الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفع المعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن حديثِ نفخِ الرُّوحِ في الجنينِ
أمَّا دعوى المُعترضِ التَّخالفَ بين حديث ابن مسعودٍ وحديث حذيفة بن أسيدٍ، في كونِ الأوَّل يُثبت الكتابة والتَّخليق بعد الأربعين الثَّالثة، بينما يجعلها الثَّاني بعد الأربعين الأولى.
فيُقال في جوابه: لا تعارض في واقعِ الأمرِ بين متنيهما، ووجه الجمع لائحٌ بين الخبرين، لكن لمِن أعطاهما حقَّهما مِن النَّظر، وكانت له ذائقة لُغويَّة سليمة.
فأمَّا حديث ابن مسعود رضي الله عنه: فلا نُنكِر أنَّ ظاهرَه يُفيد عند التَّجريدِ أنَّ لكلِّ طَوْرِ من أطوارِ الجَنين المذكورة فيه مُدَّةَ أربعين يومًا، ومجموع ذلك مائة وعشرون
(1)
.
لكِن حين نظرنا في باقي أدلَّة هذا الباب، ألحقنا هذا الحديث في عِدادِ المُجمَلات المحتاجة إلى مُبيِّن، كونه ظَنيًّا مِن حيث المَفهوم! والسَّبب في هذا الإجمال والظَّنيَّة: أنَّ قولَه فيه: «مِثلَ ذلك» يحتمل العَودَ على مَذكورَين في الحديث قبله: إمَّا على (جمعِ الخلقِ)، أو على (مدَّة الأربعينَ يومًا).
(1)
جعل هذا هو الظَّاهر من الحديث كثير من الأئمة، كالإمام أحمد، حيث سأله تلميذُه ابن هانئ عن الجَنين: إلى متى يُنفخ فيه؟ قال: إذا تمَّت له أربعة أشهر نُفخ فيه الرُّوح، لحديث عبد اللَّه:«إنَّ أحدَكم يمكث في بطنِ أُمه أربعين صباحًا .. » الحديث، وانظر «مسائل ابن هانئ للإمام أحمد» (رقم:964)، و «شرح مختصر الخِرقي» للزَّركشي (2/ 334).
فإن قُلنا برجوعِه إلى الثَّاني -أي المُدَّة-: اختَلَّ التَّآلف بينه وبين حديثِ حذيفة حقًّا، إذْ معنى ذلك: أنَّه يُثبت لكلِّ مرحلةٍ مِن أطوارِ التَّكوينِ الجَنينيِّ الثَّلاثةِ أربعينَ يومًا، ومجموع ذلك مائة وعشرون، وهو بهذا مناقضٌ لحصرِ حديث حذيفةَ للأطوارِ كلِّها في مدَّة الأربعينَ الأولىن، ومخالفٌ لمكتشفاتِ علم الأجنَّة
(1)
.
أمَّا لو قُلنا برجوعِه إلى الأوَّل -أي أنَّ قولَه «مِثلَ ذلك» عائدٌ على (جمع الخلقِ) -: فحينئذٍ تتحقَّق بُغيَتُنا مِن انتفاءِ التَّخالفِ، إذ به تخلو رواية ابن مسعود من تحديد مدَّةِ كلِّ طَورٍ على حِدة، ويكون حديث حذيفةَ كالمُفصِّل والمُبيِّن له، حيث دلَّ على انطواءِ تلك الأطوارِ في مدَّة الأربعين الأولى مِن تكوينِ الجَنين، وعقيب ذلك تأتي الكتابة وتخلُّقه خلقًا آخرَ.
القصدُ مِن هذا: أنَّ اسمَ الإشارة في قوله «مثل ذلك» لمَّا كان لفظًا يمكن صرفه إلى واحدٍ مِن اثنين ذُكِرا قبله في الحديث -وهما: جمع الخلق، أومدَّة الأربعين- كان بذا لفظًا مُجملًا، يحتاج إلى تعيِين أحدِ المعنَيين السَّالفين دون الآخر.
والَّذي بيَّن لنا هذا المُجمَل وعَيَّن المقصودَ باسم الإشارة فيه: صريح حديثِ حذيفة رضي الله عنه، حيث يمتنِع به حملُ اسم الإشارة في حديث ابن مسعود في قوله «مثل ذلك» على المدَّة الزَّمنيَّة، وإلَّا تخالَف الحديثان بذلك كما قلنا.
والَّذي يدُلُّك على لزومِ حملِ مُجملِ حديثِ ابنِ مسعود رضي الله عنه على مُبيَّنِ حديث ابن أسيد: الرِّواية الأخرى لحديث ابن مسعودٍ نفسِه عند مسلمٍ، حيث جاءت بزيادة «في ذلك» ، وذلك في قولِه:« .. ثمَّ يكون في ذلك عَلقةً مثلَ ذلك، ثمَّ يكون في ذلك مُضغةً مثلَ ذلك» ، أي: في ذلك الوقتِ نفسِه الَّتي يُجمع فيه خلقُ الجَنين أربعين يومًا، هذا الظَّاهر مِن معناها.
(1)
انظر «نموُّ الإنسان، مِن مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنِّين» لآمال صادق، وفؤاد أبو حطب (ص/157 - 162).
