الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دَفعُ دعاوي المعارضاتِ الفكريَّةِ المعاصرةِ
عن حديثِ التَّصبُّح بسبعِ تمراتٍ عَجوة
إنَّ مِن أسبابِ الخطأِ المُتكرِّرِ عند المُنكرين لصِحاح السُّنَن عند النَّظرِ في الأخبار، إغفالَهم للقيودِ الَّتي تكبَح جِماحَ الخطابِ أن يُفهَم عامًّا على إطلاقِه!
وذلك أنَّ النَّصَ الشَّرعيَّ يَجري في سياقاتٍ لفظيَّة ومَعنويَّةٍ، وتحتفُّ به مِن القرائن والأحوال ما يَستوجِب حملَه على معنىً مُقيَّد دون عمومِ ظاهرِه، وأمثلة ذلك مِن الكتابِ والسُّنة مَبثوثة في باب ما يُخصَّص به عموم الكتابِ والسُّنة في كُتب الأصول
(1)
.
فما أوْقَع المُبطلين لهذا الحديث بخصوصِه مُنزَلقٌ مَنهجيٌّ في تفسير النُّصوصِ الشَّرعيَّة، مُتمَثِّلٌ في أمرين:
أوَّلهما: حَملهم للَفظِ (التَّمر) في بعض الرِّواياتِ على عمومِ جنسِه، دون نَظرٍ في الرِّوايات المُقيِّدة بنوعٍ مُعَيَّنٍ منه.
ثانيهما: حَملهم لفظَ السَّمِ فيه على كلِّ سُمٍّ قاتلٍ وغير قاتلٍ، مِن غيرِ تَنقيبٍ عن مَقصد المُتكلِّم به، ولا مُراعاةِ القرائن المُحصِّلة لذلك.
(1)
انظر «الفقيه والمتفقه» للخطيب البغدادي (1/ 309)، و «اللُّمع» للشيرازي (ص/32)، و «البرهان» للجويني (1/ 157)
فأمَّا العموم الأوَّل: فالصَّحيح أنَّ الحديث لم يَعنِ كلَّ تمرٍ مِن أيِّ بلدٍ كان، بل هو مَخصوصٌ بتمرِ العَجْوة المَدَنيِّ
(1)
.
وذلك: أنَّ الحديث مَداره على عامرِ بن سَعد بن أبي وقَّاص، يَرويه عن أبيه، رواه عن عامر هذا اثنان مِن ثقاتِ أصحابِه، بلفظين مختلفين: هاشم بن هاشم
(2)
، وأبو طوالة عبد الله بن الرَّحمن
(3)
.
فأمَّا (هاشم بن هاشم): فرواه عنه بلفظ «تمراتٍ عَجوة» ، ورواه عن هاشم جماعة مِن الرُّواة كلُّهم اتَّفَقوا على لفظِ العَجوة
(4)
.
وأمَّا (أبو طوالة): فرواه عنه بلفظ «سبع تمراتٍ» دون تَقيِيدٍ بالعجوة، وإن كان القَيد في روايتِه هو ببُقعةِ زرعِها:«ما بين لابَتَيها»
(5)
، أي لابَتي المدينة.
وقد ذَكر أبو طوالة أنَّ لفظَ «العَجوة» لا يحفظه هو في الحديث، وإنَّما يسمَعه مِن النَّاس
(6)
؛ على أنَّ أصحابه قد اختلفوا عليه أيضًا! فرواه عنه بعضهم بزيادة لفظ «العجوة»
(7)
.
وعندي أنَّ رواية هاشم بن هاشم الَّتي بلفظ «العجوة» ، أصوبُ مِن روايةِ أبي طوالة، لبعضِ مُرجِّحاتٍ، منها:
أولًا: عدمُ اختلاف أصحاب هاشم عليه في لفظ «العَجوة» ، عكسَ رِوايةِ
(1)
انظر «شرح النووي على مسلم» (14/ 2 - 3)، ويخصُّها بعضهم بعَجوةِ العاليةِ تحديدًا، لورود حديث فيها سيأتي قريبا.
(2)
هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبى وقاص القرشى الزهرى، ثقة، ممن عاصروا صغار التابعين، توفي في بضع وأربعين ومائة من الهجرة، انظر «تهذيب الكمال» (30/ 137).
