الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفعُ المعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن حديثِ الشُّؤمِ في الدَّارِ والمرأةِ والفَرسِ
أسلفنا التَّنبيه مِرارًا على أنَّ كثيرًا مِن مزالق الطَّاعنين في الأخبارِ ناتجٌ عن سوءِ استيعابٍ للمَعنى المُراد منها، ناتجٌ ذلك عن جهلِهم بأحكامِ اللَّغةِ وقواعد البيانِ تارةً، ومُجمَل سُنَّةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وأقوالِ صَحابتِه ووَرَثتِهم مِن أهل العلمِ تارةً أخرى، واستحضارُ هذا كلِّه أثناء النَّظر في النُّصوصِ هو المُعِينُ لاستقاء أنسبِ الأوجه الَّتي تُحمَل عليها.
وإنَّ لنا في مَوقفِ الطَّاعنين من هذا الحديث لَعِبرةً! فإنَّه لَمِن أَبْينِ المُثُلِ على الخَلَل المَنهجيِّ في الفهمِ المعاصرِ للنُّصوصِ الشَّرعيَّة، وذلك:
أنَّ النُّكتة في الحديثِ مُضَمَّنة في المُتَعلَّقِ المحذوفِ للجار والمجرور في قولِه: « .. في المرأة، والدَّار، والفَرس» ، الَّذي هو خَبر لـ «الشُّؤم» .
فإذا سايَرنا المُعترضون على ضرورةِ تَقديرِ هذا المُتعلَّق المَحذوف، فإنَّا سائلوهم: بماذا نُقدِّره؟
هل نُقدِّره بـ: (كائن) مَثلًا؟ فيكون المعنى: «الشُّؤم كائِنٌ في المرأةِ، .. » أي: هو كائِنٌ مِن عَملِ النَّاس أو في طبائعِهم في هذه الثَّلاثة، فيكون توصيفًا منه للواقعِ.
أم نُقدِّره بـ: (جائز)، فيكون الحديث بهذا أنَّ «الشُّؤمَ مَشروعٌ أو ضَرورةٌ في المرأةِ، والدَّارِ، والفرس» ؟!
فإذا افترضنا أنَّ الحديثَ محتملٌ لكِلا هذين المَعنيَين في تقديرِ المَحذوف منه، فما المُوجِب العِلميُّ عند المُعترِضين لترجيحِ أحدِ التَّقديرين دون الآخر؟
فإن قالوا: الحديثِ أفادَ التَّقديرَ الثَّاني، وهو الظَّاهر مِن عبارتِه! فيُقال جوابًا لهم: إنَّ ظاهرَ النصِّ ما سَبَق إلى فهمِ قارئِه من معناه، وأفادَه مُرادَ صاحبِه، وهذا مَبنيٌّ على سياقِ كلامِه فيه، مع مُجمل كلامِه في باقي نصوصِه؛ بهذا يَتبيَّن لنا كون فهمِنا ظاهرَ النَّص أم لا.
خُذْ هذا التَّأصيلَ ونزِّله على حديثَنا هذا؛ هل ترى مُنصِفًا يَفهم مِن هذا الحديثِ أنَّ صاحبَه يُجيز الطِّيَرةَ في هذه الثَّلاثة؟ مع أنَّه قد صَدَّره بتحريمِ الطِّيرة مُطلقًا؟! حيث قال: «الطِّيَرة شِرك .. » ؟!
هل بَلغت مِن سذاجةِ راوي الحديثِ أن يَأتي بجُملَتين مُتناقضين في الَخبرِ الواحدِ نفسِه، بحيث تُكذِّب إحداهما الأخرى في الحين، ثمَّ لا يَتَفطَّن لهذا التَّضاربِ ولا أحدٌ مِن الأئمَّة بعده؟!
فما الدَّاعي بعدُ لاختيارِ المعترض للتَّقدير الثَّاني غير الجهل أو الهوى؟! والنَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما ابتدأهم بنفي الطِّيرة، ثمَّ قال:«الشُّؤم في ثلاث .. » ، قطعًا لتوهُّم المعنى المَنفيِّ في الثَّلاثة الَّتي أخبَر أنَّ الشُّؤم يكون فيها، فقال:«لا عدوى، ولا طِيرة، والشُّؤم في ثلاثةٍ .. » ، فابتدأهم بالمُؤخَّر مِن الَخبَر تعجيلًا لهم بالإخبارِ بفسادِ العدوى والطِّيرة المتوهَّمة مِن قوله:«الشُّؤم في ثلاثة .. » .
وهذا من جميلِ الأوجهِ الَّتي قرَّرها ابن القيِّم مِن معاني الحديث
(1)
، وهو الَّذي أركُن إليه، والله أعلم بالصَّواب.
إنَّ التَّقدير الصَّحيحَ المُرشِدَ إلى المعنى الحقِّ مِن هذا الحديث هو ما يجعله موافقًا لباقي الأخبارِ الشَّرعية، غير مُصادمٍ لها، مَقبولًا مِن جِهة اللُّغةِ وأساليبِ
(1)
«مفتاح دار السعادة» (2/ 257).
