الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفع دعاوي المعارضات الفكريَّةِ المعاصرةِ
عن حديث: «لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللَّحم»
هذا الحديث أحدُ الأخبار النَّبويَّة الصَّحيحة الَّتي عجِلَ في رفضِها بعضُ المُحْدَثين، فجعلوا الطَّعنَ فيه باستنكارِ معنى متنِه سبيلًا لتهشيمِ المنهجِ النَّقدي عند المحدِّثين، حيث تضمَّن بزعمهم خَبرًا يكذِّبه العقل والقرآن أوضحَ تكذيب، إذْ اللَّحم لا بدَّ له أن يَفْسُدَ ويتَحلَّل، هذا ممَّا تدركه العقولُ والحوَّاس بداهةً، وإلَّا كانت قد امتلأت الأرض بجِيَف الحيواناتِ، فأحالوا بذا أن يصدر مثلُ هذا الحديث عن الصَّادق المَصدوقِ صلى الله عليه وسلم.
نعم؛ لا نَستريبُ في أنَّ هذا الخبر لو كان بالمعنى الَّذي فهمه المعترضونَ، لكان خبرًا غلطًا ظاهرَ البطلان، وما اختلف عليه عاقلان؛ لكن نُكتة الكلام الَّتي تغافل عنها العَجَلة: أنَّ أذكياء الدُّنيا في وقتِهم من علماء المسلمين قد صحَّحوا الحديثَ وقبلوه، ولم يرَوا فيه ما يُستنكر! فهل يُعقل أن يكون كلُّ أولائك المُحدِّثين والفقهاء -وعلى رأسِهم الشَّيخان- قد صَحَّحوا هذا الحديث، مع ظهور بطلانِه لبدائه العقول كما يَدَّعيه المُبطلون؟!
هل بلَغَ السُّخف بعقولِ أئمَّةِ السُّنة هذا المبلغَ الَّذي لا يدركون به ما يَروُونه، ثمَّ هم يتَّفقون عليه جميعُهم مِن عهد الرِّوايةِ إلى الآن؟!
حاشاهم؛ فهم سادات العُقلاء، وما كان لراوي الخبرِ أبي هريرة رضي الله عنه أن يُشهِدَ العقلاءَ على كذبِه أو غفلتِه -وحاشاه مِنهما- بأن يُخبرَ النَّاس بحديثٍ لا يَتردَّد عقلاءهم في تكذيبِه!
والخبر مَرويٌّ عنه في صحيفةِ همَّام بن منبِّه التَّابعي الجليل، الَّذي دَوَّن ما سمعه عن أبي هريرة رضي الله عنه في صحيفتِه المُلقَّبةِ بـ «الصَّحيفة الصَّحيحة» ، لشِدَّة إتقانِها عند العلماء، فهذه الكتابةُ عنه تُبعد أيَّ احتمالٍ لوقوعِ الغلطِ بالنِّسيان، وتُخرس دعوى مَن يُشكِّك في الرِّوايات بعدمِ تدوينِها.
ثمَّ هو قد رواه مع همَّام غيرُ واحدٍ مِن جِلَّة التَّابعين الثِّقات
(1)
، مِمَّا يُحيل عن مَجموعِهم مَظِنَّة الخطأ بالمرَّة
(2)
.
(1)
كعطاء بن يسار (ت 94 هـ): عند ابن طهمان في «مشيخته» (رقم:22) بإسناد صحيح، ومحمد بن سيرين (ت 110 هـ): عند الحاكم في «مستدركه» (4/ 175، رقم: 7341) وصحَّحه على شرط الشيخين، وسليم بن جبير (ت 132 هـ): عند أحمد في «المسند» (رقم: 8575) ومسلم في «صحيحه» (رقم:3641) بجملة خيانة حواء فقط، وخلاس بن عمرو الهجري (تقبيل 100 هـ): عند أحمد في «المسند» (رقم:8019) وابن راهويه في «المسند» (رقم: 115)، ولم يسمع من أبي هريرة، انظر «سؤالات الآجري لأبي داود» (رقم:902)، و «التاريخ الكبير» للبخاري (3/ 227).
