا! لأنَّ الظَّاهرَ مِن كلِّ نَصٍّ ما تَبادر إلى فهم المُخاطَب، ورُكنُ ذلك مُراعاةُ سِياق الكلام، والقرائن، واستحضار باقي النُّصوص.
بل الظَّاهر الحَقُّ منها أن يُقال: إنَّ الله خلقَ لكم نسائَكَم «مِن شكلِ أنفسِكم وجِنسِها، لا مِن جنسٍ آخرَ، وذلك لما بَين الاثنين مِن جنسٍ واحدٍ من الإلفِ والسُّكون، وما بين الجنسين المختلفين مِن التَّنافر»
(2)
.
فهذا الَّذي نزعمُ أنَّه المُتوافق مع سياقِ الآية المقرِّرة لمعنى الامتنانِ على الزَّوجين بالمَودَّة والرَّحمة.
فإذا تحقَّقنا هذا الأصل؛ فإنَّ الآيتين اللَّتين استشهد بهما المُعترض قد افترقتا مِن الأساسِ عن آيةِ النِّساءِ في اللَّفظِ نفسِه! فإنَّهما وَرَدتا بالفعلِ (جَعَل)، بخلافِ آية سورةِ النِّساء حيث وَرَدت بالفعلِ (خَلَق).
وبين الفِعلَينِ فَرقٌ لِمن تَدبَّر! وهذا الاختلافُ في اللَّفظ مَقصودٌ للمُتكلِّم به سبحانه، بل هو مِن إعجازِ القرآن في بلاغتِه! وذلك لأنَّ آية النِّساء لمَّا كانت في
(1)
«الأيادي البيضا» لعبد الرحمن النتيفي (ق 128/ب) مخطوط.
(2)
«الكشَّاف» للزمخشري (3/ 472).
خلقِ حوَّاء مِن آدم، ناسَبَ التَّعبير عنه بقوله:(خلق)؛ بينما آيَتا الأعراف والنَّحل: حين لم يُرَد بهما حقيقةُ الخلقِ مِن نفسِ آدم، عُبِّر عن ذلك بلفظِ (جعل)، لأنَّ الجعل لا يَلزم منه الخلق! فكلُّ خلقٍ جعل، وليس كلُّ جعلٍ خلْقًا، فبينهما عموم وخصوص.
وفي تقرير هذا المعنى الفارقِ الدَّقيق بين اللَّفظين، يقول بدر الدِّين الزَّركشي (ت 794 هـ):
(1)
.
وحاصل القولِ: أنَّ مثل هذا التَّنوُّع في اللَّفظِ القرآنيِّ وتَباينِ سياقاتِ الآياتِ، ممَّا يدلِّل على أحقيَّةِ القولِ الأوَّلِ بالصَّواب، ومَن قال بأنَّ المَعنى خَلْقُها مِن جِنسِها ونوعِها لم يَأتِ بطائلٍ به، لأنَّ ذلك -كما يقرِّره ابنُ عاشور
(2)
- لا يختصُّ بنوعِ الإنسانِ، فإنَّ أنثى كلِّ نوعٍ هي مِن نوعِه أيضًا
(3)
!
(1)
«البرهان» للزركشي (4/ 129).
(2)
«التحرير والتنوير» (4/ 215).
(3)
وما تنازعت فيه بعض الحضارات القديمة من أصحاب المعتقدات الفاسدة في حقيقة المرأة، إنَّما مردُّ جملتِه إلى طبيعة روحِها: أحيوانيَّة أم إنسيَّة، أشيطانيَّة أم آدميَّة، ألهَا روح أصلًا أم لا، لأيِّ شيء خُلقت .. ونحو ذلك، وما اعترض به (عدنان إبراهيم) في خطبتِه -السَّالفة الذكر- من أمثلةٍ على كلام ابن عاشور هو من هذا القبيل المتعلِّق بطبيعة روحِها ودرجتها والمقصد من خلقها، ولم يكن ثمَّة خلاف في آدميَّتها، وحتَّى إن كان فهو محصور مهجور غير ذي بال، فهؤلاء الفِرَنجة (الفرنسيُّون) قد عقدوا مؤتمرهم سنةَ (586 م) -أي زمنَ شباب النَّبي صلى الله عليه وسلم للبحث في آدميَّة المرأة من عدمها، وهل لها روح أم ليس لها روح؟ .. خلصوا في النهاية إلى أنَّها إنسان، لكنها خُلقت لخدمة الرَّجل فقط، انظر «عودة الحجاب» لإسماعيل المقدم (2/ 52).
