الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفع المُعارضاتِ الفكريَّةِ المعاصرةِ
عن حديثِ دعاء النَّبي صلى الله عليه وسلم لِمَن آذاه أو لَعنه مِن المسلمين
أمَّا ما أبداه المخالفون من دعوى معارضةِ الحديث لمقامِ النُّبوة، فجوابه:
أنْ لم يحصُل أن سَبَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أو لَعَن أو جَلَد مَن لا يستحقُّ ذلك في ظاهرِ الأمرِ، حاشاه مِن ذلك! فهو المَبعوث رحمةً لهم، وقيامًا بالعدلِ بينهم؛ كلُّ ما في الأمر: أنَّه قد يظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقُ ذلك منه على مَن وَقَع عليه، ويكون في باطنِ الأمرِ غير مُستحقٍّ له، وهذا الظَّاهر مِن قوله صلى الله عليه وسلم:«أيُّما أحدٍ دَعَوتُ عليه مِن أمَّتي بدعوةٍ ليس لها بأهلٍ .. »
(1)
.
وفي تقرير هذه الحقيقة، يقول المازَريُّ:
«المُراد بقولِه: «ليس لها بأهلٍ» : عندك في باطنِ أمرِه، لا على ما يظهر إليه صلى الله عليه وسلم ممَّا تقتضيه حالتُه وجنايتُه حين دعائِه عليه، فكأنَّه صلى الله عليه وسلم يقول: مَن كان باطنُ أمرِه عندكَ أنَّه مِمَّن تَرضى عنه، فاجعَلْ دعوتي عليه الَّتي اقتضاها ما ظَهَر إليَّ مِن مُقتضى حالِه حينئذٍ طهورًا وزكاةً، وهذا معنى صحيح لا إحالة فيه، وهو صلى الله عليه وسلم مُتعبَّدٌ بالظَّواهر، وحسابُ النَّاس في البواطنِ على الله تعالى.
(1)
أخرجه مسلم في (ك: البر والصلة والآداب، باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم، أو سبه، أو دعا عليه، وليس هو أهلا لذلك، كان له زكاة وأجرا ورحمة، رقم: 2603).
فإن قيل: فما معنى قوله: «وأغضبُ كما يغضب البَشر» ، وهذا يشير إلى أنَّ تلك الدَّعوة وَقَعت بحُكمِ سَوْرة الغَضب، لا على أنَّها مِن مُقتضى الشَّرع؟ ..
قيل: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أرادَ أنَّ دعوتَه عليه، أو سَبَّه، أو جلده، كان ممَّا خُيِّر بين فعلِه له عقوبةً للجاني، أو تركِه والزَّجْرِ له بما سِوى ذلك، فيكون الغضبُ لله سبحانه بَعَثه على لَعْنَتِه أو جلِده، ولا يكون ذلك خارجًا عن شَرْعِه، ولا مُوقِعًا له فيما لا يجوز.
ويحتمل أن يكون خَرَج هذا مَخرجَ الإشفاقِ منه صلى الله عليه وسلم، وتعليمِ أمَّتِه الخوفَ مِن تعدِّي حدودِ الله تعالى، فكأنَّه صلى الله عليه وسلم يُظهِر الإشفاقَ مِن أن يكون الغَضبُ يحمِلُه على زيادةٍ يسيرةٍ في عقوبةِ الجاني، لولا الغَضبُ ما زادَها ولا أوقعَها، .. أو إشفاقًا منه صلى الله عليه وسلم وإن لم يَقَع فيه»
(1)
.
وأبدى القاضي عياض احتمالًا آخرَ قال فيه: « .. هو صلى الله عليه وسلم لا يقولُ ولا يفعلُ في حالِ غضَبِه ورضاه إلَّا صِدْقًا وحقًّا، لكن غضبُه لله تعالى قد يحمِله على الشِّدة في أمرِه، وتعجيلِ عقوبةِ مُخالفِه، وتركِ ما قد أُبىح له مِن الإغضاءِ عنه والصَّفح، فقد جاء في الحديث: أنَّه ما انتقمَ لنفسِه قطُّ، إلَّا أن يُنتهَك حُرمة الله»
(2)
.
فعلى هذا؛ يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم «ليس لها بأهلٍ» : أي مِن جِهة تَعيُّن التَّعجيل.
وأمَّا دعوى (السُّبحاني) أنَّ ما وَرد في الحديث إنْ صَدر منه صلى الله عليه وسلم على مُستحَقٍّ، فلا حاجة معه إلى اعتذار .. إلخ:
فهذه سَوءةٌ من سَوءاتِ فهمه لكلام العرب، فليس في الحديث أيُّ اعتذار مِن الأساسِ! إنَّما فيه زيادة احتياطٍ منه صلى الله عليه وسلم ورَعًا ووَجلًا أن يلقى الله تعالى بأدنى شُبهةِ حَقٍّ لأحدٍ في ذِمَّتِه.
ولو كان في الحديث ما يَشِي بعدمِ استحقاقِ مَن وقع عليه لعنُه أو شتمُه أو جلدُه، لا في الظَّاهر، ولا في الباطنِ الَّذي في علمِ الله -كما يدَّعيه المعترض-: لكان أجدرَ بالنَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن يستغفرَ ربَّه لنفسِه! ويُبديَ في لفظِه نَبراتِ الحُزن والنَّدمِ على ما فرَّط في حكمِه، لا المُشارطَةَ عليه تعالى، ثمَّ دُعاءِه لغيره، كما جاء في الحديث.
والحاصل أنَّ الحديث فيه مِن كمالِ شفقتِه صلى الله عليه وسلم على أُمَّته، وجميلِ خُلقه، وكرم ذاتِه، حيث قَصَد مقابلةَ ما وَقعَ منه بالجبرِ والتَّكريم
(1)
، وهو خالٍ من أيِّ مَنقصةٍ للنَّبي صلى الله عليه وسلم تغابى عليها المعترض، والحمد لله.
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (11/ 172).