(2)
وإن تَعجبْ فعَجَبٌ قول (محمد عمراني حنشي) في تضعيفِه صحيفة همَّام هذه، وقد تتابع العلماء على وصفِها بـ «الصَّحيحة» ، حيث توسَّل بتضعيفِه لهذا الحديث ليُبطل سائر أحاديث الصَّحيفة، بدعوى أنَّها كلَّها بنفس الإسناد!
يقول: «بمجرَّد وجود هذا الخبر الباطل ضمن صحيفة همَّام بن منبِّه، وهي واردةٌ بسندٍ واحدٍ: عبد الرزَّاق الصنعاني، عن معمر بن راشد، عن همَّام بن منبه، عن أبي هريرة: يجعلنا نضعَّف باقي (137) خبرًا الَّتي اشتملت عليها الصَّحيفة! اللَّهم إلَّا إن أتى بعضها مِن طُرق صِحاح إلى أبي هريرة من غير طريق همَّام بن منبَّه» ، كذا قال في مقالٍ بموقعه الرَّسمي «الحوار المُحضِّر» ، في ركنٍ منه أسماه «ضعيف الصَّحيحين»! عَنون له بـ:«روائز علم الدِّراية تردُّ خبر خنز اللَّحم والخيانة المزعومة لحوَّاء» ، منشور بتاريخ 8/ 12/2005 م.
أقول: حتَّى على تقدير أنَّ همَّامًا غلطَ في هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، فبأيِّ قاعدةٍ حديثيَّة يلزمنا تضعيف باقي الأحاديث الَّتي رواها عن أبي هريرة بمجرَّد خطأٍ واحدٍ؟! اللَّهم إلَّا إن اعتقد الحنشي أنَّ همَّاما تقصَّد الكذب عن أبي هريرة في هذا الحديث! وهذا اعتقاد قبيحٌ في تابعي جليل، لم يُسبق إلى جرحِه به أحدٌ من أئمَّة المسلمين.
وأقول بعيدًا عن لوازم العاطفة تُجاه الأعلامِ من أمَّتِنا، مع عِلمي بضرورتها الدِّينيَّة: إنَّ العقلَ يُوجِب الآن تنزيهَ هؤلاء عن مثلِ هذا الغَلطِ المُدَّعى عليهم، هذا العقل نفسُه الَّذي يَتذرَّع به مَن يُورد تلك المعارضة العقليَّة على تصحيحِ المحدِّثين للحديث؛ إذْ لا يمكن «بمُقتضى العقل» أن يكون المقصود بالحديثِ: أنَّ اللَّحم لم يَكُن يفسُد بتاتًا قبل موسى عليه السلام وقومه؛ كلَّا! «فكلُّ عاقلٍ يُدرك أنَّ الصُّخورَ وهي صخور تَتفتَّت، والحديد عل صلابتِه يَتجزَّأ ويَصدأ، والأجساد بلحمِها وعظمِها تَبلى بعد الموت، مُحالٌ أن يخفى بَدَهيٌّ مثل هذا على صحابيٍّ جليل، ولا على التَّابعين فمَن بعدهم، ولا على البخاريِّ ومسلم، ولا غيرهما ممَّن قَبِل الحديثَ وصحَّحه؛ مع كونِ متنه بهذا المعنى الَّذي يكذِّبه النَّظر هذا التَّكذيب الظَّاهر»
(1)
.
فسأُورد هنا أقوالَ أهلِ العلمِ في المُراد بالحديث، على ما يجعله مُوافقًا للعقل غير مُصادمٍ للبدهيَّات، مُنبِّهًا المُعترضين على سوءِ فهمِهِم لعربيَّة هذا النَّص، أدَّاهم إليه عَجلةُ الطَّبع -أو حبُّ الظُّهور! - إلى أن ينسبوا إلى المُحدِّثين تصحيحَ ما لا يقبله عقلٌ حصيف؛ هذا هو البغي باسمِ العلم، وترك التعقُّل في الأحكامِ باسم العقل!