(3)
عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصارى النجارى، أبو طوالة المدنى، قاضى المدينة، ثقة من صغار التابعين، توفي (134 هـ)، انظر «تهذيب الكمال» (33/ 445).
(4)
انظر «فتح الباري» لابن حجر (10/ 239).
(5)
أخرجه مسلم في (ك: الأشربة، باب: فضل تمر المدينة، رقم: 2047).
(6)
«المستخرج على مسلم» لأبي عوانة (5/ 189).
(7)
انظر «شرح مشكل الآثار» للطحاوي (14/ 361)، و «شرح السنة» للبغوي (11/ 325).
«التَّمرات» ، فالخلاف عن راويها أبي طوالة قَويٌّ، إذ في الرُّواة عنه مَن يذكر لفظ «العَجوة» بدل «التَّمرات» ، وهنا يُقَدَّم المُتَّفَق عليه على المختلفِ فيه
(1)
.
ثانيًا: لتخصيصِ «العَجوة» شواهد في أحاديث أخرى، مِنها:
ما جاء عن عائشة رضي الله عنه مَرفوعًا: «إنَّ في عَجوةِ العاليةِ شفاءً -أو: إنَّها ترياق- أوَّلَ البُكرة»
(2)
.
وعن جابر رضي الله عنه مَرفوعًا: «العَجوة مِن الجنَّة، وهي شفاء مِن السَّم»
(3)
.
وهذا القول بتَخصيصِ ما في الحديث بعَجوة المدينةِ أو (العالِيَة)
(4)
مَذهبُ عامَّة أهل العلمِ، مع اختلافِهم في مَزِيَّتها الَّتي لأجلها اختُصَّت بذاك التَّأثير في السُّموم والسِّحر دون سائرِ التَّمور
(5)
.
حتَّى الَّذين صحَّحوا رواية أبي طوالة في «التَّمرات» ، منهم مَن جعله مُقيَّدًا بروايةِ العَجوة -كعامَّة شُرَّاح الحديث-، ومِنهم مَن لم يُقيِّدها بذلك، فجَعَل حكم العَجوة يشمل التَّمر عمومًا
(6)
، بأن يكون ذكر العَجوة مِن باب التَّنصيص على بعض أفراد العامِّ لمزيد خصوصيَّة أو اهتمام، فلا يقتضي التَّخصيص.
وعلى كلٍّ؛ سواء قلنا بهذا أو ذاك، فإنَّ المُتَّفَق عليه مِن كِلا الرِّوايتين أنَّ نوعَ التَّمر في الحديث: ما كان نخلُه نابتًا بين لَابَتي المدينة، فإنَّ «تخصيصَ تمرِ المدينة بذلك واضحٌ مِن ألفاظِ المتن»
(7)
.
(1)
ولعلَّها هذا ما دعا البخاريَّ للاقتصار على إخراج رواية «العجوةِ» عن هاشم في «صَحيحِه» ، دون رواية أبي طوالة.
(2)
أخرجه مسلم في (ك: الأشربة، باب: فضل تمر المدينة، رقم: 2048).
(3)
أخرجه النسائي في الكبرى (ك: الوليمة، باب: عجوة العالية، رقم: 6682).
(4)
العالية: ما كان من الحوائط والقرى والعمارات من جهة المدينة العليا مما يلى نجد، والسافلة من الجهة الأخرى مما يلي تهامة، انظر «شرح النووي على مسلم» (14/ 3).
(5)
انظر أقوالهم في «فتح الباري» لابن حجر (10/ 239).
(6)
كما تراه ـ مثلًا ـ في تبويب أبي عوانة في «مستخرجه على مسلم» (5/ 189) قال: «باب: بيان فضل التُّمور الَّتي تكون بين لَابَتي المدينة على غيرها، وأن مَن تصبَّح منها بسبع تمراتٍ لم يضرَّه سمٌّ» .
(7)
نقله ابن حجر عن بعض شُرَّاح «مشارق الأنوار» في «الفتح» (10/ 240).
فمَن ذهب مِن المعاصرين إلى تعميمِه على كلِّ تمرٍ -مَدنيًّا كان أم غيره- فقد أبعد النّجعة بذلك! لأنَّه ألغى به القَيد الصَّريح في اللَّفظ النَّبوي مِن غير مقتضٍ صحيح.
