الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفعُ المُعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن دخولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم على أمِّ حرامٍ وأختِها
أمَّا دعوى المُعترِض خلوةَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بأجنبيَّة عنه في الحديث، ومَسُّها له مِن غير مَحْرَميَّة:
فالحديث خِلوٌ مِن إفادةِ معنى الخُلوة أو نفيها، غاية ما فيه التَّصريحُ بدُخولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم على أمِّ سُليم وأختِها، ولا يَلزم أن يكون البيتُ ليس فيه إلَّا واحدة وقتَ دخولِه، بل الغالب خلاف ذلك، فتنتفي الخلوة، لأجلِ أنَّ أمَّ حرامٍ كانت تُساكِن أختَها أمَّ سليم، فـ «بيتُهما واحد، ثمَّ لا مانعَ أن تكون الأُختان في بيتٍ واحدٍ كبيرٍ لكلٍّ منهما فيه مَعزل»
(1)
.
يدلُّ على هذا قول أنسٍ رضي الله عنه: «دَخَل النَّبي صلى الله عليه وسلم علينا، وما هو إلَّا أنا وأمِّي وأمُّ حرام خالتي، فقال: قوموا فلِأصلِّي بكم .. » الحديث
(2)
.
وعلى فَرْضِ دلالةِ الحديث على خلوة النَّبي صلى الله عليه وسلم بأمِّ سُليم أو أختِها: فقد جاز ذلك كونُه مَحْرمًا لهما، ما يُفسِّر تمكينَه لأمِّ حرامٍ فَلْيَه لرأسِه الشَّريفِ، وقد نَقَل النَّووي اتِّفاقَ أهل العلم عليه، والأكثرُ على أنَّ ذلك مِن جِهة الرَّضاعة
(3)
.
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (6/ 51) بتصرف يسير.
(2)
أخرجه مسلم في (ك: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز الجماعة في النافلة، والصَّلاة على حصير وخمرة وثوب، وغيرها من الطاهرات، رقم: 660).
(3)
«شرح النووي على مسلم» (13/ 57).
يقول ابنُ وهب
(1)
(2)
.
وهذا ما جَزَم به أبو القاسم ابن الجوهري (ت 381 هـ)
(3)
، والدَّاودي (ت 402 هـ)، والمهلَّب بن أبي صفرة (ت 435 هـ)، وغيرهم من أهل العلم
(4)
.
بل قال ابن عبد البرِّ: «لا يشكُّ مسلمٌ أنَّ أمَّ حرام كانت مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحرم، فلذلك كان منها ما ذُكر في هذا الحديث .. » ، ونَقَل عن يحيى ابن مُزَين (ت 259 هـ)
(5)
قولَه: «كانت منه ذاتَ مَحْرمٍ مِن قِبَل خالاتِه، لأنَّ أمَّ عبد المطَّلِب بن هاشم كانت مِن بني النَّجار»
(6)
.
وأمَّا ما أورده الدُّمياطيُّ (ت 705 هـ)
(7)
على هذا التَّفسير بأنَّ «هذه خَؤُولة لا تَثبتُ بها مَحرميَّة، لأنها خَؤُولة مَجازيَّة، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «هذا خالي» ، لكونه مِن بني زُهرة، وهم أقارب أمِّه آمنة، وليس سَعدٌ أخًا لآمنة، لا مِن النَّسَب، ولا مِن الرَّضاعة»
(8)
؛ فجوابنا عليه:
(1)
هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشى مولاهم الفهرى، أبو محمد المصرى الفقيه (125 هـ-197 هـ)، ثقة حافظ عابد، أحد أعلامِ تلامذة الإمام مالك، من مؤلفاته:«الجامع» ، و «الموطأ» كلاهما في الحديث، انظر «تهذيب الكمال» (16/ 277).
(2)
«التَّمهيد» (1/ 226)، و «المنتقى» للباجي (3/ 212).
(3)
هو عبد الرحمن بن عبد الله أَبو القاسم المصري: فقيه كثير الحديث، من شيوخ الفُسطاط، وكبار فقهاء المالكيَّة، وشيوخ السُّنة، من مؤلفاته «مسند الموطأ» ، انظر «الديباج المذهب» (1/ 470).
(4)
انظر «شرح صحيح البخاري» لابن بطال (5/ 10)، «فتح الباري» لابن حجر (11/ 78).
(5)
يحيى بن إبراهيم بن مُزين أبو زكريا القرطبيُّ: أحد الأعلَام بالأندلس، عالم بالحديث ورجاله، رَحَل إلى المشرق، مِن كتبه «تفسير الموطأ» ، و «فضائل القرآن» ، و «رغائب العلم وفضله» ، انظر «تاريخ الإسلام» (6/ 227).
(6)
«التَّمهيد» (1/ 226).