فمِمَّا قاله العلماء في تفسيرِ الحديث:
القول الأوَّل: أنَّه لولا عِلمُ الله تعالى بما يَقع مِن بني آدم مِن المنع والشُّح، وبخاصَّة منهم بنو إسرائيل: لمَا جَعلَ اللَّحم يفسد، ولتنعَّمَ النَّاسُ به بلا فسادٍ، لكنَّه تعالى لمَّا سبق في علمِه أنَّ الشُّح سيجعل الأغنياءَ يَدَّخرون اللُّحومَ، بُخلًا بها على الفقراء: ابتدَرَهم الله تعالى بالمنعِ مِن ذلك بأن سَنَّ قانونَ الإنتانِ فيها مع الزَّمن
(2)
.
(1)
من مقال لـ د. حاتم العوني في ردِّ الشُّبهة عن صحَّة هذا الحديث بموقع «مركز نماء» بتاريخ: 23/ 9/2012 م، بتصرف.
(2)
انظر «الفتح» لابن حجر (6/ 367).
وأصحاب هذا القول يَستأنسون في هذا بما رواه وهب بن منبِّه قال: وجدتُ في بعضِ الكتبِ عن الله تعالى: «لولا أنِّي كتبتُ الفناءَ على الميِّت، لحبَسَه أهلُه في بيوتِهم، ولولا أنِّي كتبتُ الفسادَ على الطَّعام، لخزَّنَته الأغنياء عن الفقراء»
(1)
.
ولستُ أنكِرُ ما في هذا التَّأويل مِن نوعِ تَكلُّفٍ! ويُغني عنه ما سيأتي ذكرُه من القولين الآخَرين:
القول الثَّاني: أنَّ الله تعالى عندما أنزلَ على بني إسرائيل المَنَّ والسَّلوى، وكان قد تكفَّلَ لهم بما يَكفيهم منهما، خافوا انقطاعَ ما هُم فيه مِن نَعيمٍ، وأساءوا الظَّن بالمُنعِمِ عليهم! ففكَّروا في الادِّخار، وصاروا يكنِزون لحومَ السَّلوى
(2)
، حتَّى ابتلاهم الله تعالى بفسادِها فسادًا سريعًا خارجًا عن المألوفِ والمُعتادِ عند غيرهم
(3)
.
يقول البيضاويُّ: «قيل: لم يكن اللَّحم يخنز، حتَّى مُنع بنو إسرائيل عن ادِّخاره، فلم ينتهوا عنه، فأسْرَعَ الخَنزُ إلى ما ادَّخروا عقوبةً لهم»
(4)
.
فعلى هذا ليس المُراد من الحديث أنَّ اللَّحم لم يكن يفسُد ولا يتحلَّل قبل بني إسرائيل البتَّة، ولكن المعنى: أنَّ اللَّحم لم يكن يفسُد على النَّاس قبل بني إسرائيل فسادَه لهم خاصَّة، كما لم يكن يفسد على مَن قَدَّده وادَّخَره مِن الأُمَم الَّتي لم تُنْهَ عن الادِّخار كما نُهيَت بنو إسرائيل.
فتغيُّر اللَّحم على ذلك النَّحو الَّذي لم يألفوه مِن سُرعتِه وخبثِ رائحتِه، كان عقوبةً لهم، شَمَل أثرُها مَن بعدهم.
(1)
رواه أبو نعيم في «الحلية» (4/ 37).
(2)
السَّلوى: اسم طائر سمين يشبه السُّمانَى، واحدُه وجِماعه بلفظٍ واحد، انظر «جامع البيان» للطبري (1/ 704).