نعم؛ قد أثبتَت الدِّراسات المُختبريَّة الحديثة نجاعةَ التُّمور عمومًا في الوقاية مِن أثرِ السُّمومِ، لكنَّها لا ترقى أن تُلغي القيدَ الوارد في الحديث، فليس في نصِّ الحديث ما يَنفي أن يكون في باقي أنواعِ التُّمور شَيءٌ مِن تلك الفاعليَّة المَوجودة في عَجوةِ المدينة، كما ليس فيه ما يَنفي أن يكون في باقي تُمور الدُّنيا شيءٌ مِن الأثر الَّذي يحدثه تمر المدينة، .. لكنَّه يبقى شيئًا مِن كلٍّ!
وعلى فرضِ اشتراكِ سائر التُّمور للعجوة في جنسِ التَّأثير في السُّموم والأسحار، فإنَّ عَجوةَ المدينةِ أكمل التُّمور وأنجعها في الوقاية مِن السَّم والسِّحر، ووِقاية غيرها ناقص بالنِّسبة إلى ما في العَجوة مِن بركةِ، فلأجل ذا تقصَّدها النَّبي صلى الله عليه وسلم في لفظ حديثِه بالوَصيَّة دون غيرها مِن التُّمور
(1)
.
وأمَّا في ما يتعلَّق بغَلط المُعترِضين في فهمِ لفظ «السُّم» الوارد في الحديث:
فإنَّ السُّموم في عُرفِ كلامِ العَرب لا ينحصر في ما يَقتلُ، بل يطلقونها ويَقصدون ما يَضرُّ منها جدًّا وإن لم يقتل، ولذا ترى شِمْرًا
(2)
(3)
.
(1)
الغريب أن يجنح بعض الباحثين إلى ترجيح رواية «التَّمرات» على رواية «العجوة» بما لم يسبقه إليه أحدٌ من الأئمَّة، ليُثبت به شمولَ هذا النَّفع الوارد في الحديث لعموم التُّمور كيفما كانت، أعني به (د. جميل أبو سارة) في رسالته «أثر العلم التَّجريبي في كشف نقد الحديث النبوي» (ص/243)، اعتمادًا منه على تلك البحوث المخبريَّة الَّتي تثبت أثر التُّمور في الوقاية من السُّموم! ونَسي أنَّ البحوث الَّتي اعتمدها في بحثه هذا لم تعتمد على تمور المدينة البتَّة، لا مِن عجوة ولا غيرها! في حين أنَّ اللَّفظ الَّذي رجَّحه فيه « .. تمراتٍ ممَّا بين لابَتَيها» أي: أنَّها مُقيَّدة بتمور المدينة فقط! فانعدم التَّرابط التامُّ بين المَدلول وما يظنُّه دليلًا له.
(2)
شِمْر بْن حَمْدُوَيْه أَبُو عَمْرو اللُّغَوي: أديب خُراسان، كَانَ رأسًا فِي العربية والآداب، وكان مِن أئمّة السنة والجماعة، توفي (251 - 260 هـ)، انظر «تاريخ الإسلام» للذهبي (6/ 97).
(3)
«تهذيب اللغة» للأزهري (12/ 224)، و «الغَريبَين» لأبي عبيد الهروي (3/ 935).
فمِن هنا أوتي المُعترض، مِن ظنِّه أنَّ المعنى هو ما تَبادر إلى ذهنه مِن السُّموم الكيمائيَّة المُستحدثةِ الفتَّاكة في الحين! كمادَّة (البوتولِينوم)، أو غاز السَّارين مثلًا، وهذا معنى ما أبعدَ أن يقصِده النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن الحديث، فإنَّ هذا النَّوع قَلَّ أن يَتعرَّض له النَّاس في الجملة، وهو في حكم النَّادر جدًّا، ومُحال أن يقصِد بوصيَّتِه أمَّته شيئًا ندُر أن يقع فيهم.