ولا يُقال هنا ما قاله بعض العلماء من أنَّ لفظَ «في ذلك» في روايةِ مسلمٍ إشارةٌ إلى المحَلِّ الَّذي اجتمعَت فيه النُّطفة
(1)
! فكأنَّك تقول: (ثمَّ يكون في بطنِ أمِّه عَلقةً مثلَ ذلك، ثمَّ يكون في بطنِ أمِّه مُضغةً مثلَ ذلك .. ): فإنَّ في هذا تكرارًا لا يفيد الحديثَ معنىً جديدًا، ولسانُ النَّبي صلى الله عليه وسلم أبلغُ وأفصحُ مِن أن ينبِس بمثله!
ومِمَّا يُوكِّد أيضًا ما قرَّرناه مِن عَوْدِ اسم الإشارة في قوله «في ذلك» إلى مدَّة الأربعين الأولى غير حديث حذيفة بن أسيد:
حديثٌ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه يرفعه: «إذا استقرَّت النُّطفة في الرَّحِم أربعينَ يومًا -أو أربعين ليلةً- بَعَث إليها مَلَكًا .. » الحديث
(2)
.
وهذا موافق لحديث حذيفة بن أسيدٍ رضي الله عنه في جعل الكتابةَ بُعَيد الأربعين الأولى، وحينها ينتهي طَوْرَا العَلقة والمُضغة، ويَتشكَّل الجنين على صورة الإنسان، وهو معنى قوله:«يُجمَع خلقُه» .
هذا؛ مع أنَّ جمهورَ الشُّراح قد نحوا إلى خلافِ هذا التَّقرير!
(3)
حيث تَتابعوا على القولِ بأنَّ أطوار الجَنين المذكورةِ في حديث ابن مسعود رضي الله عنه تستغرق مائةً وعشرين يومًا بمجموعها؛ فللنُّطفةِ أربعون يومًا في الرَّحِم، وللعَلَقةِ أربعون أخرى، وللمُضغة أربعون ثالثة، فهي أربعوناتٌ ثلاث تستغرقها أطوار تخلُّقِ الجنين على هيئة الإنسان؛ ووافقهم على ذلك كثيرٌ مِن الفقهاء، فرَتَّبوا على هذا
(1)
كذا قال القرطبي في «المفهم» (22/ 16).
(2)
أخرجه أحمد في «المسند» (رقم: 15268)، وقال مُخرِّجوه:«صحيح لغيره» .
(3)
انظر «إكمال المعلم» للقاضي عياض (8/ 126)، و «الإفصاح» لابن هبيرة (6/ 349)، و «شرح صحيح مسلم» للنووي (16/ 190)، و «التَّعيين» للطوفي (ص/85)، و «الكاشف» للطيبي (2/ 534)، و «المفهم» للقرطبي (22/ 16)، و «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (1/ 157 - 158)، و «فتح الباري» لابن حجر (11/ 484 - 489)، و «التيسير بشرح الجامع الصغير» للمُناوي (1/ 263)، و «كوثر المعاني» للخضر الشنقيطي (6/ 127)، وغيرهم كثير.
الفهمِ للحديثِ مسائلَ عديدة، تَتعلَّق بِما تُلقيه المرأة ممَّا يَثبُت به حكم النِّفاس، وتنقضي به العدَّة والاستبراء، وتصير به المرأة أمَّ ولد، ونحو ذلك مِن مسائل الفروع
(1)
.
ولذلك نراهم يتَكلَّفون تفسيرَ حديث حذيفة بن أسيدٍ وتوجيهَه! فمنهم مَن حَملَه على بعض الأجِنَّة، وحمَلَ حديث ابنِ مسعود على البَعضِ الآخر، بدعوى تخصيصِ كلِّ واحدٍ مِن الحديثين بالآخر
(2)
! وهذا مناقضٌ لدلالةِ العمومِ في كِلا الحديثين وسياقِهما.
وذَهَب آخرون، كابن الصَّلاح
(3)
وتبعه ابنُ تيميَّة
(4)
وابن القيِّم
(5)
: إلى إمكانِ أن تكون الكِتابةُ المَلَكيَّة مَرَّتين، جمعًا بين الحديثين، فتكون الأولى عقيبَ الأربعين كما في حديث حذيفة، ثمَّ تكون الثَّانية عقب المائة والعشرين كما في حديث ابن مسعود
(6)
؛ وزاد ابن تيميَّة: احتمالَ أن تكونَّ ألفاظُ حديث حذيفة بن أسيدٍ لم تُضبط حقَّ الضَّبط، ولهذا اختلَفَت رواتُه في ألفاظِه
(7)
!
فكذا قال الفريقان؛ وكِلا الاحتمالين عندي بَعيد.
فأمَّا كون الكِتابة مَرَّتين: فالأظهرُ من الحديثين أنَّها واحدة
(8)
؛ وأيُّ فائدة أن تُكرَّر الأجوبة على المَلَكِ مَرَّتين مُتباعدتين؟!
(1)
انظر مثلًا: «المحلى» لابن حزم (4/ 253)، و «بدائع الصنائع» للصاغاني (3/ 195)، و «المقدمات الممهدات» لابن رشد (3/ 327)، و «الذخيرة» للقرافي (11/ 324)، و «نهاية المطلب» للجويني (14/ 337)، و «المغني» لابن قدامة (8/ 120).
(2)
وهو صنيع الطُّوفي في «التَّعيين في شرح الأربعين» (ص/86).
(3)
«فتاوي ابن الصلاح» (ص/165).
(4)
سيأتي عزو كلامه.
(5)
«التبيان في أقسام القرآن» (ص/345)، و «طريق الهجرتين» (ص/74) كلاهما لابن القيم.
(6)
وقريب من هذا الجمع كلام ابن الملقِّن في «التوضيح» (5/ 97).
(7)
«مجموع الفتاوى» (4/ 241).