(3)
انظر «إرشاد الساري» للقسطلاني (5/ 322).
(4)
«تحفة الأبرار» للبيضاوي (2/ 373)، ومثله نَقل الطَّيبيُّ في «شرح المشكاة» (7/ 2326).
وفي تقرير هذا المعنى، يقول ابن الملِك الحَنفيُّ (ت 854 هـ):«إنَّه تعالى كان قد نهاهم في التِّيه -وقد أنزل عليهم المَنَّ والسَّلوى- أن يأخذوا فوقَ كفايتَهم، فخالفوا حِرصًا منها، فتَغيَّرت رائحة اللَّحم بسببِه، فإنَّهم ادَّخروا السَّلوى حتَّى أنتنَ لحمُه؛ فخَنْزُ اللَّحم شيءٌ عوقبت به بنو إسرائيل لسوءِ صَنيعهم فيه، وهو الادِّخار النَّاشئ مِن عدم الثِّقة بالله»
(1)
.
فالمُستفاد من الحديثِ في ما جَرى لبني إسرائيل بالعقوبة على هذا المعنى: أنَّ الفسادَ والإنتانَ أسرعَا إلى اللُّحومِ إسراعًا لم يكن مَألوفًا عندهم قبلُ -كما سبق تقريره-، مع ما ينبعث عن ذلك مِن روائح نتِنَةٍ وتَدويدٍ لم يَعهدوه.
فصَحَّ بهذا الاعتبار المَشروح أن يُقال عقلًا: «لولا بنو إسرائيل لو يخنز اللَّحم»
(2)
.
فهذا المعنى للحديثِ قَمِنٌ أن يكون مُراد النَّبي صلى الله عليه وسلم -والله أعلم-، فالله تعالى قادر على خلق أسباب ذلك في زمنٍ ما، فيُسرِّع بها عمليَّة التَّحلُّل الطَّبيعيَّة للُّحومِ، على وتيرةٍ لم تكن عليها قبل ذلك، وكذا على خَلْقِ جراثيم جديدةٍ تزيد مِن شدَّة الفسادِ ونشوءِ تعفُّناتٍ وخبثِ غازاتٍ في عمليَّة التَّحلُّل لم توجد قبل ذلك؛ لا مانع مِن هذا كلِّه مِن جِهة العقل، ولا العلمُ الحديث يُحيله، ولا الحِسُّ قادرٌ على نَفيِه، كونه أمرًا قد مَضى ليس في حيِّز المُشاهدة.
مِثلُ هذا -من جِهة الوقوعِ- كأيِّ مرضٍ جديدٍ نَشأ في مكانٍ مُعيَّن في زمنٍ غابر قديمٍ، ثمَّ ما لبِث أن انتشَرَ في النَّاسِ على اختلافِ أمكنتهم وأزمانهم، حتَّى اعتادَ النَّاس عليه، وتناسوا بعد قرونٍ مَنشأه الأوَّل وسَبَبه.
(1)
«شرح المصابيح» لابن الملك (4/ 7).
(2)
نعم، في عبارات بعض الشُّرَّاح ما قد يُفهم منها أنَّ أصل فساد اللَّحم بدأ من ادِّخار بني إسرائيل له، كما تراه مثلًا في كلام النووي في «شرح صحيح مسلم» (10/ 59)، وأبي العباس القرطبي في «المفهم» (13/ 67)، والظَّاهر أنَّه تجوُّز في نقل عباراتِ مَن تقدَّمهم من الشُّراح وعدم تدقيق فيها، وإلَّا فقد قدَّمنا أنَّ أصل الفساد وتحلُّلِ اللُّحوم قديم معلوم.