(7)
عبد المؤمن بن خلف الحافظ أبو محمد شرف الدين الدُّمياطي: كان غايةً في علم الحديث واللُّغة والأنساب، وتميَّز في مذهب الشَّافعيَّة، من مؤلَّفاته:«المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح» ، انظر «طبقات الشافعية» لابن كثير (1/ 951).
(8)
«فتح الباري» (11/ 78)، وبمثل هذا الاعتراض طعن (جعفر السُّبحاني) الحديثَ في كتابه «الحديث النبوي بين الدراية والرواية» (ص/662).
أنَّ ابن مُزينٍ ما أراد بتعليلِه الأخيرِ كونَ بني النَّجار أخوالًا له صلى الله عليه وسلم على الحقيقة، لمُجرَّد كونِ جدَّتِه العُليا منهم، كلَّا؛ فهذه -كما قالَ الدُّمياطيُّ- خُؤولةٌ مَجازيَّة لا تُثبت مَحرميَّة، وليس يخفى أمرُها على العَوامِّ، فضلًا عن مثلِ ابن مُزَينٍ، أو ابن وهبٍ وغيرهما من أهل العلم.
إنَّما أراد ابن مزين وغيره بذلك: التَّدليلَ التَّاريخيَّ على أنَّ أصلَ الرَّضاع مَوجود في بني النَّجار لأحدِ أصولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، سواء مِن جِهة أبيه أو أمِّه، بحكمِ المُصاهرةِ الكائنةِ بين بني هاشمٍ وبني النَّجار؛ هذه الرَّابطة تقتضي وجودَ تزاورٍ بين أصحابِها ومُعايشة، كما حَصَل مِن آمنة بنت وهب -أمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدِمت بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم على أخوالِه مِن بني عدِّي بن النَّجار بالمدينة
(1)
.
والغالب في مثل هذه الرَّوابطِ قديمًا ألَّا تُعدَمَ رَضاعًا يَتَخلَّلُها ويَنتشر بين أبنائِها، فأرادَ ابن مُزَين التَّنبيهَ بهذا على أنَّ أمَّ سُليم وأختَها مِن خالاتِ النَّبي صلى الله عليه وسلم رضاعًا غير مُستبعد من هذه الجِهة المشروحةِ؛ فلمَّا أنْ وجدنا النَّبي صلى الله عليه وسلم يُعامِل هاتَين الأُختين معاملةَ المَحارمِ دون سائرِ نساءِ المَدينةِ، مع ما علمناه من نِسبةِ أمِّ سليم وأختِها إلى أخوالِه مِن بني النَّجار: تحقَّقنا بهذا أنَّ له بهما صِلةً مَحْرميَّةً ما.
فأمَّا مَحرميَّة النَّسَب: فقد وجدناها بعيدَة الوقوع، لأنَّ خفَاءَ النَّسبِ عن العربِ وقتئذٍ أقربُ إلى الإحالةِ.
فلم يبقَ إلَّا القول بمَحْرميَّة الرَّضاع، وهو المُتعيِّن هنا، لانتشارها بين الأجانب في ذلك الوقت كما سبَق تقريره، وهي تخفى أحيانًا على أقربِ النَّاس ممَّن أُرْضِع، فضلًا عن البَعيد، والشَّواهد على ذلك كثيرة.
مِن ذلك ما أخبرت به عائشة رضي الله عنها قالت: «دَخَل علَّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجلٌ قاعدٌ، فاشتَدَّ ذلك عليه، ورأيتُ الغَضبَ في وجِهه، فقلتُ: يا رسول الله، إنَّه أخي مِن الرَّضاعة، فقال: «اُنظُرنَ إخوَتَكُنَّ مِن الرَّضاعة، فإنَّما الرَّضاعة مِن المَجَاعة»
(2)
.
(1)
انظر «سيرة ابن إسحاق» (ص/65)، و «دلائل النُّبوة» للبيهقي (1/ 188).
(2)
أخرجه مسلم في (ك: النكاح، باب: إنما الرضاعة من المجاعة، رقم: 1455).
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خفِي عليه أمرُ رضاعِها مع ذاك الرَّجل، مع أنَّها زوجُه!
(1)
فإن عادَ الدُّمياطي ليعترض على وجود المَحرميَّة بما أخبر أنس رضي الله عنه: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخلُ بيتًا بالمدينة غير بيتِ أمِّ سُليم، إلَّا على أزواجِه، فقيل له، فقال:«إنِّي أرحمُها، قُتل أخوها معي (2» )
(3)
؛ يقول الدُّمياطي: «فبَيَّن تخصيصَها بذلك، فلو كان ثمَّةَ علَّةٌ أخرى لذَكَرَها، لأنَّ تأخيرَ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ لا يجوز»
(4)
.