(8)
«جامع العلوم والحكم» لابن رجب (1/ 165).
ويبقى أنَّ في حديث حذيفة ذِكر العَظم واللَّحم، وأنَّ التَّصوير والتَّخليق مُقارِنانِ للكتابة، ولن يكون التَّلحيم والتَّخليق مرَّتين بداهةً!
(1)
هذا مع استصحاب خبرِ القرآن الكريم في مُوالاةِ خلقِ العِظام لطَورِ المُضغة مباشرةً، في قوله تعالى:{فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون: 14]، وخلقُ العِظام إنَّما هو ثابت في حديث حذيفة رضي الله عنه بعد اثنين وأربعين يومًا، فلازم ذلك أنَّ تكون نشأة المُضغةِ قبلَه في تلك الأربعين الأولى، وليس في الثَّالثة
(2)
.
وهذا عينُه ما يؤكِّده الطِّب التَّشريحي الحديث
(3)
، كما قد أشرنا إليه سابقًا.
وإنَّما تأتي الشُّبهة هنا على البعض حين يسمع روايةَ حذيفة: «إذا مَرَّ بالنُّطفة ثِنتان وأربعون ليلةً، بَعثَ الله إليها مَلَكًا .. » الحديث، فيتبادر إلى فهمِه منها أنَّ النُّطفة استغرقت مدَّة الأربعين كلَّها وزيادة، فكيف يكون التَّصوير بعدها مباشرةً وليست هي بمُضغة بعدُ؟!
وعلى ذلك استشكل القاضي عياض ما قرَّرناه مِن المُراد بالحديث، فقال:«التَّصوير بإثرِ النُّطفة، وأوَّلِ العَلقة، وفي الأربعينِ الثاَّنية: غير مَوجود، ولا مَعهود!»
(4)
؛ فدعاه هذا إلى تأويلِ التَّصوير في هذه الرِّواية بـ (التَّقدير).
والأمرُ على خلاف ما ظنَّ، فليس في الحديث أنَّ جُرمَ النُّطفة نفسِها تبقى على حالهِا هذه المُدَّة كلَّها، وإنَّما في الكلام طَيًّا لأشياء مَعلومة في الذِهن، وهو
(1)
وتأويل ابن الصَّلاح وبعده ابن تيمية وابن القيِّم لقولِه في حديث حذيفة هذا: «فصَوَّرها» على معنى التَّصوير العلميِّ التَّقديري، أي: فصوَّرها قولًا وكِتابًا لا فِعلًا، فأراه ضربًا من التَّكلُّف مخالفا لظاهر معنى اللَّفظ، وإلَّا فما يقولون في صريحِ قوله بعدها:«فخَلَق سمعَها، وبصرَها، وجلدَها، ولحمَها، وعظامَها» ؟! فهذا يأبى هذا التَّأويل.
(2)
وفي هذا الدَّليل إبطالٌ لِما نقَلَه ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (1/ 158) عن بعض العلماء حملَهم حديثَ ابن مسعود: على أنَّ الجنين يغلب عليه في الأربعين الأولى وصف المنِّي، وفي الأربعين الثَّانية وصف العَلقة، وفي الأربعين الثَّالثة وصف المضغة، وإن كانت خِلْقَته قد تمَّت وتَمَّ تصويره!
(3)
انظر «نموُّ الإنسان، مِن مرحلة الجنين إلى مرحلة المسنِّين» لآمال صادق، وفؤاد أبو حطب (ص/51).
(4)
«إكمال المعلم» (8/ 127).
أسلوب لغويٌّ سائر، كأن تقول مَثلًا مُشيرًا إلى طفلٍ أمامك: إذا مَرَّ بهذا الطِّفل ستُّون سنةً، فقد قرُبَت قِيامتُه، وليسَ معنى هذا أنَّه يَبقى طفلًا طيلة هذه السِّتين إلى أن يُتِمَّها، أو أنَّه لا ينتقل خلالها إلى طور الشَّبيبة فالكهولة! وإنَّما طُوي ذكر هذه المراحل في الكلام طَيًّا للعلمِ بها، كما طُوِيت في ذلك الحديث مراحل التَّكوين طيًّا، وإنَّما اقتُصِر على ذكر طَورِ النُّطفة فيه باعتبارِها أصلَ الجنين ومُبتَدَأه.
وأمَّا في ما يخصُّ التَّشكيك في ضبطِ ألفاظ حديث حذيفة كما ادَّعاه ابن تيميَّة، فجوابه:
أنَّ التَّردُّد في عددِ الأيَّام بين (أربعين) أو (خمسٍ وأربعين) ليس إلَّا في روايةِ عمرو بن دينار عن أبي الطُّفيل، ولا يَضرُّه إذا كان أصل الحديث لا يُشكُّ في صحَّتِه، وحديث ابن مسعود أشدُّ في اختلافِ بعض ألفاظه، كما سيأتي تفصيله.
والَّذي اضطرَّ هؤلاءِ الأئمَّة إلى تكلُّف تأويلِ حديث حذيفة بن أسيد: اعتقادُهم أنَّ دلالةَ حديث ابن مسعودٍ على تخصيصِ كلِّ طَورٍ مِن الأطوار الثَّلاثةِ بأربعين يومًا! اعتمادًا على أنَّ حرف العطف (ثمَّ) في قوله صلى الله عليه وسلم: « .. (ثمَّ) يكون علقةً مثل ذلك، (ثمَّ) يكون علقةً .. » يدلُّ على التَّراخي في التَّرتيب الزَّمَني مستلزمٌ للمُغايرةِ؛ فإذا كانت لمرحلةِ جمعِ الخلقِ الأولى أربعون يومًا، فإنَّ مَرحلتي العَلقة والمُضغة تأتيان بعدها مُستقلَّتين عنها، فليستا ضِمنها، لأنَّهما مَعطوفتان عليها بـ (ثمَّ)!