الخِطاب، فعلى هذا المنهج القويمِ نبتني تفسيرَنا للحديث، وهذا ما يقتضي مِنَّا أن نبدأ فيه بتبيانِ مَعنى (التَّطيُّر) عند العرب أوَّلًا، ثمَّ ندلِف إلى أمثلِ أوجهِ ذلك مِمَّا يُحمَل عليه الحديث، فنقول:
إنَّ التَّطير والتَّشاؤم بمعنى واحدٍ
(1)
، وأصله: الشَّيء المَكروه مِن قولٍ أو فعلٍ أو مَرئيٍّ، والتَّطيُّر قبلِ الإسلامِ كان مِن وجوهٍ، حكى بعضَها الحَليميُّ (ت 403 هـ) فقال:
«كان يُحكى عن العَرب مِن زجرِ الطَّير وإزعاجِها عن أوكارِها عند إرادةِ الخروجِ للحاجةِ، فإن مَرَّت على اليمينِ، تفاءلت به، ومَضت لوجهِها، وإن مرَّت عن الشِّمال، تشاءَمت به، وقعدت.
وكانوا يَتطيَّرون بصوتِ الغُرابِ، ويناولونه البَين، وكانوا يستدلُّون بمجاوباتِ الطَّير بعضها بعضًا على أمورٍ بأصواتِها في غيرِ أوقاتِها المعهودةِ على مثل ذلك.
وهكذا الظِّباء إذا مَرَّت سانحةً، ويقولون: إذا برَحت مساءً بالسَّانح بعد البارح، وسمُّوا هذا وما شابهه تطيُّرًا، لأنَّ أمور ذلك عندهم وأكثره كان ما يقع لهم مِن قِبَل الطَّير، فسمُّوا الجميع تَطيُّرًا مِن هذا الوجه .. »
(2)
؛ ثمَّ استرسل في حكايةِ صُورٍ أخرى مِن التَّطَيُّر سالفة، كانت عند الأعاجم قبل الإسلام.
إلى أن جاء الشَّرع، فنَفى ذلك وأبطلَه كلَّه، ونَهى عنه، وأخبرَ أنَّه ليس له تأثير بنفعٍ ولا ضرٍّ، وهذا مَعنى قوله صلى الله عليه وسلم:«لا طِيَرة .. »
(3)
، وفي حديث آخر:«الطِّيَرة شِرك»
(4)
، يقول النَّووي في معناه: «أي اعتقادُ أنَّها تنفع أو تضرُّ إذا عملوا
(1)
«المجموع المغيث» لأبي موسى المديني (2/ 378)
(2)
«المنهاج في شعب الإيمان» للحليمي (2/ 20).
(3)
جزء من حديث أخرجه البخاري في (ك: الطب، باب الجذام، رقم: 5707)، ومسلم في (ك: الطب والمرضى والرقى، باب لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول، ولا يورد ممرض على مصح، رقم: 2220).
(4)
أخرجه أبو داود في (ك: الطب، باب: في الطيرة، رقم: 3910)، وابن ماجه في (ك: الطب، باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة، رقم: 3538)، وصحَّحه ابن حبَّان في «صحيحه» (ك: الطيرة والعدوى والفأل، باب: ذكر التغليظ على من تطير في أسبابه متعريا عن التوكل فيها، رقم: 6122)، وأقرَّه عليه شعيب الأرنؤوط في تخريجه به.
بمُقتضاها، مُعتقِدين تأثيرها، فهو شِرك، لأنَّهم جعلوا لها أثرًا في الفعلِ والإيجادِ»
(1)
.
فإذا كان هذا هو الأصلَ الشَّرعيَّ في مسألةِ التَّشاؤم أو التَّطيُّر، فإنَّه قد جاءت بعضُ أحاديث قد يَفهمُ مِن ظاهرِها غيرُ فقيهٍ، أنَّ الشُّؤمَ يكون سِمةً مُلازمةً للمرأةِ والدَّار والفَرس! وهذا ما ينفيه الفقهاء عن الشَّريعة، فكانوا إن اختلفوا في توجيه تلك الأخبار والتَّوفيق بينها وبين ما هو مُسلَّم من تقبيحِ التَّطيُّر، أيْنَعت ألبابُهم عن عِدَّة أوجهٍ مِن التَّأويلات الحَسنة والتَّوجيهات الدَّقيقة.
فقد انتقيتُ من هذه التَّوجيهات للمُعترضِ أحسنَها مَأخذًا ودليلًا فيما أرى، ليَتخيَّر بعدُ مِنها ما يَدفع عنه إشكالها عن ذِهْنِه إن رغب!
