الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دَفع المُعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن حديثِ خَلْوتِه صلى الله عليه وسلم بامرأةٍ أنصارِيَّة
أمَّا عمَّا أناطَ به المُعترضُ إنكارَه للحديث ممَّا استقرَّ في ذهنِه مِن لفظِ «الخَلوة» :
فليس في ما أخبر به الرَّاوي عن فعلِه صلى الله عليه وسلم حرج، فلم يَعْنِ خَلوتَه صلى الله عليه وسلم بالمرأةِ بحيث غَابَا عن أبصارِ النَّاس، إنَّما أراد أنَّهما تنحَّيا ناحِيةً «بحيث لا يَسمعُ مَن حَضَر شَكْواها، ولا ما دارَ بينهما مِن الكلام، ولهذا سمِعَ أنسٌ آخرَ الكلامِ فنَقَلَه، ولم ينقُل ما دارَ بينهما، لأنَّه لم يسمَعه»
(1)
.
والدَّليل على ذلك، قول أنسٍ رضي الله عنه نفسِه في روايةِ أخرى مُفصِّلةٍ:« .. فخَلَا معها في بعضِ الطُّرُق، حتَّى فَرَغَت مِن حاجَتِها»
(2)
.
فمثلُ هذه المفاوضةِ للمرأة الأجنبيَّة سِرًّا لا يَقدح في الدِّينِ عند أَمْنِ الفتنة
(3)
؛ وشرطُ الخَلوةِ: أن تحتجِبَ أشخاصُهما عن النَّاسِ
(4)
، ولأجلِ هذا
(1)
قاله المهلَّب بن أبي صفرة، فيما نقَلَه عنه ابن بطال في «شرحه لصحيح البخاري» (7/ 361).
(2)
أخرجه مسلم في (ك: الفضائل، باب قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس وتبركهم به، رقم: 2326).
(3)
«عمدة القاري» (20/ 215).
(4)
«فتح الباري» لابن حجر (9/ 333).
القيدِ ترْجَمَ البخاريُّ للحديث بترجمةٍ دقيقة قال فيها: «ما يجوز أن يَخلُوَ الرَّجل بالمرأةِ عند النَّاس» ؛ وهذا قد تَعَامَى عنه المُعترض في تشنيعِه على البخاريِّ!
ثمَّ إنَّ تلك الأنصاريَّةُ لم تكُن بمُفردِها وقتَ كلامِها للنَّبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت برُفقةِ أولادِها، وهذا ما جاء صريحًا في روايةٍ للبخاريِّ يذكرُ فيها أنس رضي الله عنه أنَّها «أتَتْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مَعَها أولادٌ لها» وذَكَر الحديث
(1)
.
وأمَّا ما استَشْنَعه المُعتَرِض مِن قولهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّكُنَّ لأَحَبُّ النَّاس إليَّ» :
فهو هنا جاء بنونِ النِّسوةِ، وقد انفرَدَت به رواياتُ «الجامع الصَّحيح» دونِ باقي الصِّحاحِ الأخرى، والَّتي أثبتَتْه بلفظِ:«إنَّكم» للجمع المُذكَّر؛ إلَّا ما في روايةِ أبي ذرِّ الهَرويِّ لصحيح البخاريِّ، فهي فيه أيضًا بمِيمِ المُذَكَّر كالجماعةِ
(2)
؛ وهذه الَّتي نراها مُوافقةً لرواياتِ الحديثِ عند أكثرِ المُصَنِّفين، بل وللمَوضعِ الآخر للحديثِ في كتابِ البخاريِّ نفسِه
(3)
.
فعلى هذا اللَّفظ «إنَّكم» : يكون المَعنِيُّ بالحُبِّ النَّبويِّ في حديثِه للمرأةِ الأنصاريَّة عمومَ الأنصارِ، والتَّذكيرُ فيه مِن بابِ «تغليبِ الرِّجال على النِّساء»
(4)
، وعلى هذا المعنى دَرَج أئمَّة التَّدوينِ في ترجمتِهم للحديث، وجعلهم إيَّاه تحت الأبوابِ المَعْنيَّة بفضائلِ الأنصارِ
(5)
.
وأمَّا على روايةِ: «إنَّكنَّ» بنون النِّسوة: فمَعَ ما ذكرته من انفراد رُواة صحيح البخاريِّ بهذا اللَّفظ، ومُخالفةِ الهَرويِّ لهم فيه وهو مِن أتقَنِ رُوَاتِه -فإنَّه
(1)
أخرجه البخاري في (ك: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 6645)، وفي رواية أخرى عنده (ك: مناقب الأنصار، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: أنتم أحب الناس إلي، رقم:3786): «ومعها صبيٌّ لها» .
(2)
انظر «إرشاد السَّاري» للقسطلاني (8/ 116).
(3)
في (ك: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 6645) وهو بلفظ: «إنَّكم لأحبُّ النَّاس إليَّ» قالها ثلاث مرار.
(4)
«الكوثر الجاري» للكوراني (8/ 536).
(5)
كأحمد حيث أدرجه في باب «فضائل الأنصار» من كتابه «فضائل الصحابة» ، ومعمر بن راشد في باب «فضائل الأنصار» من جامعه، ومسلم في «كتاب الفضائل» من «صحيحه» .
لا يَستقيم بحالٍ ولو على فَرْضِ صِحَّتِه أن يكونَ النَّبي صلى الله عليه وسلم عَنَى بهذا الحُبِّ شخصَ المرأةِ المُخاطَبة، وإلَّا لخاطبَها بلفظِ الإفرادِ المُؤنثِّ المُباشِر:«إنَّكِ» !
ولفظُ الجَمعِ: «إنَّكُنَّ» يَفهم منه أيُّ عَرَبيٍّ نِسوةَ الأنصارِ عمومًا، أي:«أنَّ نساءَ هذه القَبيلة، أحَبُّ إليه صلى الله عليه وسلم مِن نساءِ سائرِ القبائل مِن حيث الجُملة»
(1)
؛ وإذا سَقَطت شُبهةُ الاختلاءِ مِن فعلِه صلى الله عليه وسلم بالأنصاريَّةِ، سَقَطت مَعَها وَساوِس الشَّيطانِ من ذِهْنِ المُعترضِ في المُرادِ بِحُبِّه صلى الله عليه وسلم؛ أعاذنا الله من شرِّ الوساوس.
(1)
«الكواكب الدراري» للكرماني (19/ 168).