والجواب عن هذا أن يُقال:
إنَّ جملة «ثمَّ يُبعَث إليه المَلَك .. » هي المَعطوفة على قولِه: «يُجمع في بطنِ أمِّه» ، ومُتعلِّقةٌ به، وليست مُتعلِّقةً بما قبله أي قوله:«ثمَّ يكون مضغةً مثل ذلك .. » !
فعلى ذلك يكون قوله: «ثمَّ يكون علقةً مثل ذلك، ثمَّ يكون مضغةً مثل ذلك» كالجملةِ المعترضِة بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه، وهي مِن تمامِ الكلامِ
الأوَّل: «إنَّ أحدكم يُجمَع خَلْقُه في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا .. » ، فكأنَّها شارِحة ومفصِّلةٌ له.
فليس المُراد -إذن- أنَّ جُمْلَتي العَلَقة والمُضغة تلحقانِ الجملةَ الأولى في الزَّمن، ولا أنَّهما من باب عطفِ المُغايرةٍ ولا تمييزًا بين المَراحل، بل هذا النَّسق في الخِطاب مَحمَله على أنَّه مِن ترتيبِ الأخبار، لا مِن ترتيبِ المُخبَر به في نفسِه، «وذلك جائز مَوجودٌ في القرآنِ والحديث الصَّحيح وغيره مِن لغةِ العَرب»
(1)
.
بيانُ ذلك: أنَّ حرف العطفِ (ثمَّ) وإن كان يأتي في الأصلِ لتَرتيب الأخبارِ مع التَّراخي، فإنَّه يُستعمل في كلامِ العرب لغيرِ معنى التَّرتيب أيضًا إن أفهَمَت قرينةٌ ذلك.
شاهد هذا التَّخريجِ مِن أفصحِ الكلامِ:
قولُ ربِّنا تبارك وتعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} [السجدة: 7 - 9]، «فالمُراد هنا بالإنسانِ: آدم عليه السلام، ومَعلومٌ أنَّ تسويَتَه، ونفْخَ الرُّوح فيه، كان قبل جعلِ نسلِه مِن سُلالةٍ من ماءٍ مَهين، لكنْ لمَّا كان المقصود ذكرَه قدرةَ الله عز وجل في مبدأِ خلقِ آدم وخلقِ نسلِه، عَطَف ذِكرَ أحدهِما على الآخر، وأخَّرَ ذِكرَ تسويةِ آدمَ ونفْخَ الرُّوح فيه، وإن كان ذلك مُتوسِّطًا بين خلقِ آدم مِن طينٍ، وبين خلقِ نسلِه»
(2)
.
فهذا المِثال القرآنيُّ في صَرفِ حروفِ (ثمَّ) عن ظاهِرها، هو عينُ المُراد من أسلوبِ التَّعبيرِ في حديث ابن مسعود! وهو المُتعيِّن في تفسيرِه، وذلك لكي:
يَتوافقَ مع حديثِ حذيفة الصَّريحِ في الدَّلالة على اجتماع الأطوار الثَّلاثة في الأربعين الأولى؛ هذا مِن جِهة.
(1)
انظر «شرح النَّووي على مسلم» (16/ 191)، و «فتح الباري» لابن حجر (11/ 485).
(2)
«جامع العلوم والحكم» (1/ 167).
وليتطابقَ بعدُ مع يَقينيَّاتِ علمِ الأجِنَّة في ذلك، والَّتي تؤكِّد بآلاتِ الرَّصد والمشاهدةِ على انتقالِ الجنين بين تلك الأطوارِ الثَّلاثةِ في أربعينِه الأولى نفسِها، واكتمالِ صورةِ الإنسان بُعيد ذلك مباشرةً؛ هذا مِن جِهة أخرى.
ومن جِهة ثالثة: فإنَّ في نفسِ حديث ابنِ مسعود في جملتِه الأولى: «يُجمَع خلقُه في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا» دلالةً مُحكَمةً على أنَّ الجَنين تجتَمِع خِلقتَه لتكون على هيئةِ الإنسان ما يناهز الأربعينَ ليلةً.
فإن قيل: فقد ذكرتَ بأنَّ (ثُمَّ) قد تأتي في اللَّغة لغيرِ معنى التَّراخي الزَّمني إن أفهَمَت قرينةٌ ذلك، فما المعنى الَّذي أفادته (ثمَّ) في حديث ابن مسعود في لفظ البخاريِّ؟
قلنا: فائدة (ثمَّ) هو بيانُ ما بين تلك الأطوارِ الخَلقيَّةِ مِن التَّفاوت، وفضلٍ كلِّ طَورٍ على سابِقه، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17]
(1)
.
فإن قيل: فقد جاءت بعض رواياتِ حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه مُصرِّحةً بأنَّ مرحلةَ الأربعين الأولى خاصَّةٌ بالنُّطفةِ فقط، وأنَّ العَلقة والمُضغَة تستغرق كلُّ واحدةٍ منهما بعدها أربعينَ يومًا على حِدة، نُقلت إلينا هذه بأسانيد صحيحة!