هذا ليَعلمَ بعدَ جوَلانِ ناظِرَيْه في تَنوُّعِ هذه الأجوبةِ من العلماء وحِدَّةِ أذهانِهم في فتقِ المُشكلاتِ: انغلاقَ بابِ فهمِه! وانفتاحَ أبوابهم؛ وضيقَ عطَنه عن السُّنَنِ وانشراحَ صدروهم لها! لعلَّه أن يوقِنَ بمَسيسِ حاجتِه إلى التَّواضع، بمُراجعةِ ما حَبَّروه حول ما يُشكِل عليه قبل الاغترارِ بظاهرِ فهمِه القاصر المَقودِ بزمامِ الهَوى والتَّحيُّز الفكريِّ.
وإليك تفصيل جواباتِهم، فأقول:
قد تَنوَّعت مَشاربُ العلماءِ في النَّظَرِ إلى حديثِ «الشُّؤم في ثلاثةٍ» ، إلى عِدَّة أوجهٍ مِن أوجُهِ التَّوجِيه:
الوجه الأوَّل: اِعتمادُ روايةٍ للحديثِ في التَّقيِيد بالشَّرط: «إن يَكُن مِن الشُّؤم شيءٌ حقٌّ ففي .. » ، و «إن كان الشُّؤم في شيءٍ .. » ونحوهما، ورَدُّ روايةِ الجزمِ إليها:
فكأنَّ روايةِ الشَّرطِ هذه مِن قَبيل التَّعليقِ على المستحيل، ليكون بها جواب الشَّرط مُستحيلًا، كقوله تعالى:{فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، أي: لكنَّه لن يستقرَّ مكانَه، فلن تَراني.
(1)
«شرح النووي على مسلم» (14/ 219).
فمعنى الحديث على هذا الوجه: أنْ لو كان الشُّؤم في شيءٍ حَقًّا، لكان في المرأة والَفرس والدار، والحاصلُ أنَّ الشُّؤمَ ليس في هذهِ الثَّلاثةِ ولا في شيءٍ، فغيرُ هذه أولى ألَّا يكون فيها!
يقول القاضي عياض: «وَجه تعقيبِ قولِه: «ولا طِيرة» بهذه الشَّرطية، يدلُّ على أنَّ الشُّؤم أيضًا مَنفيٌّ عنه، والمعنى: أنَّ الشُّؤمَ لو كان له وجود في شيءٍ، لكان في هذه الأشياء؛ فإنَّها أقبلُ الأشياء لها، لكنْ لا وجودَ له فيها، فلا وجودَ له أصلًا»
(1)
.
كذا قيل؛ وهذا التَّوجيهُ وإن كان بادئ الرَّأي مَقبولًا، لكنَّه مُتَعَقَّبٌ بأنَّ روايةَ الشَّرطِ ليست نَصًّا في الاستثناء، لاحتمالِ أن تكون قد خرجت مَخرجَ قولِه الآخر:«قد كان فيمَن قبلكم مِن الأُمَم مُحَدَّثون، فإنْ يكُن في أمَّتي منهم أحَدُ فإنَّه عمر بن الخطَّاب» !
(2)
ولذا ارتأى شهاب الدِّين الآلوسيُّ (ت 1270 هـ) لمعنى التَّعليق في هذه الرِّواية الَّتي بالشَّرط: أن تكونَ «للدَّلالةِ على التَّأكيدِ والاختصاصِ، نظيرُه في ذلك: إن كان لي صَديقٌ فهو زيد، فإنَّ قائله لا يريد به الشَّكَ في صَداقةِ زيد، بل المبالغةُ في أنَّ الصَّداقةَ مختصَّةٌ به، لا تَتَخطَّاه إلى غيره»
(3)
.
ولستُ أنزِعُ إلى ما جنح إليه الطَّحاوي -وتبِعه الألبانيِّ
(4)
- من تَرجيح روايةِ الشَّرطِ على روايةِ الجزمِ، بدعوى أنَّ فيها زيادة علمٍ، مُؤيِّدين اختيارَهم بأمرين:
الأوَّل: بنُصوصِ النَّهي عن الطِّيَرة عامَّةً.
الثَّاني: بحديثٍ لعائشة رضي الله عنها: أنَّ رجلان مِن بني عامر دخلا علىها، فأخبراها أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه يُحدِّث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:«الطِّيرة في الدَّار، والمرأة، والفَرس» ، فغضبِت! فطارت شُقَّة منها في السَّماء، وشقَّة في الأرض،
(1)
«الكاشف عن حقائق السُّنن» للطَّيبي (9/ 2984).
(2)
أخرجه البخاري في (ك: الأنبياء، باب: حديث الغار، رقم: 3469).
(3)
«روح المعاني» (5/ 221).
(4)
في «السلسلة الصحيحة» (2/ 692).
وقالت: والَّذي أنزل الفرقان على محمِّد ما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قطُّ، إنمَّا قال:«كان أهل الجاهليَّة يتطيَّرون مِن ذلك»
(1)
.
(2)
.
ومُحصَّل كلامِه أنَّ هذا الاستدراك مِن عائشة على أبي هريرة في هذه الرِّوايةِ هو مِن جنسِ استدراكِها على ابن عمر في البكاءِ على الميِّت، بمعنى أنَّ ذلك كان في واقعةٍ خاصَّة، لا على العموم
(3)
.