فجوابنا عليه:
أنَّ السُّؤال الموجَّه إليه صلى الله عليه وسلم لم يكُن مِن الأصلِ عن عِلَّةِ دخولِه صلى الله عليه وسلم على امرأةٍ يَرَونها أجنبيَّة، فإنَّ هذا لا يُناسبه ما أجابَ به صلى الله عليه وسلم من رحمتِه إيَّاها بعد مَقتلِ أخيها! فهذه العِلَّة يشتركُ فيها أيضًا غيرُ أخيها حرام بن ملحانَ مِن السَّبعين الَّذين قُتلوا معه في بئرِ مَعونة وغيرِها مِن مشاهدِ القِتال، وهؤلاء قد وَجد عليهم أهليهم كالَّذي وجدته أمُّ سليم على أخيها! ومع ذلك لم يكُن النَّبي صلى الله عليه وسلم يزور أهليهم ولا يُعاملهم معاملةَ المحارِم، كما كان يفعله مع أمِّ سُليم وأختِها.
فتعيَّن أن يكون سؤالهم عن غيرِ ذلك؛ والأقربُ أن يكونَ النَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما سُئِل عمَّا لاحظوه مِن كثرةِ دخولِه عليها، وتخصيصِها بمزيد عناية.
(1)
الأبعد من ذلك: أن يخفى أمر الرَّضاع على الرَّجل يرغبُ في العقدِ على امرأةٍ، فينكِحُها جهلًا منه أنَّها أختٌ له مِن الرَّضاع! كما وقع لعقبة بن الحارث رضي الله عنه حين تَزوَّج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز، ثمَّ أتته امرأةٌ تقول: إنِّي قد أرضعتُ عقبةَ والَّتي تَزَوَّج! فقال لها عقبة: ما أعلمُ أنَّكِ أرْضَعتِني، ولا أخبرتِني! فرَكِب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كيف وقد قيل؟!» ، ففارَقَها عُقبة، ونَكَحَت زوجًا غيره؛ أخرجه البخاري في (ك: العلم، باب: الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله، رقم: 88).
(2)
أخوها: هو حرام بن ملحان، قُتل يوم بئر مَعونة، والمراد بقوله «معي»: أي مع عسكري، أو معي نصرةً للدِّين، لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في غزوة بئر معونة، انظر «عمدة القاري» (14/ 138).
(3)
أخرجه البخاري في (ك: الجهاد والسير، باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير، رقم: 2844)، ومسلم في (ك: الفضائل، باب: من فضائل أم سليم، أم أنس بن مالك، وبلال، رضي الله عنهما، رقم: 2455).
(4)
«عمدة القاري» (11/ 99).
ومُحصَّل القول المفيد في هذا الحديث وأمثاله: أنَّ الفرق بين أهل العلمِ والمُعترضينَ المُحْدثين، يكمُن في أنَّ كِلا الفريقين رَأوا في الأحاديث حكايةَ فعلٍ نَبويٍّ يُعارض ما استقرَّ عندهم في الشَّريعة مِن النَّهي عنه: فأمَّا هؤلاء المُحْدَثون فهُرِعوا إلى تكذيبِ تلك الأخبار ضربة لازب! وأمَّا العلماء مع كونِهم أحرص على تنزيهِ نبيَّهِم صلى الله عليه وسلم مِن اقترافِ ما يخالف شرعَه، قد سَلكوا مَسْلكًا آخر أبْرَك، نَفوا فيه أن يكون هذا الفعلُ المُخبَر عنه مُخالَفةً مِن الأساس! وأثبتوا المَحْرميَّةَ بينهما مِن جِهةٍ ما، ويكفي دلالةُ فعلِه صلى الله عليه وسلم علىها، مضمومًا إليها مجموعُ القرائن التَّاريخيَّة وأقوالُ المتَقدِّمين المَسوقة آنفًا.
مثالُ هذه المنهجيَّة المَنطقيَّة في الاستدلال: عينُ ما سَلَكَه ابنُ عبد البرِّ للخلوصِ إلى هذه النَّتيجة، فقد قال:«لا يشكُّ مسلمٌ أنَّ أمَّ حرامٍ كانت مِن رسول الله لمحرمٍ، فلذلك كان منها ما ذُكر في هذا الحديث. .» ، وذكرَ ما مرَّ من قولِ ابنَ وهبٍ وابن مُزين في إثباتِ الخؤولة مِن الرَّضاعة، ثمَّ زادَ أن ساقَ الأحاديثَ النَّاهيةَ عن الخلوة، ثمَّ عقَّب عليها قائلًا:« .. وهذه آثارٌ ثابتةٌ بالنَّهي عن ذلك، ومحالٌ أن يأتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يَنهى عنه»
(1)
.
وبمثلِ هذا المسلكِ في معالجةِ المُشكلاتِ المَتنيَّة تأتلف النُّصوص ولا تختلف، ويُحفظ للحديثِ الصَّحيحِ مقامه، لا أن يُركنُ إلى إنكارِه لمجرَّد ما يبدو فيه من إشكالٍ؛ وبالله التَّوفيق.
(1)
«التمهيد» (1/ 226).