فجوابُ ذلك: أنَّ هذه الرِّواية شاذَّة مردودة! والدَّليل على ذلك:
أنَّ حديث ابن مسعود رضي الله عنه أشهرُ طُرقِه ما جاء عن الأعمش عن زيد بن وَهب عنه، وعن الأعمش رواه خلائق مِن النَّاس، حتَّى قال ابن حجر:«كنتُ خرَّجته في جزءٍ مِن طرقٍ نحو الأربعين نفسًا عن الأعمش، فغابَ عنِّي الآن، ولو أمعَنتُ التَّتبُّعَ لزادوا على ذلك»
(2)
.
أغلب هذه الطُّرقِ جاءت بنحوِ لفظِ «الصَّحيحين» : « .. يُجمَع خلقُه في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا» ، أي مِن غير ذكرٍ لفظ (النُّطفة) في آخر الجملة الأولى.
(1)
انظر قريبًا من هذا التَّقرير في «الكشَّاف» للزَّمخشري (1/ 123).
(2)
«فتح الباري» (11/ 479).
لكن بخلاف هذه الأغلبيَّة، جاءت بعض الطُّرق عن الأعمشِ على وجهٍ يُصَرَّح فيها بكونِ الأربعين الأولى خاصَّة بالنُّطفة، وأنَّ لكلٍّ مِن طَورِ العَلَقة والمُضغةِ أربَعينَه الخاصَّ.
ولو نظرنا إلى بعضِ هذه الطُّرق النَّظر الإسناديَّ المُجرَّد، لحكمنا عليها بالصِّحة ظاهرًا، لثِقة بعضِ رُواتها عن الأعمش، لكنَّ السَّلامة مِن العِلل شرط في حقيقةِ النِّسبة.
فمِن أصرحِ أمثلة تلك الطُّرقِ المخالفةِ:
روايةُ جرير بن حازم، عن الأعمش، ولفظُها:«تكون النُّطفة في الرَّحِم أربعينَ ليلةً نُطفةً، وأربعين ليلةً علقةً، وأربعين ليلةً مُضغةً، ثمَّ يَبعث إليها مَلَكًا .. » الحديث
(1)
.
وجرير بن حازم -وإن كان ثِقةً عند أهل هذا الشَّأن- لكنَّه تَفرَّد هنا بهذا اللَّفظ، حيث رواه بالمعنى الَّذي فهِمه فأخطأ، وقد عُهِد عليه مثلُ هذا الخطأ مع قوَّةِ حفظِه، حتَّى قال ابن حبَّان:«كان يُخطئ، لأنَّ أكثرَ ما كان يُحدِّث مِن حفظِه»
(2)
.
ولذا نجزِمُ بخطئِه في روايتِه هذه، وأنَّه قد شَذَّ فيها عن اللَّفظ الصَّحيح، لِما تَيقَّنَّاه مِن جِهة الطِّب على وجه الخصوصِ.
كما أنَّنا نجزِم بخطأِ روايةِ:
حفصِ بن عمر الحوضي، وسليمانِ بن حرب، ووهبِ بن جرير، ثلاثتُهم عن شعبة بن الحجَّاج، عن الأعمش، حيث زادوا لفظَ (نطفة) في الجملة الأولى للحديث، على هذا النَّحو:«إنَّ خلقَ أحدِكم يُجمَع في بطنِ أمِّه نطفةً أربعينَ ليلةً وأربعين يومًا، ثمَّ يكون علقَةً مثل ذلك، ثمَّ يكون مُضغةً مثل ذلك .. » الحديث
(3)
.
(1)
أخرجه عبد الله بن وهب في «القدر» (ص/151)، ومن طريقه الطَّحاوي في «مشكل الآثار» (9/ 485).
(2)
«الثقات» (6/ 145).
(3)
أخرجه أبو عوانة في «مستخرجه» (20/ 191، رقم: 11561)، والشَّاشي في «مسنده» (2/ 142، رقم: 682) من طريق وهب بن جرير.
وأخرجه الحربي في «غريب الحديث» (3/ 1216) من طريق الحوضي وسليمان بن حرب.
فزيادة لفظِ (نطفة) في الجملةِ الأولى تجعلُ الكلامَ صريحًا في أنَّ الأربعين الأولى مُدَّةٌ خاصَّةٌ بالنُّطفة، والواقع أنَّها مُدَّة لجميع الأطوار الثَّلاثة كما قرَّرناه، والَّذي يَدلُّك على خطأِ هذه الزِّيادة، فضلًا عمَّا ذكرنا: مخالفةُ جماعةٍ مِن الثِّقاتِ مِن أصحاب شُعبة لأولئك الثَّلاثة عنه، حيث رَووها على اللَّفظ الصَّحيح بدون تلك الزِّيادة
(1)
.
ثمَّ نجزم أيضًا بخطأِ روايةِ:
سَلمة بن كُهيل، حيث رواه عنه فِطر بن خليفة، عن زيد بن وهب، يرفعه عن ابن مسعودٍ بلفظ:«يُجمَع خلقُ أحدِكم في بطنِ أمِّه أربعين يومًا، ثمَّ يكون عَلقةً أربعين يومًا، ثمَّ يكون مُضغةً أربعين يومًا .. » الحديث
(2)
.
وفِطرٌ وتلميذه سَلَمة -وإن كانا ثِقَتين في الجملة- غير أنِّي مَغلوبٌ على ظنِّ أنَّ الخطأَ في هذه الرِّواية مِن قِبَل فِطرٍ، لا مِن سَلمة بن كهيل شيخِه، فإنَّ مِن الأئِمَّة مَن كان يستضعِفُ فِطرًا، كالدَّارقطني
(3)
، وابنُ عديٍّ
(4)
، على خلافِ سَلَمة، فإنَّه كلمة إجماع!