لكنَّا مع ذلك نقول: إنَّ عائشةَ نفسَها قد تُعُقِّبَت في إنكارِها ذلك! بنفيِ أن يكون رَدُّها للحديثِ حُجَّةً على مَن رَوى إثباتَ ذلك إليه صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تراه في كلامِ ابن عبد البرِّ، بعد سَوقِه لكلامِها، فقال:«أهلُ العلمِ لا يَرَون الإنكارَ عِلمًا، ولا النَّفيَ شهادةً ولا خبرًا!»
(4)
.
وقد علمتَ قبلُ أنَّ البخاريَّ ومسلمًا أخرجا روايةَ الإثباتِ مِن حديث ابن عمر رضي الله عنه بألفاظٍ، منها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا عَدوى ولا طِيرة، وإنَّما الشُّؤم في ثلاثة .. » ، وقد عَلِمتَ أيضًا أنَّ تصدير هذه الرِّواية بنفي الطِّيرة دالٌّ على أنَّ ما بعده لا يُناقض هذا الحكم، ومانع مِن تَوهُّمِ أنَّ رواياتِ الإثباتِ تخالفُ نصوصَ نفيِ الطِّيرة.
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (رقم: 26034)، وابن قتيبة في «مختلف الحديث» (ص/170)، والطَّحاوي في «شرح مشكل الآثار» (2/ 255، رقم: 786)، وابن عبد البر في «التمهيد» (9/ 288 - 289)، قال مُخرِّجو المسند:«إسناده صحيح على شرط مسلم» .
(2)
«شرح مشكل الآثار» (2/ 252).
(3)
انظر «الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصَّحابة» للزَّركشي (ص/115).
(4)
«الاستذكار» (8/ 511).
وكذا أخرج روايةَ الإثباتِ الشَّيخان مِن حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
وأخرجها مسلم عن جابررضي الله عنه، وهذه كلُّها مَرَّت معنا عند سَوقِنا لأحاديث هذا الباب؛ وجاء أيضًا مِن روايةِ أبي هريرة رضي الله عنه، كما قد مَرَّ علينا في قصَّةِ سؤالِ الرَّجلين لعائشة عن روايتِه.
فهؤلاء نَفرٌ مِن جِلَّة الصَّحابة، قد رَوَوا حديثَ الإثباتِ والجزمِ، وليس هو راوٍ واحد حتَّى يَتطرَّق إليه احتمال الخَطأ فيُستَسهَل توهِيمُه؛ ولا يُعقل أن تُردَّ رواية جمعِهم لرواية واحد؛ وبهذا تعقَّبَ ابنُ الجوزي عائشةَ رضي الله عنها في ردِّها لروايةِ أبي هريرةَ رضي الله عنه، لأنَّ ذلك -في حقيقتِه- «رَدٌّ لصريحِ خبرٍ رَواه جماعةٌ ثِقات، فلا يُعتمَد على ردِّها»
(1)
.
وكون النَّبي صلى الله عليه وسلم أضافَ هذا القولَ إلى قول الجاهليَّة -كما في روايةِ عائشة عنه- لا يَلزم منه نَفْيُ باقي الرِّواياتِ في نسبةِ ذلك مِن قولهِ هو صلى الله عليه وسلم أيضًا! إذ لا تَعارض بين النِّسبتين؛ بل الصَّواب حملُ كلِّ روايةٍ على المعنى المُناسِب لها، إعمالًا لكلا الدَّليلين.
وهذا ما وُفِّق له غيرُ أربابِ هذا الوجهِ الأوَّل في أوجهٍ مِن التَّأويل أخرى لهذا الحديث، هي في التَّالي:
الوجه الثَّاني: أنَّ هذه الثَّلاثة في الحديث مُستَثناة مِن الطِّيرة، بمعنى: أنَّ الطِّيرة مَنهيٌّ عنها، إلَّا أن يكون له دارٌ يكره سُكناها، أو امرأة يكره صُحبتها، أو فَرس أو خادم كذلك، فليُفارِق الجميعَ بالبَيعِ، أو الطَّلاق، ونحوه، ولا يقيم على الكراهةِ والتَّأذي به، فإنَّه شُؤمٌ عليه بهذا الاعتبار من الكراهة.
فمِمَّن سَلَك هذا المَسلك في التَّوجيه:
أبو محمَّد ابن قتيبة
(2)
، وكذا الخطَّابي في شرحِه للحديث حيث قال: «معناه: إبطال مَذهبهم في الطِّيرة بالسَّوانح والبَوارح من الطَّير والظِّباء ونحوها،
إلَّا أنَّه يقول: إن كانت لأحدِكم دارٌ يكره سُكناها، أو امرأةٌ يكره صُحبتها، أو فَرَس لا يُعجبه ارتباطُه، فليفارِقها، بأن يتنقل عن الدَّار، ويبيع الفرس، وكان مَحلُّ هذا الكلام مَحلَّ استثناءِ الشَّيء مِن غيرِ جنسِه، وسبيله سبيل الخروج مِن كلامٍ إلى غيره»
(1)
.