ولذلك وجدنا أنَّ السِّحرَ لمَّا كان مُنتشرًا في النَّاس، وهم مُبتلَون به منذ القديم، أوصى النَّبي صلى الله عليه وسلم أمَّته في الحديث نفسِه بما يدفعه عنهم، ودلالة الاقترانِ هذه ترجِّح أن يكون «السَّم» مثل «السِّحر» على معنى يكثر تلبُّس النَّاس به، وكثرة بلواهم به في كلِّ زمانٍ ومكان، فيكون المُراد الأنسب على ذلك: ما كان في الأشربةِ والأطعمة الرَّديئة أو المتعفِّنة، أو ما يَستنشقه النَّاس مِن الأبخرةِ والدَّواخن المُضرَّة في الهواء، أو في ما يكون مِن سمومِ الزَّنابير والعقارب ونحوها مِن الحشرات، فكلُّ هذا داخل في مُسمَّى السَّم لغةً وعُرفًا.
فهذا هو الأقومُ في المُراد بلفظ «السُّم» ، والانصراف عن ظاهر إطلاقِ لفظِه في الحديث ليس أمرًا مُحدَثًا عند فقهاءِ الحديث، بل قد دَرج عليه بعض مُحقِّقيهم، كما تراه عند ابن القيِّم في قوله:«يجوز نفع التَّمر المَذكور في بعض السُّموم، فيكون الحديث مِن العامِّ المَخصوص، ويجوز نفعه لخاصيَّة تلك البَلد، وتلك التُّربة الخاصَّة من كلِّ سمٍّ»
(1)
.
والَّذي سوَّغَ لنا القول بهذا النَّوع مِن السُّموم أنه المَعنيُّ بالحديث لا مطلقًا: ما عَمِي عنه المُتعجِّلون في الطَّعن على الحديث، مِن تلك البحوث والدِّراسات العلميَّة المتكاثرة المُجراة على التُّمور، حيث أثبتَت أثرَها الوِقائيَّ مِن أنواع السُّموم المختلفة الَّتي يتعرَّض لها الإنسان في حياته اليوميَّة.
فمن تلك الدِّراسات الحديثة: بَحث مُحكَّم نشره الدُّكتوران: عبد الكريم السَّلال، وأحمد ديسي، في مجلة علميَّة تُصدِرها جامعة «كامْبرِيدْج» البريطانيَّة،
(1)
«زاد المعاد» (4/ 92).
بعنوان: «دراسة تأثير خلاصة التَّمر على إبطالِ مفعولِ سمِّ الحيَّة والعَقرب» ، حيث «تمَّ إعطاء أربعة مُتبرِّعين مِن (9 - 11) حَبَّة تمر لكلٍّ منهم، وقد أُخذت منهم قبل هذا عيِّنات مِن دمائهم، وكذا بعده بحوالي خمس ساعات.
فكشف الاختبار أنَّ عيِّنات الدَّم الَّتي أُخِذت بعد تناول التَّمر كانت مقاومة لسُمِّ الأفعى بنسبة (83%)، ثمَّ وَجدت الدِّراسة أنَّ إعطاء (5%) من خلاصة التَّمر أبطلت حوالي (34%) و (71%) من النَّشاط السُّمي للأفعى والعقرب على التَّوالي، وأن (20%) من خلاصة التَّمر أحبطت المفعول بنسب ما بين (87%) و (100%»)!
(1)
.
هذا؛ والتَّمر المُستعمَل في تلك التَّجربة مِن أَرْدَأِ أنواع التُّمور المتوافرة في أسواقِ الأردن!
(2)
ليس هو مِن عجوة المدينة، ولا من أيِّ تمرها كلِّه!
بل قبل شهرين من الآن، تحصَّلت جامعةُ قابوس بسَلْطنة عُمان، على بَراءةِ اختراعٍ مِن قِبل المكتبِ الأمريكيِّ لبَراءاتِ الاختراع، عن اكتشافِ طَبِيبَيْن عندها لدواءٍ مُستخلصٍ مِن تمرِ العَجوة، يحمي المُصابَ من أخطرِ لَدغاتِ الأفاعي في غضونِ دقائق مَعدودة!
(3)
وأمَّا دراسات الغربيِّين لجدوى فاعليَّة التَّمر في السُّموم: فكثيرة أيضًا، أذكر منها على -سبيل التَّمثيل- دراسةً حديثةً نشرتها المجلَّة العلميَّة البريطانيَّة «The coversation»
(4)
، اهتدى فيها بعض الباحثين الفَرنسيِّين بمعيَّة باحثٍ سوريٍّ يُدعى:
(1)
للنَّظر في تفاصيل هذه الدراسة، يُرجى مراجعته في:
Inhibition of heamolytic activity of snake and scorpion venom by date extract، biomedical letters، 51 - 56، 1997.