والمقصود مِن هذا: بيان الفرقِ بين تحلُّل الأبدانِ وبين نَتَنِها؛ فإنَّ تَحلُّلها شيء -وهو حقيقة قديمةٍ بقدمِ الحيوانِ كما قد قرَّرناه- ونتَنُها وتَعفُّنها على الوجهِ الَّذي شرحناه شيءٌ آخر،؛ فلرُبَّما كان يَفنى الحيوانُ ويتَحلَّل مع الوقتِ الطَّويلِ، دون ما يلزم على ذلك عندنا مِن العَفن والإنتانِ في أوَّلِه؛ هذا مِن الأمورِ الغيبيَّة الَّتي لا يُقطع فيها بشيءٍ، ولا علماء البيولوجيا قادرون على جَلْبِ دليلٍ علميٍّ تاريخيٍّ عليه، اللَّهم إلَّا القول باطِّراد النَّواميس الخلقيَّة في القِدم! وليس هذا بلازمٍ.
وكنَّا قدَّمنا القول بأنَّ التَّعفُّن ليس واجبًا مِن جِهة العقل، ووقوعه حِسًّا لا يلزم منه أزليَّتُه، والخالق سبحانه قادرٌ على تغيِير سُنَّة خَلقيَّة، أو منعِ جريانِها على بعض مخلوقاتِه، كتحريمِه أكلَ الأرضِ لأجسادِ الأنبياء عليهم السلام.
لتعلمَ بهذا أنَّ دعوى (عمراني حنشي) أنَّ تَلَف اللَّحم بالتَّعفُّن والإنتانِ سُنَّة كونيَّة قديمة: قولٌ لا طائل من وراءه، وتهويلٌ للقارئ بحشدِ مُصطلحاتٍ علميَّةٍ، لا تُجدي مع لبيبِ الفهم!
لكن الأدهى مِن هذا كلِّه: افتراءُه على همَّام بن منبِّه تهمةَ الكذب! وأنَّه الَّذي اخترعَ هذا الخَبر! سبحانك هذا بُهتانٌ عظيم؛ لم يسبقه إليه أحَدٌ مِن علماء الأمَّة! فحسبُنا الله.
والقول الثَّالث في معنى الحديث: أنَّ بني إسرائيل كانوا لشُحِّهم وحرصِهم يدَّخرون الأطعمة، حتَّى ما لا يصحُّ ادِّخاره كاللَّحم! فكانوا أوَّل مَن أشاعَ هذه السُّنة السَّيئة على خلاف عادة النَّاس، فصار ادِّخارُهم هذا سببًا في إشاعةِ هذا الشحُّ، حتَّى فضَّلوا ادِّخارَ الأطعمة شجعًا ولو فسدت بعد زمنٍ على أن ينفقوها في وجوه الخير.
يقول البيضاويُّ: «المعنى: لولا أنَّ بني إسرائيل سنُّوا ادِّخار اللَّحم حتَّى خَنز، لمَا ادُّخر فلم يخنز»
(1)
.
(1)
«تحفة الأبرار» للبيضاوي (2/ 373).
فلأجل أنَّهم اشتهروا بهذا الشُحِّ في ادِّخار الأطعمة، كانت العربُ تُسميهم «الخُنَّاز» !
(1)
.
فصحَّ بذا أن يُقال عنهم: إنَّه لولاهم لما فَسَد اللَّحم والطَّعام، بمعنى: أنَّه لولا إشاعتهم هذه الطريقةَ الجشِعةَ في الادِّخار، لمَا شاعَ فسادُها بسببِه، فإنَّ هذا الفعلَ لم يكن معروفًا في النَّاس قبلهم، فـ «الحديث شبيهٌ بأن نقول: لولا الفِرنج لمَا طارَ العراقيُّون والحجازيُّون والمصريُّون بالطيَّارات، ولما تخاطبوا وبينهم المسافات الَّتي تهلك فيها الأشواط والأصوات.
ولا تلازم في هذا بين الأوَّل والثَّاني إلَّا اختراع الأوَّل ما تمكَّن به الثَّاني أن يفعل، وهو تلازم عاديٌّ لا عقليٌّ، وكذلك لا تلازم بين بني إسرائيل وإخناز اللَّحم، إلَّا اختراعهم ما به تمكَّن اللَّحم مِن أن يخنَز، وهو ادِّخاره»
(2)
.