وقال: «اليُمْن والشُّؤم سِمَتان لمِا يصيب الإنسانَ مِن الخيرِ والشَّر، والنَّفع والضُّر، ولا يكون شيءٌ مِن ذلك إلَّا بمشيئةِ الله وقضائِه، وإنمَّا هذه الأشياء مَحالٌّ وظروف، جُعلت مواقعَ لأقضيتِه، ليس لها بأنفُسها وطباعِها فِعلٌ ولا تأثيرٌ في شيءٍ.
إلَّا أنَّها لمَّا كانت أغلبَ الأشياء الَّتي يقتنيها النَّاس، وكان الإنسان في غالبِ أحوالِه لا يستغني عن دارٍ يسكنها، وزوجةٍ يعاشرها، وفرسٍ يرتبطه، وكان لا يخلو مِن عارضِ مكروهٍ في زمانِه ودهرِه: أُضيفَ اليُمن والشُّؤم إليها إضافةَ مكانٍ ومحلٍّ، وهما صادران عن مَشيئةِ الله سبحانه»
(2)
.
يقول أصحاب هذا القول الثَّاني: مَزيَّة هذا التَّوجيه أنَّه مُوافق لحديثِ أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «قال رجلٌ: يا رسولَ الله؛ إنَّا كُنَّا في دارٍ كثيرٍ فيها عددُنا، وكثيرٌ فيها أموالُنا، فتحوَّلنا إلى دارٍ أخرى، فقلَّ فيها عددُنا، وقلَّت فيها أموالُنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذَرُوها ذَميمةً»
(3)
!
وفي تفسيرِ هذا الأمرِ النَّبويِّ يقول ابن قُتيبة: «إنَّما أَمَرهم بالتَّحوُّل مِنها لأنَّهم كانوا مُقيمين فيها على استثقالٍ لظلِّها، واستيحاشٍ بما نالهم فيها، فأمَرَهم بالتَّحوُّل؛ وقد جَعل الله تعالى في غرائز النَّاس وتركيبِهم استثقالَ ما نالهم السُّوء فيه، وإن كان لا سببَ له في ذلك، وحُبَّ مَن جَرى على يدِه الخير لهم، وإن لم يُرِدهم به، وبُغضَ مَن جرى على يده الشَّر لهم، وإن لم يُردهم به»
(4)
.
(1)
«معالم السُّنن» (4/ 236).
(2)
«أعلام الحديث» (2/ 1379).
(3)
أخرجه مالك في «الموطأ» (ك: الاستئذان، باب ما يُتقى من الشؤم، رقم: 23)، وأبو داود في «سننه» (ك: الطب، باب في الطيرة، رقم: 3924) واللَّفظ له.
(4)
«تأويل مختلف الحديث» (ص/170).
(1)
.
فعلى هذا الوجه تكون إضافة الشُّؤم إلى هذه الثَّلاثة في الحديث إضافة مَجازٍ وتوسُّع، بمعنى أنَّ الشَّر قد يحصل مُقارنًا لها وعندها، لا أنَّها هي عينُها مِمَّا يوجِب الشُّؤم؛ كأن تكون المرأة قد قدَّر الله عليها أن تتزوَّج عددًا مِن الرِّجال ويموتون معها! فلا بُدَّ مِن إنفاذِ قضائِه وقدرِه؛ فتُوصف المرأة بالشُّؤم لذلك، وكذلك الفَرس، وإن لم يكن لشيءٍ مِن ذلك في حقيقته فعلٌ ولا تأثيرٌ
(2)
.
هذا الوجه من المعنى قد نُقل مُسندًا عن مالكِ بن أنس، وأقرَّه أبو داود عليه، حيث رَوى عنه في «سُننِه» أنَّه سُئل عن هذا الحديث، فقال:«كم مِن دارٍ سَكَنها ناسٌ فهَلَكوا، ثمَّ سَكَنها آخرون فهلكوا»
(3)
.
(4)
.
وقال ابن العربيُّ في شرح كلامِ إمامِه: «ليس هذا مِن إضافة الشُّؤم إلى الدَّار، ولا تعليقه بها، وإنَّما هو عبارة عن جري العادة فيها، فيخرج المرء عنها صيانةً لاعتقاده عن التعلُّق بباطل .. وعن هذا وَقع الخَبر»
(5)
.
(1)
«إكمال المعلم» (7/ 150).
(2)
«مفتاح دار السعادة» (2/ 255).
(3)
أخرجه أبو داود في (ك: الطب، باب: في الطيرة، رقم: 3922).
(4)
«المُعلم بفوائد مسلم» (3/ 179)
(5)
«عارضة الأحوذي» (1/ 282)، وانظر في هذا المعنى نفسه «المنتقى» للباجي (7/ 294).