ومصداقُ هذا الظنِّ ما قاله ابن مهدي فيه: «أربعةٌ في الكوفة لا يُختلف في حديثِهم، فمَن اختلَفَ عليهم فهو يُخطئ، ليس هُم، فذَكَر منهم: سَلَمة بن كهيل»
(5)
.
(1)
منهم: آدم بن أبي إياس، كما في «صحيح البخاري» (ك: التوحيد، باب قوله تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} ، رقم: 7454).
وأبو داود الطَّيالسي كما في «مسنده» (1/ 238، رقم: 296).
وهشام بن عبد الملك، وشعيب بن محرز، كما في «صحيح ابن حبان» (14/ 47، رقم: 6174).
(2)
أخرجه الفريابي في «القدر» (رقم: 127)، وبنحوه أخرجه الشَّاشي في «المسند» (2/ 142، رقم: 683).
(3)
كما في «سؤالات الحاكم له» (ص/264)، ولم يُوثِّقه الدَّراقطني كما زعمه مُخرِّجو «مسند أحمد» (7/ 49).
(4)
«الكامل في الضعفاء» (8/ 604).
(5)
«تهذيب الكمال» (11/ 317).
على أنَّ فِطرًا نفسَه قد رواه عنه الحسين بن محمَّد المرُّوذي -وهو ثقةٌ- باللَّفظ الصَّحيح الموافقِ لِما في «الصَّحيحين» ، على النَّحو التَّالي:«يُجمع خَلقُ أحدِكم في بطن أمِّه أربعينَ ليلة، ثمَّ يكون علقَةً مثل ذلك، ثمَّ يكون مضغةً مثل ذلك .. »
(1)
.
وإن كان غيره مِن الثِّقات يَروُونه عن فطرٍ باللَّفظِ الخطأِ كما قد أشرنا إليه آنفًا، فإمَّا: أن يكون الحسين قد غلِط فيه على شيخِه فطر، أو أنَّه كان يتَثبَّت أحيانًا في هذه الرِّواية عن سَلمة بن كهيل، فيَروِيها على وجهِها الصَّحيح أحيانًا، ظانًّا أنَّ كِلا اللَّفظين يُؤَدِّيان نفسَ المعنى.
وحاصل القول: أنَّ زيادة لفظ النُّطفة في هذه الرِّوايات شاذٌّ لا تصحُّ، وقد بانَ لك مَنشأ ذلك في ما تكلَّمتُ عليه مِن أسانيد، وأنَّه مِن تصرُّف الرُّواة بروايتِهم للمعنى الَّذي فهِموه
(2)
.
ولو رُحنا نستقصي باقي الأسانيد الضَّعيفةِ لهذا الحديث
(3)
، بمتونِها المخالفةِ للَّفظِ الصَّحيح، مَرفوعِها ومَوقوفِها: لطالَ بنا المقام جدًّا لكثرتها.
وبعدُ؛
فإنَّه لا يشوِّشُ على هذا التَّقريرِ السَّابق في تحديدِ المُراد من حديث ابن مسعود نقلُ عِياضٍ لاتِّفاقِ العلماء على أنَّ الرُّوح تُنفخ في الجنينِ بعد أربعة أشهرٍ
(4)
، وأخذِ بعضهم مِن ذلك أنَّ حديث ابن مسعود يدلُّ على أنَّ الجنين يَتَقَلَّب في مائةٍ وعشرين يومًا في ثلاثةِ أطوارٍ، كلُّ طورٍ منها في أربعين، لأنَّه حين تكمِلَة
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (7/ 48، رقم: 3932).
(2)
لكنْ عَجَبي مِن ابن تيميَّة، على كثرةِ محفوظِه للمتون ودِقَّتِه فيها، كيف نسبَ في «الفتاوى» (4/ 238) إلى «الصَّحيحين» لفظَ (النُّطفة) في الجملة الأولى من حديث ابن مسعودٍ! وقد سلَّمهما الله بفضلِه مِن هذا الغَلط!
فلعلَّه سبقُ قلمٍ منه، لِما استقرَّ في فهمِه من صِحَّة معناها، وقد بانَ لك خلاف ذلك، وجلَّ مَن لا يسهو.
(3)
إذْ لم ينفرِدْ به زيد عن ابن مسعود، كما قال ابن حجر في «فتح الباري» (11/ 478).
(4)
نقله في «إكمال المعلم» (8/ 123).
صورتِه يُنفخ فيه الرُّوح، وقد علِمنا أنَّها تُنفخ بعد أربعة أشهر، وهي مائة وعشرون يومًا
(1)
.
فإنَّنا نقول: إنَّ قولنا بدلالةِ حديث ابن مسعود على اجتماعِ خلقِ الجنين واكتمالِ أطوارِه الثَّلاثة عقيب الأربعين الأولى، لا يعارض اعتقادَنا بأنَّ الرُّوح تُنفخ بعد أربعة أشهر، فقضيَّة ما أثبتناه في معنى الحديث مِن وقتِ التَّخليق والكتابةِ شيء، وقضيَّة وقت نفخ الرُّوح شيء آخر.