وعلى هذا؛ تكون الأوَّلية في الحديث أوَّليةَ إشاعةٍ لسُنَّةِ الادِّخار، المُفضي إلى الإفسادِ، لا أوَّليَّةَ فسادِ اللَّحم نفسِه مِن حيث هو لحمٌ كما ظنَّه المُعترض.
والَّذي يعضُد هذا التَّفسير للحديث ويجعله مَقبولًا: قضيَّةٌ لغويَّة مهمَّة، حين غَفل عن تحريرِها الطَّاعنون العَجَلَة، سَقطوا في سَوْءةٍ منهجيَّة:
ذلك أنَّهم فهموا لفظَ (الخَنز) على عمومِه الدَّارج في بعض كُتب اللُّغة، ولم يتحقَّقوا معناه الخاصِّ الَّذي يُميِّزه عن مجرَّد معنى الإنتانِ والفساد.
فإنَّ معنى لفظ «خَنَز» على وجهِ التَّدقيق: ما فَسَد بسببِ الادِّخارِ والخَزنِ خاصَّة، وليس مُطلق فسادِ الطَّعام! فإنَّ أصلَه مِن الفعل اللَّازم غير المُتعدِّي «خَزَن» بتقديم الزَّاي، وبتأخيرها «خَنَز» ، وهما بمعنًى واحد، وهو من القلب المعروفِ في اللُّغة
(3)
.
(1)
كما تذكره كتب المعاجم القديمة، انظر «تهذيب اللغة» (7/ 96)، و «لسان العرب» (5/ 346).
(2)
«مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها» (ص/14).
(3)
انظر «المُزهر» للسيوطي (1/ 368).
يؤيِّد هذا قول طَرَفة (ت 60 ق. هـ)
(1)
في «ديوانه»
(2)
:
ثمَّ لا يخزنُ فينا لحمُها *** إنَّما يخزَنُ لحمُ المُدَّخر
ويقرِّر هذا المعنى الرَّاغب الأصبهانيُّ في قوله: «الخَزْنُ في اللَّحم أصله الادَّخار، فكُنِّي به عن نَتَنِه»
(3)
.
وكذا الزَّمخشري في قوله: «خَنز: هو قلب خَزَن: إذا أرْوَح وتغيَّر، وهو مِن الخَزن بمعنى الادِّخار، لأنَّه سبب تغيُّره»
(4)
.
فإذا كان لفظ «الخنز» بمعنى: الإنتانِ النَّاتجِ عن الادِّخار بخاصَّة، فإنَّ وروده في الحديث أشبه بالنَّص على صحَّة القولِ السَّابق لأهل العلمِ، وهو: سَبْقُ بني إسرائيل إلى تحزينِ اللُّحومِ وادِّخارِها حتَّى فسدت.
فلا وجه البتَّة بعد هذا الاعتبار اللُّغويِّ لِمن أنكر الحديثَ على المُحدثِّين.
وبأيِّ الأقوالِ الثَّلاثة أخذنا سلِم لنا الحديث مِن مُشاغباتِ المُحدَثين، وإن كان الأخيران أقواها، فالحمد لله ربِّ العالمين.
(1)
طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، أبو عمرو، البكري الوائلي، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، كان هجاءًا غير فاحش القول، تفيض الحكمة على لسانه في أكثر شعره، ولد في بادية البحرين وتنقل في بقاع نجد، قتله الملك عمرو بن هند شابًا لقصيدة هجاه بها، انظر «الشعر والشعراء» لابن قتيبة (1/ 182)، و «جمهرة أشعار العرب» (ص/89).
(2)
«ديوان طَرفة بن العبد» (ص/44).
(3)
«المفردات» (ص/281).
(4)
«الفائق في غريب الحديث» (1/ 399).