ويؤكِّد القرطبيُّ على أنَّ هذا هو المَعنيُّ من كلام مالكٍ فيقول: «يعني بذلك: أنَّ هذه الثَّلاثة أكثر ما يتشاءم النَّاس بها، لملازمتهم إيَّاها، فمَن وَقَع في نفسِه شيءٌ مِن ذلك فقد أباح الشَّرع له أن يتركه، ويستبدلَ به غيرَه ممَّا تطيب به نفسُه، ويسكن له خاطرُه، ولم يُلزمه الشَّرع أن يُقيمَ في موضعٍ يكرهه، أو مع امرأةٍ يكرهها، بل قد فسَح له في تركِ ذلك كلِّه، لكن مع اعتقاد أن الله تعالى هو الفعَّال لما يريد، وليس لشيءٍ مِن هذه الأشياء أثَر في الوجود»
(1)
.
والمُراد في المآلِ عند أصحاب هذا القول الثَّاني: حسمُ المادَة، وسدُّ الذَّريعة، لِئلَّا يوافِق شيء مِن ذلك القَدَر، فيعتقد مَن وَقع له أنَّ ذلك من الطِّيرة، فيقع في اعتقاده ما نُهي عن اعتقادِه -أي اعتقاد أنَّ هذه الأمور مُؤثِّرة بذاتِها، وشريرةٌ بطبعِها- فكان أن دلَّ عندهم الحديث بالإشارةِ إلى اجتنابِ مثل ذلك، وأنَّ الطَّريق فيمن وَقع له ذلك في الدَّار -مثلًا- أن يُبادر إلى التَّحول منها، لأنَّه مَتى استمرَّ فيها ربَّما حمله ذلك على اعتقادِ صحَّة التَّطير والتَّشاؤم
(2)
.
التَّوجيه الثَّالث للحديث: أنَّ المُراد بالشُّؤم فيه النَّكدُ والشَّقاء الَّذي يجده المرء لقلَّةِ الموافقةِ وسوءِ الطِّباع؛ وذلك أنَّه «قد يُسمَّى كلُّ مكروهٍ ومحذورٍ شُؤمًا ومَشأمة»
(3)
.
وهذا ما مال إليه الحَليمي في تفسيرِه الحديثَ بقوله: «إنَّ الشُّؤم الَّتي وُصفت هذه الثَّلاثة إنَّما هو المَضار والمفاسد، وليس مِن قِبَل الطِّيرة»
(4)
.
ويقول القاضي عِياض: «قد يكون الشُّؤم هنا على غيرِ المفهوم منه مِن معنى التَّطيُّر، لكن بمعنى قلَّة الموافقة وسوءِ الطِّباع»
(5)
.
(1)
«المُفهم» (18/ 103).
(2)
«فتح الباري» لابن حجر (6/ 62).
(3)
«مطالع الأنوار» لابن قرقول (6/ 5).
(4)
«المنهاج في شعب الإيمان» للحليمي (2/ 20).
(5)
«إكمال المعلم» (7/ 151).
والمقصود عندهم: أنَّ هذه الثَّلاثة المذكورة في الحديث مِن أوسعِ منابع الشَّقاء في حياةِ الإنسان، لمِا فيها مِن طولِ ملازمة وملابسةٍ للمرءِ طول عمرِه، وهو معنى ما نقله مَعمر بن راشد
(1)
عن بعضِ سَلفِه حين قال: «سمعتُ مَن يفسِّر هذا الحديث يقول: شُؤم المرأة إذا كانت غير وَلود، وُشؤم الفَرس إذا لم يُغز عليه في سبيل الله، وشُؤم الدَّار جار السُّوء»
(2)
.
فهذا التَّمثيل للثَّلاثة المذكور الوارد في هذا الأثرِ عن معمر مبنيٌّ على ما ذكروه من معنى الشُّؤم في هذا التَّوجيه الثَّالث، الَّذي هو بضدِّ اليُمن والبَركة.
وعليه قالوا: إنَّ المرأة العاقر، أو اللَّسِنة المُؤذية أو المُبذِّرة بمالِ زوجِها سفاهةً، ونحو ذلك؛ وكذا الدَّار الجدِبة أو الضَّيِقة، أو الوَبيئة الوَخيمة المَشرب، أو السَّيِئة الجيران، وما في معنى ذلك؛ وكذا الدَّابة الَّتي لا تلِد ولا نسل لها، أو الكثيرة العيوبِ الشَّنيئة الطَّبع، وما في معنى ذلك: كلُّ هذا شيءٌ ضَروريٌّ مُشاهد معلومٌ، ليس هو مِن باب الطِّيرة المَنفيِّة في النُّصوص الأخرى في شيء، ذلك أمرٌ آخر عند مَن يعتقده، يعتقد أصحابها بأنَّها نَحسات على صاحبها لذاتِها! وذلك مِن وحي الشَّيطان يوحيه إلى أوليائِه.
