الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثَّالث
دفع المُعارضاتِ الفكريَّةِ المعاصرةِ
عن حديث العُرنيِّين
أمَّا دعوى المعترض في شُبهتِه الأولى: من كونِ ما جاء في الحديث من عقوبةٍ نبويَّةٍ فيها قدرٌ كبير من الوَحشية، ومخالفةِ القرآن .. إلخ:
فليس في الحديث ما توهَّمه مِن مجاوزةِ الحَدِّ في عقوبةِ العُرَنيِّين -حاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك- فإنَّ لهؤلاءِ حُكمًا فوق كونِهم مجرَّد قَتلة، فإنَّهم مع قتلِهم رَوَّعوا المسلمين، و «قَطعوا الطَّريقَ، واسْتَاقوا الإِبل، وقَتلوا الرُّعاة، فجَنوا جِناياتٍ عديدةٍ.
ومَعلوم بالقرآنِ أنَّ في مثلِ هذا الخِيارُ إلى الإمامِ: إن شاء جَمع الأجزِيةَ، وإن شاءَ اكتفى بالقتلِ»
(1)
، فكان أن اختارَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم الأوَّل، إذنًا أُوحيَ إليه به، أو فهِمَه مِن مُجمل نصوصِ الشَّريعة، سياسةً منه سائغة، فأُقرَّ على ذلك، فقَطَّع أيديَ هؤلاءِ المُحتَرِبين وأرجلَهم مِن خِلافٍ، نَكالًا لهم، وزجرًا لغيرهم.
وقد أقرَّه الله تعالى على فعلِه هذا، بأن جَعَله حَدَّ الحرابَة في آيةٍ مِن كتابه، بصريحِ قول أنس رضي الله عنه وهو الرَّاوي للحديث
(2)
، والآيةُ قول الله سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ
(1)
«فيض الباري» للكشميري (1/ 432) بتصرف.
(2)
أخرجه أبو داود في «السنن» (ك: الحدود، باب: ما جاء في المحاربة، رقم: 4366)، والنسائي في «السنن» (ك: تحريم الدم، باب: تأويل قول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} الآية، وفيمن نزلت، وذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أنس بن مالك فيه، رقم: 4025).
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
فهذا في حقِّ عقابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لمن تَلبَّس بجُرم الحرابة.
أمَّا ما ورد من سَمْلِه لأعين العُرنيِّين بالنَّار:
فإنَّما فَعَل بهم ذلك قَصاصًا، كما في روايةٍ أخرى لأنس:«إنَّما سَمَل النَّبي صلى الله عليه وسلم أعيُن أولئك، لأنَّهم سَمَلوا أعين الرُّعاء»
(1)
.
وفي تقرير هذا التَّخريجِ للفعل النَّبويِّ، يقول ابن حزم: «كان ما زادَه رسول الله صلى الله عليه وسلم على القطعِ مِن السَّمْل، وتركهم لم يحسِمهم
(2)
حتَّى ماتوا: قصاصًا بما فعلوا بالرِّعاء .. ».
ثمَّ أورَد بإسنادِه روايةَ أنس رضي الله عنه في السَّمْل، وقال:
« .. فصَحَّ ما قُلناه مِن أنَّ أولئك العُرنيِّين اجتمعت عليهم حقوق: منها المُحاربة، ومنها سملُهم أعين الرُّعاء، وقتلهم إيَّاهم، ومنها الرِّدة.
فوَجَب عليهم إقامةُ كلِّ ذلك، إذْ ليس شيءٌ مِن هذه الحدود أوجبَ بالإقامة عليهم مِن سائرها، ومَن أسقط بعضها لبعضٍ فقد أخطأ، وحَكَم بالباطل، وقال بلا برهان، وخالف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتَرَك أمرَ الله تعالى بالقَصاص في العدوان بما أمره به في المُحاربة.
فقَطَعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمُحاربة، وسمَلَهم للقَصاص، وتَرَكهم كذلك حتَّى ماتوا يستسقون فلا يُسقون حتَّى ماتوا، لأنَّهم كذلك قتلوا هم الرُّعاء، فارتفع الإشكال .. »
(3)
.