(2)
كما يُخبر د. السَّلال القائم بالتَّجربةِ، انظر «أثر العلم التَّجريبي في كشف نقد الحديث النبوي» لـ د. جميل أبو سارة (ص/237).
(3)
انظر الخبر في جريدة «الوطن» العُمانيَّة، على صفحتهم الإلكترونيَّة، منشور بتاريخ 3 إبريل 2018 م، وقد بُثَّ الخبر في عدَّة قنواتٍ فضائيَّة.
(4)
مقال لـ (دينيس مورفاي denis J murfphy) بموقعهم الإلكتروني الرَّسمي بعنوان:
" How date palm seeds can remove toxins from the environment" july 26،2016.
د. عبد السَّميع هنانو: إلى استخدامِ خُلاصةِ التُّمور لمعالجةِ بعضِ السُّمومِ المُنتشرةِ في بعضِ البِيئات جرَّاء الحروبِ والتَّلوُّثاتِ الصِّناعية، والمعروفة بـ (الدِّيُوكْسِينات)، وهي تتراكم في المَجاري المائيَّة والتُّربة.
ذلك أنَّهم وَضعوا مُستحلَب التَّمر في ماءٍ به كميَّة مِن سُمِّ (الدِّيوكْسِينات)، فتفاجأوا باختفاءِ هذه المادَّة السُّميَّة في غضونِ دقيقة واحدة!
وقد هَدتهم التَّجربة إلى استخدام هذا العلاج الحَيويِّ لمعالجة السُّمومِ الأخرى المنتشرة في أرجاء العالم كلِّه، مُؤكِّدين في ختام بحثهم هذا على «أنَّ نَخيلَ التَّمر أكثرُ فوائدَ ممَّا كان أجدادُنا يَتصوَّرونه!» .
ودراسة أخرى هي أعجب مِن أختِها السَّالفة: أجراها باحثون بريطانيُّون، ما دفعهم إلى القيامِ بها إلا وقوفهم على حديثِنا هذا في فضل العَجوة وتمرِ المدينةِ! فوجدوا الأثر البَليغ الَّذي يُحدثه التَّمر في العمليَّة المناعيَّة للكَبِد ضدَّ السُّموم.
وإدراك أهميَّة هذه التَّجرية يتِمُّ بمعرفتنا أنَّ العمليات الاستقلابيَّة (الأَيْض) هي عمليَّات متواصلة في جسم الإنسان، ينتج عنها ما يُسمِّيه الأطبَّاء بـ «الجزيئات الحُرَّة» ، وهي مركَّبات تفاعليَّة إذا تُركت تسبَّبت في أمراضٍ جسيمة، ومنها تسارع عمليَّات الهدم في خلايا البَدن، والوقوع في الشَّيخوخة المبكِّرة.
وقد اكتشف الأطبَّاء أنَّ في الكَبد إنزيمًا مسئولًا عن إبطالِ مفعول السُّموم الَّتي تتخلَّف عن عمليَّات (الأَيْض) هذه، ولذا ترتفع نسبة هذا الأنزيمِ في الدَّم في حال دخول السُّمومِ في الجسم، وعند تجريب إطعامِ سبع تمراتٍ لأُناسٍ كلَّ يومٍ ولمدَّة شهر، كما فهموه من الحديث، وجدوا أنَّ مستوى ذلك الإنزيم في الدَّم قد صار في الحدود الطَّبيعية .. وبعد فحص هؤلاء في نفس التَّجربة، وجدوا أنَّ مُعدَّل الإنزيمِ لا يرتفع مع دخول السُّمومِ إلى الجسم، ممَّا دلَّ على أنَّ الجسم استغنى عن إفراز الأنزيم، لوجود وقايةٍ قويَّة فيه سابقة!