ثمَّ ظَهَرت لي إشارةٌ قرآنيَّةٌ أخرى، تفيد ما قرَّرْناه في مَعنى آية النِّساء أنَّها في خلقِ حوَّاء من نفسِ آدم: وهي الَّتي في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
فالله يُوجِّه الخطابَ فيها للنَّصارى قائلًا: إنْ كان عَجَبُكم مِن خلقِ عيسى عليه السلام مِن غير ذَكَرٍ قد ساقَكَم إلى القولِ بألوهيَّتِه وبُنوَّتِه لنا، فقد علِمتُم أنَّ خلقَ آدم عليه السلام أعجبُ مِن خلقِ عيسى عليه السلام، فإنَّه خُلِق مِن ترابٍ مِن غير ذكرٍ ولا أنثى! يحتجُّ عليهم بأنَّ المسيحَ هو مثل آدم عبدٌ وليس بإله.
الشَّاهد عندي من هذا: أنَّ إفرادَ ذِكرِ آدم بهذه الخِلقة التُّرابيَّة العَجيبِة، دون قَرْنِ حوَّاء به فيها: دَالٌّ على اختصاصِ آدم بها دون حوَّاء وسائرِ الخلقِ! إذْ لا معنًى لإهمالِ ذكرِ حوَّاء في هذا المِثالِ الحِجاجيِّ لو امتازَت بنفسِ الحالةِ الخِلقيَّة الَّتي امتازَ بها زوجُها آدم مِن هذا الوصفِ الَّذي حاجَّ به الله تعالى النَّصارى، والله تعالى أعلم.
ومُحصَّل القول في هذه المسألة:
أنَّ لفظَ الزَّوجِ في آيةِ النِّساء: أُريد به الأنثى الأُولى الَّتي تنَاسل منها البَشر، وهي حوَّاء، وأُطلِق عليها اسمُ الزَّوج: لأنَّ الرَّجل يكون مُنفِردًا، فإذا اتَّخذَ امرأةً فقد صارا زوجًا في بيتٍ، فكلُّ واحدٍ منهما زَوجٌ للآخر
(1)
.
وأمَّا دعوى (عدنان إبراهيم) أنَّ لفظَ الزَّوج في آيةِ النِّساءِ عائدٌ إلى آدم، اعتمادًا منه على فهمِه الشَّاذ لآية الأعراف: هو فيها مخالفٌ للإجماع! فلا حاجة إلى تَكلُّفِ ردِّه.
ثمَّ الصَّحيح أنَّ {مِن} في قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا} : تَبعيضيَّةٌ تفيد الابتداء، ومعنى التَّبعيض فيها: أنَّه سبحانه أخرجَ خلقَ حوَّاء مِن جزءٍ من آدم.
وقد جاءت أقوال السَّلف في تحديدِ هذا الجزء في الضِّلع، فساغَ بهذا حملُ حديثِ:«خُلقت مِن ضلع» على حقيقتِه ولا حَرج.
(1)
انظر «التحرير والتنوير» (4/ 215).
هذا الحملِ على الحقيقةِ، لا يَمنع منه ما جاءت به رواية أخرى للحديثِ بلفظ التَّشبيه:«إنَّ المرأة كالضِّلع .. » ، لأنَّ قولنا أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أخبرَ بخلقِ حوَّاء مِن ضلع آدم حقيقةً، لا يَعني نَفْيَنا للمقصِد الَّذي سِيقَ لأجله الحديث، وهو: اشتراكُ جملةِ النِّساءِ في صِفةِ الأصل الَّذي خُلِقن منه، وهي صفةِ الاعوجاج في الضِّلع.
(1)
.
فما علينا بعدَ كلِّ ما سُقناه مِن دلائلَ على رجحانِ هذا الفهم للآيات والحديثِ النَّبويِّ، أن يأتي في مثلِ سِفْر التَّكوين خَبرٌ يوافق هذا التَّقرير الشَّرعيَّ! فقد عرَّفنا القارئَ الكريم قبلُ أنَّ ما جاءَ في صُحُف أهلِ الكتابِ مِمَّا يوافق نصوصَ دينِنا، هو ممَّا يعضُد هذه، ويَشهد لتلك بسلامةِ أصلِها مِن التَّحريف، فلا يَلزم أن يكون ما عندنا مِن أخبارٍ شرعيَّةٍ مُستَلًّا مِن تلك الصُّحف بدعوى التَّطابق، مادُمنا نقول بأنَّ مَصدر الوَحيِ الصَّحيح فيهما واحد
(2)
.
فهذا مجمل الردِّ على دعوى المعترضِ في شُبهته الأولى.
وأمَّا دعواه في شبهته الثَّانية تَنقُّصَ الحديثِ للمرأةِ واحتقارها بوصفِها بالاعوجاجِ، وأنَّها مجرَّد تابِعٍ للرَّجل؛ فيُقال في تفنيدِها:
قد قدَّمنا الإشارةَ في ما سَلَف إلى أنَّ الحديثَ يُبِين عن وجهِ الشَّبَهِ بين المرأةِ والضِّلع الَّذي خُلِقت منه، وهو صِفة الاعوجاجِ، الَّذي هو في الضِّلع خَلْقًا، وفي المرأةِ خُلُقًا، والمَقصود بالاعوجاجِ في الحديثِ خاصٌّ بسلوكِ المرأةِ
(1)
«فتح الباري» (9/ 253).