(1)
أخرجه مسلم في (ك: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: حكم المحاربين والمرتدين، رقم: 1671).
(2)
الحَسْم: كيُّ العضو المقطوعة لينقطع الدَّم، انظر «النهاية» (1/ 386).
(3)
«المحلى» (12/ 287).
وعلى التَّسليم للمُعترضِ بأنَّ هذا الفعل في ذاتِه مُثلة لا تجوز مطلقًا، فنقول:
إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم إمَّا أن يكون فعَلَه قبل أن يُوحَى له بنسخِ ذلك والنَّهي عنه: ودليل هذا ما جاء عن قتادة بعد روايتِه للحديث قال: «بَلَغَنا أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحثُّ على الصَّدَقة، وينهى عن المُثْلَة»
(1)
، ونقله عن ابنِ سيرين قال:«أنَّ ذلك كان قبل أن تُنزَّل الحدود»
(2)
.
وإلى هذا مَيْلُ البخاريِّ
(3)
، وحكاه الجُوينيُّ عن الشَّافعي
(4)
.
وإمَّا على القولِ بعدم ورود دليلٍ على النَّسخِ: فيكون فِعلُ النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن بابِ المماثلةِ في القَصاصِ لا غير، استصحابًا منه للأصل القرآنيِّ في قولِ ربِّنا:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126]، فيكون مُستثنى مِن المُثلة المَنهيِّ عنها
(5)
.
وسواء قلنا بهذا القول أو ذاك، يسلمُ الحديث مِن تشنعياتِ المعترضِين ولله الحمد.
أمَّا دعوى المُنكرِ في المعارضةِ الثَّانية: بأنْ لو كانت أبوالُ الإبِل دواءً لبعض الأمراض، لمَا جهل ذلك أهل الطِّب الحديث، فيُقال لأمثالِه:
إنَّ جهله بعَدمِ ذلك ليس عِلمًا بالعَدم! وجهلُه لاحقٌ بنوعِ المُرَكبِّ! لأنَّ الطِّبِ الحديث قد أثبتَ بعد تجارب وكشوفاتٍ مِخبريَّةٍ عديدةٍ، في عِدَّة كليَّاتٍ طبيَّة عَربيَّة وغربيَّة: أنَّ لبولِ الإبل فَعاليَّةً كبيرةً في علاجِ أمراضِ كثيرةٍ، منها: الاستسقاء، وتَليُّف الكبِد، وأمراضِ الكِلى المُستعصية، وإيقافه لتكاثر الخلايا
(1)
أخرجه البخاري في (ك: المغازي، باب: قصة عكل وعرينة، رقم: 4192).
(2)
أخرجه البخاري في (ك: الطب، باب الدواء بأبوال الإبل، رقم: 5686).
(3)
انظر «نيل الأوطار» للشوكاني (7/ 184).
(4)
«نهاية المطلب» للجويني (2/ 305).
(5)
انظر «المسالك» لابن العربي (7/ 157)، و «شرح المشكاة» للطيِّبي (8/ 2500)، و «فتح الباري» لابن حجر (1/ 341).
السَّرطانيَّة في الجهازين الهضميِّ والتَّنفُّسي، وقضائه على الفطريَّات والبكتيريا الجلديَّة، وغيرها من الأمراض
(1)
.
وليس في الحديث أنَّها تَشفي كلَّ مرض -كما ادَّعاه المُعترض- ولا ذكرًا تفصيليًّا لنوعِ الأمراضِ المَحدودة التَّي تُعالجها، ولا نوع الإبل، أو قُوتُها الَّذي يرشُح عنه هذا البولُ العلاجيُّ؛ فكلُّ هذا مَوكولٌ للأطبَّاء في اكتشافِه وتجربتِه؛ والله المُوفِّق للحقِّ.
(1)
انظر «الموسوعة العلمية الشاملة» لـ د. سمير عبد الحليم (ص/23)، و «موسوعة الإعجاز العلمي» ليوسف الحاج (ص/991)، وأوراق «المؤتمر العالمي السابع للإعجاز العلمي في القرآن والسنة» بالإمارات 2004 م، تجد ملخَّصاتها المتعلقة منها ببول الإبل على موقع المؤتمر على الشبكة.