الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دَفعُ دعاوي المعارَضاتِ الفكريَّة المعاصرة
عن حديثِ طوافِ سليمان عليه السلام على نسائِه في ليلةٍ
أمَّا الجوابُ عن دعوى المُعتَرضِ اختلافَ الرِّواياتِ في تعدادِ نِسوةِ سليمان عليه السلام:
فإنَّ مُحصَّلَ ما اختُلِف في ذلك مِن العَدد: سِتُّون، وسبعون، وتسعون، ومائة
(1)
، وكلُّ هذه في «الصَّحيحين» ، وليس في «الصَّحيحِ» أكثرُ اختلافًا في العَدَد مِن هذه القِصَّة
(2)
؛ وليست كلُّها مِن قولِ أبي هريرة رضي الله عنه، بل الاختلافُ مِن النَّاقلين عنه
(3)
.
وهذا الاختلافُ مع ما ذكرناه عنه لا يُوجِب اضطرابًا يقدح في الحديث، فإنَّ دعوى الاضطرابِ تَصِحُّ حين تعذُّر الجمع أو التَّرجيح بين الوجوهِ المختلفةِ حيث تساوت في القوَّة، أمَّا إنْ أمكنَ الجمعُ أو التَّرجيح فلا مدخلَ حينئذٍ للقول بالاضطراب
(4)
.
(1)
أما رواية التِّسع وتسعون الَّتي وردت في البخاري معلقَّةً (رقم: 2819) في قوله: «لأطوفنَّ اللَّيلة على مائةِ امرأة، أو تسع وتسعين» : فهي كما ترى شكٌّ من أحدِ رُواة الحديث نفسِه، تردَّد بينها وبين المائةِ، وليست جزمًا كباقي الأعداد أعلاه.
(2)
كما ذكره الكرمانيُّ في «الكواكب الدَّراري» (23/ 148).
(3)
«فتح الباري» لابن حجر (11/ 614).
(4)
انظر «التقييد والإيضاح» للعراقي (ص/124)، و «فتح المغيث» للسخاوي (1/ 290).
وإنَّا لمُقِرُّون بتَعَسُّرِ الجمعِ بين تَفَاوتِ الأعدادِ في رواياتِ هذا الحديث إلَّا بتَكلُّفٍ تضيق النَّفس عن استساغته!
(1)
فلا داعي لهذا المسلك، وطريقُ التَّرجيحُ أَوْلى بالسُّلوكِ.
وبالنَّظر في هذه الرِّواياتِ المتخالفةِ وإن كان نُقَّالُها ثِقاتًا في الجملة، نجدهم -لا شَكَّ- مُتفاوتين في قوَّة الضَّبط والتَّيقُّظ في الرِّواية؛ فعلى هذا الأساسِ مِن النَّظَر في مَرَاتبِ الثِّقات واستدعاءِ الشَّواهدِ والمتابعاتِ: اختارَ البخاريُّ روايةَ «التِّسعين» : فإنَّه بعد إخراجِه لرواية «السَّبعين» مِن طريقِ مغيرة بن عبد الرَّحمن، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، قال:«قال شعيب وابنُ أبي الزِّناد: تِسعين، وهو أصحُّ»
(2)
.
فعلى فَرْضِ أنَّ هذا الاختلاف الحاصلَ بين الرُّواةِ في عَدد النِّسوةِ متساويةٌ أطرافه في القوَّة، فلا يؤولُ الاختلاف في هذا الحديثِ تحديدًا إلى اختلافِ مَعنى الخَبر، ولا يَنقُض المُرَادَ مِن حكايتِه؛ كمَثَل الاختلافِ المَشهورِ في حديث ثَمَنِ بَيعِ جابرٍ جَمَلَه للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
(3)
؛ والحديث صحيح.