فالمقصود أنَّ الشُّؤم المُثبتَ في هذا الحديث عند أرباب القول الثَّالث أمر مَحسوس ضروريٌّ مُشاهد، ليس مِن باب الطِّيرة المَنفيَّة الَّتي يعتقدها أهل الجاهليَّة ومَن وافقهم
(3)
؛ وإلى هذا المعنى كان مذهبُ تَقيِّ الدِّين السُّبكي
(4)
.
ويُشبه هذا التَّوجيه ما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص يرفَعه: «مِن سعادةِ ابنِ آدم ثلاثة، ومِن شقوة ابن آدم ثلاثة، مِن سعادة ابن آدم: المرأة
(1)
معمر بن راشد: الأزدي الحدَّاني مولاهم أبو عروة، عالِم اليمن، متقن ثقة في الحديث، قال أحمد بن حنبل:«لا تضمُّ معمرا إلى أحد إلا وجدته يتقدَّمُه» ، وهو عند مؤرِّخي رجال الحديث أوَّل مَن صنَّف باليَمن، توفي (153 هـ)، انظر «سير أعلام النبلاء» (7/ 5).
(2)
«التَّمهيد» لابن عبد البر (9/ 279).
(3)
انظر «معارج القبول» للحَكَمي (3/ 992).
(4)
انظر «فتح الباري» لابن حجر (9/ 138).
الصَّالحة، والمسكن الصَّالح، والمركب الصَّالح، ومِن شقوة ابن آدم: المرأة السُّوء، والمسكن السُّوء، والمركب السُّوء»
(1)
.
فإن قيل: فلِمَ اقتصر حديث «الشُّؤم في ثلاث» على ذكرِ الشِّقوة والمنافرة، دون ذكر السَّعادة والمُؤالَفة، كما في هذا الحديث الأخير؟
قلنا: لأنَّه مِن بابِ الاكتفاءِ بذكر أحَدِ الطَّرفين وإرادة ضدِّه معه! كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، أي: والبردَ
(2)
، فحُذف البَرد اكتفاءً بذكر الحرِّ الدَّال على مُقابِله، «ولكن جرى ذكر الحرِّ، لأنَّ العرب كانوا في مكانِهم أكثرَ مُعَانَاةً له مِن البرد»
(3)
.
فكذا يُقال في هذا الحديث: قد جرى ذكر الشِّقوة والنَّكد فيه، لأنَّ النَّاس فيها أكثر مُعاناةً في هذه الثَّلاثة!
غير أنَّ أرباب هذا التَّوجيه الثَّالث يُنبِّهون إلى: أنَّ هذه الشِّقوة وعدمَ الموافقة الظَّاهرة المقصودة في الحديث، تختصُّ في كلِّ نوعٍ ببعضِه لا بجميعِه، فمصدرُ شقاءِ بعض النَّاس زوجتُه، ومصدر شقاء آخرينَ مسكنُه، وآخرون شقاءهم مركبُهم، وبه صرَّح ابن عبد البرِّ:«أنَّه يكون لقوم دون قوم، وذلك كلُّه بقَدَر الله تعالى»
(4)
.
وبالجملة؛ فإنَّ إخباره صلى الله عليه وسلم بالشُّؤمِ أنَّه يكون في هذه الثَّلاثة، ليس فيه إثباتُ.
وأمَّا التَّوجيه الرَّابع الأخير للحديث فمحصِّله: أنَّ التَّشاؤم مِن النَّاس كائنٌ في هذه الثَّلاثة عادةً.
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (رقم:1445) وقال مُخرِّجوه: «حديث صحيح» ، والطَّيالسي في «المسند» (رقم:207)، وصححه ابن حبان في «صحيحه» (9/ 341).
(2)
انظر «جامع البيان» لابن جرير (14/ 322).
(3)
«معاني القرآن» للزَّجاج (2/ 255).
(4)
نقله عنه ابن حجر في «فتح الباري» (6/ 62).
أي أنَّ الحصر في هذه الثَّلاثة إنَّما مردُّه إلى عادة النَّاس، لا بالنِّسبة إلى حقيقتها وخِلْقَتها
(1)
، إذْ النَّاس مُتَشائِمون بغيرِها أيضًا، «وإنَّما خُصَّت هذه الثَّلاثة بالذِّكر لطولِ مُلازَمَتها»
(2)
، و «لأنَّ ضَررَها أبلغُ مِن ضَررِ غيرِها»
(3)
.
فكأنَّ الحديثَ يقول على هذا المعنى: التَّشاؤم الباقي عند كثيرٍ مِن النَّاس هو في المرأةِ والدَّارِ والفَرس، فيكون خَارجًا مَخرجَ الإخبارِ، نائيًا عن مَخرجِ الإقرار، غايتُه جمعُ خَبرٍ عن غالبِ عادةِ ما يُتشاءَم به، فليس هو خَبرًا عن الشَّرع، والقصد منه إخبارُه صلى الله عليه وسلم عن الأسباب المثيرةِ للطِّيرةِ الكامنةِ في الغرائز، فأخبرنا بهذا لنأخذَ الحذَرَ منها
(4)
.