فلسنا مِمَّن يقول أصلًا بأنَّ النَّفخ يعقبُ اكتمالَ طورِ المُضغةِ والتَّخليقِ على الفَور
(2)
،
ولا في حديث ابن مسعود ما يدلُّ على تعيين وقت النَّفخِ بالتَّحديد حتَّى نُعارض بما اتَّفق عليه العلماء مِن توقيت النَّفخ، فإنَّ فيه بعد ذكرِ اكتمال طورِ المضغة:« .. ثمَّ يُنفخ فيه الرُّوح» ، وقد مَرَّ أنَّ حرفَ العطف (ثمَّ) أصلُه أن يفيدَ التَّراخي، وأنَّه لا يُحاد عن هذا إلَّا بقرينة تفُهم خلافه، ولا وجود لها هنا، بل القَرائن تبقيه على أصلِه في عدم الفوريَّة
(3)
.
(1)
انظر «شرح صحيح مسلم» للنووي (16/ 191)، و «فتح الباري» لابن حجر (11/ 483).
(2)
وإنَّا على غير وفاقٍ أيضًا مع مَن يقول بأنَّ نفخَ الرُّوح يكون بعد تمامِ صورة الجنين أصلًا كما أفهمه النَّووي في «شرحه على مسلم» (16/ 191)، فليس على ما هذا القول دلالة مِن جِهة النَّقل ولا جِهة الطَّب.
والَّذي أميل إليه في وجهِ الحكمةِ مِن توقيت النَّفخ بعد المائة والعشرين: أنَّه لأمرٍ آخر غير ما ذهب إليه النَّووي، فالظنُّ أنَّه مُتعلِّق باكتمالِ القدرة لا الصُّورة، أي باكتمال قدرةِ الجَنين على الحركة والاستجابةِ للمُؤثِّرات، بحيث يكون جهازه العصبيُّ الآمِر مُتَّصلًا بقلبه وجميع جوارِحه بشكل متكامل، قابلًا لتنفيذِ مُراداتِه فيهاـ والله تعالى أعلم ـ انظر قرينةَ هذا الرَّأي مِن جهة الطب في الكلام حولَ النُّمو العَصبي للجَنين في كتاب «القرآن وعلم النفس» لـ د. محمد عثمان نجاتي (ص/256).
(3)
وما ورد في «صحيح مسلم» (رقم: 2643) ممَّا ظاهره ذكر الكتابة بعد نفخ الرُّوح، في قوله:« .. ثمَّ يُرسل الملك فينفخ فيه الرُّوح، ويُؤمر بأربع كلمات .. » ، فلا يُشكل على قرَّرنا أعلاه، «لأنَّه قال: ويُؤمر، والواو لا تُعطى رُتبة»، كذا قال في «إكمال المعلم» (8/ 127)، فيكون المُراد مجرَّد ترتيب الأخبار فقط، لا ترتيب ما أُخبر به.
هذا إن سَلِمت هذه الرِّواية من تصرُّف بعض رواتها بالمعنى كما قال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (1/ 162 - 163)، وإلَّا فجماعة الثِّقات الرُّواة لهذا الحديث على غير هذا التَّرتيب.
هذا؛ وأجودُ مَن وقفتُ له مِن علماءِنا الأقدمين يقرِّر هذا التَّوفيق بين حدِيثي ابن مسعود وحذيفة بن أسيد مع المُشاهد من أشكال الأجنَّة عند سقوطِها: كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكانيِّ (ت 727 هـ)؛ فلَكَم سُعدت بتحريرِه لهذه المسألة بأقنعِ عبارةٍ، بعد أن أعياني العثور في كلامِ الشُّراحِ على مثلِه، بعد أن تَتابعت جمهرُتهم على فهمِ حديثِ ابن مسعودٍ على غير ما بيَّنته آنفًا، على قدرِ معارفِ زمانِهم، آجرَهم الله وأحسنَ لهم الثَّواب.
يقول ابنُ الزَّملكانيِّ:
«أمَّا حديث البخاريِّ -يعني حديثَ ابن مسعود: «إنَّ أحدَكم يُجمع خلقُه في بطن أمِّه» - فيدلُّ على ذلك، إذْ معنى «يُجمَع في بطن أمِّه» أي: يُحكَم ويُتقن، ومنه: رَجل جَميع، أي: مُجتمع الخلق، فهما مُتساويان في مُسمَّى الإتقانِ والإحكامِ، لا في خصوصِه.
ثمَّ إنَّه يكون مُضغةً في حِصَّتِها مِن الأربعين، مُحكمةَ الخلقِ مثلما أنَّ صورة الإنسان مُحكمةٌ بعد الأربعين يومًا، فنصَبَ «مثلَ ذلك» على المصدر، لا على الظَّرف! ونظيرُه في الكلامِ قولُك: إنَّ الإنسان يَتَغيَّر في الدُّنيا مُدَّة عمرِه، ثمَّ نشرحُ تغيُّرَه، فنقول: ثمَّ إنَّه يكون رَضيعًا، ثمَّ فطيمًا، ثمَّ يافعًا، ثمَّ شابًّا، ثمَّ كهلًا، ثمَّ شيخًا، ثمَّ هرِمًا، ثمَّ يتوفَّاه الله بعد ذلك .. ، وذلك مِن باب ترتيبِ الأخبار عن أطوارِه الَّتي ينتقل إليها مُدَّةَ بقائِه في الدُّنيا.
ومن الَمعلوم مِن قواعدِ اللُّغة العربيَّة، أنَّ (ثُمَّ) تفيدُ التَّرتيب والتَّراخي بين الخَبر قبلها وبين الخبر بعدها، إلَّا إذا جاءت قَرينةٌ تدُلُّ على أنَّها لا تفيد ذلك، مثل قوله سبحانه وتعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 153 - 154]، ومِن المعلوم أنَّ وصيَّة الله لنا في القرآن جاءت بعد كتابِ موسى عليه السلام، فـ (ثمَّ) لا تفيد ترتيب المُخبَر عنه في الآية.