هذا؛ ولا أستبعِدُ أن يكون شَطَرٌ مِن هذا الاختلافِ في عَدَدِ النِّساء أصلُه ما يَقَع مِن الرُّواة أحيانًا مِن تَصحيفِ الكَلماتِ المتشابهةٍ! فأنتَ تَرَى أنَّ لفظَ «تِسعين» و «سَبعين» و «سِتِّين» متقاربة الرَّسم؛ وهذا «صحيح البخاريِّ» وهو كتاب واحد: قد اختلَفَت نُسَخُه في ضَبْطِ هذا اللَّفظ في المَوضعِ الواحد!
(4)
(1)
كما تراه من فعلِ ابن حجر في «الفتح» (6/ 460) حيث قال: «الجمع بينها: أن الستين كنَّ حرائر، وما زاد عليهن كن سراري، أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون والمائة فكن دون المائة، وفوق التسعين، فمن قال تسعون ألغى الكسر، ومن قال مائة جبره» . اهـ
قلت: ولاشكَّ أنَّ هذا الجمع مردود، إذ مخرج الحديث واحدٌ، ولا بدَّ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم حين حدَّث بالقصَّة قد نطق بعددٍ واحدٍ فقط.
(2)
«صحيح البخاري» (4/ 162، رقم: 3424).
(3)
حيث يتوقَّف العاجز في مثلِ هذه الحالِ عن التَّرجيح في لفظِ العددِ فقط، دون باقي المتن انظر «الفتح» لابن حجر (5/ 320).
(4)
فجاء الحديث فيه من طريقِ المغيرة عن ابن أبي الزِّناد: «لأطوفنَّ اللَّيلة على تسعين امرأة» ، عند الأصيليِّ وابن السَّكن والحمَويِّ، وعند النَّسفي والقابسي:«سبعين» ، ثمَّ جاء بعد هذا مِن حديث شعيب بن أبي حمزة:«تسعين» كما عند الجَماعة، ولابن السَّكن والحمويِّ:«سبعين» ، انظر «مشارق الأنوار» للقاضي عياض (2/ 32).
فلا طائلَ -إذن- مِن تهويشِ المُعترِض بهذا الوَجه مِن الاختلافِ على الحديث.
وأمَّا قولُه في مُعارضتِه الثَّانية: من استحالةِ ما فَعَلَه سليمان عليه السلام على الطَّبيعةِ البَشريَّة:
فهذا صحيحٌ من جِهةِ العادة كما قال، فإنَّ إنزالَ الرَّجُلِ في مثلِ ذلكِ العَددِ الكثيرِ مِن النِّساء تَتَابعًا يعجزُ عنه البَشر في أحوالهِم العاديَّة؛ غير أنَّ ما رتَّبَه على هذه المقدِّمة من شمولِها سليمانَ عليه السلام قياسًا على سائر النَّاس نتيجةٌ خاطئة! فإنَّ سليمان عليه السلام يفرُق عنهم في أنَّه نَبيٌّ مُؤيَّدٌ بخَرْقِ العاداتِ، وإرسالِ الآياتِ الباهراتِ؛ وتلك القُوَّة فيه مِن جملةِ هذه الخَوارق.
فأيُّ نَكارةٍ مِمَّن أمكنَه الله تعالى مِن رِقابِ الجِنِّ والإنسِ، أن تكونَ له هذه الهِبَة الجِسمانيَّة وإن لم يَأْلف سائرُ النَّاسِ مثلَها في أنفسِهم؟!
ثمَّ إنَّ الحديث ذَكَر صدورَ هذا الفعلِ مِنه عليه السلام لغَرَضٍ مُعيَّنٍ، فليسَ عادةً له، ولا أرى لزوم قدرته عليه السلام على فعل ذلك كلَّ يومٍ أو ترداده كثيرًا، ولا في الحديث ما يُشير إلى ذلك.