فعلى هذا الوجهِ يكون المعنى في روايةِ الشَّرط السَّابقة «إن يَكُن الشُّؤم في شيءٍ
…
»: أي إنْ يَكُن الشُّؤم في شيءٍ باقيًا في عاداتِ النَّاسِ ونفوسِهم ففي هذه الثَّلاثة.
والقصد من بسطي القول في أوجه معنى هذا الحديث الشَّريف:
أوَّلًا: التَّنبيه على أنَّ مَن اعتقدَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَسب الطِّيرة والشُّؤم إلى شيءٍ من الأشياء على سبيل أنَّه مُؤثِّر بذلك دون الله، فقد أعظم الفِرية على الله وعلى رسوله، وضَلَّ ضلالًا بعيدًا!
(1)
«عارضة الأحوذي» لابن العربي (1/ 279)
(2)
«فتح الباري» لابن حجر (6/ 61).
(3)
«تحفة الأبرار» للبيضاوي (2/ 332).
(4)
وبهذا تعلمُ أنَّ عَدَّ القرطبيِّ في «المفهم» (18/ 105) لهذا الوجه «ليسَ بشيءٍ؛ لأنَّه تعطيلٌ لكلام الشَّارع عن الفوائد الشَّرعيَّة الَّتي لبيانِها أرسله الله سبحانه وتعالى» غير سَديد منه، إذ لا إحالة لِأن يُخبر الشَّارع بمُنكرٍ مِن واقع النَّاس يريد بذلك تغيِيرَه أو التَّحذير منه، كقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح حديث أبي هريرة:«أربعٌ في أمَّتي لن يَدَعوها: التَّطاعن في الأنساب، والنِّياحة، ومُطرنا بنَوءِ كذا وكذا، اشتريتُ بعيرًا أجرب -أو فجرِب- فجعلتُه في مائةِ بعيرٍ فجربَت، مَن أعدى الأوَّل؟» أخرجه أحمد في «المسند» (رقم: 9872)، فليس هذا منه مجرَّد إخبارٍ عن واقع، ولكن ما يقتضيه من التَّحذير من تلك الأشياء المذكورة فيه.
ثانيًا: أنَّ مَن تأمَّل مجموعِ هذه الأوجه من معاني الحديث، تبيَّن للفاهمِ أنَّ الحديث لا يُزري بالمرأةِ أبدًا! ولا يُلصق الشَّر بها، ولا أنَّه ساواها بالجمادِ والحيوان -حاشاها- كما يشَنِّع به المُبطلون.
وإنَّما خُصَّت هي بالذِّكرِ مع سائر الأمورِ الثَّلاثة مُوافقةً: لطولِ مُلازمتها للمِرءِ
(1)
، أو لأنَّ ضَررَها إذا أضرَّته أبلغُ مِن ضَررِ غيرِها
(2)
، أو لكون الإنسانِ لا يخلو مِن عارضِ مكروهٍ في زمانِه ودهرِه منها، فأُضيفَ اليُمن والشُّؤم إليها إضافةَ مكانٍ ومَحلٍّ ليس إلَّا؛ وفي هذا كلِّه إشارة إلى تحذيرِ النَّاس مِن اعتقادِ الشُّؤمِ فيها، وعدم نسبةِ الشُّرور الواقعةِ إليها بهذا الاعتبار؛ فهذا الحديث بهذا أحرى أن يكون دفاعًا عن المرأة لا كما يزعم المُعترضون!
فإن قيل: إن كان الأمر على هذا المعنى، فالرَّجل قد يكون شُؤمًا على المرأة كذلك! فلِم خُصَّت المرأة بالذِّكر في الحديث دون الرَّجل؟
فالجواب: لأنَّ المرأة مَطلوبة لا طالبة! شأنها في ذلك شأن الدَّار والفَرس.
فالرَّجل يأتيها ليأخذها عنده ليَصلُح بها شأنُه، كما أنَّه يأتي الدَّارَ فيشتريها أو يبتنيها، ويأتي الخيل فيقتنيها، كلُّ هذا ليَصلُح شأنُه؛ فإذا ما انقلب الحال ضدَّ ما ابتغاه، وفسُدت عليه مَعيشته مِن إحدى هذه المَطلوباتِ، وفشل مشروعُه منها في الحياة: تعكَّر عليه مزاجُه، وانقذف في قلبِه مِن الكُره لها بحسبِ ما يُلاقيه منها مِن أذى، فيحصُل أن يَزِلَّ إلى اعتقادِ الشُّؤم في إحداها لكبيرِ الواردِ الكريهِ على قلبِه، فهُنا نُبِّه إلى التزامِ الشَّريعة في ردودِ أفعالِه، وحُذِّر من الوقوع في مَناهيها، بما سبق بسطُه في ما مضى من أقوال العلماء، والله تعالى أعلم.
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (6/ 61).
(2)
«تحفة الأبرار» للبيضاوي (2/ 332).