(2)
أمَّا مَن رجَّح أنَّ المُراد من آية النِّساء ومثيلاتها: كون حوَّاء خُلقت مِن جنسِ آدم وشاكلتِه، وأنَّ الحديث سِيق على جهةِ التَّمثيل بالضِّلع الأعوجِ لاضطرابِ أخلاقهنَّ، واعوجاجهنَّ مع أزواجهنَّ فلا يثبُتن معه على حالة واحدة: فأصحاب هذا القول الثَّاني بتأويلهم هذا خارجون بالمرَّة عن دائرة الاتِّهامِ بالإسرائيليَّة.
مع الزَّوجِ فقط، مُؤدَّاه عدمُ استقامتِها على ما يُريدُه دائمًا، للتَّبايُن الفِطريِّ الحاصلِ في العقول والعواطفِ بين الجِنسَيْن، لا أنَّها مُعوَجَّة في أخلاقِها وفهمِها مُطلقًا.
والدَّليل على هذا التَّخصيصِ قوله صلى الله عليه وسلم في آخرِ الخبرِ في رواية مسلم: « .. فإنْ استمتعتَ بها، استمتعتَ بها وبها عِوج، وإن ذهبتَ تُقيمها كَسَرتها، وكَسرُها طلاقُها»
(1)
.
ولا يخفى أنَّ الاستمتاع هنا هو ما يكون بين الزَّوجين، كما أنَّ الطَّلاق لا يكون إلَّا مِن الزَّوج لزوجتِه، وهو المقصود مِن كسرِ الضِّلع إذا أُريدَ إقامتُه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضِّلع أعلاه» : تأكيدٌ لمعنى الكسرِ هذا، لأنَّ الإقامة أمرُها أظهرُ في الجهةِ العُليا، ويحتمِل أن يكون هذا ضَرْبُ مَثلٍ لأعلى المرأة، وهو الرَّأس! فبِهذا الرَّأس وما يحوِيه يحصُل الأذى للرَّجل؛ فضَرَبَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بكسرِها مَثَلًا على طَلاقِها، أي: إنَّكَ إن أرَدْتَ منها أن تترُكَ اعوجاجَها معك، أفضى الأمرُ إلى فِراقِها
(2)
.
والحديث محتملٌ لأن يكون التَّشبيه فيه للنِّساء بالضِّلع لقاسمٍ آخرَ بينهما غير صفةِ الاعوجاج، وهو ما استنبطه ابن هُبيرة (ت 560 هـ) بشفوفِ نَظره، عبَّر عنه في جميلِ كلماتٍ منه بقولِه:«قوله: «أعوج ما في الضِّلع أعلاه» ، يعني به صلى الله عليه وسلم فيما أُراه: أنَّ حُنوَّها الَّذي يَبدو منها، إنمَّا هو عن عِوَج خَلقٍ فيها، وهو أعلا ما فيها مِن حيث الرِّفعة على ذلك، فإنَّ أعلا ما فيها الحُنوُّ، وذلك الحنوُّ فيه عِوَج»
(3)
.
فرحم الله الوزيرَ ابن هُبيرة، ما أرقَّ عبارَته!
ولقد تأمَّلتُ كلامَه طويلًا، فوجدتُ قوَله مُتجلِّيًا في ذاكَ الحُنوِّ مِنها، ومَيَلانها بانحناءِها على أولادِها ومَن تُحِبُّ، رِعايةً لهم وشَفقةً وتَودُّدًا، انحناءٌ
(1)
أخرجه مسلم في (ك: الرضاع، باب الوصية بالنساء، رقم: 1468).
(2)
«فتح الباري» لابن حجر (6/ 368)(9/ 253).
(3)
«الإفصاح» لابن هبيرة (7/ 160).
منها أشبه بشكلِ الضِّلع حقًّا، ناشئ عن فَرطِ عاطفةٍ جَبَلهَا الله عليه، ليُكمِل بها نقصًا في البيتِ لا تُسَدُّ ثُلمَته إلَّا بها.
«أفليسَ في خلقِها مِن أحناءِ صدر الرَّجلِ تَعْيِينٌ لوظيفتها وتوجيه لرسالتها؟! بلى والله؛ إنَّ حُنوَّها على الزَّوجِ والوَلد، كحُنوِّ الضُّلوعِ على القلبِ والكَبد، والأسرة الَّتي تَشبُل
(1)
عليها المرأة، هي العضو الرَّئيسُ في جسمِ الأُمَّة، كما أنَّ الأجزاء الَّتي تَشبُل عليها الضُّلوع، هي الأعضاء الرَّئيسة في جسمِ الإنسان»
(2)
.