وعلى هذا يكون حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «إنَّ أحدَكم يُجمع خلقُه في بطنِ أمِّه أربعين يومًا، ثمَّ يكون في ذلك» أي: في ذلك العَدد مِن الأيَّام «عَلقةً» : مُجتمعةً في خلقِها «مثلَ ذلك» : أي مِثلما اجتمعَ خلقكُم في الأربعين، «ثمَّ يكون
في ذلك»: أي في نفسِ الأربعين يومًا «مُضغةً» : مُجتمعةً مكتملةَ الخلقِ المُقدَّر لها «مثلَ ذلك» : أي مِثلما اجتمعَ خلقكُم في الأربعين يومًا»
(1)
.
الجميل في الأمر، أنَّ تجدَ قِلَّةَ العلماءِ الَّذين ذهبوا إلى ما قرَّرناه مِن تأويلِ أحاديث هذا الباب من جعلِ حديثِ حذيفة قاضيًا على حديث ابن مسعود: قد استَنَدوا في هذا المَنزعِ الفقهيِّ إلى أقوالِ علماء الطِّب في عصرِهم! وهذا مِن بَديع التَّوفيقِ مِنهم بين النَّقليَّاتِ في الشَّرع، والكَشْفيَّاتِ في باقي العلوم الصَّحيحة.
لكن لمَّا لم يكُن كلام بعضِ الأطبَّاءِ وَقتئذٍ غيرَ مُثبتٍ على سبيل الجزم كما هو الحال اليوم، عمِل أكثر العلماءِ على تأويلِ هذه الحقيقة لظنِّيَتِها
(2)
.
فأنت ترى مثل ابن حجرٍ في تنوُّع معارفِه، يَنقُل عن أحدِ أولاءِ القِلَّة تقريرَه لهذا النَّمط في توجيهِ النُّصوص، فيقول: «مَالَ بعضُ الشُّراح المتأخرُّون إلى الأخذِ بما دَلَّ عليه حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه مِن أنَّ التَّصويرَ والتَّخليقَ يقع في أواخرِ
(3)
الأربعين الثَّانية حقيقةً، قال: وليسَ في حديثِ ابن مسعود ما يدفعُه.
واستندَ إلى قول بعضِ الأطبَّاء أنَّ المَنِيَّ إذا حصَل في الرَّحم، حصَل له زبديَّة ورغوة في ستَّة أيَّام أو سبعة، مِن غير استمدادٍ من الرَّحم، ثمَّ يستمد مِن الرَّحم، ويَبتدئ فيه الخطوطُ بعد ثلاثةِ أيَّام أو نحوها، ثمَّ في الخامسِ عشر ينفذُ الدَّم إلى الجميع فيصير عَلقةً، ثمَّ تتميَّز الأعضاء، وتَمْتَدُّ رطوبةُ النُّخاع، وينفصل الرَّأس عن المنكِبين، والأطرافُ عن الأصابع، تَمييزًا يَظهر في بعضٍ ويخفى في بعضٍ، وينتهي ذلك إلى ثلاثين يومًا في الأقلِّ، وخمسةٍ وأربعين في الأكثر ..
قال: فيكون قولُه (فيكتُبُ) معطوفًا على قوله (يُجمع) .. »
(4)
، ثمَّ استرسلَ هذا المَنقول عنه في توجيهِ حديثِ ابن مسعود بما يقرُب مِن كلامِنا عليه.
(1)
«البرهان، الكاشف لإعجاز القرآن» لابن الزَّملكاني (ص/275).
(2)
انظر «أثر العلم التَّجريبي في كشف نقد الحديث النَّبوي» لـ د. جميل فريد (ص/220 حاشية).
(3)
كذا في المطبوع، والأصحُّ أن يُقال:«أوائل» ، لِما قرَّرناه في الجمع بين الحديثين، وهو الموافق لما سيأتي من آخر هذا النَّقَل.
(4)
«فتح الباري» (11/ 485).
العجيب أنَّ ابنَ حجرٍ لم يَستسِغ مثلَ هذا النَّظر، فعَلَّق على مُجملِ هذا النَّقلِ مُضَعِّفًا له بقولِه:« .. كذا قال، والحَملُ على ظاهرِ الأخبارِ أوْلى، وغالبُ ما نُقل عن هؤلاء دَعاوى لا دَلالة عليها»
(1)
!
وأقول للحافظ: فقد ظهرَ الآن أنَّ الدَّلالاتَ كلَّها عليها! بل مَن خالَف هذه الدَّعاوى الَّتي نقلتَها كان هو المناقضَ لحقائِق الطِّبِ الحديث، المخالِف مع ذلك للنَّظَرِ الأصوليَّ الرَّجيح.
وبعد كلِّ هذه التَّقريراتِ والنَّقداتِ، يُمكِننا القولُ: أنَّ حديثَ ابن مسعود رضي الله عنه غير مخالفٍ لحديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه، بل مُؤالِفٌ له ومُؤانس، ولا هو مُناقضٌ لحقائقِ الطِّب الجَنيني الحديث، بل سائرٌ في ركبِ إعجازِه ومُجانِس.
فأرجو أنِّي أوضحتُ هذا إيضاحًا ينشرح لَهُ صدر الفاهم الآهل، والله سبحانه المَحمود حقًّا، وله المِنَّة في كشفِ ذلك وحده.
(1)
«فتح الباري» (11/ 485).