لقد أكَّدت هذه الدِّراسةَ جمعيَّةٌ بريطانيَّة تُدعى " telepathy"، تهتمُّ بظاهرة الاستجلاء البصريِّ والسَّمعي، حيث أخذت عيِّناتٍ دمٍ من أُناسٍ يتعرَّضون للتَّسمُّم بمادَّة الرَّصاص من عوادم السَّيارات، أو صناعةِ البطَّاريات ونحو ذلك، مِمَّن
يُعانون مِن مشكلِ عُنصر (الكاديوم)، الَّذي يؤدِّي إلى الفَشل الكلَوي وبعض التَّسمُّمات الخطيرة في الجسم، فوجدوا:
أنَّ المُتطوِّعين حين تناولوا سبع تمراتٍ كلَّ يومٍ على الرِّيق، قلَّت نِسبة السُّمومِ جدًّا في أجسمامهم، لغِنى التَّمر بالموادِ الفيتوكيماويَّة الَّتي تقاوم السُّموم الدَّاخلية، وذلك بحشرِها تحت بشرة الجلد، أو إذابتها وإخراجها عبر البولِ والبُراز، فضلًا عن مقاومتها للجزيئات الحُرَّة النَّاتجة عن (الأَيْض) والأكسدة في الجِسم، فعمِلت خلاصة التَّمر المُتناولة عملَ المُضاداتِ الطَّبيعيَّة للسُّمومِ في الكَبد.
وقد نشرت هذه الجمعية البريطانيَّة هذا البحث في مجلَّتها الدَّوريَّة " Telepathy"، ذكرت فيه رصدَ أجهزة الاستشعارِ لخطِّ طَيفٍ مُلتفٍّ على الجسم تشكَّل بعد هضم التَّمرات، وأنَّ هذه الهالَة تستمرُّ يومًا كاملًا، كما ورد في الحديث تمامًا!
(1)
ولعلَّ هذه الهالَة الطَّاقيَّة هي السَّبب في مقاومةِ طاقةِ الأسحارِ المُتَّجِهة إلى الإنسان إذا أكلها.
فليت المُعترضين على الحديث مِمَّن ينتسب إلى الإسلام اقتدوا بهؤلاء الإفرنجةِ في معاملتهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاملةَ المُجرِّب المُستفيد! أو ليتهم على الأقلِّ أخذوا بنصيحةِ مصطفى السِّباعي قديمًا، إذ وَصَّاهم بالتَّريُّث في إنكار هذا الحديث بخاصَّة، حيث قال:
«إذا كان الطِّب الحديث لم يُوَفَّق في اكتشافِ سائرِ خواصِّ العجوة حتَّى الآن، أَفَليس مِن الخطأ التَّسرُّع إلى الحكم بوضعه؟! وهل ادَّعى أحد أنَّ الطِّب انتهى إلى غايته، أو أنه اكتشف كلَّ خاصَّة لكلٍّ مِن المأكولات والمشروبات والنَّباتات والثِّمار الَّتي في الدُّنيا؟!
(1)
انظر هذه الدِّراسة في موسوعة «عالم الإنسان: طعام الإنسان وشرابه» للبروفيسور: أحمد شوقي إبراهيم (3/ 121 - 214)، وهو زميل كلية الأطباء الملكيَّة بلُندن وأدنبره، ومستشار الأمراض الباطنيَّة وأمراض القلب.
إنَّك لا تشكُّ معي في أنَّ إقدام مؤلِّف «فجر الإسلام» على القطع بتكذيبِ هذا الحديث جرأةٌ بالغة منه، لا يمكن أن تُقبل في المحيط العلميِّ بأيِّ حال، ما دام سنده صحيحًا بلا نزاع، وما دام متنه صحيحًا على وجه الإجمال، ولا يضرُّه بعد ذلك أنَّ الطِّب لم يكتشف حتَّى الآن بقيَّةَ ما دلَّ عليه مِن خواصِّ العَجوة.
ويقيني أنَّه لو كان في الحِجاز مَعاهدُ طبيَّة راقية، أو لو كان تمرُ العاليةِ موجودًا عند الغربيِّين، لاستطاع التَّحليل الطبيُّ الحديث أن يكتشف فيه خواصَّ كثيرةً، ولعلَّه يستطيع أن يكتشف هذه الخاصة العجيبة، إن لم يكن اليوم، ففي المستقبل إن شاء الله»
(1)
.
وها قد تحقَّق ما رجاه السِّباعيُّ فيما أوردناه من دراساتٍ علميَّة، والله متمٌّ نورَه.
(1)
«السنة ومكانتها في التشريع» (ص/285).