ولكم طربتُ لكلامِ مُتولِّي الشَّعراوي (ت 1418 هـ) وهو ينفض غُبارَ التُّهمةِ عن هذا الحديث بسَلاسةِ عِبارة يقول فيها:
«هذا الَوصف مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس سُبَّة في حقِّ النِّساء، ولا إنقاصًا من شأنهنَّ؛ لأنَّ هذا الاعوجاج في طبيعة المرأة هو المُتمِّم لمهمَّتِها.
لذلك نجد أنَّ حنانَ المرأةِ أغلب مِن استواء عقلِها، ومُهمَّة المرأة تَقتضي هذه الطَّبيعة، أمَّا الرَّجل: فعقلُه أغلب، ليناسِبَ مهمَّته في الحياة، حيث يُنَاط به العمل وترتيب الأمور فيما وُلِّي عليه»
(3)
.
وبهذا نَتحَقَّق: أنَّ هذا العِوج في النِّساءِ أمرٌ طبيعيٌّ ناشئٌ عن عاطفتِهنَّ الجيَّاشة، عاطفةٍ قد تغلب على تصرُّفاتهنَّ في البيت، فينزَعِج لها عقلُ الزَّوجِ وطبعُه، لأجلها حَضَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم الأزواجَ على مُراعاةِ ذلك بمُداراتهنَّ، اِستمالةً للنُّفوس، وتألُّفًا للقلوب، فأوصى بـ «الرِّفق بهنَّ، وألَّا يُتَقصَّى عليهِنَّ في أخلاقِهنَّ، وانحرافِ طَباعِهن»
(4)
عمَّا يريدُه الزَّوج، «فلا يَنبغي له أن يحمِلها على عقلِه، فيُكلِّفها مُقتضياتِ كلِّ رأيِه؛ .. فيكون في ذلك كالرَّاحِمِ لها، ويَبْنِي أمرَها على المُسامحة»
(5)
.
(1)
شَبَل على الشيء: أي عَطف عليه وتحنَّن، انظر «جمهرة اللغة» (1/ 345).
(2)
مقال لأحمد حسن الزَّيات بعنوان «مَثَل المصريَّة الحديثة» ، منشور بمجلَّة «الرسالة» (ص/3، العدد 468، بتاريخ: 22/ 6/1942).
(3)
«الخواطر» وهو تفسير الشَّعراوي (19/ 11799).
(4)
«إكمال المعلم» للقاضي عياض (4/ 680).
(5)
«الإفصاح» (7/ 160) بتصرف يسير.
وفي هذه الوصيَّة النَّبوية الجليلةِ المُضمَّنة في هذا الحديث: لَفْتٌ منه صلى الله عليه وسلم لانتباهِ الرَّجلِ، إلى «أنَّ حُسنَ الخُلقِ مع المرأةِ: ليس كَفُّ الأذى عنها، بل احتمالُ الأَذى منها!»
(1)
فمَن رَامَ تقويمَهُنَّ على ما شاء، فاتَه النَّفعَ بهنَّ، وهو لا غِنى له عن امرأةٍ يَسكُن إليها، ويَستعين بها على مَعاشِه، فكأنَّه صلى الله عليه وسلم يقول له: الاستمتاع بعيشِك معها، لا يتمُّ إلَّا بالصَّبر عليها.
هذا ما يفهمَه كلُّ لَبيبٍ ساقَ الله ناصيتَه إلى الهُدى مِن هذا الحديثِ، وعلى هذا الفهمِ الحصيفِ ترجمَ المُحدِّثون الحديثَ في مُصنَّفاتهم، فأدرجوه في بابِ «الوصاةِ أو الوَصيَّة بالنِّساء»
(2)
، وفي باب «مُداراة النِّساء»
(3)
، وفي بابِ «حَقِّ المرأةِ على الرَّجل»
(4)
، وفي باب «حُسنِ المُعاشرةِ بين الزَّوجين»
(5)
.
فأين ما يتكلَّم عنه المُعترضون مِن احتقارِ النِّساءِ وازدراءهنَّ في الحديث؟!
(1)
«مختصر منهاج القاصدين» لابن قدامة (ص/78).
(2)
في «صحيح البخاري» (7/ 26)، و «صحيح مسلم» (2/ 1091)، و «سنن النسائي الكبرى» (8/ 251).
(3)
«مصنف ابن أبي شيبة» (4/ 197).
(4)
«مسند الحارث» (1/ 550)، و «سنن البيهقي الكبرى» (7/ 480).
(5)
«الجامع الصحيح للسُنن والمسانيد» (35/ 128).