الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثَّاني
سَوْق المُعارضاتِ الفكريَّة المعاصرةِ
لحديثِ «إنَّ أبي وأباك في النَّار»
أُسُّ المعارضات الَّتي ألقى بها المخالفون في وجهِ الحديث: دعوى مدافعته للقرآنِ المُثبتِ لنجاةِ عمومِ أهلِ الفترةِ مِن العذابِ الأُخرويِّ، وأنَّ والدَ النَّبي صلى الله عليه وسلم لا ريبَ عندهم مِن أولاءِ الَّذين شَمَلَتَهم تلك الآيات بالإعذار
(1)
.
ففي تقرير هذا الاعتراض على الحديث، يقول (عبد الله بن الصِّديق الغُماري):«خبر الآحاد لا يُقَدَّم على القرآن الكريم .. وهذا الحديث بهذا اللَّفظ شاذٌّ مَردود، لمخالفتِه ما مَرَّ بيانه آنفًا -يعني: الآيات القرآنيَّة- .. »
(2)
.
ومحمَّد الأمين الشَّنقيطي (ت 1393 هـ) -وإن لم يصرِّح هو بإنكار الحديث- يُفهَم مِن كلامِه النُّزوعُ إلى ردِّ دلالة الحديث بظواهرِ بعض آيات القرآن، فهو يجعلُ أبَوَي النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن أهلِ الفترة، وهم مَعذورون في الدُّنيا، لا يلحقهم عذابٌ فيها
(3)
، فيقول في إثباتِ ذلك:
« .. قلتُ ما قلتُ اعتمادًا على نصٍّ مِن كتاب الله قطعيِّ المتن وقطعيِّ الدلالة، وما كُنْتُ لأرُدَّ نصًّا قطعيَّ المتنِ قطعيَّ الدلالة بنصٍّ ظَنيِّ المتن وظني
(1)
سيأتي ذكر الآيات المُعارض بها هذا الحديث عند سَوقِ كلام د. القَرَضاوي قريبًا.
(2)
«الفوائد المقصودة» (ص/92 - 93).
(3)
أمَّا حكم الشَّنقيطي فيهم يومَ القيامة: فسيأتي ذكره عند تفصيل الكلام عن حكم أهل الفترة.
الدلالة عند التَّرجيح بينهما؛ فهذا الحديث خبر آحاد، ومثله حديث أبي هريرة عند مسلم:«استأذنت ربِّي أنْ أزور أمِّي فأذِن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي» ، ولكن أخبار الآحاد ظنيَّة المتن، فلا يُردُّ بها نصٌّ قرآنيُّ قطعيُّ المتن، وهو قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ؛ أي: ولا مُثيبين.
وهذا النصُّ قطعيُّ الدَّلالة، لا يحتمل غير ما يدلُّ عليه لفظهُ بالمطابقة، بخلاف حديث:«إنَّ أبي وأباك في النَّار» ؛ فإنَّه ظنيُّ الدَّلالة؛ يحتمل أنَّه يَعني بقوله: «إنَّ أبي» عمَّهُ أبا طالب؛ لأنَّ العرب تسمي العَمَّ: أبًا، وجاء بذلك الاستعمالِ كتابُ الله العزيز .. والتَّحقيق في أَبَوي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّهما مِن أهلِ الفترةِ .. »
(1)
.
ثمَّ شرع في نفيِ عذابِ أهل الفترة بإطلاق، وسيأتي تفصيلُه.
فأمَّا (محمَّد الغزالي)؛ فكان الأجرأَ على الحَطِّ من الحديث، فعابَ -كعادته- على مَن تواردوا على قَبولِه قلَّةَ فقههِم في الدِّين! بل سوءَ أدَبِهم مع المقَام النَّبويِّ!
(2)
.
وقال: «رأيتُ نَفرًا مِن هؤلاء يَغشون المجامعَ مُذكِّرين بحديثِ أنَّ أبا الرَّسول صلى الله عليه وسلم في النَّار! وشعرتُ بالاشمئزاز مِن استطالتِهم وسوءِ خُلقهم!
قالوا لي: كأنَّك تعترض ما نقول؟ قلت ساخرًا: هناك حديث آخر يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} ، فاختاروا أَحَد الَحديثين .. قال أذكاهم بعد هنيَّة: هذه آية لاحديث! قلتُ: نَعم جعلتُها حديثًا لتهتمُّوا بها، فأنتم قلَّما تفقهون
الكتاب! قال: كانت هناك رسالات قبل البعثة، والعرب من قوم إبراهيم، وهم متعبدون بدينه .. ! قلتُ: العَرب لا مِن قوم نوح، ولا مِن قوم إبراهيم، وقد قال الله تعالى في الَّذين بُعث فيهم سيد المرسلين:{وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ} [سبأ: 44] .. وللفقهاء كلام في أنَّ أبَوي الرَّسول ليسا في النَّار، يردُّون به ما تَروُون .. »
(1)
.
أمَّا (يوسف القَرَضاوي)، وإن استشكل هو المتنَ جدًّا، لكنَّه لم يقتحِم حِماه كشأنِ الغزاليِّ، فكان مِمَّا قاله تعليقًا عليه:
« .. ما ذنبُ عبدِ الله بنِ عبد المطلب حتَّى يكون في النَّار، وهو مِن أهل الفترةِ، والصَّحيح أنَّهم ناجون؟ .. لهذا تَوقَّفتُ في الحديث حتَّى يظهر لي شيءٌ يَشفي الصَّدر.
أمَّا شيخنا الشَّيخ محمَّد الغزالي: فقد رفض الحديث صراحة! لأنَّه ينافي قولَ تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقولَه تعالى:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، {أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19].
والعَرب لم يُبعث إليهم رسول، ولم يأتهم نذير قبل محمَّد صلى الله عليه وسلم كما صرَّحت بذلك جملة مِن آياتٍ في كتاب الله {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] .. {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ} [سبأ: 44].
ولكنِّي أُوثِر في الأحاديثِ الصِّحاح التَّوقف فيها، دون ردِّها بإطلاق، خشيةَ أن يكون لها معنى لم يُفتح علَيَّ به بعدُ»
(2)
.
هذا؛ ويزيد بعض الإماميَّةِ المُحْدَثينَ
(3)
تناقضًا آخر بين الحديث والقرآن، وهو:
(1)
«هموم داعية» لمحمد الغزالي (ص/21 - 22).
(2)
«كيف نتعامل مع السنة النبوية» ليوسف القرضاوي (ص/117).
(3)
وهم في هذه الشُّبهة تَبعٌ لأئمَّتهم المتقدِّمين، وقد عزا هذا القول إلى الشِّيعة واستدلالهم بما يأتي من آية عليه: الفخر الرازي في «مفاتيح الغيب» (13/ 32).
أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم -بزعمِهم- لا زال تُنقَل روحه مِن ساجدٍ إلى ساجدٍ، وأنَّه لم يزل يُنقل مِن أصلابِ الطَّاهرين إلى أرحام الطَّاهرات، شاهد ذلك عندهم قولُ الله تعالى:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218 - 219]، وعلى هذا التَّقدير، فإنَّ جميع آباء محمَّد صلى الله عليه وسلم كانوا مُسلمين غير مشركين!
(1)
(2)
.
(1)
ترى تقرير ذلك -مثلًا- في كتاب «التِّبيان في تفسير القرآن» لشيخ الطائفة الطُّوسي (8/ 68).
(2)
«الحديث النبوي بين الرواية والدراية» (ص/637).