وأمَّا دعوى المُعترض عدم كفايةِ اللَّيلةِ الواحدةِ لإيقاعِ فعلِ سليمان عليه السلام بذلك العَدد كلِّه؛ فيُقال في جوابها:
إنَّ تَمديدَ الزَّمَنِ مُنضَوٍ في ما قرَّرناه آنفًا مِن اختصاصِ الأنبياء بخَرْقِ العادةِ، فهذا الَّذي تيسَّر لسليمان عليه السلام هو مِن جملةِ البَركة الَّتي يُؤتاها الأنبياء في أوقاتِهم؛ كما قد أوتِيَه من قبله أبوه داود عليه السلام مِن بَركةِ الوَقتِ، ما كان يُيَسَّر له فيه خَتمَ زَبورِه تِلاوةً قبل أن تُسرَجَ دوابُّه
(1)
!
(1)
أخرجه البخاري في (ك: أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً}، رقم: 3417).
ومثلُ ما وقع مِن نبيِّ الله سليمان عليه السلام مَحجوبٌ عَنَّا عِلمُ حقيقتِه، فليس لنا غيرُ التَّسليمِ؛ والَّذي أوقعَ المُعترضَ في تلك المَغلطة، أنَّه استحضَرَ عند قراءته لهذا الحديث الوقتَ الَّذي يأخذُه عادةً في الوَطءِ!
وأمَّا دعوى المعترضِ في الشُّبهةِ الثَّالثة نبذَ سليمان عليه السلام لتعليقِ عزمِه بالمشيئةِ الإلهيَّة:
فليس من شأنِ هذا المقامِ الرَّفيعِ فعلُ ذلك! حاشاه عليه السلام مِن هذا الظَّنِ السَّقيمِ؛ كلُّ ما في الأمرِ أنَّ تذكيرَ المَلَكِ له بقولِ: إن شاء الله «تَذكيرٌ له بأن يَقولَ ذلك بلسانِه، لا أنَّه عليه السلام غَفَل عن التَّفويضِ إلى الله تعالى بقلبِه»
(1)
؛ فهذا ثابتٌ في قلبِه، ولكن اكتفَى عليه السلام بما قال تمنِّيًا على الله بعد سُؤالِه له أن يَفعل، فكأنَّه غَلَب عليه الرَّجاءُ في ربِّه لِما رَأى أنَّه نبيُّه قصَدَ بفعلِه نُصرةَ دينِه وأمرَ الآخرةَ، فغلَّب هذا الظَّن تَأوُّلًا، فتساهَل لأجله أن يقول ذلك لفظًا، حتَّى نسِيَ بعدُ أن يُجرِيَ على لسانِه ما ذُكِّر به مِن لفظِ المشيئةِ، لشيءٍ عَرَضَ له عليه السلام
(2)
.
نظير هذا: ما اتَّفق لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم حين سُئِل عن أصحابِ الكهفِ، فوَعَد بالجوابِ غدًا جزمًا، فلما له من مَقامٍ عنه الله تعالى، وصدقِ وعدِه في تصديقِه وإظهارِ كَلِمتِه، والمَقام مقامُ إثبات نُبوَّةٍ تستدعي النُّصرة له: ذَهَل عن تعليقِ وعدِه بمشيئةِ الله لفظًا، وإن كان مفوِّضًا ذلك إلى ربِّه قَلْبًا؛ فتَأَخَرَّ الوَحيُ عنه؛ حتَّى أعلمه ربُّه وأدَّبَه بقولِه:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24].
وهذا لعُلوِّ مَناصبِ الأنبياء، ومَقامِ الاقتداءِ بهم، فإنَّهم يُعاتَبون على ما لا يُعاتَب عليه غيرهم
(3)
.
فاللَّهم صَلِّ على هذين النَّبِيَّيْن ما طَرَق في السَّماءِ طارق، وعلى سائرِ أنبيائِك المُؤيَّدِين بعَجيبِ الخوارِق.
(1)
«المفهم» لأبي العبَّاس القرطبي (15/ 82).
(2)
انظر «فتح الباري» لابن حجر (6/ 461).
(3)
انظر «كشف المشكل» لابن الجوزي (3/ 446)، و «المفهم» لأبي العبَّاس القرطبي (15/ 82).